الحسين .. ثورة الحق ضد الباطل
إن الله سبحانه وتعالى يوجه ويحرك تاريخ البشرية ويدير حياتها على وجه الأرض، وقد يصل الإنسان إلى طريق مسدود فيفتحه له الله برحمته، وقد تصل البشرية إلى حافة الهاوية فتدركها رحمة الله وتنقذها من السقوط. يقول تعالى: «وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون«.
لقد أحدث الإسلام ثورة في كل شئون الإنسان وتصوراته، ثورة في القيم والمبادئ والأخلاق والمعاملات، حتى قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض«، وكان يعني بذلك أن الإسلام قد أرجع الإنسان إلى فطرته السليمة التي فطره الله عليها. إلى جانب ثورة القيم والمبادئ، أحدث الإسلام ثورة أخرى في المواقع الاجتماعية مكملة لسابقتها، حيث رفع فئة كانت مستضعفة ومبعدة عن ميدان الحياة الاجتماعية، وعزل فئة أخرى كانت جائرة ومتسلطة على المجتمع. هذه الثورة المزدوجة، ثورة القيم وثورة المواقع، جاءت تصديقا لقوله تعالى: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم«. ولكن من سنن الكون وحتميات القدر أن الحركات الدينية والإصلاحية والسياسية تنمو وتهرم، وقد تتعرض لهجمات عنيفة من أعدائها فتنحرف بمسيرتها عن جوهرها وأهدافها وأصالتها، غير أن الإسلام لا يتغير أو يهرم فقد تكفل الله (جلت قدرته) بحفظه إلى قيام الساعة. إنما المسلمون كغيرهم من الخلق - لأسباب مختلفة - عرضة للتغير والوهن والانحراف عن جوهر عقيدتهم الإسلامية، فيختفي الحاكم العادل ويخلفه الحاكم الظالم المستبد، وتبقى المبادئ الإسلامية السامية مسجونة تتحرك ضمن أطر النظريات مبعدة قسرا عن التطبيق العملي لغياب من ينصرها ويفعلها ويحميها. وهذا بالفعل ما حدث للإسلام الذي تعرض لانتكاسة مروعة بعد وفاة صاحب الرسالة وأفول الخلافة الراشدة، حيث ان الفئة المتسلطة والجائرة التي تم عزلها أيام الرسول (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله) قد استعادت مواقعها في المجتمع الإسلامي وسيطرت عليه عنوة وحولت الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض. ومن سنن الكون وحتميات القدر أيضا أن للثورات الإصلاحية قادة متجددين على مر العصور والأيام يكملون مسيرة بعضهم بعضا، لذا احتاج الإسلام إلى ثورة لتصحيح المسار بعد أن انحرف الحكام عن النهج القويم وافرغوا الإسلام من مضامينه الإنسانية والإصلاحية. لهذا جاءت ثورة الحسين بهدف التصدي للانحراف والظلم والاستئثار الذي ساد المجتمع الإسلامي، فكانت ثورة الحق ضد الباطل حيث جسد الإمام الحسين (عليه السلام) أسمى معاني التضحية والإيثار والشهادة، فكانت ثورة خالدة من أجل إعلاء مكانة الإسلام ونصرة المظلومين وإرساء مبادئ العدل والمساواة والحرية في المجتمع الإنساني برمته. يقول العلامة السيد محمد حسين فضل الله: «لننطلق مع الإمام الحسين في شخصية الإمامة، فثورته حركة في خط إمامته ودعوته وأخلاقه ووسائله وغاياته وشجاعته وصبره، كل ذلك كان في خط إمامته. لذلك لا تغرقوا الحسين في بحار الدموع التي تبكي المأساة، ابكوا من خلال عمق معنى الإنسانية في المأساة، احتجوا على الذين صنعوا المأساة في كربلاء، ليتحول احتجاجكم إلى احتجاج ضد الذين يصنعون مأساة المستضعفين في العالم، لا أن نبكي ونلطم على الحسين في كربلاء ونلعن الذين صنعوا المأساة ثم نخضع لألف يزيد ويزيد ولكل الذين يسرقون الأمة ويصادرونها«. ويقول المفكر عباس محمود العقاد في كتابه «أبوالشهداء الحسين بن علي«: «فليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدة وقدرة وذكرة، وحسبه أنه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبوالشهداء في مئات السنين«. ويلخص المقريزي في بيتين من الشعر ما تعرض له الإسلام على أيدي الأمويين منذ بداياته حتى ثورة الإمام الحسين، فيقول: