بسمه تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
"قـــــط فـــــوق المشنـــــــقة!"
لا شيء مثل قطرات المطر التي تبلل رأسك, يشعرك بروح (الشتاء)!
إنها رسول السحب التي تسبح فوق أمواج السماء, وأعاصيرها.. دموع الكون على خطايانا.. وغنيمة الفوز على (الخريف).
ألوان (قزح) المقتول تنصب لتسيل على لوحة تنعكس في أعماقك..
تكتكاتك المرتجفة, وصوت اصطكاك أسنانك يدوي في تعاريج نفسك المرهقة..
الوحدة التي تشم رائحتها, والطريق المظلم, والأضواء الخافتة تمتزج لتصنع في كيانك مزيجا ما.. تحاول أن تمسك بأي شيء, فلا تجد إلا الهواء البارد..
تتجمد دموع طفولتك في مقلتيك.. تسقط فتتسخ ملابسك, وتنهض لكي تسقط مرة أخرى.. تبكي.. تمتزج دموعك مع أمطار السماء.. ما أقسى أن تبكي فلا يسمع صوتك إلا الصدى الموحش!
أنت تائه في شارعك الذي تسكن فيه! أطرافك الباردة تلمس خيالك الخصب, فترى من جدران النوافذ العالية أشباحا تجلس أمام المدفأة, تحتسي الكاكاو الساخن, نخب متاهاتك التي سقطت في شركها..
الصاري يخبرك بأنه لا أرض هنالك في الأفق, والأمطار تحولت إلى أمواج عاتية تجبرك على أن تستسلم للغرق الذي لا مفر منه!
الرعد يدوي, فتمتزج عظامك ببعضها, والبرق يضيء عينك السوداء, قبل أن يطاردك بقسوة.
هل تعرف هذه الظروف؟ هل عشت فيها من قبل؟
كان هذا هو حالي في ذلك اليوم, عندما خرج أبي وأمي, في صحبة أخي الصغير إلى الطبيب, بعد أن ارتفعت درجة حرارته فوق معدلها الطبيعي شرطتين!
وحيدا كنت في الشارع الموحش, عندما فاجأتني الأمطار على حين بغتة.. أتحسس جدران منزلي, ولا أستطيع أن أدخله.. أضغط على الحائط بقوة لعل جسدي ينجح في اختراقه فلا أفلح..
ماذا كنت ستفعل, في ظل هذه الظروف؟
ستطرق أبواب الجيران الذين لا تعرفهم؟ ستمشي في الشوارع التي لم ترها من قبل؟ ستصرخ بصوت لن يسمعه أحد؟
أنا لم أفعل أيا من ذلك.. كان الضباب المسيطر على عقلي يمنعني من أي شيء.. فقط تركت لقدميّ الكلمة العليا, تصحباني إلى حيثما تشاء..
هل تسمع معي ذلك المواء الضئيل؟
في المرة الأولى ظننت أني أتخيل, إلا أني لم ألبث أن تأكدت بعد أن سمعته ثانية, بصوت أعلى قليلا..
أخذت أبحث بهمّة –وقد وجدت ما يشغلني, ويبدد بعض مخاوفي– عن القط صاحب الصوت.. إنه يختفي تحت سيارة من هؤلاء.. لكن أي واحدة؟!
حددت مكان القط بطريقة تقريبية, ثم هبطت تحت السيارة التي اخترتها.. سقطت عليّ أطنان من الماء, والطين (ولم تكن مشكلة حيث إن ملابسي وكل جسدي قد تشربا منهما!) ثم اكتشفت أنها ليست سيارتي المنشودة.
هبطت تحت السيارة التي تجاورها.. مسحت وجهي من الطين الذي غطاه, ثم دارت عيناي في المكان.. لم أجد القط مرة أخرى, وهممت أن أبتعد لولا أن سمعت مواء القط يأتي من مكان قريب.. حاولت أن أخترق سحب الظلام, إلا أنني فشلت.. مددت يدي تتحسس المكان.. وبالفعل شعرت به بعد دورة أو دورتين.. كان ضيئلا جدا, ومبتلا عن آخره.. ابتعد للحظات, في محاولة خرقاء منه للهرب إلا أنني قد نجحت أخيرا في السيطرة على جسده الضعيف, المرتعش..
أطلق مواء آخر.. هل يحاول استعطافي؟
إنه لن ينجح! في هذه الظروف لن ينجح! أنا الآن لا أشعر بأي شيء.. لا أشعر بالبرد, أو بالخوف, أو بالوحدة.. فقط أشعر بالقط بين يدي.. الفريسة التي ظفر بها الصياد أخيرا!
لملمت جسدي لكي أخرج من تحت السيارة, وأراه بوضوح أكثر.. قط عادي أصفر اللون, تبرز عظامه من تحت فرائه, حتى لتظن أنه بلا جلد يغطيه.. لولا المساحات الفارغة من الفراء في جسده, لذهبت إلى أنه بلا جلد فعلا.. أما أظفاره فقد كانت صغيرة للغاية.. بعضها مكسور كذلك أو هكذا خيل لي..
حاول القط أن يفلت من يدي.. الحقيقة أن هذا سلوك عجيب! فلو أفلت من يدي –ذلك الأبل – لسقط على الأرض شر سقطة! ثم لماذا يهرب؟ إنه لا يشعر بالدفء طبعا في يديّ بعد أن تجمدتا, ولكنني على الأقل قد أحميه.. قد أطعمه.. هل يظن أنه سوف ينجو إذا ما أفلت من يدي؟
تغاضيت عن غبائه هذا, وتجاهلت رغبة عارمة في ركله, فضلت عليها إشباع فضولي في تأمله!
وضعته فوق السلّم..
أول ملحوظة لي كانت عن "العماص" الموجود حول عينيه!
ثاني ملحوظة كانت أنه خالي من البراغيث التي وجدتها في كل أقرانه تقريبا.. لعل ذلك بسبب حمّامات المطر الإجبارية!
أنا لا أحب الحمّام, وأكره اختراعا اسمه الدش! ولكني أعشق الوقوف تحت مياه المطر, ولا أدري سببا لذلك!
ثالث ملحوظة كانت عن ذيله! كان ذيله قصيرا, ومضحكا.. وقد شرعت أحاول أن ألفه على هيئة العقدة دون جدوى!
أخذ القط يتحرك بجنون بعد محاولاتي هذه –لابد أنها قد آلمته– حيث لا هدف محددا.. راقبته, وقد سلاني منظره لفترة, وأخذت أسدّ أمامه كل طريق يتخذه.. ثم لم ألبث أن أصابني الملل.. ماذا سأفعل الآن؟
فكرت في أن أترك القط حرًا لحال سبيله, ولكن الفراغ الذي سوف يحدث بعد ذلك قد منعني من اتخاذ هذه الخطوة..
أنا الآن بين نارين.. نار الملل, ونار الفراغ, والوحدة, والخوف..
فجأة خطرت لي هذه الفكرة! كان الفيلم الذي شاهدته اليوم في التليفزيون يتحدث عن مجرم هارب, وعصابات, ومشنقة! لماذا لا أجرب المشنقة مع القط؟! ترى ما الذي سوف يحدث له إذا شنقته؟!
التهبت بنار الحماس.. وأخذت أبحث عن حبل مناسب في حديقة المنزل, فلم أجد شيئا.. بحثت في الشارع فوجدته.. الحبل الذي يثبت الشجرة الصغيرة المائلة, أمام منزل الجيران.
أخذت الحبل, وربطت طرفه الأول في السلسلة الحديدية الموجودة داخل سور حديقتنا, وربطت طرفه الثاني بعد محاولات عديدة حول رقبة القط.. مازلت أمسكه في يدي.. لم أتركه بعد..
القط يموء, وينظر لي.. ولعله لا يفهم أي شيء.. أو ربما هو مستمتع باللعبة كذلك! عينا القط عميقتان, وأيضا حزينتان.. لم أرَ ما هو أهشّ منه في حياتي!
تركت القط فجأة فصدر منه صوت عجيب, وتحرك الحبل بقوة في شكل دائري, ثم لم يلبث أن سكن تدريجيا.
نظرت إلى القط.. كانت عيناه جاحظتين, ووجهه منتفخا نوعا.. أطرافه متراخية تماما, ومستسلمة كذلك.. دفعته, فذهب الحبل مسافة صغيرة, ثم عاد مرة أخرى..
جذبته من قدمه إلى أسفل, ولكنه لم يبدِ أي مقاومة.. أول مرة أرى شيئا يموت! لم أكن أفهم معنى الموت, وكنت أعتقد أن القط يراقبني برغم سكونه..
ظللت أتأمله بشغف لفترة طويلة, ثم لم ألبث أن مللت, فخرجت إلى الشارع مرّة أخرى..
لم ألبث طويلا هذه المرّة.. أتى والدي, ووالدتي, وأخي, وقد هال منظري والديّ, وشرع كل منهما يلوم الآخر على تركي وحيدا في الشارع..
كانت الأمطار قد توقفت, وقد ضايقني ذلك, فقد اعتدت عليها.. ولذلك فقد شرعت في البكاء, وأنا داخل معهم إلى المنزل..
وبينما كانت والدتي تسألني عن سبب بكائي, وأنا لا أجيبها, رأى والدي ما فعلته في القط على سور الحديقة!
سألني والدي عما حدث, فحكيت له بفخر.. بدا عليه الامتعاض, وبدا على والدتي الأسف, والحزن العميقين.. وكانت تردد: حرام عليك.. حرام عليك..
إلا أن أيا منهما لم يتخذ أي تصرف ضدي.. وقد ظننت أنهما نسيا ما حدث عندما دخلنا إلى المنزل..
كان القط هو محور حديثي مع أخي طيلة هذه الليلة.. كنت أحكي بفخر, وبلا انقطاع, وكان مبهورا! وفي اليوم التالي رأى جيراني ما حدث, وسألوني مازحين عما إذا كنت أعرف مذبحة (دنشواي)! لم أفهم ما يتكلمون عنه, وإن زادت سعادتي, وفخري بسبب ضحكاتهم..
أما والدي فلم يعلق, واكتفى بالصمت..
فقط وضع القط في كيس في طرف الحديقة, ولم يدفنه! لماذا لم يدفنه يا ترى؟ خمنت أن الناس فقط هم الذين يدفنون عندما يموتون, أما القطط فتوضع في أكياس!
بعد يومين, أو ثلاثة, بدأت الأحداث تتغير!
* * *
النظرة الصارمة في عيني والدي جعلتني أدرك أن هناك أمرا ما.. لا أتذكر من المرات سوى مرتين نظر لي فيهما والدي هذه النظرة, بهذه القسوة.. الأولى كانت قبل إعطائي علقة ساخنة, والثانية كانت قبل سكب طبق الشوربة على ملابسي!
نعم.. إن والدي حازم لأقصى درجة.. إنه لن يتردد في قتلي, إذا ما خالفت أيا من أوامره, أو فعلت شيئا يغضبه.. تحاول والدتي أن تجعله أكثر لينا معنا, ولكنه لا يقتنع.. ويقال إن قسوة والده معه (وقد كان يتركه بلا طعام لعدة أيام, ويلسعه بالنار!) هي السبب في ذلك.
لم تكن قسوة والدي معي تقل عنها بحال.. فبدون أن يتفوه بأي كلمة, اصطحبني إلى حيث وضع القط في الحديقة.. كان يمنعني من اللعب بالقرب من ذلك الجزء في الأيام السابقة, وكنت أغالب فضولي بمشقة بالغة..
وعلى الرغم من خوفي الشديد, الذي ضاعفته قبضة يد والدي الممسكة بفانلتي بقوة, إلا أنني أشعر بشيء من السعادة لأني سوف أروي فضولي أخيرا.
أخذت أنظر إلى الكيس من بعيد, وأترقب اللحظة التي سوف أرى فيها القط.. تري هل سيتحرك؟ هل سيكون على نفس السكون الذي تركته عليه؟ هل هرب؟ هل نشف جسده من البلل الذي رأيته عليه أول مرة؟
أسئلة كثيرة دارت في ذهني, ولكن ما هي إلا لحظات, وأروي فضولي, وفضولها..
أوقفني والدي فجأة بإشارة حازمة من يده, قبل أن نصل.. ذهب, وحمل الكيس, ثم أتى به إليّ..
فجأة فتح والدي الكيس, ورأيت شيئا يسقط على الأرض!
لبعض ثوان ظللت أحملق في الكيان الذي ارتمى أمامي ساكنا قبل أن أستوعبه..
ياللبشاعة!
كان القط قد تحول إلى مجموعة من العظام النخرة, التي تغلفها بقايا لحم أسود اللون.. الآذان متآكلة تماما, والأسنان بارزة من فمه المليء بالفراغات..
الآلاف, أو الملايين من الدود الأسود المقزز تمرح على جسده, وكأنها ترقص رقصة الموت الأخيرة!
عيناه اللتان قد تحولتا إلى فراغ, أخذتا تحدقان في عينيّ بقسوة.. لا أصدق أن القط الجميل قد تحول إلى هذا الكيان المرعب!
أخذ والدي يصرخ فيّ بهستيريا, عن تعذيبي للحيوانات, وقتلي لها بلا أي ذنب.. سألني هل أحب أن يفعل معي أحد هذا, وقال لي إن هذا القط سوف يظل يطاردني في كوابيسي إلى الأبد بسبب فعلتي معه.
جسدي الضئيل كان يهتز بقوة, بين ذراعيه العملاقين.. صيحاته كانت تخترق أعماقي اختراقاً.
كان والدي يرتعش من الغضب كذلك.. أطبق على يدي, وهبط بها نحو الجسد الممدد على الأرض..
أخذت أصرخ, وهو يقرب يدي منه أكثر, فأكثر.. أخذت أبكي.. الكهرباء سرت في جسدي, وقد شرعت أرتعش, وأتوسل إليه, لكنه كان مصراً.. هل كان يسمعني أصلا؟!
في البداية جعلني ألمس الديدان.. ملايين الديدان لها ذات الملمس اللزج, والحركات الراقصة..
أفرغت ما في جوفي, وقد بدأت اإرتعاشاتي تتحول إلى تشنجات.. لكن والدي لم يأبه لهذا.. غاص بيدي إلى الأعماق.. حيث الجلد المتعفن ذو الرائحة الكريهة.. كان الجلد لينا للغاية, ويتمزق بمجرد أن ألمسه..
أما العظام فقد كانت كخيوط العنكبوت.. وكانت تتحول إلى تراب فور مروري عليها..
شعرت بطعم المخاط في لساني.. أما سروالي فقد ابتل, واتسخ..
نزيف بلا دماء من كل فتحات جسدي!
قبضتي قد أطبقت على وجه القط.. أدركت الآن أن أنيابه لم تكن بالصلابة التي ظننتها في البداية..
معدته كانت لزجة, ومليئة بالسوائل المقززة.. كان بها براغيث, وديدان كذلك..
بعضها –وقد كنت أظنه عفنا بني اللون- قفزت لتنهش جلدي..
المزيد من البكاء, والمخاط, والتشنجات..
تمتد قدمي لتقفز في وجهي.. بينما تحركت يدي قسراً عني, وعن والدي لتسقط فوق رأسي..
عرفت بعد ذلك أنها كانت نوبتي الصرعية الأولي!
* * *
خيالات الشيوخ الغامضة, السريالية, التي يحدثوننا عنها, ولا نراها..
الوجوه المخيفة التي نشعر بأنها موجودة في لوحاتنا, ولا تكتشفها عيوننا الواعية أبداً..
مخاوفنا الشخصية, وكوابيسنا التي تخيلنا أننا نسيناها..
هل تخرج من قبورها التي دفنها فيها عقلنا الباطن؟
إنه الليل, وقلبي يدق بقوة.. ناقوس الخطر لدى الشيوخ, ونذير مرضهم..
أحتاج لأن أجلس قليلا لأستريح, ولكن ما من مقاعد ها هنا..
أسير, وأنا أضع يدي على قلبي.. وكأنما بذلك, أمنعه من أن يقفز فجأة خارج حيز جسدي الجغرافي!
أهدئ من خطوات سيري قليلاً, بلا فائدة.. دقات قلبي تتسارع بقوة.. وذهني يبدأ في الغياب تدريجيا..
أحاول المحافظة على صفائه.. أحاول أن أفعل شيئا ما..
ولكن.. هذا القط.. لماذا يرمقني بهذه الطريقة؟ لماذا يتحسس خطواتي, ويتشممها مثل الكلاب البوليسية؟ لماذا يتعقبني؟
أخذت أحاول الابتعاد عنه.. أسرع, فأسرع.. بينما هو حثيث في طلبي.. المطر, والرعد جعلا شعوراً غير طيب يتسلل إلى أعماقي لكني لا أدري كنهه!
أشعر بأن قدميّ ثقيلتان.. وصراخي المكتوم لا يتجاوز حلقي أبدا.. هل هو كابوس؟ ليس كابوسا للأسف.. إننا لا نصاب في الكوابيس بأزمات قلبية!
دقات قلبي تتسارع.. لقد أنهكتها حركة قدميّ.. أما وعيي فيوشك أن يغيب إلى الأبد, لكني أحاول التماسك..
مهما كانت العواقب فلن يظفر بي هذا القط اللئيم!
تمتد المطاردة بطول الشارع.. إيقاع قدمي يتحول من السرعة, إلى العدو!
الجنون قد أصاب تعاريج وجهي, وتجاعيده.. لكن الموت أسمى من الهزيمة..
ترى هل سأنجو؟
الأضواء تزداد من حولي, و..
ها هو المنزل أخيرا.. النعش الذي يحمي أجسادنا من ضوضاء الحياة..
أزيد من سرعتي, وأختم السباق بقفزة هائلة تجعل جسدي داخل المنزل, بينما القط خارجه..
لا وقت للهاث الآن.. سوف أغلق الباب أمامه, حيث لن يتمكن من الدخول..
ماذا جرى للباب؟ لماذا تغطيه ملايين الديدان؟!
أسمع أصوات تحيط بي, لكني لا أميزها..
القط يطير ليصطدم بأعلى الباب, ويدفعه نحوي أكثر..
إنه يسعى لأن يفتح لنفسه فرجة تسمح له بالتسلل..
أتغلب على اشمئزازي, وأضغط على الباب بقوة.. ملمس الديدان هذا.. لقد شعرت به من قبل..
أستكين لذكرياتي للحظات.. بعدها أكتشف أن الهجوم قد ازدادت وطأته..
عشرات القطط الطائرة تقف في الشارع المظلم, وتموء..
تموء بصوت أقرب إلى عواء الكلب..
تطير القطط الواحدة تلو الأخرى لتصطدم بباب منزلي..
وجه أحدها يقتحم فرجة ضيقة, وينظر إليّ في الإضاءة الخافتة..
وجه قط بارز الأنياب, لا جلد له.. فراغ أسود في تجويف الرؤية, ونظرات مباشرة في عينيّ..
يطير قط آخر ليصطدم بباب المنزل..
أستميت في محاولة إغلاق الباب أمامها.. أدفع الباب أكثر فينسحب وجه القط في ألم..
المزيد من الأصوات العجيبة تتردد كأصداء من حولي..
يفشل جسدي في أن يتحملني أكثر من ذلك..
تهبط قدماي على الأرض ببطء, ويسيل لعابي بغزارة.
للمؤلف : محمد إبراهيم صقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
"قـــــط فـــــوق المشنـــــــقة!"

لا شيء مثل قطرات المطر التي تبلل رأسك, يشعرك بروح (الشتاء)!
إنها رسول السحب التي تسبح فوق أمواج السماء, وأعاصيرها.. دموع الكون على خطايانا.. وغنيمة الفوز على (الخريف).
ألوان (قزح) المقتول تنصب لتسيل على لوحة تنعكس في أعماقك..
تكتكاتك المرتجفة, وصوت اصطكاك أسنانك يدوي في تعاريج نفسك المرهقة..
الوحدة التي تشم رائحتها, والطريق المظلم, والأضواء الخافتة تمتزج لتصنع في كيانك مزيجا ما.. تحاول أن تمسك بأي شيء, فلا تجد إلا الهواء البارد..
تتجمد دموع طفولتك في مقلتيك.. تسقط فتتسخ ملابسك, وتنهض لكي تسقط مرة أخرى.. تبكي.. تمتزج دموعك مع أمطار السماء.. ما أقسى أن تبكي فلا يسمع صوتك إلا الصدى الموحش!
أنت تائه في شارعك الذي تسكن فيه! أطرافك الباردة تلمس خيالك الخصب, فترى من جدران النوافذ العالية أشباحا تجلس أمام المدفأة, تحتسي الكاكاو الساخن, نخب متاهاتك التي سقطت في شركها..
الصاري يخبرك بأنه لا أرض هنالك في الأفق, والأمطار تحولت إلى أمواج عاتية تجبرك على أن تستسلم للغرق الذي لا مفر منه!
الرعد يدوي, فتمتزج عظامك ببعضها, والبرق يضيء عينك السوداء, قبل أن يطاردك بقسوة.
هل تعرف هذه الظروف؟ هل عشت فيها من قبل؟
كان هذا هو حالي في ذلك اليوم, عندما خرج أبي وأمي, في صحبة أخي الصغير إلى الطبيب, بعد أن ارتفعت درجة حرارته فوق معدلها الطبيعي شرطتين!
وحيدا كنت في الشارع الموحش, عندما فاجأتني الأمطار على حين بغتة.. أتحسس جدران منزلي, ولا أستطيع أن أدخله.. أضغط على الحائط بقوة لعل جسدي ينجح في اختراقه فلا أفلح..
ماذا كنت ستفعل, في ظل هذه الظروف؟
ستطرق أبواب الجيران الذين لا تعرفهم؟ ستمشي في الشوارع التي لم ترها من قبل؟ ستصرخ بصوت لن يسمعه أحد؟
أنا لم أفعل أيا من ذلك.. كان الضباب المسيطر على عقلي يمنعني من أي شيء.. فقط تركت لقدميّ الكلمة العليا, تصحباني إلى حيثما تشاء..
هل تسمع معي ذلك المواء الضئيل؟
في المرة الأولى ظننت أني أتخيل, إلا أني لم ألبث أن تأكدت بعد أن سمعته ثانية, بصوت أعلى قليلا..
أخذت أبحث بهمّة –وقد وجدت ما يشغلني, ويبدد بعض مخاوفي– عن القط صاحب الصوت.. إنه يختفي تحت سيارة من هؤلاء.. لكن أي واحدة؟!
حددت مكان القط بطريقة تقريبية, ثم هبطت تحت السيارة التي اخترتها.. سقطت عليّ أطنان من الماء, والطين (ولم تكن مشكلة حيث إن ملابسي وكل جسدي قد تشربا منهما!) ثم اكتشفت أنها ليست سيارتي المنشودة.
هبطت تحت السيارة التي تجاورها.. مسحت وجهي من الطين الذي غطاه, ثم دارت عيناي في المكان.. لم أجد القط مرة أخرى, وهممت أن أبتعد لولا أن سمعت مواء القط يأتي من مكان قريب.. حاولت أن أخترق سحب الظلام, إلا أنني فشلت.. مددت يدي تتحسس المكان.. وبالفعل شعرت به بعد دورة أو دورتين.. كان ضيئلا جدا, ومبتلا عن آخره.. ابتعد للحظات, في محاولة خرقاء منه للهرب إلا أنني قد نجحت أخيرا في السيطرة على جسده الضعيف, المرتعش..
أطلق مواء آخر.. هل يحاول استعطافي؟
إنه لن ينجح! في هذه الظروف لن ينجح! أنا الآن لا أشعر بأي شيء.. لا أشعر بالبرد, أو بالخوف, أو بالوحدة.. فقط أشعر بالقط بين يدي.. الفريسة التي ظفر بها الصياد أخيرا!
لملمت جسدي لكي أخرج من تحت السيارة, وأراه بوضوح أكثر.. قط عادي أصفر اللون, تبرز عظامه من تحت فرائه, حتى لتظن أنه بلا جلد يغطيه.. لولا المساحات الفارغة من الفراء في جسده, لذهبت إلى أنه بلا جلد فعلا.. أما أظفاره فقد كانت صغيرة للغاية.. بعضها مكسور كذلك أو هكذا خيل لي..
حاول القط أن يفلت من يدي.. الحقيقة أن هذا سلوك عجيب! فلو أفلت من يدي –ذلك الأبل – لسقط على الأرض شر سقطة! ثم لماذا يهرب؟ إنه لا يشعر بالدفء طبعا في يديّ بعد أن تجمدتا, ولكنني على الأقل قد أحميه.. قد أطعمه.. هل يظن أنه سوف ينجو إذا ما أفلت من يدي؟
تغاضيت عن غبائه هذا, وتجاهلت رغبة عارمة في ركله, فضلت عليها إشباع فضولي في تأمله!
وضعته فوق السلّم..
أول ملحوظة لي كانت عن "العماص" الموجود حول عينيه!
ثاني ملحوظة كانت أنه خالي من البراغيث التي وجدتها في كل أقرانه تقريبا.. لعل ذلك بسبب حمّامات المطر الإجبارية!
أنا لا أحب الحمّام, وأكره اختراعا اسمه الدش! ولكني أعشق الوقوف تحت مياه المطر, ولا أدري سببا لذلك!
ثالث ملحوظة كانت عن ذيله! كان ذيله قصيرا, ومضحكا.. وقد شرعت أحاول أن ألفه على هيئة العقدة دون جدوى!
أخذ القط يتحرك بجنون بعد محاولاتي هذه –لابد أنها قد آلمته– حيث لا هدف محددا.. راقبته, وقد سلاني منظره لفترة, وأخذت أسدّ أمامه كل طريق يتخذه.. ثم لم ألبث أن أصابني الملل.. ماذا سأفعل الآن؟
فكرت في أن أترك القط حرًا لحال سبيله, ولكن الفراغ الذي سوف يحدث بعد ذلك قد منعني من اتخاذ هذه الخطوة..
أنا الآن بين نارين.. نار الملل, ونار الفراغ, والوحدة, والخوف..
فجأة خطرت لي هذه الفكرة! كان الفيلم الذي شاهدته اليوم في التليفزيون يتحدث عن مجرم هارب, وعصابات, ومشنقة! لماذا لا أجرب المشنقة مع القط؟! ترى ما الذي سوف يحدث له إذا شنقته؟!
التهبت بنار الحماس.. وأخذت أبحث عن حبل مناسب في حديقة المنزل, فلم أجد شيئا.. بحثت في الشارع فوجدته.. الحبل الذي يثبت الشجرة الصغيرة المائلة, أمام منزل الجيران.
أخذت الحبل, وربطت طرفه الأول في السلسلة الحديدية الموجودة داخل سور حديقتنا, وربطت طرفه الثاني بعد محاولات عديدة حول رقبة القط.. مازلت أمسكه في يدي.. لم أتركه بعد..
القط يموء, وينظر لي.. ولعله لا يفهم أي شيء.. أو ربما هو مستمتع باللعبة كذلك! عينا القط عميقتان, وأيضا حزينتان.. لم أرَ ما هو أهشّ منه في حياتي!
تركت القط فجأة فصدر منه صوت عجيب, وتحرك الحبل بقوة في شكل دائري, ثم لم يلبث أن سكن تدريجيا.
نظرت إلى القط.. كانت عيناه جاحظتين, ووجهه منتفخا نوعا.. أطرافه متراخية تماما, ومستسلمة كذلك.. دفعته, فذهب الحبل مسافة صغيرة, ثم عاد مرة أخرى..
جذبته من قدمه إلى أسفل, ولكنه لم يبدِ أي مقاومة.. أول مرة أرى شيئا يموت! لم أكن أفهم معنى الموت, وكنت أعتقد أن القط يراقبني برغم سكونه..
ظللت أتأمله بشغف لفترة طويلة, ثم لم ألبث أن مللت, فخرجت إلى الشارع مرّة أخرى..
لم ألبث طويلا هذه المرّة.. أتى والدي, ووالدتي, وأخي, وقد هال منظري والديّ, وشرع كل منهما يلوم الآخر على تركي وحيدا في الشارع..
كانت الأمطار قد توقفت, وقد ضايقني ذلك, فقد اعتدت عليها.. ولذلك فقد شرعت في البكاء, وأنا داخل معهم إلى المنزل..
وبينما كانت والدتي تسألني عن سبب بكائي, وأنا لا أجيبها, رأى والدي ما فعلته في القط على سور الحديقة!
سألني والدي عما حدث, فحكيت له بفخر.. بدا عليه الامتعاض, وبدا على والدتي الأسف, والحزن العميقين.. وكانت تردد: حرام عليك.. حرام عليك..
إلا أن أيا منهما لم يتخذ أي تصرف ضدي.. وقد ظننت أنهما نسيا ما حدث عندما دخلنا إلى المنزل..
كان القط هو محور حديثي مع أخي طيلة هذه الليلة.. كنت أحكي بفخر, وبلا انقطاع, وكان مبهورا! وفي اليوم التالي رأى جيراني ما حدث, وسألوني مازحين عما إذا كنت أعرف مذبحة (دنشواي)! لم أفهم ما يتكلمون عنه, وإن زادت سعادتي, وفخري بسبب ضحكاتهم..
أما والدي فلم يعلق, واكتفى بالصمت..
فقط وضع القط في كيس في طرف الحديقة, ولم يدفنه! لماذا لم يدفنه يا ترى؟ خمنت أن الناس فقط هم الذين يدفنون عندما يموتون, أما القطط فتوضع في أكياس!
بعد يومين, أو ثلاثة, بدأت الأحداث تتغير!
* * *
النظرة الصارمة في عيني والدي جعلتني أدرك أن هناك أمرا ما.. لا أتذكر من المرات سوى مرتين نظر لي فيهما والدي هذه النظرة, بهذه القسوة.. الأولى كانت قبل إعطائي علقة ساخنة, والثانية كانت قبل سكب طبق الشوربة على ملابسي!
نعم.. إن والدي حازم لأقصى درجة.. إنه لن يتردد في قتلي, إذا ما خالفت أيا من أوامره, أو فعلت شيئا يغضبه.. تحاول والدتي أن تجعله أكثر لينا معنا, ولكنه لا يقتنع.. ويقال إن قسوة والده معه (وقد كان يتركه بلا طعام لعدة أيام, ويلسعه بالنار!) هي السبب في ذلك.
لم تكن قسوة والدي معي تقل عنها بحال.. فبدون أن يتفوه بأي كلمة, اصطحبني إلى حيث وضع القط في الحديقة.. كان يمنعني من اللعب بالقرب من ذلك الجزء في الأيام السابقة, وكنت أغالب فضولي بمشقة بالغة..
وعلى الرغم من خوفي الشديد, الذي ضاعفته قبضة يد والدي الممسكة بفانلتي بقوة, إلا أنني أشعر بشيء من السعادة لأني سوف أروي فضولي أخيرا.
أخذت أنظر إلى الكيس من بعيد, وأترقب اللحظة التي سوف أرى فيها القط.. تري هل سيتحرك؟ هل سيكون على نفس السكون الذي تركته عليه؟ هل هرب؟ هل نشف جسده من البلل الذي رأيته عليه أول مرة؟
أسئلة كثيرة دارت في ذهني, ولكن ما هي إلا لحظات, وأروي فضولي, وفضولها..
أوقفني والدي فجأة بإشارة حازمة من يده, قبل أن نصل.. ذهب, وحمل الكيس, ثم أتى به إليّ..
فجأة فتح والدي الكيس, ورأيت شيئا يسقط على الأرض!
لبعض ثوان ظللت أحملق في الكيان الذي ارتمى أمامي ساكنا قبل أن أستوعبه..
ياللبشاعة!
كان القط قد تحول إلى مجموعة من العظام النخرة, التي تغلفها بقايا لحم أسود اللون.. الآذان متآكلة تماما, والأسنان بارزة من فمه المليء بالفراغات..
الآلاف, أو الملايين من الدود الأسود المقزز تمرح على جسده, وكأنها ترقص رقصة الموت الأخيرة!
عيناه اللتان قد تحولتا إلى فراغ, أخذتا تحدقان في عينيّ بقسوة.. لا أصدق أن القط الجميل قد تحول إلى هذا الكيان المرعب!
أخذ والدي يصرخ فيّ بهستيريا, عن تعذيبي للحيوانات, وقتلي لها بلا أي ذنب.. سألني هل أحب أن يفعل معي أحد هذا, وقال لي إن هذا القط سوف يظل يطاردني في كوابيسي إلى الأبد بسبب فعلتي معه.
جسدي الضئيل كان يهتز بقوة, بين ذراعيه العملاقين.. صيحاته كانت تخترق أعماقي اختراقاً.
كان والدي يرتعش من الغضب كذلك.. أطبق على يدي, وهبط بها نحو الجسد الممدد على الأرض..
أخذت أصرخ, وهو يقرب يدي منه أكثر, فأكثر.. أخذت أبكي.. الكهرباء سرت في جسدي, وقد شرعت أرتعش, وأتوسل إليه, لكنه كان مصراً.. هل كان يسمعني أصلا؟!
في البداية جعلني ألمس الديدان.. ملايين الديدان لها ذات الملمس اللزج, والحركات الراقصة..
أفرغت ما في جوفي, وقد بدأت اإرتعاشاتي تتحول إلى تشنجات.. لكن والدي لم يأبه لهذا.. غاص بيدي إلى الأعماق.. حيث الجلد المتعفن ذو الرائحة الكريهة.. كان الجلد لينا للغاية, ويتمزق بمجرد أن ألمسه..
أما العظام فقد كانت كخيوط العنكبوت.. وكانت تتحول إلى تراب فور مروري عليها..
شعرت بطعم المخاط في لساني.. أما سروالي فقد ابتل, واتسخ..
نزيف بلا دماء من كل فتحات جسدي!
قبضتي قد أطبقت على وجه القط.. أدركت الآن أن أنيابه لم تكن بالصلابة التي ظننتها في البداية..
معدته كانت لزجة, ومليئة بالسوائل المقززة.. كان بها براغيث, وديدان كذلك..
بعضها –وقد كنت أظنه عفنا بني اللون- قفزت لتنهش جلدي..
المزيد من البكاء, والمخاط, والتشنجات..
تمتد قدمي لتقفز في وجهي.. بينما تحركت يدي قسراً عني, وعن والدي لتسقط فوق رأسي..
عرفت بعد ذلك أنها كانت نوبتي الصرعية الأولي!
* * *
خيالات الشيوخ الغامضة, السريالية, التي يحدثوننا عنها, ولا نراها..
الوجوه المخيفة التي نشعر بأنها موجودة في لوحاتنا, ولا تكتشفها عيوننا الواعية أبداً..
مخاوفنا الشخصية, وكوابيسنا التي تخيلنا أننا نسيناها..
هل تخرج من قبورها التي دفنها فيها عقلنا الباطن؟
إنه الليل, وقلبي يدق بقوة.. ناقوس الخطر لدى الشيوخ, ونذير مرضهم..
أحتاج لأن أجلس قليلا لأستريح, ولكن ما من مقاعد ها هنا..
أسير, وأنا أضع يدي على قلبي.. وكأنما بذلك, أمنعه من أن يقفز فجأة خارج حيز جسدي الجغرافي!
أهدئ من خطوات سيري قليلاً, بلا فائدة.. دقات قلبي تتسارع بقوة.. وذهني يبدأ في الغياب تدريجيا..
أحاول المحافظة على صفائه.. أحاول أن أفعل شيئا ما..
ولكن.. هذا القط.. لماذا يرمقني بهذه الطريقة؟ لماذا يتحسس خطواتي, ويتشممها مثل الكلاب البوليسية؟ لماذا يتعقبني؟
أخذت أحاول الابتعاد عنه.. أسرع, فأسرع.. بينما هو حثيث في طلبي.. المطر, والرعد جعلا شعوراً غير طيب يتسلل إلى أعماقي لكني لا أدري كنهه!
أشعر بأن قدميّ ثقيلتان.. وصراخي المكتوم لا يتجاوز حلقي أبدا.. هل هو كابوس؟ ليس كابوسا للأسف.. إننا لا نصاب في الكوابيس بأزمات قلبية!
دقات قلبي تتسارع.. لقد أنهكتها حركة قدميّ.. أما وعيي فيوشك أن يغيب إلى الأبد, لكني أحاول التماسك..
مهما كانت العواقب فلن يظفر بي هذا القط اللئيم!
تمتد المطاردة بطول الشارع.. إيقاع قدمي يتحول من السرعة, إلى العدو!
الجنون قد أصاب تعاريج وجهي, وتجاعيده.. لكن الموت أسمى من الهزيمة..
ترى هل سأنجو؟
الأضواء تزداد من حولي, و..
ها هو المنزل أخيرا.. النعش الذي يحمي أجسادنا من ضوضاء الحياة..
أزيد من سرعتي, وأختم السباق بقفزة هائلة تجعل جسدي داخل المنزل, بينما القط خارجه..
لا وقت للهاث الآن.. سوف أغلق الباب أمامه, حيث لن يتمكن من الدخول..
ماذا جرى للباب؟ لماذا تغطيه ملايين الديدان؟!
أسمع أصوات تحيط بي, لكني لا أميزها..
القط يطير ليصطدم بأعلى الباب, ويدفعه نحوي أكثر..
إنه يسعى لأن يفتح لنفسه فرجة تسمح له بالتسلل..
أتغلب على اشمئزازي, وأضغط على الباب بقوة.. ملمس الديدان هذا.. لقد شعرت به من قبل..
أستكين لذكرياتي للحظات.. بعدها أكتشف أن الهجوم قد ازدادت وطأته..
عشرات القطط الطائرة تقف في الشارع المظلم, وتموء..
تموء بصوت أقرب إلى عواء الكلب..
تطير القطط الواحدة تلو الأخرى لتصطدم بباب منزلي..
وجه أحدها يقتحم فرجة ضيقة, وينظر إليّ في الإضاءة الخافتة..
وجه قط بارز الأنياب, لا جلد له.. فراغ أسود في تجويف الرؤية, ونظرات مباشرة في عينيّ..
يطير قط آخر ليصطدم بباب المنزل..
أستميت في محاولة إغلاق الباب أمامها.. أدفع الباب أكثر فينسحب وجه القط في ألم..
المزيد من الأصوات العجيبة تتردد كأصداء من حولي..
يفشل جسدي في أن يتحملني أكثر من ذلك..
تهبط قدماي على الأرض ببطء, ويسيل لعابي بغزارة.
للمؤلف : محمد إبراهيم صقر