بسمه تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الامام الكاظم ”ع “ سجين الحق وقائد المعارضة السلمية
حســين عــلاوي
من جريدة الصباح العراقية
شهدت المرحلة التي عاشها الامام الكاظم عليه السلام، اضطرابات ونزعات اجتماعية، وسياسية اندفعت اثارها المفجعة الى السطح بسرعة من خلال ظهور الازمات والنكبات العلنية.. التي خطط لها ونظم حركتها زعماء النهج الجاهلي في تاريخنا العربي والاسلامي، وذلك بقصد صرف الامة عن مسيرتها الارتقائية الحضارية في التكامل الروحي والمفاهيمي، والنبيل من العمق الواعي للاسلام الرسالي المنفتح المتجذر في وعي اهل البيت عليهم السلام، حيث ادت تلك الافعال المشبوهة، ذات المنطق العائلي الضيق المخالف لروح وقيم الاسلام الاصيل، الى ابتعاد المسلمين عموما عن ممارسة التجربة الصحية والواعية للاسلام.. وادخالهم في متاهات الكفر والعصبية البغيضة، المعبرة عن ميل انحداري شديد نحو كرسي الحكم وعرش السلطنة.. حتى لو كلف ذلك الامة خسارة نهجها المشرق وطموحات رسالتها الانسانية ومنظومتها الفكرية والقيمية.
لقد استنزفت الاحداث الكارثية الشيء الكثير من طاقات ومواهب الامة، كما وحددت مقدراتها وامكانياتها التي كان من المفترض ان تشكل الاساس المتين لبناء قاعدةاسلامية صلبة في العمل الدعوتي الرسالي على مستوى تبليغ ونشر الاسلام في كافة الارجاء والانحاء.
وبالعودة الى المراجع التاريخية المعتمدة كمصادر دراسية اساسية في الحقل التاريخي الاسلامي، نجد ان الامام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام عاصر في حياته عدة خلفاء، ممن أتسم حكمهم بالاستبداد والفردية والتسلط، والظلم، وشدة الضغوطات الامنية، ووطأة الخطط السياسية التي كانوا يضعونها، حيث كان امامنا عليه السلام واعيا لها، ومدركا لحجم وابعاد خطورتها، على المدى القريب والبعيد.. لقد قضت تلك الخطط بالسيطرة على مقدرات الامة، ونهب خيراتها من خلال اتباع سياسة الترغيب والترهيب والتأكيد على مبدأ القوة الحديدية والقمعية الذي طبع كل تاريخهم، وذلك من خلال ما يلي:
- قتل الناس الابرياء..
- تبذير الاموال العامة في اماكن اللهو والطغيان..
- هدر ثروات العباد على مظاهر الترف والبذخ الزائل والزائف..
- ملاحقة المؤمنين والصلحاء والانقياء..
- الضرب على اوتار العشائرية والقبلية عبر اذكاء واشاعة الصراع القبلي..
- ممارسة التصفية الجسدية، والاغتيال السياسي المنظم لأعلام المسلمين.. وهدر دورهم، واسقاط جميع حقوقهم المدنية..
- اتباع سياسة كم الافواه، وشراء الذمم والضمائر وتأجير العقول.. وبالتالي ادخال الامة بكل مواقعها في غياهب المجهول..
قبسات من فكر الامام:
قال لاحد اصحابه”ابلغ خيرا وقل خيرا ولا تكن أمعه قال: وما الأمعه؟ قال: ان تقول انا مع الناس وانا كواحد من الناس، فان رسول الله قال: انما هما نجدان نجد خير ونجد شر.. فلا يكن نجد الشر احب اليكم من نجد الخير “.. بهذا الحديث يريد ان يخاطب الناس الذين يواجهون الحياة في كل صراعاتها وفي كل اشكالاتها بالطريقة السلبية،بحيث لايتبعون فكرهم في اتخاذ الموقف وفي مواجهة الموقف المضاد. وهم اتكاليون يريدون للاخرين ان يفكروا ليتحركوا على ضوء خط تفكيرهم او لا يتحركون ولا يرون ان يعيشوا مسؤولية الفكر، وانما يقولون للاخرين فكروا لنا ويقولون معنا..
عاصر الامام موسى بن جعفر عليه السلام عدة خلفاء عباسيين، فقد عايش عليه السلام، اربع سنوات ونصف السنة من عهد عبدالله بن محمد بن علي الملقب بالسفاح، وبقي تسع سنوات واشهرا في عهد المنصور الدوانيقي.. حيث كانت وفاة الامام الصادق عليه السلام، وعاش بعد أبيه خمسة وثلاثين عاما مدة امامته.. قضى منها مع المنصور، بعد أبيه، نحوا من عشر سنوات، ومع ولده محمد الملقب بالمهدي عشر سنين، ومع ولده موسى الهادي سنة واحدة، ومع اخيه هارون نحوا من خمسة عشر عاما.. وسنستعرض بعض مواقفه الثابتة من اولئك الحكام، ورؤيته الفكرية والسياسية للنهج السياسي والاجتماعي الذي اتبعوه وساروا عليه في ادارتهم لشؤون الدولة والمجتمع.
تؤكد المرويات الكثيرة ان الامام موسى الكاظم عليه السلام تعرض، هو واصحابه، خلال الفترة التي أعقبت وفاة ابيه الصادق عليه السلام الى رقابة شديدة من قبل الحكام.. لكن يبدو، من خلال تتبع المراحل التاريخية التي مر بها في عهد المنصور، انه لم يلتق معه ولم يطلب حضوره اليه في بغداد كما كان يستدعي والده.. ويتهدده بالنفي والقتل.. وقد بقي الامام الكاظم طيلة حكم الخليفة المهدي تحت الرقابة الصارمة، من قبل اجهزة النظام الحاكم، وقد قام باستدعائه عليه السلام الى بغداد اكثر من مرة فحبسه وأساء معاملته ثم قام باطلاق سراحه لرؤية رآها..
جاء في تذكرة الخواص لابن الجوزي: ان اهل الشعر قالوا: لقد كان مقام موسى بن جعفر بالمدينة فاستدعاه المهدي الى بغداد وحبسه بها ثم رده الى المدينة لطيف رآه..
ولم يمارس الخليفة الهادي، حسب المصادر التاريخية اي نوع من الضغوط او الاساءة الى الامام الكاظم عليه السلام، ولم يحدثنا التاريخ انه استدعاه الى بغداد على الرغم من اتصافه بالقسوة والشدة، ولعل المدة الزمنية القصيرة التي قضاها الهادي على كرسي الخلافة العباسية لم تسمح له بممارسة اساليب جده وابيه مع الامام عليه السلام..
وقد كانت السنوات التي قضاها الامام عليه السلام تحت حكم هارون الرشيد من أسوأ وافظع المراحل التاريخية التي قضاها في حياته، فقد كانت المهمة الاولى لجهاز الحكم ”الرشيدي“ تكمن في المراقبة المستمرة، خوفا منه ومن مجرد وجوده في الحياة، وهذا ما صرح به هارون، عندما كان يعتقل الامام عليه السلام ويحضره الى مجلسه.. حتى ان الامام عليه السلام قد سأله، اكثر من مرة، عن سبب اعتقاله وسجنه، وهو لما يفعل شيئا يسيء الى الدولة ولم يهدد أمن المجتمع واستقراره، فلماذا الحبس والاعتقال..؟ فكان جواب هارون السكوت لانه لايملك اي دليل ضده..
نحن لا نستغرب هذا الامر اطلاقا عندما نقرأ عن هارون الرشيد انه كان مستعدا لقتل نجله من اجل الملك والخلافة، جاء في رواية: ان المأمون” ابن هارون” استغرب تكرار عمليات استدعاء الامام عليه السلام الى بغداد وحبسه ثم اطلاق سراحه.. فسأله والده الرشيد، بعد ان انفرد به، عن سبب تقديره واجلاله للامام الكاظم عليه السلام، على الرغم من حبسه له اكثر من مرة، فقال له هارون: يأبني انه صاحب الحق.
قال له المأمون: اذا كنت تعلم ذلك.. فرد عليه حقه، فقال: انه الملك، والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك..
تنقل الامام الكاظم عليه السلام في السجون العباسية واحدا تلو الاخر، ولم يبق في سجن واحد، لقد كان الحاكم يأمر بنقله من سجن لآخر، وذلك لانهم عندما كان يضعونه في احد السجون يرون، بعد مضي فترة زمنية قصيرة، ان السجانين وعمال السجن قد اصبحوا من عشاقه ومحبيه عليه السلام.. يقبلون عليه ويتباركون به..
وفي مواجهة الوضع المضطرب المليء بالفوضى والمواقف الضاغطة والوقائع القسرية والاكراهية، اتخذ امامنا الكاظم عليه السلام موقفا ظهر جليا في بعض اخباره واحاديثه، فقد دخل الامام عليه السلام على هارون في بعض قصوره المشيدة الجميلة التي لم ير مثلها في بغداد ولا في غيرها، فانبرى اليه هارون وقد أسكرته نشوة الحكم قائلا: ما هذه الدار؟ فاجابه الامام عليه السلام غير مكترث بسلطانه وجبروته قائلا له: هذه دار الفاسقين.. وقرأ الاية المباركة:”سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الارض بغير الحق، وان يروا كل آية لا يؤمنون بها وان يروا سبيل الرشد لايتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا“ الاعراف: 146 مما آثار غضب هارون عليه واغلظ في كلامه على الامام عليه السلام بعد ان سمعه يتحداه بموقف لا هوادة فيه..
وفي اطار العمل السري المنظم والمحدد بدقة من قبل الامام عليه السلام نفسه، سلكت مقاومته عليه السلام، للاوضاع القائمة، الطريقة التي تمحورت حول تحريم التعاون مع السلطة القائمة، وضرورة مقاطعة الحاكم الظالم والتبرم منه وتجنب اية معاملة معه على اي صعيد او مستوى، وقد ظهر هذا الموقف جليا في حواره عليه السلام مع احد اصحابه”صفوان “، عندما قال له الامام عليه السلام:”يا صفوان، كل شيء منك حسن جميل ما عدا شيئا واحدا “.
- جعلت فداك اي شيء؟.
- كراؤك جمالك هذا الطاغية.
- والله ما أكريته أشرا، ولا بطرا، ولا للصيد ولا للهو ولكن أكريته لهذا الطريق - يعني طريق مكة - ولا أتولاه بنفسي، ولكن ابعث معه غلماني..
- فقال الامام عليه السلام: ياصفوان، أيقع كراك عليهم..؟
- نعم جعلت فداك..
اتحب بقاءهم حتى يخرج كراءك..؟
- نعم فقال عليه السلام:”من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان واردا للنار.. فقام صفوان ببيع جماله دفعة واحدة، وتخلى عن هذا العمل.
لقد بقي امامنا عليه السلام يمارس دوره الريادي، فكريا واجتماعيا، في دعوته الى التمسك المبدئي الراسخ بثوابت الاسلام وهدي القرآن، حتى آخر حياته الشريفة التي عانى فيها ما عاناه من عذاب السجن والتضييق والتنكيل بالقيود.. لقد مكث الامام عليه السلام زمنا طويلا في سجن هارون، وقد هدَ السجن صحته واذاب جسمه حتى اصبح، حين يسجد لربه، كالثوب المطروح على الارض، فيدخل عليه رسول الزعامة المنحرفة فيقول: ان الخليفة يتعذر اليك ويأمر باطلاق سراحك على ان تزوره وتعتذر اليه.. او تطلب رضاه.. فيشمخ الامام عليه السلام وهو يجيب بالنفي بكل صراحة، لا لشيء، الا لكي لا يحقق للزعامة المنحرفة هدفها في ان يبارك الامام عليه السلام خطها.. وهذا ما يبدو واضحا من خلال كلمات الرسالة التي ارسلها عليه السلام لهارون وهو لايزال في السجن معربا له فيها عن بالغ سخطه عليه، جاء فيها: انه لن ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى تفنى جميعا الى يوم ليس له انقضاء.. وهناك يخسر المبطلون..
بعد ذلك، وبفترة قصيرة، كانت وفاته في حبسه بواسطة السندي بن شاهك ”امير السجن العباسي“ خلال شهر رجب من سنة 183 للهجرة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الامام الكاظم ”ع “ سجين الحق وقائد المعارضة السلمية
حســين عــلاوي
من جريدة الصباح العراقية
شهدت المرحلة التي عاشها الامام الكاظم عليه السلام، اضطرابات ونزعات اجتماعية، وسياسية اندفعت اثارها المفجعة الى السطح بسرعة من خلال ظهور الازمات والنكبات العلنية.. التي خطط لها ونظم حركتها زعماء النهج الجاهلي في تاريخنا العربي والاسلامي، وذلك بقصد صرف الامة عن مسيرتها الارتقائية الحضارية في التكامل الروحي والمفاهيمي، والنبيل من العمق الواعي للاسلام الرسالي المنفتح المتجذر في وعي اهل البيت عليهم السلام، حيث ادت تلك الافعال المشبوهة، ذات المنطق العائلي الضيق المخالف لروح وقيم الاسلام الاصيل، الى ابتعاد المسلمين عموما عن ممارسة التجربة الصحية والواعية للاسلام.. وادخالهم في متاهات الكفر والعصبية البغيضة، المعبرة عن ميل انحداري شديد نحو كرسي الحكم وعرش السلطنة.. حتى لو كلف ذلك الامة خسارة نهجها المشرق وطموحات رسالتها الانسانية ومنظومتها الفكرية والقيمية.
لقد استنزفت الاحداث الكارثية الشيء الكثير من طاقات ومواهب الامة، كما وحددت مقدراتها وامكانياتها التي كان من المفترض ان تشكل الاساس المتين لبناء قاعدةاسلامية صلبة في العمل الدعوتي الرسالي على مستوى تبليغ ونشر الاسلام في كافة الارجاء والانحاء.
وبالعودة الى المراجع التاريخية المعتمدة كمصادر دراسية اساسية في الحقل التاريخي الاسلامي، نجد ان الامام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام عاصر في حياته عدة خلفاء، ممن أتسم حكمهم بالاستبداد والفردية والتسلط، والظلم، وشدة الضغوطات الامنية، ووطأة الخطط السياسية التي كانوا يضعونها، حيث كان امامنا عليه السلام واعيا لها، ومدركا لحجم وابعاد خطورتها، على المدى القريب والبعيد.. لقد قضت تلك الخطط بالسيطرة على مقدرات الامة، ونهب خيراتها من خلال اتباع سياسة الترغيب والترهيب والتأكيد على مبدأ القوة الحديدية والقمعية الذي طبع كل تاريخهم، وذلك من خلال ما يلي:
- قتل الناس الابرياء..
- تبذير الاموال العامة في اماكن اللهو والطغيان..
- هدر ثروات العباد على مظاهر الترف والبذخ الزائل والزائف..
- ملاحقة المؤمنين والصلحاء والانقياء..
- الضرب على اوتار العشائرية والقبلية عبر اذكاء واشاعة الصراع القبلي..
- ممارسة التصفية الجسدية، والاغتيال السياسي المنظم لأعلام المسلمين.. وهدر دورهم، واسقاط جميع حقوقهم المدنية..
- اتباع سياسة كم الافواه، وشراء الذمم والضمائر وتأجير العقول.. وبالتالي ادخال الامة بكل مواقعها في غياهب المجهول..
قبسات من فكر الامام:
قال لاحد اصحابه”ابلغ خيرا وقل خيرا ولا تكن أمعه قال: وما الأمعه؟ قال: ان تقول انا مع الناس وانا كواحد من الناس، فان رسول الله قال: انما هما نجدان نجد خير ونجد شر.. فلا يكن نجد الشر احب اليكم من نجد الخير “.. بهذا الحديث يريد ان يخاطب الناس الذين يواجهون الحياة في كل صراعاتها وفي كل اشكالاتها بالطريقة السلبية،بحيث لايتبعون فكرهم في اتخاذ الموقف وفي مواجهة الموقف المضاد. وهم اتكاليون يريدون للاخرين ان يفكروا ليتحركوا على ضوء خط تفكيرهم او لا يتحركون ولا يرون ان يعيشوا مسؤولية الفكر، وانما يقولون للاخرين فكروا لنا ويقولون معنا..
عاصر الامام موسى بن جعفر عليه السلام عدة خلفاء عباسيين، فقد عايش عليه السلام، اربع سنوات ونصف السنة من عهد عبدالله بن محمد بن علي الملقب بالسفاح، وبقي تسع سنوات واشهرا في عهد المنصور الدوانيقي.. حيث كانت وفاة الامام الصادق عليه السلام، وعاش بعد أبيه خمسة وثلاثين عاما مدة امامته.. قضى منها مع المنصور، بعد أبيه، نحوا من عشر سنوات، ومع ولده محمد الملقب بالمهدي عشر سنين، ومع ولده موسى الهادي سنة واحدة، ومع اخيه هارون نحوا من خمسة عشر عاما.. وسنستعرض بعض مواقفه الثابتة من اولئك الحكام، ورؤيته الفكرية والسياسية للنهج السياسي والاجتماعي الذي اتبعوه وساروا عليه في ادارتهم لشؤون الدولة والمجتمع.
تؤكد المرويات الكثيرة ان الامام موسى الكاظم عليه السلام تعرض، هو واصحابه، خلال الفترة التي أعقبت وفاة ابيه الصادق عليه السلام الى رقابة شديدة من قبل الحكام.. لكن يبدو، من خلال تتبع المراحل التاريخية التي مر بها في عهد المنصور، انه لم يلتق معه ولم يطلب حضوره اليه في بغداد كما كان يستدعي والده.. ويتهدده بالنفي والقتل.. وقد بقي الامام الكاظم طيلة حكم الخليفة المهدي تحت الرقابة الصارمة، من قبل اجهزة النظام الحاكم، وقد قام باستدعائه عليه السلام الى بغداد اكثر من مرة فحبسه وأساء معاملته ثم قام باطلاق سراحه لرؤية رآها..
جاء في تذكرة الخواص لابن الجوزي: ان اهل الشعر قالوا: لقد كان مقام موسى بن جعفر بالمدينة فاستدعاه المهدي الى بغداد وحبسه بها ثم رده الى المدينة لطيف رآه..
ولم يمارس الخليفة الهادي، حسب المصادر التاريخية اي نوع من الضغوط او الاساءة الى الامام الكاظم عليه السلام، ولم يحدثنا التاريخ انه استدعاه الى بغداد على الرغم من اتصافه بالقسوة والشدة، ولعل المدة الزمنية القصيرة التي قضاها الهادي على كرسي الخلافة العباسية لم تسمح له بممارسة اساليب جده وابيه مع الامام عليه السلام..
وقد كانت السنوات التي قضاها الامام عليه السلام تحت حكم هارون الرشيد من أسوأ وافظع المراحل التاريخية التي قضاها في حياته، فقد كانت المهمة الاولى لجهاز الحكم ”الرشيدي“ تكمن في المراقبة المستمرة، خوفا منه ومن مجرد وجوده في الحياة، وهذا ما صرح به هارون، عندما كان يعتقل الامام عليه السلام ويحضره الى مجلسه.. حتى ان الامام عليه السلام قد سأله، اكثر من مرة، عن سبب اعتقاله وسجنه، وهو لما يفعل شيئا يسيء الى الدولة ولم يهدد أمن المجتمع واستقراره، فلماذا الحبس والاعتقال..؟ فكان جواب هارون السكوت لانه لايملك اي دليل ضده..
نحن لا نستغرب هذا الامر اطلاقا عندما نقرأ عن هارون الرشيد انه كان مستعدا لقتل نجله من اجل الملك والخلافة، جاء في رواية: ان المأمون” ابن هارون” استغرب تكرار عمليات استدعاء الامام عليه السلام الى بغداد وحبسه ثم اطلاق سراحه.. فسأله والده الرشيد، بعد ان انفرد به، عن سبب تقديره واجلاله للامام الكاظم عليه السلام، على الرغم من حبسه له اكثر من مرة، فقال له هارون: يأبني انه صاحب الحق.
قال له المأمون: اذا كنت تعلم ذلك.. فرد عليه حقه، فقال: انه الملك، والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك..
تنقل الامام الكاظم عليه السلام في السجون العباسية واحدا تلو الاخر، ولم يبق في سجن واحد، لقد كان الحاكم يأمر بنقله من سجن لآخر، وذلك لانهم عندما كان يضعونه في احد السجون يرون، بعد مضي فترة زمنية قصيرة، ان السجانين وعمال السجن قد اصبحوا من عشاقه ومحبيه عليه السلام.. يقبلون عليه ويتباركون به..
وفي مواجهة الوضع المضطرب المليء بالفوضى والمواقف الضاغطة والوقائع القسرية والاكراهية، اتخذ امامنا الكاظم عليه السلام موقفا ظهر جليا في بعض اخباره واحاديثه، فقد دخل الامام عليه السلام على هارون في بعض قصوره المشيدة الجميلة التي لم ير مثلها في بغداد ولا في غيرها، فانبرى اليه هارون وقد أسكرته نشوة الحكم قائلا: ما هذه الدار؟ فاجابه الامام عليه السلام غير مكترث بسلطانه وجبروته قائلا له: هذه دار الفاسقين.. وقرأ الاية المباركة:”سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الارض بغير الحق، وان يروا كل آية لا يؤمنون بها وان يروا سبيل الرشد لايتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا“ الاعراف: 146 مما آثار غضب هارون عليه واغلظ في كلامه على الامام عليه السلام بعد ان سمعه يتحداه بموقف لا هوادة فيه..
وفي اطار العمل السري المنظم والمحدد بدقة من قبل الامام عليه السلام نفسه، سلكت مقاومته عليه السلام، للاوضاع القائمة، الطريقة التي تمحورت حول تحريم التعاون مع السلطة القائمة، وضرورة مقاطعة الحاكم الظالم والتبرم منه وتجنب اية معاملة معه على اي صعيد او مستوى، وقد ظهر هذا الموقف جليا في حواره عليه السلام مع احد اصحابه”صفوان “، عندما قال له الامام عليه السلام:”يا صفوان، كل شيء منك حسن جميل ما عدا شيئا واحدا “.
- جعلت فداك اي شيء؟.
- كراؤك جمالك هذا الطاغية.
- والله ما أكريته أشرا، ولا بطرا، ولا للصيد ولا للهو ولكن أكريته لهذا الطريق - يعني طريق مكة - ولا أتولاه بنفسي، ولكن ابعث معه غلماني..
- فقال الامام عليه السلام: ياصفوان، أيقع كراك عليهم..؟
- نعم جعلت فداك..
اتحب بقاءهم حتى يخرج كراءك..؟
- نعم فقال عليه السلام:”من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان واردا للنار.. فقام صفوان ببيع جماله دفعة واحدة، وتخلى عن هذا العمل.
لقد بقي امامنا عليه السلام يمارس دوره الريادي، فكريا واجتماعيا، في دعوته الى التمسك المبدئي الراسخ بثوابت الاسلام وهدي القرآن، حتى آخر حياته الشريفة التي عانى فيها ما عاناه من عذاب السجن والتضييق والتنكيل بالقيود.. لقد مكث الامام عليه السلام زمنا طويلا في سجن هارون، وقد هدَ السجن صحته واذاب جسمه حتى اصبح، حين يسجد لربه، كالثوب المطروح على الارض، فيدخل عليه رسول الزعامة المنحرفة فيقول: ان الخليفة يتعذر اليك ويأمر باطلاق سراحك على ان تزوره وتعتذر اليه.. او تطلب رضاه.. فيشمخ الامام عليه السلام وهو يجيب بالنفي بكل صراحة، لا لشيء، الا لكي لا يحقق للزعامة المنحرفة هدفها في ان يبارك الامام عليه السلام خطها.. وهذا ما يبدو واضحا من خلال كلمات الرسالة التي ارسلها عليه السلام لهارون وهو لايزال في السجن معربا له فيها عن بالغ سخطه عليه، جاء فيها: انه لن ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى تفنى جميعا الى يوم ليس له انقضاء.. وهناك يخسر المبطلون..
بعد ذلك، وبفترة قصيرة، كانت وفاته في حبسه بواسطة السندي بن شاهك ”امير السجن العباسي“ خلال شهر رجب من سنة 183 للهجرة.
تعليق