......
أزاهير عاطرة.. من إمامة الجواد عليه السّلام
• في ليلة مباركة من ليالي الجمعة.. يشعّ قمر آخر من أقمار الإمامة، فيبعث نوره القدسيّ إلى البشرية هدايةً ورحمة، وخيراً وبصيرةً وفضيلة. وكان ذلك في العاشر من شهر رجب المرجّب سنة مئةٍ وخمسٍ وتسعين من الهجرة النبويّة الشريفة(1).
ويؤيّد أنّ المولد المبارك كان في شهر رجب.. ما ورد عن الناحية المقدّسة الإمام المهديّ « عجّل الله تعالى فرَجَه » على يد سفيره أبي القاسم زمنَ الغيبة الصغرى، من الدعاء الذي يُقرأ كلَّ يومٍ مِن أيام شهر رجب، وهو قوله عليه السّلام: اَللّهمّ إنّي أسألُك بالمولودَينِ في رجب، محمّدِ بنِ عليٍّ الثاني ( أي الجواد ) وابنه عليِّ بن محمّدٍ المنتجَب ( أي الهادي )، وأتقرّب بهما إليك خيرَ القُرَب..(2)
* * *
• قال الشيخ الكلينيّ: وأُمُّه يُقال لها « سبيكة » نُوبيّة، وقيل أيضاً: إنّ اسمها كان « خيزُران ». ورُوي أنّها كانت مِن أهل بيت مارية ( القِبطيّة ) أمِّ إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وآله(3).
• وعن حكيمة بنت الإمام موسى الكاظم عليه السّلام قالت: لمّا حضرتْ ولادةُ الخيزران أمّ أبي جعفر عليه السّلام دعاني الرضا فقال لي: يا حكيمة احضري ولادتها، وادخلي وإيّاها والقابلة بيتاً ( أي غرفة ). قالت: ووضع لنا مصباحاً وأغلق الباب علينا، فلمّا أخذها الطَّلق طُفئ المصباح وبين يديها طست، فاغتممتُ بطفي المصباح.. فبينا نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر عليه السّلام في الطست وإذا عليه شيء رقيق كهيئة الثوب يسطع نوره حتّى أضاء البيت، فأبصرناه فأخذتُه فوضعته في حِجْري ونزعتُ عنه ذلك الغشاء.
فجاء الرضا عليه السّلام ففتح الباب وقد فَرَغنا مِن أمره، فأخذه فوضعه في المهد وقال لي: يا حكيمة الزمي مهدَه. قالت: فلمّا كان في اليوم الثالث، رفع بصره إلى السماء ثمّ نظر يمينَه ويساره ثمّ قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله. فقمتُ ذَعِرةً فزِعة، فأتيت أبا الحسن ( الرضا ) عليه السّلام فقلت له: لقد سمعتُ مِن هذا الصبيّ عَجَبا! فقال: وما ذاك ؟ فأخبرته الخبر، فقال: يا حكيمة، ما تَرَون من عجائبه أكثر(4).
* * *
• ويروي الشيخ المجلسيّ عن كليم بن عمران قال: قلتُ للرضا عليه السّلام: أُدعُ اللهَ أن يرزقك ولداً، فقال: إنّما أُرزَق ولداً واحداً وهو يرثني. فلمّا وُلد أبو جعفر ( الجواد ) عليه السّلام قال الرضا عليه السّلام لأصحابه: قد وُلِد لي شبيه موسى بن عمران فالقِ البحار، وشبيهُ عيسى بن مريم.. قُدَّستْ أمٌّ وَلَدتْه، قد خُلِقتْ طاهرةً مطهَّرة.
ثمّ قال الرضا عليه السّلام: يُقتل غصباً، فيبكي له وعليه أهلُ السماء، ويغضب الله تعالى على عدوّه وظالمه... وكان عليه السّلام طولَ ليلته يناغيه في مهده(5).
• وروى المسعوديّ أنّه: لمّا وُلد، قال أبو الحسن ( الرضا ) لأصحابه في تلك الليلة: قد وُلد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار.. بأبي وأمّي، شهيدٌ يبكي عليه أهل السماء، يُقتَل غيظاً ويغضب الله على قاتله، فلا يلبث إلا يسيراً حتّى يُعجِّل الله به إلى عذابه الأليم وعقابه الشديد.
• وروى عبدالرحمن بن محمّد، عن كليم بن عمران قال: قلت للرضا: أُدعُ اللهَ أن يرزقك ولداً، فقال: إنما أُرزَق ولداً واحداً وهو يرثني. فلمّا وُلد أبو جعفر ( الجواد ) كان طول ليلتهِ يُناغيه في مهده.. فلمّا طال ذلك علَيّ عدّة ليالٍ قلت: جُعلت فداك، قد وُلِد للناس أولادٌ قبل هذا، فكلُّ هذا تعوّذه! فقال: وَيْحك! ليس هذا عَوذة، إنّما أغرّه بالعلم غرّا(6).
* * *
• ذكر الطبريُّ الإماميّ نسب الإمام محمّد الجواد متّصلاً بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، ثمّ عدّد ألقابه الشريفة: الزكي، والتقيّ، والرضيّ، والقانع، والجواد..(7)
• وقال ابن الصبّاغ المالكيّ: أمّا كنيتُه فأبو جعفر كنيةَ جدّه محمّد الباقر عليه السّلام. وأما ألقابه: فالجواد، والقانع، والمرتضى.. وأشهرها الجواد. صفته أبيض معتدل، ونقش خاتمه: نِعمَ القادرُ الله(8).
• وفصّل ابن شهرآشوب في بيان خصاله المباركة عليه السّلام، فقال: اسمه محمّد، وكنيتُه أبو جعفر، وأبو عليّ. وألقابه: المنتجب، والقانع، والجواد، والعالِم الربّانيّ. ظاهر المعاني، المعروف بـ « أبي جعفر الثاني »، المنتجَب المرتضى، المتوشّح بالرضى، له من الله أكثر الرضى ابن الرضا. توارث الشرف كابراً عن كابر، استسقى عروقه من منبع النبوّة، ورضعت شجرته ثدي الرسالة، وتهدّل أغصانه ثمر الإمامة.
فديتُ إمـامي أبا جعفرٍ جواداً يُلقَّبُ بالتاسعِ(9)
* * *
أمّا إمامة محمد الجواد صلوات الله عليه، فقد تحيّر فيها البعض، لأنّه عليه السّلام كُلِّف بها وعمره في حدود التاسعة.. حتّى إذا اختبروه وجدوه عالِماً مِن غير تعليم عند أحد، وحاججوه فدحضهم بل وحيّرهم حتّى بُهِتوا وهو ما يزا ل في عُمر الصبا لا يتجاوز العشر من سنينه!
وكانت لأبيه الإمام الرضا عليه السّلام إشارات إلى إمامته، ومُمهِّداتٌ مُطَمْئِنة لذوي القلوب والألباب، وقاطعة بأنّ هذا الصبيّ هو غداً إمام ستُعرف دلائل إمامته.. وهي كثيرة. ومنها نصُّ الإمام السابق على الإمام اللاّحق.
• كتب ابن قياما إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام كتاباً يقول فيه: كيف تكون إماماً وليس لك ولد ؟! فأجابه أبو الحسن الرضا عليه السّلام: وما عِلُمك أنّه لا يكون لي ولد، واللهِ لا تمضي الأيّام والليالي حتّى يرزقني اللهُ وَلَداً ذكَراً يُفَرَّق به بين الحقّ والباطل(10).
• ولمّا وُلد الإمام أبو جعفر الجواد عليه السّلام، جِيء به إلى أبيه الرضا عليه السّلام وهو صغير البدن فقال: هذا المولود الذي لم يُولَد مولودٌ أعظم بركةً على شيعتنا منه ( أي في زمانه )(11).
• وقد سأل رجلٌ الإمامَ الرضا عليه السّلام: يا سيّدي، إنْ كان كَون ( أي حادث وفاته عليه السّلام ) فإلى مَن ؟ قال عليه السّلام: إلى أبي جعفر ابني. فكأنّ السائل استصغر سنّ أبي جعفر، فقال له أبو الحسن الرضا عليه السّلام: إنّ الله تعالى بعث عيسى بن مريم عليه السّلام رسولاً نبيّاً صاحبَ شريعة مُبتَدأة في أصغر من السنّ الذي فيه أبو جعفر(12).
• وعن عبدالله بن جعفر قال: دخلت على الرضا عليه السّلام أنا وصفوان بن يحيى، وأبو جعفر ( الجواد ) قائم قد أتى له ثلاث سنين، فقلنا: جُعلنا فداك، إن ـ وأعوذ بالله ـ حدث حدَثٌ، فمن يكون بعدك ؟ قال: ابني هذا ـ وأومأ إليه. فقلنا: وهو في هذا السنّ ؟ قال: نعم، وهو في هذا السنّ. إنّ الله تبارك وتعالى احتجّ بعيسى عليه السّلام وهو ابن سنتَين(13).
* * *
• وعن معمَّربن خلاّد قال: سمعت الرضا عليه السّلام.. يقول: ما حاجتكم إلى ذلك ؟! هذا أبو جعفر قد أجلستُه مجلسي وصيّرته مكاني. وقال: إنّا أهل بيتٍ، يتوارث أصاغرُنا عن أكابرنا القُذَّةَ بالقذّة(14).
• وحدّث أبو الحسين بن محمّد بن أبي عبّاد أنّ الإمام الرضا عليه السّلام كان يراسل ولدَه الجواد عليه السّلام ولا يذكرُه إلاّ بكُنيته، يقول: كتب إليَّ أبو جعفر، وكنت أكتب إلى أبي جعفر عليه السّلام. هذا، وهو صبيّ بالمدينة، فيخاطبه أبوه الرضا صلوات الله عليهما بالتعظيم.
يقول الراوي: وترِد كتبُ أبي جعفر ( الجواد ) عليه السّلام في نهاية البلاغة والحُسن، فسمعت الإمامَ الرضا عليه السّلام يقول: أبو جعفر وصيّي، وخليفتي في أهلي مِن بعدي(15).
• وعن مُعلّى بن محمّد قال: خرج علَيّ أبو جعفر عليه السّلام حدثانَ موتِ أبيه، فنظرتُ إلى قدّه لأصف قامته لأصحابنا، فقعد ثمّ قال: يا معلّى، إنّ الله احتجّ في الإمامة. بمثل ما احتجّ به في النبوّة فقال: «! وآتَيناهُ الحُكْمَ صبيّاً !»(16).
* * *
• وروى الشيخ الكلينيّ بسنده عن محمّد بن الحسن بن عمّار قال: كنت عند عليّ بن جعفر ( الصادق ) جالساً بالمدينة، وكنت أقمتُ عنده سنتين أكتب عنه ما يسمع من أخيه ( أبي الحسن الكاظم )، إذ دخل عليه أبو جعفر محمّد بن ( علي الرضا ) عليه السّلام المسجد ـ مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ فوثب عليّ بن جعفر بلا حذاءٍ ولا رداء، فقبّل يده، وعظّمَه. فقال له أبو جعفر ( الجواد ) عليه السّلام: يا عمّ، إجلس رحمك الله، فقال: يا سيّدي كيف أجلس وأنت قائم!
فلمّا رجع عليّ بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوّبخونه ويقولون: أنت عمّ أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل ؟! فقال: اسكتوا.. إذا كان الله عزّوجلّ ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهّل هذه الشيبة، وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضع، أُنكر فضلَه ؟! نعوذ بالله ممّا تقولون، بل أنا له عبد ( أي خادم مطيع متواضع )(17).
* * *
• وعن محمّد بن حمزة الهاشميّ قال: أصابني العطش عند أبي جعفر ( الجواد ) عليه السّلام، فنظر في وجهي وقال: أراك عطشاناً ؟ قلت: أجل. قال: يا غلام، إسقِنا ماءاً. فقلت ( أي في نَفْسه ) الساعةَ يأتونه بماء مسموم من بيت المأمون. واغتممتُ لذلك، فتبسّم في وجهي ثمّ قال: يا غلام، ناولني الماء. فتناول الماء فشرب.. ثمّ ناولني فشربت، فعطشت مرّةً أخرى، فدعا بالماء ففعل كما فعل أوّلاً.
فقال محمّد الهاشميّ: واللهِ لأظنُّ أبا جعفر يعلم ما في النفوس ـ كما تقول الرافضة!(18)
• وعن أُميّة بن عليّ قال: دعا أبو جعفر ( الجواد ) عليه السّلام يوماً بجارية فقال: قولي لهم يتهيّأونَ للمأتم، قالوا: مأتمُ مَن ؟! قال: مأتم خيرِ مَن على ظهرها ( أي ظهر الأرض ).
هذا، والإمام الرضا عليه السّلام في « مَرُو » بخراسان، والإمام الجواد عليه السّلام في المدينة.. فأتى الخبر خبر وفاة الإمام أبي الحسن الرضا عليه السّلام بعد ذلك بأيام، فإذا هو قد مات في ذلك اليوم(19).
* * *
وأخير.. يُعجَب الشيخ كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعيّ بمناقب وخصائص الإمام محمد الجواد عليه السّلام، فيكتب بِيراعهِ مشيراً إلى أفضليّته وإمامته، فيقول: مناقب أبي جعفر محمّد الجواد ما اتّسعت جلبابَ مجالها، ولا امتدّتْ أوقافُ آجالها، بل قضتْ عليه الأقدارُ الإلهية بقلّة بقائه في الدنيا بحُكْمِها وسجالها.. فقلّ في الدنيا مُقامُه، وعجّل عليه فيها حِمامُه، فلم تطل لياليه ولا امتدّتْ أيّامُه، غير أن الله خصّه بمنقبةٍ أنوارُها متألّقة في مطالع التعظيم، وأخبارها مرتفعةٌ في معاريج التفضيل والتكريم(20).
1 ـ كشف الغمّة، للإربليّ 343:2.
2 ـ مصباح المتهجّد، للشيخ الطوسيّ 741.
3 ـ الكافي، للكلينيّ 492:1 ـ باب مولد أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الثاني عليه السّلام / ح 1.
4 ـ مناقب آل أبي طالب، لابن شهرآشوب 426:2 ـ 430.
5 ـ بحار الأنوار، للشيخ المجلسيّ 15:50 / ح 19. قال الجوهريّ في ( صحاح اللغة ص 2513 ): المرأة تناغي الصبيّ، أي تكلّمه بما يُعجبه ويَسرّه.
6 ـ إثبات الوصية، للمسعوديّ 183.
7 ـ دلائل الإمامة، للطبريّ 209.
8 ـ الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، لابن الصبّاغ المالكيّ 266.
9 ـ مناقب آل أبي طالب، لابن شهرآشوب 426:2.
10 ـ الكافي 320:1.
11 ـ الكافي 321:1.
12 ـ روضة الواعظين، للفتّال النيسابوريّ 203.
13 ـ بحار الأنوار 35:50 / ح 23 ـ عن كفاية الأثر، للخرّاز القميّ.
14 ـ الكافي 320:1. والقُذّة: ريش السهم، والعبارة يُكنّى بها عن الشيئين المتساويين.
15 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام، للشيخ الصدوق 240:2 / ح 1 ـ الباب 60.
16 ـ الإرشاد، للشيخ المفيد 306 ـ والآية في سورة مريم:12.
17 ـ الكافي 322:1.
18 ـ مناقب آل أبي طالب 434:2.
19 ـ مناقب آل أبي طالب 433:2.
20 ـ الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة 265 ـ 266.
أزاهير عاطرة.. من إمامة الجواد عليه السّلام
• في ليلة مباركة من ليالي الجمعة.. يشعّ قمر آخر من أقمار الإمامة، فيبعث نوره القدسيّ إلى البشرية هدايةً ورحمة، وخيراً وبصيرةً وفضيلة. وكان ذلك في العاشر من شهر رجب المرجّب سنة مئةٍ وخمسٍ وتسعين من الهجرة النبويّة الشريفة(1).
ويؤيّد أنّ المولد المبارك كان في شهر رجب.. ما ورد عن الناحية المقدّسة الإمام المهديّ « عجّل الله تعالى فرَجَه » على يد سفيره أبي القاسم زمنَ الغيبة الصغرى، من الدعاء الذي يُقرأ كلَّ يومٍ مِن أيام شهر رجب، وهو قوله عليه السّلام: اَللّهمّ إنّي أسألُك بالمولودَينِ في رجب، محمّدِ بنِ عليٍّ الثاني ( أي الجواد ) وابنه عليِّ بن محمّدٍ المنتجَب ( أي الهادي )، وأتقرّب بهما إليك خيرَ القُرَب..(2)
* * *
• قال الشيخ الكلينيّ: وأُمُّه يُقال لها « سبيكة » نُوبيّة، وقيل أيضاً: إنّ اسمها كان « خيزُران ». ورُوي أنّها كانت مِن أهل بيت مارية ( القِبطيّة ) أمِّ إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وآله(3).
• وعن حكيمة بنت الإمام موسى الكاظم عليه السّلام قالت: لمّا حضرتْ ولادةُ الخيزران أمّ أبي جعفر عليه السّلام دعاني الرضا فقال لي: يا حكيمة احضري ولادتها، وادخلي وإيّاها والقابلة بيتاً ( أي غرفة ). قالت: ووضع لنا مصباحاً وأغلق الباب علينا، فلمّا أخذها الطَّلق طُفئ المصباح وبين يديها طست، فاغتممتُ بطفي المصباح.. فبينا نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر عليه السّلام في الطست وإذا عليه شيء رقيق كهيئة الثوب يسطع نوره حتّى أضاء البيت، فأبصرناه فأخذتُه فوضعته في حِجْري ونزعتُ عنه ذلك الغشاء.
فجاء الرضا عليه السّلام ففتح الباب وقد فَرَغنا مِن أمره، فأخذه فوضعه في المهد وقال لي: يا حكيمة الزمي مهدَه. قالت: فلمّا كان في اليوم الثالث، رفع بصره إلى السماء ثمّ نظر يمينَه ويساره ثمّ قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله. فقمتُ ذَعِرةً فزِعة، فأتيت أبا الحسن ( الرضا ) عليه السّلام فقلت له: لقد سمعتُ مِن هذا الصبيّ عَجَبا! فقال: وما ذاك ؟ فأخبرته الخبر، فقال: يا حكيمة، ما تَرَون من عجائبه أكثر(4).
* * *
• ويروي الشيخ المجلسيّ عن كليم بن عمران قال: قلتُ للرضا عليه السّلام: أُدعُ اللهَ أن يرزقك ولداً، فقال: إنّما أُرزَق ولداً واحداً وهو يرثني. فلمّا وُلد أبو جعفر ( الجواد ) عليه السّلام قال الرضا عليه السّلام لأصحابه: قد وُلِد لي شبيه موسى بن عمران فالقِ البحار، وشبيهُ عيسى بن مريم.. قُدَّستْ أمٌّ وَلَدتْه، قد خُلِقتْ طاهرةً مطهَّرة.
ثمّ قال الرضا عليه السّلام: يُقتل غصباً، فيبكي له وعليه أهلُ السماء، ويغضب الله تعالى على عدوّه وظالمه... وكان عليه السّلام طولَ ليلته يناغيه في مهده(5).
• وروى المسعوديّ أنّه: لمّا وُلد، قال أبو الحسن ( الرضا ) لأصحابه في تلك الليلة: قد وُلد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار.. بأبي وأمّي، شهيدٌ يبكي عليه أهل السماء، يُقتَل غيظاً ويغضب الله على قاتله، فلا يلبث إلا يسيراً حتّى يُعجِّل الله به إلى عذابه الأليم وعقابه الشديد.
• وروى عبدالرحمن بن محمّد، عن كليم بن عمران قال: قلت للرضا: أُدعُ اللهَ أن يرزقك ولداً، فقال: إنما أُرزَق ولداً واحداً وهو يرثني. فلمّا وُلد أبو جعفر ( الجواد ) كان طول ليلتهِ يُناغيه في مهده.. فلمّا طال ذلك علَيّ عدّة ليالٍ قلت: جُعلت فداك، قد وُلِد للناس أولادٌ قبل هذا، فكلُّ هذا تعوّذه! فقال: وَيْحك! ليس هذا عَوذة، إنّما أغرّه بالعلم غرّا(6).
* * *
• ذكر الطبريُّ الإماميّ نسب الإمام محمّد الجواد متّصلاً بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، ثمّ عدّد ألقابه الشريفة: الزكي، والتقيّ، والرضيّ، والقانع، والجواد..(7)
• وقال ابن الصبّاغ المالكيّ: أمّا كنيتُه فأبو جعفر كنيةَ جدّه محمّد الباقر عليه السّلام. وأما ألقابه: فالجواد، والقانع، والمرتضى.. وأشهرها الجواد. صفته أبيض معتدل، ونقش خاتمه: نِعمَ القادرُ الله(8).
• وفصّل ابن شهرآشوب في بيان خصاله المباركة عليه السّلام، فقال: اسمه محمّد، وكنيتُه أبو جعفر، وأبو عليّ. وألقابه: المنتجب، والقانع، والجواد، والعالِم الربّانيّ. ظاهر المعاني، المعروف بـ « أبي جعفر الثاني »، المنتجَب المرتضى، المتوشّح بالرضى، له من الله أكثر الرضى ابن الرضا. توارث الشرف كابراً عن كابر، استسقى عروقه من منبع النبوّة، ورضعت شجرته ثدي الرسالة، وتهدّل أغصانه ثمر الإمامة.
فديتُ إمـامي أبا جعفرٍ جواداً يُلقَّبُ بالتاسعِ(9)
* * *
أمّا إمامة محمد الجواد صلوات الله عليه، فقد تحيّر فيها البعض، لأنّه عليه السّلام كُلِّف بها وعمره في حدود التاسعة.. حتّى إذا اختبروه وجدوه عالِماً مِن غير تعليم عند أحد، وحاججوه فدحضهم بل وحيّرهم حتّى بُهِتوا وهو ما يزا ل في عُمر الصبا لا يتجاوز العشر من سنينه!
وكانت لأبيه الإمام الرضا عليه السّلام إشارات إلى إمامته، ومُمهِّداتٌ مُطَمْئِنة لذوي القلوب والألباب، وقاطعة بأنّ هذا الصبيّ هو غداً إمام ستُعرف دلائل إمامته.. وهي كثيرة. ومنها نصُّ الإمام السابق على الإمام اللاّحق.
• كتب ابن قياما إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام كتاباً يقول فيه: كيف تكون إماماً وليس لك ولد ؟! فأجابه أبو الحسن الرضا عليه السّلام: وما عِلُمك أنّه لا يكون لي ولد، واللهِ لا تمضي الأيّام والليالي حتّى يرزقني اللهُ وَلَداً ذكَراً يُفَرَّق به بين الحقّ والباطل(10).
• ولمّا وُلد الإمام أبو جعفر الجواد عليه السّلام، جِيء به إلى أبيه الرضا عليه السّلام وهو صغير البدن فقال: هذا المولود الذي لم يُولَد مولودٌ أعظم بركةً على شيعتنا منه ( أي في زمانه )(11).
• وقد سأل رجلٌ الإمامَ الرضا عليه السّلام: يا سيّدي، إنْ كان كَون ( أي حادث وفاته عليه السّلام ) فإلى مَن ؟ قال عليه السّلام: إلى أبي جعفر ابني. فكأنّ السائل استصغر سنّ أبي جعفر، فقال له أبو الحسن الرضا عليه السّلام: إنّ الله تعالى بعث عيسى بن مريم عليه السّلام رسولاً نبيّاً صاحبَ شريعة مُبتَدأة في أصغر من السنّ الذي فيه أبو جعفر(12).
• وعن عبدالله بن جعفر قال: دخلت على الرضا عليه السّلام أنا وصفوان بن يحيى، وأبو جعفر ( الجواد ) قائم قد أتى له ثلاث سنين، فقلنا: جُعلنا فداك، إن ـ وأعوذ بالله ـ حدث حدَثٌ، فمن يكون بعدك ؟ قال: ابني هذا ـ وأومأ إليه. فقلنا: وهو في هذا السنّ ؟ قال: نعم، وهو في هذا السنّ. إنّ الله تبارك وتعالى احتجّ بعيسى عليه السّلام وهو ابن سنتَين(13).
* * *
• وعن معمَّربن خلاّد قال: سمعت الرضا عليه السّلام.. يقول: ما حاجتكم إلى ذلك ؟! هذا أبو جعفر قد أجلستُه مجلسي وصيّرته مكاني. وقال: إنّا أهل بيتٍ، يتوارث أصاغرُنا عن أكابرنا القُذَّةَ بالقذّة(14).
• وحدّث أبو الحسين بن محمّد بن أبي عبّاد أنّ الإمام الرضا عليه السّلام كان يراسل ولدَه الجواد عليه السّلام ولا يذكرُه إلاّ بكُنيته، يقول: كتب إليَّ أبو جعفر، وكنت أكتب إلى أبي جعفر عليه السّلام. هذا، وهو صبيّ بالمدينة، فيخاطبه أبوه الرضا صلوات الله عليهما بالتعظيم.
يقول الراوي: وترِد كتبُ أبي جعفر ( الجواد ) عليه السّلام في نهاية البلاغة والحُسن، فسمعت الإمامَ الرضا عليه السّلام يقول: أبو جعفر وصيّي، وخليفتي في أهلي مِن بعدي(15).
• وعن مُعلّى بن محمّد قال: خرج علَيّ أبو جعفر عليه السّلام حدثانَ موتِ أبيه، فنظرتُ إلى قدّه لأصف قامته لأصحابنا، فقعد ثمّ قال: يا معلّى، إنّ الله احتجّ في الإمامة. بمثل ما احتجّ به في النبوّة فقال: «! وآتَيناهُ الحُكْمَ صبيّاً !»(16).
* * *
• وروى الشيخ الكلينيّ بسنده عن محمّد بن الحسن بن عمّار قال: كنت عند عليّ بن جعفر ( الصادق ) جالساً بالمدينة، وكنت أقمتُ عنده سنتين أكتب عنه ما يسمع من أخيه ( أبي الحسن الكاظم )، إذ دخل عليه أبو جعفر محمّد بن ( علي الرضا ) عليه السّلام المسجد ـ مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ فوثب عليّ بن جعفر بلا حذاءٍ ولا رداء، فقبّل يده، وعظّمَه. فقال له أبو جعفر ( الجواد ) عليه السّلام: يا عمّ، إجلس رحمك الله، فقال: يا سيّدي كيف أجلس وأنت قائم!
فلمّا رجع عليّ بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوّبخونه ويقولون: أنت عمّ أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل ؟! فقال: اسكتوا.. إذا كان الله عزّوجلّ ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهّل هذه الشيبة، وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضع، أُنكر فضلَه ؟! نعوذ بالله ممّا تقولون، بل أنا له عبد ( أي خادم مطيع متواضع )(17).
* * *
• وعن محمّد بن حمزة الهاشميّ قال: أصابني العطش عند أبي جعفر ( الجواد ) عليه السّلام، فنظر في وجهي وقال: أراك عطشاناً ؟ قلت: أجل. قال: يا غلام، إسقِنا ماءاً. فقلت ( أي في نَفْسه ) الساعةَ يأتونه بماء مسموم من بيت المأمون. واغتممتُ لذلك، فتبسّم في وجهي ثمّ قال: يا غلام، ناولني الماء. فتناول الماء فشرب.. ثمّ ناولني فشربت، فعطشت مرّةً أخرى، فدعا بالماء ففعل كما فعل أوّلاً.
فقال محمّد الهاشميّ: واللهِ لأظنُّ أبا جعفر يعلم ما في النفوس ـ كما تقول الرافضة!(18)
• وعن أُميّة بن عليّ قال: دعا أبو جعفر ( الجواد ) عليه السّلام يوماً بجارية فقال: قولي لهم يتهيّأونَ للمأتم، قالوا: مأتمُ مَن ؟! قال: مأتم خيرِ مَن على ظهرها ( أي ظهر الأرض ).
هذا، والإمام الرضا عليه السّلام في « مَرُو » بخراسان، والإمام الجواد عليه السّلام في المدينة.. فأتى الخبر خبر وفاة الإمام أبي الحسن الرضا عليه السّلام بعد ذلك بأيام، فإذا هو قد مات في ذلك اليوم(19).
* * *
وأخير.. يُعجَب الشيخ كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعيّ بمناقب وخصائص الإمام محمد الجواد عليه السّلام، فيكتب بِيراعهِ مشيراً إلى أفضليّته وإمامته، فيقول: مناقب أبي جعفر محمّد الجواد ما اتّسعت جلبابَ مجالها، ولا امتدّتْ أوقافُ آجالها، بل قضتْ عليه الأقدارُ الإلهية بقلّة بقائه في الدنيا بحُكْمِها وسجالها.. فقلّ في الدنيا مُقامُه، وعجّل عليه فيها حِمامُه، فلم تطل لياليه ولا امتدّتْ أيّامُه، غير أن الله خصّه بمنقبةٍ أنوارُها متألّقة في مطالع التعظيم، وأخبارها مرتفعةٌ في معاريج التفضيل والتكريم(20).
1 ـ كشف الغمّة، للإربليّ 343:2.
2 ـ مصباح المتهجّد، للشيخ الطوسيّ 741.
3 ـ الكافي، للكلينيّ 492:1 ـ باب مولد أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الثاني عليه السّلام / ح 1.
4 ـ مناقب آل أبي طالب، لابن شهرآشوب 426:2 ـ 430.
5 ـ بحار الأنوار، للشيخ المجلسيّ 15:50 / ح 19. قال الجوهريّ في ( صحاح اللغة ص 2513 ): المرأة تناغي الصبيّ، أي تكلّمه بما يُعجبه ويَسرّه.
6 ـ إثبات الوصية، للمسعوديّ 183.
7 ـ دلائل الإمامة، للطبريّ 209.
8 ـ الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، لابن الصبّاغ المالكيّ 266.
9 ـ مناقب آل أبي طالب، لابن شهرآشوب 426:2.
10 ـ الكافي 320:1.
11 ـ الكافي 321:1.
12 ـ روضة الواعظين، للفتّال النيسابوريّ 203.
13 ـ بحار الأنوار 35:50 / ح 23 ـ عن كفاية الأثر، للخرّاز القميّ.
14 ـ الكافي 320:1. والقُذّة: ريش السهم، والعبارة يُكنّى بها عن الشيئين المتساويين.
15 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام، للشيخ الصدوق 240:2 / ح 1 ـ الباب 60.
16 ـ الإرشاد، للشيخ المفيد 306 ـ والآية في سورة مريم:12.
17 ـ الكافي 322:1.
18 ـ مناقب آل أبي طالب 434:2.
19 ـ مناقب آل أبي طالب 433:2.
20 ـ الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة 265 ـ 266.
تعليق