تمهيد :-
شهدت المرحلة الأولى من صعود الأسرة العباسية للسلطة والتي استمرت من (132 - 232 هـ) قيام العديد من الثورات والانتفاضات الاجتماعية التي خضعت (من ناحية المعتقد والقيادة) لأفكار وبرامج المذاهب الثورية المعارضة وخاصة المذهبين الشيعي، والخارجي، وقد ارتبطت الثورات الشيعية عموماً - من وجهة نظر المؤرخين - بخضوعها لقيادة علوية أو هاشمية، أما الثورات الخارجية فقد ارتبطت بالشعارات التقليدية للفكر الخارجي، إلا أن صعود العباسيين إلى السلطة واعتمادهم على العناصر الأرستقراطية الفارسية أدى إلى انزواء المذاهب الخارجية في الشرق ودخولها في حالة خمول ثوري، وتركز اهتم علماء الفرق الخارجية - الإباضية على وجه الخصوص - بالتنظير العلمي لمذهبهم(1)، ومع تبني السلطة العباسية للمذاهب السنية في الأصول والفروع، فقد تبنت الحركات المعارضة الدينية والاجتماعية المذهب الشيعي والولاء لآل البيت(2)، على أن بعض هذه الثورات الاجتماعية - وخاصة التي قامت في الشرق - وجدت حول أفكارها الأيدلوجية والعقائدية العديد من علامات الاستفهام، والتي نتجت عن الاضطراب الواضح في المعلومات التي توردها المرويات المؤرخة لهذه الانتفاضات، بالإضافة إلى حرص السلطة العباسية المنتصرة على محو أي نص معبر عن الآراء الدينية لقياداتها، لوضع الرأي العام الإسلامي تحت السيطرة الكاملة لإعلامياتها، والتي حرصت بالطبع على إفقاد هذه المحاولات الثورية لشرعيتها الإسلامية، عن طريق توجيه التهم إلى قادتها بالسعي للقضاء على الإسلام وإحياء المجد الساساني والديانات الفارسية القديمة وخاصة المذهب المزدكي(*1)، بالإضافة إلى اتهامها بالترويج للإباحية وشيوعية النساء والأموال، مستغلة كون هذه القيادات تنتمي من الناحية العنصرية إلى العناصر الفارسية والتركية، وهي الاتهامات التي لم تكن تجرؤ على توجيهها للقيادات العلوية أو الخارجية المنتمية للعنصر العربي.
وقد نجحت إعلاميات السلطة في إجبار مؤرخي المعارضة على الخضوع لآرائها تجاه هذه الانتفاضات بعد أن استطاعت - بواسطة إمكانياتها الهائلة - ترسيخها في ذهن الجماهير المسلمة مما يجعل أي محاولة لإظهار الحقيقة تفسر على أنها نوعاً من التأييد لمحاولات القضاء على الإسلام والترويج للإباحية(*2).
الواقع أن هذا النجاح امتد ليشمل حتى المستشرقين والباحثين المعاصرين رغم كل التطورات التي حققها علم التاريخ في الفترات الأخيرة، وعلى الرغم من تظاهر معظم هؤلاء الباحثين بكونهم على دراية بمحاولات التشويه التي يقوم بها مؤرخو البلاط العباسي فإنهم يخضعون لها بكيفية ما سواء كلياً أو جزئياً، وقد اكتفى معظمهم برفض الاتهامات الأخلاقية الموجهة لهذه الانتفاضات مع قبولهم بكل ارتياح الاتهامات الخاصة بالهرطقة(*3).
إن أول ملاحظة تستحق الانتباه هو إجماع كل كتاب ومؤرخي السلطة العباسية على نشوء كل قيادات هذه الانتفاضات في الوسط الشيعي، ثم تطورها للدعوة إلى ديانات ومذاهب الفرس القديمة، أو إلى الإباحية والاشتراك في النساء والأموال(3)، وبالتالي فسوف تتناول هذه الدراسة مناقشة مبحثين :
1 - وضع الشيعة في فترة قيام هذه الانتفاضات
2 - علاقة الثورات الاجتماعية بالتشيع
وضع الشيعة في فترة قيام هذه الانتفاضات :
كانت ثورة الإمام الحسين بن علي هي بداية عودة الطبقات التجارية (خاصة صغار التجار) والحرفية للمشاركة في الحركات السياسية مرة أخرى، وخاصة بالنسبة للموالي الذين استفادوا من فترة حكم الإمام علي بن أبي طالب، حيث تم مساواتهم في العطاء مع العرب، كما قام علي بمنح الفقراء منهم مساعدات مالية من الدولة للقيام بأعمال تجارية صغيرة وحرفية(4)، وقد أصبحت بعض شخصياتهم مقربة من علي بن أبي طالب ومن مستشاريه رغم فقرها كميثم التمار(*4)، كما طلب علي من فلاحي السواد انتخاب ممثلين لهم يعبرون عن مطالبهم وقد ذكرت المرويات اسم أحدهم " نرسا "، وهو ليس مسلماً على الأغلب(5)، وقد عبرت انتفاضة عين الوردة، وثورة المختار بن عبيد الله الثقفي، وثورة زيد بن علي بن الحسين وابنه يحيى عن نشاط هذه الطبقات إضافة إلى الكادحين(6)(*5).
وعلى عكس الصورة التي حاولت كتب الفرق عرضها عن الشيعة فإن هذه الثورات لم تمثل فرق وتيارات عقائدية داخل المذهب الشيعي، ولعل الدليل الأوضح على ذلك هو المكانة الكبرى التي يحظى بها قادة هذه الثورات في مصادر المذهب الإثنى عشري، مما يعني أن هذه القيادات كانت خاضعة للإمامة العلوية التقليدية والتي تمثلت في تلك الفترة بالأئمة علي بن الحسين السجاد(95 هـ) محمد بن علي الباقر(114 هـ)، وجعفر بن محمد الصادق(148 هـ)، كما يشير إلى عدم صحة ما تدعيه كتب الفرق وبعض المرويات التاريخية عن عزوف هؤلاء الأئمة عن العمل السياسي، ويبدو أنهم وإن لم يقودوا هذه الثورات بأسلوب مباشر فإنها كانت تخضع لقيادتهم الروحية(7).
من ناحية أخرى فقد حرص الأئمة العلويين على نشر الدعوة الشيعية في منطقة الشرق الإسلامي، ولاقت هذه الدعوة رواجاً في أوساط الفلاحين بمنطقة خراسان على وجه الخصوص، بسبب تبنيها لبرنامج يدعو إلى العدالة الاجتماعية ورفض الوضع الطبقي والعنصري الذي قامت عليه الدولة الأموية مستندة إلى تجربة علي بن أبي طالب(8) (*6)، ومع اقتراب سقوط الدولة الأموية وضح تماماً نتاج هذه النشاطات الشيعية، خاصة في الثورات المتعددة التي قامت في فارس وخراسان باسم العلويين، سواء بقيادة عبد الله بن معاوية أو بقيادة أبو مسلم الخراساني.
على أن الانشقاق الأول في الصف الشيعي قاده العباسيون وبالأخص محمد بن علي بن عبد الله بن العباس (124 هـ)، كانت الأسرة العباسية قد سكنت في الشام بالحميمة بعد أن حصلت على أقطاعات زراعية من الدولة الأموية والتي رغبت في إبقاء العباسيين بجوارها لمراقبة نشاطهم السياسي، ويبدو أن هذا النشاط بدأ الإعداد له في عهد علي بن عبد الله (118 هـ)، ثم تطور إلى اتخاذ خطوات فعلية في عهد محمد بن علي السالف الذكر، وتذكر المرويات أنه (أي علي بن عبد الله) أرسل داعية إلى خراسان في سنة 87 هـ وأمره بالدعوة للرضا من آل محمد وعدم ذكر اسم الإمام، كما أمره بتجنب المناطق التي ينتشر فيها دعاة الشيعة، وقد ذكر الطبري أن أحد الدعاة الشيعة – اسمه غالب – اصطدم بالداعية العباسي بعد ان اكتشف حقيقة الإمام الذي يدعو له مما أدى لفشل المحاولة الأولى للدعوة وقتل عشرة من الدعاة سنة 109 هـ(9)، وفيما بعد – في فترة اقتراب نجاحهم في الوصول إلى السلطة - أعلن العباسيون أنهم حصلوا على الإمامة بوصية من أبو هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب(98 هـ) الذي أوصى لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالإمامة، وبالتالي فقد سارت السلسلة الإمامية كالتالي :
محمد وصية علي بن أبي طالب الحسن بن علي الحسين بن علي محمد بن علي أبو هاشم بن محمد محمد بن علي بن عبد الله بن عباس(10).
وقد استطاع العباسيون بناء على هذا الادعاء استغلال التعاطف غير الواعي الذي يكنه المسلمون لعلي بن أبي طالب وسلالته واكتساب بعض من الأنصار والمؤيدين وإن ظلوا أقل كثيراً من الشيعة، وهذا الإعلان ما هو في الواقع سوى أكذوبة، فقد توفي أبو هاشم سنة 98 هـ، بينما تذكر المرويات أن الدعوة العباسية في خراسان بدأت في سنة 87 هـ على يد علي بن عبد الله والذي لم تذكره سلسلة الإمامة، وهو ما يعني زيف هذه السلسلة الإمامية، بالإضافة إلى أن وصية محمد بن علي العباسي لداعية الأول بعدم ذكر اسم الإمام الذي يدعو له والاكتفاء بالدعوة للرضا من آل محمد وتجنب الدعاة الشيعة تؤكد مدى الاختلاق في هذا الادعاء وأن العباسيين كانوا يعملون على استغلال التشيع للوثوب إلى السلطة(11).
وقد اعتاد كتاب الفرق على أن يدرجوا كل الحركات والثورات التي قامت تحت قيادة هاشميون من غير العلويين أو ثوار شيعة من العرب أو الموالي تحت هذه الفرقة المختلقة لأسباب لعل أهمها رغبة هؤلاء الكتاب في إثبات كون بني علي وفاطمة – بكل ما يحملونه من شرعية - رافضين لفكر الثورة ضد السلطة، وثانياً عدم وضوح العلاقة بين هذه الثورات وهؤلاء الأئمة بسبب حالة التكتم الشديدة التي استخدموها – التقية -، ولجأوا لإثبات وجودها إلى بعض القصائد التي نسبوها لشعراء معروفون بالتشيع، وعلى سبيل المثال فقد نسب لكثير عزة هذه الأبيات(12) :
ألا أن الأئمـة مـن قريش ولاة الحق أربعـة سـواء
علي والثلاثة مـن بنيــه هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبـط سبـط إيمان وبـر وسبـط غيبتـه كربـلاء
وسبط لا يزوق الموت حتى يقود الخيـل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى فيهـم زماناً برضوى عنده عسل وماء
وهي أبيات من الواضح تماماً أنها منحولة في نسبتها لكثير عزة، فقد وصف أبناء علي الثلاثة الحسن والحسين ومحمد بالأسباط، وهذا خطأ من المستبعد أن يقع فيه شاعر ككثير، فمصطلح " سبط " وهو كلمة عربية تعني الحفيد، أطلق على الحسن والحسين بصفتهما حفيدي النبي من ابنته فاطمة الزهراء، وهو ما لا ينطبق على محمد بن علي وهو ابن زوجة أخرى لعلي من بني حنيفة، بالإضافة إلى أن نظرية الإمامة عند الشيعة اعتمدت في بعض أسسها على مدى القرابة من النبي، ومن غير المعقول أن يترك الشيعة إمامة علي بن الحسين السجاد وهو من أحفاد النبي، ليعلنوا إمامة أحد أبناء علي الآخرين ممن لا ينتمي للنبي مباشرة، إضافة إلى أنه لم يثبت أبداً أن محمد بن علي أو ابنه عبد الله ادعيا الإمامة وحتى في حالة ادعاء أي منهما للإمامة فمن غير المفهوم أن يوصي أبو هاشم بن محمد بن علي بالإمامة لمحمد بن علي العباسي تاركاً ابنه عيسى بن عبد الله، أو أخوته كالحسن (95 هـ) أو عون أو إبراهيم، إن البحث عن شرعية لتولي الحكم كان الغرض الأساسي للعباسيين من اختراع هذه السلسلة الإمامية.
ويبدو أن العباسيين أدركوا ضعف موقفهم - في حالة قيامهم بالثورة - في مواجهة الشيعة، الذين كانت لهم حركة قديمة ونشطة في أوساط الفلاحين والحرفيين والطبقة التجارية الصغيرة، فسعوا للتواصل مع الشيعة في خراسان، كما سعوا لعمل علاقات قوية مع الثورة الشيعية التي قام بها عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب سنة 127 هـ(13) في فارس واتخذت من أصفهان قاعدة لها(*7) وتذكر المرويات أن أبو جعفر المنصور دخل أصفهان مع عبد الله بن معاوية(14)، وقد استمرت هذه الثورة حتى سنة 129 هـ عندما قام الداعية العباسي أبو مسلم بسجن عبد الله بن معاوية الذي لجأ إليه يطلب مساندته في مواجهة مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين(15)، والواقع أن سيطرة أبو مسلم الخراساني على خراسان لم تكن باسم العباسيين، بل بناء على إعلانه أن الهدف من ثورته هو الطلب بثأر يحيى بن زيد بن علي بن الحسين(125 هـ)(16).
وعلى الرغم من نجاح العباسيين في تحقيق أغراضهم والوثوب على السلطة في النهاية، فالواضح أن العديد من دعاتهم كانوا يميلون للعلويين ولعل أهمهم أبو سلمة الخلال أول وزير للدولة العباسية، والبعض الآخر من هؤلاء الدعاة اعتقدوا باستحقاقهم للإمامة بناء على ما أعلنه العباسيون من حصولهم على وصية أبو هاشم بن محمد بن الحنفية كأبو مسلم الخراساني(17)، كما أن الكثير من أنصارهم خاصة في أوساط الكادحين والحرفيين وطبقة صغار التجار اشتركوا في هذه الثورة على أساس أن كل من الدعوة العلوية والعباسية إنما هما دعوة واحدة، وأن هذه الثورة سوف تعيد إحياء البرنامج الاقتصادي والاجتماعي لعلي بن أبي طالب، ولم يحظ العباسيون بأتباع مخلصين إلا في أوساط الطبقة التجارية الكبرى والأرستقراطية الفارسية(18)، وكانت أول مظاهر الخلاف بين العلويين والعباسيين هو قتل أبو سلمة الخلال في سنة 132 هـ، وأبو مسلم الخرساني في سنة 137 هـ، وكلاهما من العنصر الفارسي كما أنهما كانا من الموالين في الحقيقة للعلويين، وقد حاولت الدعايات العباسية رغبة منها في تبرئة أبو العباس السفاح أن توحي بأن قتل أبو سلمة الخلال تم بموافقة أبو مسلم الخراساني رغم أن الأخير كان في هذه الفترة بخراسان، بينما قتل أبو سلمة الخلال في الكوفة(19)، وفي سنة 137 قام أبو جعفر المنصور باغتيال أبو مسلم الخرساني، وعلى الرغم من أن المرويات التاريخية لا تذكر سوى أن أبو مسلم أراد قتل أبو جعفر المنصور فإن من الواضح أن أبو جعفر اتهم أبو مسلم بمحاولة تحويل الخلافة إلى العلويين، وتشير المرويات أن أبو مسلم أرسل للمنصور خطاباً ينكر فيه أحقيته بالإمامة ويعلن توبته من هذا المعتقد(20)(*8)، وقد تلا قتل أبي مسلم إعلان الخلافة العباسية لسلسلة إمامية جديدة هي :
محمد العباس عبد الله بن عباس علي بن عبد الله محمد بن علي إبراهيم بن محمد أبو العباس بن محمد أبو جعفر المنصور(21)(*9).
وقد اعتبر معظم أنصار العباسيين هذا التصرف بمثابة خيانة للعلويين وتذكر بعض المرويات أنه حدثت انشقاقات في هذه الأوساط التي كانت مؤيدة للعباسيين من جراء هذا التصرف(22).
شهدت المرحلة الأولى من صعود الأسرة العباسية للسلطة والتي استمرت من (132 - 232 هـ) قيام العديد من الثورات والانتفاضات الاجتماعية التي خضعت (من ناحية المعتقد والقيادة) لأفكار وبرامج المذاهب الثورية المعارضة وخاصة المذهبين الشيعي، والخارجي، وقد ارتبطت الثورات الشيعية عموماً - من وجهة نظر المؤرخين - بخضوعها لقيادة علوية أو هاشمية، أما الثورات الخارجية فقد ارتبطت بالشعارات التقليدية للفكر الخارجي، إلا أن صعود العباسيين إلى السلطة واعتمادهم على العناصر الأرستقراطية الفارسية أدى إلى انزواء المذاهب الخارجية في الشرق ودخولها في حالة خمول ثوري، وتركز اهتم علماء الفرق الخارجية - الإباضية على وجه الخصوص - بالتنظير العلمي لمذهبهم(1)، ومع تبني السلطة العباسية للمذاهب السنية في الأصول والفروع، فقد تبنت الحركات المعارضة الدينية والاجتماعية المذهب الشيعي والولاء لآل البيت(2)، على أن بعض هذه الثورات الاجتماعية - وخاصة التي قامت في الشرق - وجدت حول أفكارها الأيدلوجية والعقائدية العديد من علامات الاستفهام، والتي نتجت عن الاضطراب الواضح في المعلومات التي توردها المرويات المؤرخة لهذه الانتفاضات، بالإضافة إلى حرص السلطة العباسية المنتصرة على محو أي نص معبر عن الآراء الدينية لقياداتها، لوضع الرأي العام الإسلامي تحت السيطرة الكاملة لإعلامياتها، والتي حرصت بالطبع على إفقاد هذه المحاولات الثورية لشرعيتها الإسلامية، عن طريق توجيه التهم إلى قادتها بالسعي للقضاء على الإسلام وإحياء المجد الساساني والديانات الفارسية القديمة وخاصة المذهب المزدكي(*1)، بالإضافة إلى اتهامها بالترويج للإباحية وشيوعية النساء والأموال، مستغلة كون هذه القيادات تنتمي من الناحية العنصرية إلى العناصر الفارسية والتركية، وهي الاتهامات التي لم تكن تجرؤ على توجيهها للقيادات العلوية أو الخارجية المنتمية للعنصر العربي.
وقد نجحت إعلاميات السلطة في إجبار مؤرخي المعارضة على الخضوع لآرائها تجاه هذه الانتفاضات بعد أن استطاعت - بواسطة إمكانياتها الهائلة - ترسيخها في ذهن الجماهير المسلمة مما يجعل أي محاولة لإظهار الحقيقة تفسر على أنها نوعاً من التأييد لمحاولات القضاء على الإسلام والترويج للإباحية(*2).
الواقع أن هذا النجاح امتد ليشمل حتى المستشرقين والباحثين المعاصرين رغم كل التطورات التي حققها علم التاريخ في الفترات الأخيرة، وعلى الرغم من تظاهر معظم هؤلاء الباحثين بكونهم على دراية بمحاولات التشويه التي يقوم بها مؤرخو البلاط العباسي فإنهم يخضعون لها بكيفية ما سواء كلياً أو جزئياً، وقد اكتفى معظمهم برفض الاتهامات الأخلاقية الموجهة لهذه الانتفاضات مع قبولهم بكل ارتياح الاتهامات الخاصة بالهرطقة(*3).
إن أول ملاحظة تستحق الانتباه هو إجماع كل كتاب ومؤرخي السلطة العباسية على نشوء كل قيادات هذه الانتفاضات في الوسط الشيعي، ثم تطورها للدعوة إلى ديانات ومذاهب الفرس القديمة، أو إلى الإباحية والاشتراك في النساء والأموال(3)، وبالتالي فسوف تتناول هذه الدراسة مناقشة مبحثين :
1 - وضع الشيعة في فترة قيام هذه الانتفاضات
2 - علاقة الثورات الاجتماعية بالتشيع
وضع الشيعة في فترة قيام هذه الانتفاضات :
كانت ثورة الإمام الحسين بن علي هي بداية عودة الطبقات التجارية (خاصة صغار التجار) والحرفية للمشاركة في الحركات السياسية مرة أخرى، وخاصة بالنسبة للموالي الذين استفادوا من فترة حكم الإمام علي بن أبي طالب، حيث تم مساواتهم في العطاء مع العرب، كما قام علي بمنح الفقراء منهم مساعدات مالية من الدولة للقيام بأعمال تجارية صغيرة وحرفية(4)، وقد أصبحت بعض شخصياتهم مقربة من علي بن أبي طالب ومن مستشاريه رغم فقرها كميثم التمار(*4)، كما طلب علي من فلاحي السواد انتخاب ممثلين لهم يعبرون عن مطالبهم وقد ذكرت المرويات اسم أحدهم " نرسا "، وهو ليس مسلماً على الأغلب(5)، وقد عبرت انتفاضة عين الوردة، وثورة المختار بن عبيد الله الثقفي، وثورة زيد بن علي بن الحسين وابنه يحيى عن نشاط هذه الطبقات إضافة إلى الكادحين(6)(*5).
وعلى عكس الصورة التي حاولت كتب الفرق عرضها عن الشيعة فإن هذه الثورات لم تمثل فرق وتيارات عقائدية داخل المذهب الشيعي، ولعل الدليل الأوضح على ذلك هو المكانة الكبرى التي يحظى بها قادة هذه الثورات في مصادر المذهب الإثنى عشري، مما يعني أن هذه القيادات كانت خاضعة للإمامة العلوية التقليدية والتي تمثلت في تلك الفترة بالأئمة علي بن الحسين السجاد(95 هـ) محمد بن علي الباقر(114 هـ)، وجعفر بن محمد الصادق(148 هـ)، كما يشير إلى عدم صحة ما تدعيه كتب الفرق وبعض المرويات التاريخية عن عزوف هؤلاء الأئمة عن العمل السياسي، ويبدو أنهم وإن لم يقودوا هذه الثورات بأسلوب مباشر فإنها كانت تخضع لقيادتهم الروحية(7).
من ناحية أخرى فقد حرص الأئمة العلويين على نشر الدعوة الشيعية في منطقة الشرق الإسلامي، ولاقت هذه الدعوة رواجاً في أوساط الفلاحين بمنطقة خراسان على وجه الخصوص، بسبب تبنيها لبرنامج يدعو إلى العدالة الاجتماعية ورفض الوضع الطبقي والعنصري الذي قامت عليه الدولة الأموية مستندة إلى تجربة علي بن أبي طالب(8) (*6)، ومع اقتراب سقوط الدولة الأموية وضح تماماً نتاج هذه النشاطات الشيعية، خاصة في الثورات المتعددة التي قامت في فارس وخراسان باسم العلويين، سواء بقيادة عبد الله بن معاوية أو بقيادة أبو مسلم الخراساني.
على أن الانشقاق الأول في الصف الشيعي قاده العباسيون وبالأخص محمد بن علي بن عبد الله بن العباس (124 هـ)، كانت الأسرة العباسية قد سكنت في الشام بالحميمة بعد أن حصلت على أقطاعات زراعية من الدولة الأموية والتي رغبت في إبقاء العباسيين بجوارها لمراقبة نشاطهم السياسي، ويبدو أن هذا النشاط بدأ الإعداد له في عهد علي بن عبد الله (118 هـ)، ثم تطور إلى اتخاذ خطوات فعلية في عهد محمد بن علي السالف الذكر، وتذكر المرويات أنه (أي علي بن عبد الله) أرسل داعية إلى خراسان في سنة 87 هـ وأمره بالدعوة للرضا من آل محمد وعدم ذكر اسم الإمام، كما أمره بتجنب المناطق التي ينتشر فيها دعاة الشيعة، وقد ذكر الطبري أن أحد الدعاة الشيعة – اسمه غالب – اصطدم بالداعية العباسي بعد ان اكتشف حقيقة الإمام الذي يدعو له مما أدى لفشل المحاولة الأولى للدعوة وقتل عشرة من الدعاة سنة 109 هـ(9)، وفيما بعد – في فترة اقتراب نجاحهم في الوصول إلى السلطة - أعلن العباسيون أنهم حصلوا على الإمامة بوصية من أبو هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب(98 هـ) الذي أوصى لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالإمامة، وبالتالي فقد سارت السلسلة الإمامية كالتالي :
محمد وصية علي بن أبي طالب الحسن بن علي الحسين بن علي محمد بن علي أبو هاشم بن محمد محمد بن علي بن عبد الله بن عباس(10).
وقد استطاع العباسيون بناء على هذا الادعاء استغلال التعاطف غير الواعي الذي يكنه المسلمون لعلي بن أبي طالب وسلالته واكتساب بعض من الأنصار والمؤيدين وإن ظلوا أقل كثيراً من الشيعة، وهذا الإعلان ما هو في الواقع سوى أكذوبة، فقد توفي أبو هاشم سنة 98 هـ، بينما تذكر المرويات أن الدعوة العباسية في خراسان بدأت في سنة 87 هـ على يد علي بن عبد الله والذي لم تذكره سلسلة الإمامة، وهو ما يعني زيف هذه السلسلة الإمامية، بالإضافة إلى أن وصية محمد بن علي العباسي لداعية الأول بعدم ذكر اسم الإمام الذي يدعو له والاكتفاء بالدعوة للرضا من آل محمد وتجنب الدعاة الشيعة تؤكد مدى الاختلاق في هذا الادعاء وأن العباسيين كانوا يعملون على استغلال التشيع للوثوب إلى السلطة(11).
وقد اعتاد كتاب الفرق على أن يدرجوا كل الحركات والثورات التي قامت تحت قيادة هاشميون من غير العلويين أو ثوار شيعة من العرب أو الموالي تحت هذه الفرقة المختلقة لأسباب لعل أهمها رغبة هؤلاء الكتاب في إثبات كون بني علي وفاطمة – بكل ما يحملونه من شرعية - رافضين لفكر الثورة ضد السلطة، وثانياً عدم وضوح العلاقة بين هذه الثورات وهؤلاء الأئمة بسبب حالة التكتم الشديدة التي استخدموها – التقية -، ولجأوا لإثبات وجودها إلى بعض القصائد التي نسبوها لشعراء معروفون بالتشيع، وعلى سبيل المثال فقد نسب لكثير عزة هذه الأبيات(12) :
ألا أن الأئمـة مـن قريش ولاة الحق أربعـة سـواء
علي والثلاثة مـن بنيــه هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبـط سبـط إيمان وبـر وسبـط غيبتـه كربـلاء
وسبط لا يزوق الموت حتى يقود الخيـل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى فيهـم زماناً برضوى عنده عسل وماء
وهي أبيات من الواضح تماماً أنها منحولة في نسبتها لكثير عزة، فقد وصف أبناء علي الثلاثة الحسن والحسين ومحمد بالأسباط، وهذا خطأ من المستبعد أن يقع فيه شاعر ككثير، فمصطلح " سبط " وهو كلمة عربية تعني الحفيد، أطلق على الحسن والحسين بصفتهما حفيدي النبي من ابنته فاطمة الزهراء، وهو ما لا ينطبق على محمد بن علي وهو ابن زوجة أخرى لعلي من بني حنيفة، بالإضافة إلى أن نظرية الإمامة عند الشيعة اعتمدت في بعض أسسها على مدى القرابة من النبي، ومن غير المعقول أن يترك الشيعة إمامة علي بن الحسين السجاد وهو من أحفاد النبي، ليعلنوا إمامة أحد أبناء علي الآخرين ممن لا ينتمي للنبي مباشرة، إضافة إلى أنه لم يثبت أبداً أن محمد بن علي أو ابنه عبد الله ادعيا الإمامة وحتى في حالة ادعاء أي منهما للإمامة فمن غير المفهوم أن يوصي أبو هاشم بن محمد بن علي بالإمامة لمحمد بن علي العباسي تاركاً ابنه عيسى بن عبد الله، أو أخوته كالحسن (95 هـ) أو عون أو إبراهيم، إن البحث عن شرعية لتولي الحكم كان الغرض الأساسي للعباسيين من اختراع هذه السلسلة الإمامية.
ويبدو أن العباسيين أدركوا ضعف موقفهم - في حالة قيامهم بالثورة - في مواجهة الشيعة، الذين كانت لهم حركة قديمة ونشطة في أوساط الفلاحين والحرفيين والطبقة التجارية الصغيرة، فسعوا للتواصل مع الشيعة في خراسان، كما سعوا لعمل علاقات قوية مع الثورة الشيعية التي قام بها عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب سنة 127 هـ(13) في فارس واتخذت من أصفهان قاعدة لها(*7) وتذكر المرويات أن أبو جعفر المنصور دخل أصفهان مع عبد الله بن معاوية(14)، وقد استمرت هذه الثورة حتى سنة 129 هـ عندما قام الداعية العباسي أبو مسلم بسجن عبد الله بن معاوية الذي لجأ إليه يطلب مساندته في مواجهة مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين(15)، والواقع أن سيطرة أبو مسلم الخراساني على خراسان لم تكن باسم العباسيين، بل بناء على إعلانه أن الهدف من ثورته هو الطلب بثأر يحيى بن زيد بن علي بن الحسين(125 هـ)(16).
وعلى الرغم من نجاح العباسيين في تحقيق أغراضهم والوثوب على السلطة في النهاية، فالواضح أن العديد من دعاتهم كانوا يميلون للعلويين ولعل أهمهم أبو سلمة الخلال أول وزير للدولة العباسية، والبعض الآخر من هؤلاء الدعاة اعتقدوا باستحقاقهم للإمامة بناء على ما أعلنه العباسيون من حصولهم على وصية أبو هاشم بن محمد بن الحنفية كأبو مسلم الخراساني(17)، كما أن الكثير من أنصارهم خاصة في أوساط الكادحين والحرفيين وطبقة صغار التجار اشتركوا في هذه الثورة على أساس أن كل من الدعوة العلوية والعباسية إنما هما دعوة واحدة، وأن هذه الثورة سوف تعيد إحياء البرنامج الاقتصادي والاجتماعي لعلي بن أبي طالب، ولم يحظ العباسيون بأتباع مخلصين إلا في أوساط الطبقة التجارية الكبرى والأرستقراطية الفارسية(18)، وكانت أول مظاهر الخلاف بين العلويين والعباسيين هو قتل أبو سلمة الخلال في سنة 132 هـ، وأبو مسلم الخرساني في سنة 137 هـ، وكلاهما من العنصر الفارسي كما أنهما كانا من الموالين في الحقيقة للعلويين، وقد حاولت الدعايات العباسية رغبة منها في تبرئة أبو العباس السفاح أن توحي بأن قتل أبو سلمة الخلال تم بموافقة أبو مسلم الخراساني رغم أن الأخير كان في هذه الفترة بخراسان، بينما قتل أبو سلمة الخلال في الكوفة(19)، وفي سنة 137 قام أبو جعفر المنصور باغتيال أبو مسلم الخرساني، وعلى الرغم من أن المرويات التاريخية لا تذكر سوى أن أبو مسلم أراد قتل أبو جعفر المنصور فإن من الواضح أن أبو جعفر اتهم أبو مسلم بمحاولة تحويل الخلافة إلى العلويين، وتشير المرويات أن أبو مسلم أرسل للمنصور خطاباً ينكر فيه أحقيته بالإمامة ويعلن توبته من هذا المعتقد(20)(*8)، وقد تلا قتل أبي مسلم إعلان الخلافة العباسية لسلسلة إمامية جديدة هي :
محمد العباس عبد الله بن عباس علي بن عبد الله محمد بن علي إبراهيم بن محمد أبو العباس بن محمد أبو جعفر المنصور(21)(*9).
وقد اعتبر معظم أنصار العباسيين هذا التصرف بمثابة خيانة للعلويين وتذكر بعض المرويات أنه حدثت انشقاقات في هذه الأوساط التي كانت مؤيدة للعباسيين من جراء هذا التصرف(22).
تعليق