وردنا البيان التالي من سماحة آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي
بسم الله الرحمن الرحيم
الظروف السياسية الضاغطة تدفع العراق باتجاه (الفدرالية) وتدخل هذه النقطة بصورة بارزة في مسودة الدستور التي تقدم
للاستفتاء العام للناس.
و قد سمعنا من الفضائيات، وقرأنا في الصحافة العراقية المدافعة عن الفدرالية:
ان الفدرالية تحول دون تكرار مأساة الاستبداد السياسي الذي عانى منه العراق اكثر من ثلاثة عقود من الزمان, و لكي لا
تتكرر هذه المأساة مرة أخرى، يجب أن يتضمن الدستور توزيع السلطة على أقاليم العراق بصورة لا مركزية، لئلا يستأثر
النظام والحاكم بكل الصلاحيات والسلطات، وتعود محنة العراق مرة أخرى كما كانت, وهو توجيه غير صحيح للفدرالية،
والصحيح هو تثقيف الناس لانتخاب الحاكم الصالح والحكومة الصالحة، وتعميق أساس الانتخاب في المجتمع، والتأكيد على حق
الجمهور في رقابة الهيئة الحاكمة، وممارسة الجمهور للرقابة والنقد (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بصورة علنية، من
خلال وسائل الاعلام، والحضور المراقب للجمهور في الساحة السياسية، وتفعيل دور الصحافة ووسائل الاعلام في النقد البنّاء
الحر، وفصل السلطات الثلاثة بعضها عن بعض، وعدم إعادة انتخاب الحاكم لأكثر من دورتين… وأمثال ذلك، وهي أساليب
علمية مجدية ونافعة ومعروفة لمعالجة مشكلة الاستبداد السياسي والدكتاتورية الحزبية والفئوية.
وهناك الكثير من الأنظمة والدول التي تحكم على الطريقة المركزية في الشرق والغرب لم تسقط في الدكتاتورية، وسلمت من
الوقوع في شَرَكْ الحكومات الفردية الاستبدادية...
كما أن هناك أنظمة لا مركزية في الحكم لم تسلم من الظلم والاضطهاد السياسي والدكتاتورية، مثل اتحاد الجمهوريات
السوفيتية في عهد النظام الماركسي، في عهد ستالين وبعده الى سقوط الاتحاد السوفيتي.
إن معالجة الاستبداد السياسي بإلغاء الحكم المركزي معالجة سلبية، والصحيح هو العلاج الايجابي، ومعالجة المشكلة السياسيّة
من نقطة الأسباب, أما إلغاء النظام المركزي في الحكم بالكامل، لكي لا تحدث الدكتاتورية فهو علاج سلبي غير علمي لهذه
المشكلة، كما لو كنا نعالج مشكلة الفقر بالمنع من الزواج والإنجاب.
ونقطة اخرى أُريد ان أُنبّه عليها … وهي الواقع العراقي المعاصر… إن الشعب الكوردي جزء لا يتجزأ من العراق، وقد عانى
هذا الشعب معاناة طويلة في التنكّر لقوميته، وحضارته، وجذوره الحضارية، وأعرافه، وتقاليده، ولغته، وثقافته القومية،
وحقوقه الاقتصادية والعمرانية والإقليمية، بالإضافة الى التنكيل والاضطهاد، والملاحقة من قبل الانظمة السابقة، وبالأخص
نظام البعث البائد.
وكلنا شهد هذا التمييز العنصري والإلغاء القومي بالنسبة الى الاكراد في العراق، كما عانى شيعة العراق، وهم الأكثرية
السكانية، كثيراً من التمييز والاضطهاد الطائفي، من قبل الأنظمة الحاكمة في العراق، منذ العصر العثماني الى سقوط نظام
البعث .
و قد ترك هذا التمييز والاضطهاد القومي للأكراد طيلة هذه الفترة آثاراً عميقة في نفوس الشعب الكوردي، مما جعل هذا
الشعب يتوجّه بصورة جدية الى فصل مصيره السياسي عن سائر الأقاليم في العراق، و هو أمر خطير بالنسبة لحاضر العراق
ومستقبله.
إن العراق بتكوينه الحاضر، ومكوناته الحضارية والسكانية والسياسية والاقتصادية قوة سياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة وثقافيّة
كبيرة في المنطقة، تقع عليها مسؤولية مقاومة الاحتلال الامريكي، والنفوذ والعدوان الاسرائيلي على العالم الاسلامي،
ومواجهة التحديات الكثيرة التي تواجهها الأمّة الاسلامية وبشكل خاص العالم العربي والعراق…
وتجزئة العراق وتشطيره, يضعف هذه القوة بالتأكيد، وليس لصالح الشعب الكوردي، ولا العراق، ولا المنطقة.
نحن اليوم في مواجهة الإرهاب والاحتلال والعدوان الإسرائيلي والتحديّات الكبيرة، لابد أن نتوجّه الى توحيد الصف الاسلامي
الكبير، والعالم العربي والعراق.
وليس من مصلحة العراق عموماً، ولا من مصلحة الشعب الكوردي تجزيء الكيان السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري
الواحد الى كيانات سياسية متعددة.
والفدرالية مرحلة في الطريق الى هذا التجزيء والتشطير.
ونحن نتمنّى أن تعالج الهيئة المعنية بتدوين مسودّة الدستور حقوق الشعب الكوردي بصورة إيجابية، ويتضمن الدستور
العدالة في توزيع ثروات العراق، والإقرار الرسمي للمقومات القومية والحضارية للشعب الكوردي، وإلغاء كل الوان الاضطهاد
والتمييز القومي، والتعامل مع كافة شرائح الشعب العراقي من منطلق المواطنة، بصورة عادلة، وإلغاء كل مظاهر التمييز
الطائفي والعنصري والطبقي.
وصدق الله العلي العظيم حيث يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
محمد مهدي الآصفي
النجف الأشرف
20/ جمادي الثانية / 1426 هـ.ق
تعليق