رجلان، قائدان، مقاومان، مجاهدان، شهيدان، اثنان حملا في اسميهما مسيرة طويلة من العنفوان والبطولة والتحدي والجهاد، مسيرة طويلة تلخصها كلمة "مقاومة". كانا رمزاً لها ولا يزالان، وكانت ولا تزال عنواناً لهما.
السيد عباس الموسوي والشيخ راغب حرب، سنوات مرت على استشهادهما، غابا جسدياً، فكانا من خلال روحيهما أشد حضوراً وأقوى فعلاً... فمن هو سيد شهداء المقاومة الإسلامية؟ ومن هو شيخها؟
السيد عباس الموسوي
ولد عام 1952 في الشياح ولكنه بقاعي من بلدة النبي شيت من أبوين هاشميين موسويين. شبّ مجاوراً لمسجد الإمام الحسين(ع) في منطقة الشياح ولمقام نبي الله شيت(ع) في بلدته.
كان السيد محباً للعلم وللدراسة، وكان يملك من الحماسة ما يميزه عن غيره، وعُرف منذ طفولته بالجرأة والشجاعة وحبّه لفعل الخير وحنوّه على الفقراء والمستضعفين.
ما إن بلغ السيد الربيع من العمر، حتى كانت نكسة حزيران 1967، التي شكلت هزّة، فجرّت كل عواطف سيد الشهداء مما دفعه إلى ترك المدرسة مبكراً والالتحاق بصفوف الفدائيين، للمساهمة في تحرير فلسطين. فالتحق وهو فتىً يافع لم يتجاوز السادسة عشر من العمر، بمعسكرات الفدائيين. ولم يطل به المقام في المعسكر حتى عاد مصاباً في إحدى قدميه.
لقد كان تحرير فلسطين المحتلة هدفاً وضعه نصب عينيه منذ صباه، وهو يدرك أنه سيكلفه الكثير الكثير وكان كل همّه أن يُهرق دمه على أرضها.
التحق بـ "معهد الدراسات الإسلامية" في مدينة صور عام 1968 على أثر لقاء جمعه مع الإمام السيد موسى الصدر في إحدى بيوتات المستضعفين. حيث تابع هناك على يد السيد موسى الصدر دراسته لأكثر من سنة ونصف، وقد أعجب السيد الصدر به لذكائه ونباهته وحبه للعلم، وتوسم به خيراً، فكان أن نصحه بالانتقال إلى النجف الأشرف، وزوّده برسالة توصية إلى الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر(قده).
في النجف الأشرف، تابع السيد الشهيد دراسته العلمية على أيدي المراجع الأعلام، وترّكزت دراسته بشكل أساسي على الشهيد السيد الصدر(قده). واشتهر السيد بولعه بالتحصيل العلمي وتثمينه للوقت، بحيث تمكّن من دراسة مرحلتي "المقدمات" و"السطوح" في العلوم الدينية خلال خمس سنوات فقط، وهذه مدة قياسية إذا ما عرفنا أنها تأخذ من الطلاب العاديين نحو خمسة عشرة سنة.
إلى جانب حياته العلمية المميزة، عُرف السيد عباس بدماثة أخلاقه ورفعتها، وبتربية نفسه وتهذيبها، وعُرف باحترامه المميّز للآخرين وبتواضعه وزهده، حتى أنه لم يتقاض طوال سني دراسته النجفية راتباً أو مُخصصاً، فقد كان يعيش ليومه، شعاره وفعله الزُهد والتواضع من غير تصنّع ولا تكلّف.
جمعته في النجف علاقة ود ومحبة بالشهيد السعيد السيد الصدر(قده)، أستاذه ومربّيه وله معه حكايات وقصص تطول.
عام 1973، تزوج السيد عباس من ابنة عمه سهام، وسافرا معاً إلى النجف.. فكان أن التقى الفعل والعطاء فكوّنا نموذجاً ثنائياً قلَّ نظيره.
وتتلمذت السيدة أم ياسر على يد السيد أبي ياسر، الزوج والمعلم، فكانت خير تلميذ لخير معلم، وكان السيّد حريصاً على أن يودع فيها روحه وكل أفكاره وهو المميز في الروح والمميز في الفكر.
واستطاعا أن يبنيا معاً جواً أسرياً مفعماً بالإيمان والتقوى، قائماً على الاحترام والمودة والانسجام قلّ أن نجد مثيلاً له، وقد منّ الله على هذا البيت المبارك بأربعة صبيان وفتاتين.
إلى ذلك، انطلقت السيدة أم ياسر وبدعم ومؤازرة من السيد الشهيد في عملها الرسالي التبليغي خارج المنزل ما بين الحسينيات والمراكز والبيوت، ثم في حوزة السيدة الزهراء (ع) التي كان للشهيدة المجاهدة فيها دور أساسي وفعال منذ تأسيسها… وفوق ذلك كله كانت رفيقة السيد الدائمة في حلّه وترحاله وجهاده.
بعد تمضية نحو تسعة أعوام في النجف الأشرف، وأمام ملاحقة النظام العراقي الوحشي، وبعد سلسلة مداهمات لبيته في النجف، وبعد ارتفاع وتيرة الاعتقالات في أوساط علماء وطلاب الحوزة العلمية، وبناءً على طلب من السيد محمد باقر الصدر(قده)، كانت عودة السيد عباس إلى لبنان عام 1978 في أيام عاشوراء لذلك العام.
فجاء إلى لبنان وأسس حوزة الإمام المنتظر(عج) في بعلبك،
التي كانت في بدايتها عبارة عن مَيْتَم استأجره السيد، مَعلماً أضاء سماء العلم والمعرفة في لبنان وخرّجت كوكبة من العلماء العاملين المجاهدين.
كثير من أبناء جيل الشباب وغيرهم في لبنان، لم يعرفوا الإمام الخميني(قده) شخصياً، ولكن من عرف السيد عباس لابد أنه أدرك عبره معرفة الإمام.
ما كادت الثورة الإسلامية تنتصر بقيادة الإمام الخميني(قده) في شباط 1979، حتى كان السيد عباس من أوائل الداعين لها والمنفتحين عليها والسائرين في ركب قائدها، وقد بلغ تمسّكه بها وبقائدها حد الذوبان.
وفي المقابل كان الإمام الخميني(قده) يحمل في قلبه الحب الكبير لهذا السيد الذي اختصه، ولأكثر من مرة، بلقاءات منفردة كانت تمتد لأكثر من ثلاث ساعات.
تحرير فلسطين كان حلماً يؤرق السيد عباس منذ مطلع شبابه، وكان ينتظر بفارغ الصبر اليوم الذي سيواجه فيه الصهاينة.
فكان ان وفّر الاجتياح الصهيوني للبنان في حزيران 1982 الفرصة المؤاتية للسيد عباس لتحقيق هدفه القديم، لقد جاءت "إسرائيل" إليه في وطنه بدل أن يذهب هو إليها في فلسطين.
وحده التاريخ كان يدرك أن السيد عباس(ره) كان على موعد معه، ووحده القدر كان يعلم الدور الذي ينتظر السيد عباس، فحين انهزم الجميع أمام الزحف الصهيوني وأقرّوا بالهزيمة وتراجعوا، انطلق السيد رافضاً ذلك الأمر الواقع، فمضى بعيداً في المواجهة يحارب بالكلمة والموقف، ويوجّه الحرب ضد "إسرائيل" بالسلاح وينطلق بعيداً مع كل المجاهدين…
لقد أدرك سماحته ببصيرته ووعيه السياسي المتقدّم، أن بداية المواجهة مع الصهاينة هي تحطيم حاجز الخوف الذي أحاط بالناس المهزومة بفعل الاجتياح، فكان لابد من عمل يعيد للناس ثقتهم بأنفسهم ويرفع معنوياتهم، وكان ذلك بالمقاومة.
وهكذا انطلقت عام 1982 مسيرة "حزب الله"، عبر المقاومة الإسلامية التي شاركت أولى مجموعاتها في التصدي لهذا الاحتلال خاصة على مداخل بيروت الجنوبية في خلدة ـ الأوزاعي، والليلكي ـ حي السلم، وكاليري سمعان.
عندما عزّت المواقف والأقوال الجريئة وكلمة الحقيقة، يوم غزت جحافل القتل والغاصبين الصهاينة أرض لبنان، اعتلى سماحته منابر المساجد والحسينيات، ومضى في الحديث عن مخاطر تهديد المنطقة، وأمعن في بعث الروح الإيمانية في صدور وقلوب الشباب المجاهد وفي تصويب بوصلة الجهاد باتجاه العدو الصهيوني، خاصة أنه
"ونتيجة سلسلة الهزائم المتكررة أمام العدو الإسرائيلي كانت الأمة تعيش إحباطاً والناس كانت مذعورة"… إلى أن بدأت العمليات العسكرية بشكل متواضع، وبدأ الناس يرون أن هذا العدو هزيل، وأن شباب المقاومة يصطادونه بكل سهولة، وبدأت بعض الانتصارات لفئة مسلمة مؤمنة تعطي أجواء جديدة وترفع معنويات الناس، وأصبح الإنسان المسلم ينزل إلى الشارع ويتحدى العدو الإسرائيلي.
ومما قاله السيد عباس في هذا الاطار "عندما بدأت العمليات العسكرية النوعية" انتقل شعبنا إلى مرحلة جديدة، "مرحلة الانتفاضات"، يستهزئ فيها بالعدو ويسخر منه، حتى أصبح الطفل في الشارع يلعب بأعصاب العدو بعد أن كان الجيش الإسرائيلي يلعب بالجيوش العربية كلها".
ويتابع سماحته: ثم كانت "العمليات الاستشهادية" التي شكلت فتحاً جديداً ليس فقط على مستوى هزيمة العدو، بل على مستوى رفع معنويات الناس، ولذلك أصبحت عملية الشهيد "أحمد قصير"
(فاتح العمليات الاستشهادية) و"أبو زينب"، وتفجير مقر "المارينز"
(الأمريكي) وغيرها، موضع تغني هذا الشعب إلى أن بدأت العمليات الاقتحامية النوعية الاستشهادية الجماعية.
انطلق السيد مع المجاهدين، يأخذ بيدهم، يشدُّ على أيديهم المباركة،
لم يترك عملية تفوته، واستُهدف أكثر من مرة وفي أكثر من موقع. في "بدر الكبرى" استهدفوا موقعه لكنه لم يستشهد، سقطت القنبلة في متراسه إلا أنها لم تنفجر.
في العام 1985، اتخذ السيد الشهيد من مدينة صورة إقامة له، وذلك في حي الرمل بالقرب من الشاطىء.. كانت المقاومة في ذروة عطائها، وكان نجم السيد قد بدأ يلمع كقائد للمقاومة، خاصة أنه كان المسؤول عنها..
استمرت إقامة السيد عباس على أرض الجنوب، متولياً مسؤولية إدارة عمليات المقاومة ضد "إسرائيل" حتى عصفت بأرضه حرب
"الفتنة"، حرب "الفتنة" أصعب فترة في حياة السيد عباس، لكن السيد آمن بأن المقاومة هي ضد العدو التاريخي للأمة وهو عدو واحد، لابد من الجهاد لإزالته من الوجود، وكل معركة أخرى هي معركة ملهاة، أو معركة تآمر أو على الأقل يريدها الأعداء لإغراق المقاومة في وحول الفتن الداخلية ومستنقعات الزواريب.
ولما أصرّ محركو "الفتنة" على حربهم، لم يخرج ذلك بالسيد عن هدفه الحقيقي، وتعامل مع حرب الفتنة في حدود "معركة الضرورة" لأن "معركة المجاهدين الأساسية التي تربّوا عليها ووُجّهوا إليها هي مع العدو الصهيوني…
وبعد أن تم القضاء على "الفتنة" وصمدت المقاومة الإسلامية في وجه مؤامرة اقتلاعها، عاد السيد عباس إلى الجنوب مع تولّيه الأمانة العامة لحزب الله في ربيع 1991، عاد إليه متعالياً على الجراح، متجاوزاً الصغائر، ململماً للأطراف والأشلاء، لينطلق من جديد مع المقاومة الإسلامية في هدفها الأساسي، وفي مواجهتها المستمرة للعدو الصهيوني.
لما اقترب موعد الانطلاق إلى بلدة جبشيت في 16 شباط 1992 في ذكرى استشهاد الشيخ راغب حرب اصطحب معه السيدة "أم ياسر" وولده حسين، وعند الوقت المحدّد للانطلاق، كان برنامج السيد قد تغير، فطلب من مسؤول الموكب، الذي كان من المقرر أن يصعد إلى جانبه، بأن يستقل سيارة أخرى، لأن "أم ياسر" وحسين سيجلسان إلى جانبه، وأردف السيد بالقول: إن شاء الله سوف تستشهد أم ياسر معي".. فتبسم مسؤول الموكب ظناً منه أن السيد يلاطفه حتى لا ينزعج، ومضى في سيارة أخرى..
وانطلق الموكب في الوقت الموعود وبالطريقة التي أراد بها السيد.
ولدى الوصول الى جبشيت ومن على منبر شيخ الشهداء خطب السيد في الجموع وقال كلاما هو أقرب إلى وصية منه إلى خطبة.. فكانت خطبة الوداع والوصية الأساس في رحلة الوداع الأخيرة..
وختم خطبته بعبارة "حفظ المقاومة الإسلامية"، وفي طريق العودة، قضى السيد عباس الموسوي والسيدة ام ياسر وحسين شهداء، عندما كمنت له مروحيات صهيونية واستهدفت موكبه، بصواريخ موجهة الكترونياً عن بُعد، ليرتفع السيد وصحبه شهداء الى الباري عز وجل.
الشيخ راغب حرب
ولد الشيخ راغب حرب في قرية جبشيت إحدى قرى جبل عامل بالجنوب اللبناني عام 1952.
في السابعة من عمره، دخل المدرسة الرسمية في بلدته جبشيت، ليتلقى فيها علومه الأولى، ثم توجه بعدها إلى منطقة النبطية لمتابعة المرحلة التعليمية المتوسطة، غير أنه لم يجد في تلك البرامج التعليمية ما يلبي طموحه، وينسجم وروحه المتوثبة، فترك المدرسة وفي أعماقه شوق كبير إلى طلب العلوم الدينية التي كانت حلماً يراود مخيلته، وأمنية عزيزة يسعى إلى تحقيقها.
في أوائل العام 1969 غادر الشيخ بلدته إلى بيروت، مستوطناً فيها لطلب العلم وبعد سنة عاشها في مسيرة العمل الإسلامي، كان يتطلع إلى النجف الأشرف بشوق وشغف، وحنين كبير إلى حوزاتها العلمية الرحبة الآفاق.. المزدحمة بألوان العلم والنشاط.
وهناك، عاش في مدارسها وتتلمذ على أيدي أساتذتها الكبار، وكان دائماً على اتصال وتواصل مع لبنان لمعرفة أوضاعه والاطلاع عليها.
قد عاد الشيخ إلى لبنان لزيارة أهله وأصحابه، ثم قفل راجعاً إلى النجف ليتابع علومه، إلاّ أنه في هذه المرة، لم يلبث سوى سنة ونصف، حتى عاد عام 1974 بعد أن أسفر النظام في العراق عن حقد دفين على المؤمنين والعلماء فطاردهم وشرّدهم وزج عدداً كبيراً منهم في السجون..
عاد إلى مسقط رأسه في جبشيت، وبادر إلى إقامة صلاة الجمعة، وأصر عليها رغم بعض مظاهر الاستهجان التي لاقاها، وأخذت صلاة الجمعة تكبر شيئاً فشيئاً، حتى شكلت فيما بعد نواة العمل الجهادي الصلب، الذي قدّم إلى ساحة الصراع مع العدو مقاومين ومجاهدين وشهداء..
لقد كان أشد ما يؤلمه مشهد الفقراء البائسين، الذين لا يجدون قوت يومهم، فراح يزورهم بنفسه، ليستكشف أحوالهم، يتفقد أمورهم،
ووفق وبالتعاون مع "الجمعية الخيرية الثقافية" إلى بناء مبرّة "السيدة زينب(ع)" لتكون وسيلة لهذا الهدف السامي والنبيل..
كما أنشأ الشيخ "بيت مال المسلمين" بما كان يتوفر من إمكانات متواضعة، يقدم القروض البسيطة، وكانت قروض تتراوح بين مائة ليرة حتى الخمسمائة ليرة للشخص الواحد كحد أدنى..
هذا وقد استطاعت هذه القروض البسيطة حلّ العديد من المشاكل المالية لدى قطاع واسع من المؤمنين، حيث شكلت رافداً وفّر للناس القدرة على استمرار تصريف شؤونهم الحياتية..
وبحكم إقامته في بلدة الشرقية (أمضى فيها أربع سنوات) والتي تقع على بعد 8 كلم عن مدينة النبطية لجهة الغرب، وبناء على طلب عدد من المؤمنين في تلك القرية، رأى الشيخ أن الضرورة تتطلب بناء مدرسة ابتدائية لأطفال القرية الذين ضاقت بهم الغرفتان الصغيرتان، وفي فترة وجيزة تم بناء مدرسة مؤلفة من طابقين على قطعة أرض عائدة للوقف.
مع الاحتلال الإسرائيلي، لمناطق كثيرة في لبنان عاد الشيخ الشهيد إلى مسقط رأسه، وانطلق في ظل الاحتلال البغيض، لتوزيع المساعدات بصمت وسرية إلى عوائل الشهداء وإلى الجرحى وذوي الأسرى من المجاهدين.
وهكذا انطلقت مؤسسة الشهيد في لبنان، حيث كان للشيخ دوراً بارزاً في إعطائها زخماً قوياً تمثل بإشرافه مباشرة على مسؤولية المحاسبة، ومشاركته في توزيع المساعدات بصورة عادلة..
لقد ظلّ الشيخ راغب نصيراً لقضايا الثورة الإسلامية، ولأهدافها السامية، يحملها في قلبه وفي وجدانه، واستمر يدافع عنها بقوّة في كل محفل ومجلس، حتى آخر لحظة من لحظات حياته".
قبيل فترة الاجتياح، عانى المجتمع اللبناني صنوف العذاب، وألواناً شتى من البؤس والشقاء، نتيجة الحرب الداخلية التي أثقلت كاهله، وأنهكته، واستنزفت كل طاقاته وإمكاناته، وزرعت بذور اليأس في قلوب أبنائه، مما أتاح الفرصة لليهود، ليحققوا أطماعهم التاريخية التي بها يحلمون.
ومع أوائل شهر حزيران من العام 1982، زحف العدو ليجتاح لبنان ملتهماً بنيرانه المحرقة معالم الحياة فيه، مدمّراً العوائق التي تعترض طريقه وكل ذلك وسط تواطؤ دولي.
حينها لم يكن الشيخ ماكثاً في الجنوب، فقد كان توجه وبدعوة من الجمهورية الإسلامية، لحضور مؤتمر إسلامي فيها، وهناك تناهت إلى مسامعه، أنباء الفاجعة الكبرى، وأخبار المحتلين، وهم يدنسون أرض جبل عامل، فأحدث ذلك هزّة عميقة في نفسه، وأثار فيها الأسى، مما دفعه لاتخاذ قرار العودة فوراً.
لم تمض أيام قلائل حتى وصل إلى بلدته جبشيت ورأى بأمّ عينه، واقع الاحتلال الأليم، وأدرك في مكنون سرّه، أن لحظات حاسمة من تاريخه قد بدأت، وأن على عاتقه يقع دور هام وكبير، وأنّه إنما يأتي، ليأخذ موقعه الطبيعي في المواجهة، ومقارعة من هم أشدّ الناس عداوة للإسلام وللمؤمنين.
واصل الشيخ جهاده، متجولاً في قرى الجنوب مندداً بالاحتلال الغاشم، ومحطماً سياسة التطبيع والتهويد، فراح الأعداء يفكرون بعمل ما، يسكتون فيه هذا الصوت، وبعد تفكير طويل، جاؤوه عصر أحد الأيام ومدّ أحد ضباط الاحتلال يده لمصافحته، ولكن الشيخ أبى ورفض، فقال له: "وهل أيدينا نجسة"، فأجابه الشيخ: "أنتم محتلون، ولا أريد مصافحتكم، أخرجوا من هنا، لا أصافحكم ولا أجالسكم"..
وكما كان متوقّعاً، فقد داهم الجنود الصهاينة المدججون بالسلاح منزله مرات عديدة ومتتالية، كان أبرزها في كانون أوّل عام 1982 إلاّ أنهم لم يجدوا أي أثر له، وللتعويض عن فشلهم في اعتقاله، كانوا في كل مرّة يداهمون فيها منزله، يلجأون إلى أساليب وحشية ويلقون الذعر في قلوب أطفال المبرّة الصغار الذين آواهم الشيخ في منزله، لعدم اكتمال بناء مبرّة السيدة زينب(ع).
لم يكن العدو ليغفل عن تحركات الشيخ أو نشاطاته، فبثّ العيون والجواسيس، لتلاحقه وتترصده، حتى استطاعوا في نهاية الأمر تحديد المكان الذي يبيت فيه..
وفي الثامن من آذار عام 1983، وقرابة الساعة الثانية بعد منتصف الليل، دهمت قوة إسرائيلية كبيرة المنزل الذي كان يبيت فيه، وهو منزل ابن خالته، فدخلته بوحشية وقسوة، وعاملت الشيخ بجفاء وغلظة، واقتادته مكبّلاً معصوب العينين إلى مقر المخابرات بالقرب من بلدة زبدين، ثم اقتيد إلى معتقل أنصار، وبعدها إلى مركز المخابرات في مدينة صور، حيث التف حوله كبار الضباط الصهاينة، ليتعرفوا على ذلك الرجل الذي أرهبهم، وأفسد عليهم الأمور..
وفي الاعتقال والأسر، مارس الأعداء أساليب الإرهاب والإذلال والتعذيب النفسي، ليوهنوا من عزيمته، ويضعفوا إرادته، وحاولوا أن يساوموه على أمور كثيرة، لكنهم اصطدموا بعناده القوي، وإصراره الكبير.. عرضوا عليه أن يغادر الجنوب وله ما يريد، فقال لهم: "لن أغادر الجنوب، وسأبقى على أرضه". طلبوا منه لقاء في منزله، أو في أي مكان آخر، فأبى ورفض..
اضطر الاحتلال الاسرائيلي تحت وطأة الرفض الشعبي المتصاعد، أن يطلق سراح الشيخ، بعدما دامت مدة اعتقاله ما يقارب السبعة عشر يوماً، عجز العدو فيها عن تحقيق أيّة مكاسب.
في تلك المرحلة المحتدمة من مراحل الصراع، كانت العمليات الجهادية للمقاومين المسلمين، تشتد وتتصاعد، ولقد كان الشيخ آنئذ، قائد المقاومة، ورائدها، فأرادوا أن يتخلصوا منه علّهم يطفئون الشعلة المتأججة..
ففي السادس عشر من شهر شباط، وفي ليلة الجمعة من عام 1984، وبعد أن أنهى الشيخ قراءة دعاء كميل، توجه للسهر مع بعض إخوانه في بيت بجوار منزله، وأثناء خروجه، صوّب العملاء والمأجورون، رصاص حقدهم الغادر، ولم يسقط الفارس، بل ارتفع شهيداً فتسامت دماؤه وأنبتت فيما بعد مجاهدين ومقاومين ليكملوا المسيرة.
منقول من شبكة ابو هادي
تحياتي
السيد عباس الموسوي والشيخ راغب حرب، سنوات مرت على استشهادهما، غابا جسدياً، فكانا من خلال روحيهما أشد حضوراً وأقوى فعلاً... فمن هو سيد شهداء المقاومة الإسلامية؟ ومن هو شيخها؟
السيد عباس الموسوي
ولد عام 1952 في الشياح ولكنه بقاعي من بلدة النبي شيت من أبوين هاشميين موسويين. شبّ مجاوراً لمسجد الإمام الحسين(ع) في منطقة الشياح ولمقام نبي الله شيت(ع) في بلدته.
كان السيد محباً للعلم وللدراسة، وكان يملك من الحماسة ما يميزه عن غيره، وعُرف منذ طفولته بالجرأة والشجاعة وحبّه لفعل الخير وحنوّه على الفقراء والمستضعفين.
ما إن بلغ السيد الربيع من العمر، حتى كانت نكسة حزيران 1967، التي شكلت هزّة، فجرّت كل عواطف سيد الشهداء مما دفعه إلى ترك المدرسة مبكراً والالتحاق بصفوف الفدائيين، للمساهمة في تحرير فلسطين. فالتحق وهو فتىً يافع لم يتجاوز السادسة عشر من العمر، بمعسكرات الفدائيين. ولم يطل به المقام في المعسكر حتى عاد مصاباً في إحدى قدميه.
لقد كان تحرير فلسطين المحتلة هدفاً وضعه نصب عينيه منذ صباه، وهو يدرك أنه سيكلفه الكثير الكثير وكان كل همّه أن يُهرق دمه على أرضها.
التحق بـ "معهد الدراسات الإسلامية" في مدينة صور عام 1968 على أثر لقاء جمعه مع الإمام السيد موسى الصدر في إحدى بيوتات المستضعفين. حيث تابع هناك على يد السيد موسى الصدر دراسته لأكثر من سنة ونصف، وقد أعجب السيد الصدر به لذكائه ونباهته وحبه للعلم، وتوسم به خيراً، فكان أن نصحه بالانتقال إلى النجف الأشرف، وزوّده برسالة توصية إلى الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر(قده).
في النجف الأشرف، تابع السيد الشهيد دراسته العلمية على أيدي المراجع الأعلام، وترّكزت دراسته بشكل أساسي على الشهيد السيد الصدر(قده). واشتهر السيد بولعه بالتحصيل العلمي وتثمينه للوقت، بحيث تمكّن من دراسة مرحلتي "المقدمات" و"السطوح" في العلوم الدينية خلال خمس سنوات فقط، وهذه مدة قياسية إذا ما عرفنا أنها تأخذ من الطلاب العاديين نحو خمسة عشرة سنة.
إلى جانب حياته العلمية المميزة، عُرف السيد عباس بدماثة أخلاقه ورفعتها، وبتربية نفسه وتهذيبها، وعُرف باحترامه المميّز للآخرين وبتواضعه وزهده، حتى أنه لم يتقاض طوال سني دراسته النجفية راتباً أو مُخصصاً، فقد كان يعيش ليومه، شعاره وفعله الزُهد والتواضع من غير تصنّع ولا تكلّف.
جمعته في النجف علاقة ود ومحبة بالشهيد السعيد السيد الصدر(قده)، أستاذه ومربّيه وله معه حكايات وقصص تطول.
عام 1973، تزوج السيد عباس من ابنة عمه سهام، وسافرا معاً إلى النجف.. فكان أن التقى الفعل والعطاء فكوّنا نموذجاً ثنائياً قلَّ نظيره.
وتتلمذت السيدة أم ياسر على يد السيد أبي ياسر، الزوج والمعلم، فكانت خير تلميذ لخير معلم، وكان السيّد حريصاً على أن يودع فيها روحه وكل أفكاره وهو المميز في الروح والمميز في الفكر.
واستطاعا أن يبنيا معاً جواً أسرياً مفعماً بالإيمان والتقوى، قائماً على الاحترام والمودة والانسجام قلّ أن نجد مثيلاً له، وقد منّ الله على هذا البيت المبارك بأربعة صبيان وفتاتين.
إلى ذلك، انطلقت السيدة أم ياسر وبدعم ومؤازرة من السيد الشهيد في عملها الرسالي التبليغي خارج المنزل ما بين الحسينيات والمراكز والبيوت، ثم في حوزة السيدة الزهراء (ع) التي كان للشهيدة المجاهدة فيها دور أساسي وفعال منذ تأسيسها… وفوق ذلك كله كانت رفيقة السيد الدائمة في حلّه وترحاله وجهاده.
بعد تمضية نحو تسعة أعوام في النجف الأشرف، وأمام ملاحقة النظام العراقي الوحشي، وبعد سلسلة مداهمات لبيته في النجف، وبعد ارتفاع وتيرة الاعتقالات في أوساط علماء وطلاب الحوزة العلمية، وبناءً على طلب من السيد محمد باقر الصدر(قده)، كانت عودة السيد عباس إلى لبنان عام 1978 في أيام عاشوراء لذلك العام.
فجاء إلى لبنان وأسس حوزة الإمام المنتظر(عج) في بعلبك،
التي كانت في بدايتها عبارة عن مَيْتَم استأجره السيد، مَعلماً أضاء سماء العلم والمعرفة في لبنان وخرّجت كوكبة من العلماء العاملين المجاهدين.
كثير من أبناء جيل الشباب وغيرهم في لبنان، لم يعرفوا الإمام الخميني(قده) شخصياً، ولكن من عرف السيد عباس لابد أنه أدرك عبره معرفة الإمام.
ما كادت الثورة الإسلامية تنتصر بقيادة الإمام الخميني(قده) في شباط 1979، حتى كان السيد عباس من أوائل الداعين لها والمنفتحين عليها والسائرين في ركب قائدها، وقد بلغ تمسّكه بها وبقائدها حد الذوبان.
وفي المقابل كان الإمام الخميني(قده) يحمل في قلبه الحب الكبير لهذا السيد الذي اختصه، ولأكثر من مرة، بلقاءات منفردة كانت تمتد لأكثر من ثلاث ساعات.
تحرير فلسطين كان حلماً يؤرق السيد عباس منذ مطلع شبابه، وكان ينتظر بفارغ الصبر اليوم الذي سيواجه فيه الصهاينة.
فكان ان وفّر الاجتياح الصهيوني للبنان في حزيران 1982 الفرصة المؤاتية للسيد عباس لتحقيق هدفه القديم، لقد جاءت "إسرائيل" إليه في وطنه بدل أن يذهب هو إليها في فلسطين.
وحده التاريخ كان يدرك أن السيد عباس(ره) كان على موعد معه، ووحده القدر كان يعلم الدور الذي ينتظر السيد عباس، فحين انهزم الجميع أمام الزحف الصهيوني وأقرّوا بالهزيمة وتراجعوا، انطلق السيد رافضاً ذلك الأمر الواقع، فمضى بعيداً في المواجهة يحارب بالكلمة والموقف، ويوجّه الحرب ضد "إسرائيل" بالسلاح وينطلق بعيداً مع كل المجاهدين…
لقد أدرك سماحته ببصيرته ووعيه السياسي المتقدّم، أن بداية المواجهة مع الصهاينة هي تحطيم حاجز الخوف الذي أحاط بالناس المهزومة بفعل الاجتياح، فكان لابد من عمل يعيد للناس ثقتهم بأنفسهم ويرفع معنوياتهم، وكان ذلك بالمقاومة.
وهكذا انطلقت عام 1982 مسيرة "حزب الله"، عبر المقاومة الإسلامية التي شاركت أولى مجموعاتها في التصدي لهذا الاحتلال خاصة على مداخل بيروت الجنوبية في خلدة ـ الأوزاعي، والليلكي ـ حي السلم، وكاليري سمعان.
عندما عزّت المواقف والأقوال الجريئة وكلمة الحقيقة، يوم غزت جحافل القتل والغاصبين الصهاينة أرض لبنان، اعتلى سماحته منابر المساجد والحسينيات، ومضى في الحديث عن مخاطر تهديد المنطقة، وأمعن في بعث الروح الإيمانية في صدور وقلوب الشباب المجاهد وفي تصويب بوصلة الجهاد باتجاه العدو الصهيوني، خاصة أنه
"ونتيجة سلسلة الهزائم المتكررة أمام العدو الإسرائيلي كانت الأمة تعيش إحباطاً والناس كانت مذعورة"… إلى أن بدأت العمليات العسكرية بشكل متواضع، وبدأ الناس يرون أن هذا العدو هزيل، وأن شباب المقاومة يصطادونه بكل سهولة، وبدأت بعض الانتصارات لفئة مسلمة مؤمنة تعطي أجواء جديدة وترفع معنويات الناس، وأصبح الإنسان المسلم ينزل إلى الشارع ويتحدى العدو الإسرائيلي.
ومما قاله السيد عباس في هذا الاطار "عندما بدأت العمليات العسكرية النوعية" انتقل شعبنا إلى مرحلة جديدة، "مرحلة الانتفاضات"، يستهزئ فيها بالعدو ويسخر منه، حتى أصبح الطفل في الشارع يلعب بأعصاب العدو بعد أن كان الجيش الإسرائيلي يلعب بالجيوش العربية كلها".
ويتابع سماحته: ثم كانت "العمليات الاستشهادية" التي شكلت فتحاً جديداً ليس فقط على مستوى هزيمة العدو، بل على مستوى رفع معنويات الناس، ولذلك أصبحت عملية الشهيد "أحمد قصير"
(فاتح العمليات الاستشهادية) و"أبو زينب"، وتفجير مقر "المارينز"
(الأمريكي) وغيرها، موضع تغني هذا الشعب إلى أن بدأت العمليات الاقتحامية النوعية الاستشهادية الجماعية.
انطلق السيد مع المجاهدين، يأخذ بيدهم، يشدُّ على أيديهم المباركة،
لم يترك عملية تفوته، واستُهدف أكثر من مرة وفي أكثر من موقع. في "بدر الكبرى" استهدفوا موقعه لكنه لم يستشهد، سقطت القنبلة في متراسه إلا أنها لم تنفجر.
في العام 1985، اتخذ السيد الشهيد من مدينة صورة إقامة له، وذلك في حي الرمل بالقرب من الشاطىء.. كانت المقاومة في ذروة عطائها، وكان نجم السيد قد بدأ يلمع كقائد للمقاومة، خاصة أنه كان المسؤول عنها..
استمرت إقامة السيد عباس على أرض الجنوب، متولياً مسؤولية إدارة عمليات المقاومة ضد "إسرائيل" حتى عصفت بأرضه حرب
"الفتنة"، حرب "الفتنة" أصعب فترة في حياة السيد عباس، لكن السيد آمن بأن المقاومة هي ضد العدو التاريخي للأمة وهو عدو واحد، لابد من الجهاد لإزالته من الوجود، وكل معركة أخرى هي معركة ملهاة، أو معركة تآمر أو على الأقل يريدها الأعداء لإغراق المقاومة في وحول الفتن الداخلية ومستنقعات الزواريب.
ولما أصرّ محركو "الفتنة" على حربهم، لم يخرج ذلك بالسيد عن هدفه الحقيقي، وتعامل مع حرب الفتنة في حدود "معركة الضرورة" لأن "معركة المجاهدين الأساسية التي تربّوا عليها ووُجّهوا إليها هي مع العدو الصهيوني…
وبعد أن تم القضاء على "الفتنة" وصمدت المقاومة الإسلامية في وجه مؤامرة اقتلاعها، عاد السيد عباس إلى الجنوب مع تولّيه الأمانة العامة لحزب الله في ربيع 1991، عاد إليه متعالياً على الجراح، متجاوزاً الصغائر، ململماً للأطراف والأشلاء، لينطلق من جديد مع المقاومة الإسلامية في هدفها الأساسي، وفي مواجهتها المستمرة للعدو الصهيوني.
لما اقترب موعد الانطلاق إلى بلدة جبشيت في 16 شباط 1992 في ذكرى استشهاد الشيخ راغب حرب اصطحب معه السيدة "أم ياسر" وولده حسين، وعند الوقت المحدّد للانطلاق، كان برنامج السيد قد تغير، فطلب من مسؤول الموكب، الذي كان من المقرر أن يصعد إلى جانبه، بأن يستقل سيارة أخرى، لأن "أم ياسر" وحسين سيجلسان إلى جانبه، وأردف السيد بالقول: إن شاء الله سوف تستشهد أم ياسر معي".. فتبسم مسؤول الموكب ظناً منه أن السيد يلاطفه حتى لا ينزعج، ومضى في سيارة أخرى..
وانطلق الموكب في الوقت الموعود وبالطريقة التي أراد بها السيد.
ولدى الوصول الى جبشيت ومن على منبر شيخ الشهداء خطب السيد في الجموع وقال كلاما هو أقرب إلى وصية منه إلى خطبة.. فكانت خطبة الوداع والوصية الأساس في رحلة الوداع الأخيرة..
وختم خطبته بعبارة "حفظ المقاومة الإسلامية"، وفي طريق العودة، قضى السيد عباس الموسوي والسيدة ام ياسر وحسين شهداء، عندما كمنت له مروحيات صهيونية واستهدفت موكبه، بصواريخ موجهة الكترونياً عن بُعد، ليرتفع السيد وصحبه شهداء الى الباري عز وجل.
الشيخ راغب حرب
ولد الشيخ راغب حرب في قرية جبشيت إحدى قرى جبل عامل بالجنوب اللبناني عام 1952.
في السابعة من عمره، دخل المدرسة الرسمية في بلدته جبشيت، ليتلقى فيها علومه الأولى، ثم توجه بعدها إلى منطقة النبطية لمتابعة المرحلة التعليمية المتوسطة، غير أنه لم يجد في تلك البرامج التعليمية ما يلبي طموحه، وينسجم وروحه المتوثبة، فترك المدرسة وفي أعماقه شوق كبير إلى طلب العلوم الدينية التي كانت حلماً يراود مخيلته، وأمنية عزيزة يسعى إلى تحقيقها.
في أوائل العام 1969 غادر الشيخ بلدته إلى بيروت، مستوطناً فيها لطلب العلم وبعد سنة عاشها في مسيرة العمل الإسلامي، كان يتطلع إلى النجف الأشرف بشوق وشغف، وحنين كبير إلى حوزاتها العلمية الرحبة الآفاق.. المزدحمة بألوان العلم والنشاط.
وهناك، عاش في مدارسها وتتلمذ على أيدي أساتذتها الكبار، وكان دائماً على اتصال وتواصل مع لبنان لمعرفة أوضاعه والاطلاع عليها.
قد عاد الشيخ إلى لبنان لزيارة أهله وأصحابه، ثم قفل راجعاً إلى النجف ليتابع علومه، إلاّ أنه في هذه المرة، لم يلبث سوى سنة ونصف، حتى عاد عام 1974 بعد أن أسفر النظام في العراق عن حقد دفين على المؤمنين والعلماء فطاردهم وشرّدهم وزج عدداً كبيراً منهم في السجون..
عاد إلى مسقط رأسه في جبشيت، وبادر إلى إقامة صلاة الجمعة، وأصر عليها رغم بعض مظاهر الاستهجان التي لاقاها، وأخذت صلاة الجمعة تكبر شيئاً فشيئاً، حتى شكلت فيما بعد نواة العمل الجهادي الصلب، الذي قدّم إلى ساحة الصراع مع العدو مقاومين ومجاهدين وشهداء..
لقد كان أشد ما يؤلمه مشهد الفقراء البائسين، الذين لا يجدون قوت يومهم، فراح يزورهم بنفسه، ليستكشف أحوالهم، يتفقد أمورهم،
ووفق وبالتعاون مع "الجمعية الخيرية الثقافية" إلى بناء مبرّة "السيدة زينب(ع)" لتكون وسيلة لهذا الهدف السامي والنبيل..
كما أنشأ الشيخ "بيت مال المسلمين" بما كان يتوفر من إمكانات متواضعة، يقدم القروض البسيطة، وكانت قروض تتراوح بين مائة ليرة حتى الخمسمائة ليرة للشخص الواحد كحد أدنى..
هذا وقد استطاعت هذه القروض البسيطة حلّ العديد من المشاكل المالية لدى قطاع واسع من المؤمنين، حيث شكلت رافداً وفّر للناس القدرة على استمرار تصريف شؤونهم الحياتية..
وبحكم إقامته في بلدة الشرقية (أمضى فيها أربع سنوات) والتي تقع على بعد 8 كلم عن مدينة النبطية لجهة الغرب، وبناء على طلب عدد من المؤمنين في تلك القرية، رأى الشيخ أن الضرورة تتطلب بناء مدرسة ابتدائية لأطفال القرية الذين ضاقت بهم الغرفتان الصغيرتان، وفي فترة وجيزة تم بناء مدرسة مؤلفة من طابقين على قطعة أرض عائدة للوقف.
مع الاحتلال الإسرائيلي، لمناطق كثيرة في لبنان عاد الشيخ الشهيد إلى مسقط رأسه، وانطلق في ظل الاحتلال البغيض، لتوزيع المساعدات بصمت وسرية إلى عوائل الشهداء وإلى الجرحى وذوي الأسرى من المجاهدين.
وهكذا انطلقت مؤسسة الشهيد في لبنان، حيث كان للشيخ دوراً بارزاً في إعطائها زخماً قوياً تمثل بإشرافه مباشرة على مسؤولية المحاسبة، ومشاركته في توزيع المساعدات بصورة عادلة..
لقد ظلّ الشيخ راغب نصيراً لقضايا الثورة الإسلامية، ولأهدافها السامية، يحملها في قلبه وفي وجدانه، واستمر يدافع عنها بقوّة في كل محفل ومجلس، حتى آخر لحظة من لحظات حياته".
قبيل فترة الاجتياح، عانى المجتمع اللبناني صنوف العذاب، وألواناً شتى من البؤس والشقاء، نتيجة الحرب الداخلية التي أثقلت كاهله، وأنهكته، واستنزفت كل طاقاته وإمكاناته، وزرعت بذور اليأس في قلوب أبنائه، مما أتاح الفرصة لليهود، ليحققوا أطماعهم التاريخية التي بها يحلمون.
ومع أوائل شهر حزيران من العام 1982، زحف العدو ليجتاح لبنان ملتهماً بنيرانه المحرقة معالم الحياة فيه، مدمّراً العوائق التي تعترض طريقه وكل ذلك وسط تواطؤ دولي.
حينها لم يكن الشيخ ماكثاً في الجنوب، فقد كان توجه وبدعوة من الجمهورية الإسلامية، لحضور مؤتمر إسلامي فيها، وهناك تناهت إلى مسامعه، أنباء الفاجعة الكبرى، وأخبار المحتلين، وهم يدنسون أرض جبل عامل، فأحدث ذلك هزّة عميقة في نفسه، وأثار فيها الأسى، مما دفعه لاتخاذ قرار العودة فوراً.
لم تمض أيام قلائل حتى وصل إلى بلدته جبشيت ورأى بأمّ عينه، واقع الاحتلال الأليم، وأدرك في مكنون سرّه، أن لحظات حاسمة من تاريخه قد بدأت، وأن على عاتقه يقع دور هام وكبير، وأنّه إنما يأتي، ليأخذ موقعه الطبيعي في المواجهة، ومقارعة من هم أشدّ الناس عداوة للإسلام وللمؤمنين.
واصل الشيخ جهاده، متجولاً في قرى الجنوب مندداً بالاحتلال الغاشم، ومحطماً سياسة التطبيع والتهويد، فراح الأعداء يفكرون بعمل ما، يسكتون فيه هذا الصوت، وبعد تفكير طويل، جاؤوه عصر أحد الأيام ومدّ أحد ضباط الاحتلال يده لمصافحته، ولكن الشيخ أبى ورفض، فقال له: "وهل أيدينا نجسة"، فأجابه الشيخ: "أنتم محتلون، ولا أريد مصافحتكم، أخرجوا من هنا، لا أصافحكم ولا أجالسكم"..
وكما كان متوقّعاً، فقد داهم الجنود الصهاينة المدججون بالسلاح منزله مرات عديدة ومتتالية، كان أبرزها في كانون أوّل عام 1982 إلاّ أنهم لم يجدوا أي أثر له، وللتعويض عن فشلهم في اعتقاله، كانوا في كل مرّة يداهمون فيها منزله، يلجأون إلى أساليب وحشية ويلقون الذعر في قلوب أطفال المبرّة الصغار الذين آواهم الشيخ في منزله، لعدم اكتمال بناء مبرّة السيدة زينب(ع).
لم يكن العدو ليغفل عن تحركات الشيخ أو نشاطاته، فبثّ العيون والجواسيس، لتلاحقه وتترصده، حتى استطاعوا في نهاية الأمر تحديد المكان الذي يبيت فيه..
وفي الثامن من آذار عام 1983، وقرابة الساعة الثانية بعد منتصف الليل، دهمت قوة إسرائيلية كبيرة المنزل الذي كان يبيت فيه، وهو منزل ابن خالته، فدخلته بوحشية وقسوة، وعاملت الشيخ بجفاء وغلظة، واقتادته مكبّلاً معصوب العينين إلى مقر المخابرات بالقرب من بلدة زبدين، ثم اقتيد إلى معتقل أنصار، وبعدها إلى مركز المخابرات في مدينة صور، حيث التف حوله كبار الضباط الصهاينة، ليتعرفوا على ذلك الرجل الذي أرهبهم، وأفسد عليهم الأمور..
وفي الاعتقال والأسر، مارس الأعداء أساليب الإرهاب والإذلال والتعذيب النفسي، ليوهنوا من عزيمته، ويضعفوا إرادته، وحاولوا أن يساوموه على أمور كثيرة، لكنهم اصطدموا بعناده القوي، وإصراره الكبير.. عرضوا عليه أن يغادر الجنوب وله ما يريد، فقال لهم: "لن أغادر الجنوب، وسأبقى على أرضه". طلبوا منه لقاء في منزله، أو في أي مكان آخر، فأبى ورفض..
اضطر الاحتلال الاسرائيلي تحت وطأة الرفض الشعبي المتصاعد، أن يطلق سراح الشيخ، بعدما دامت مدة اعتقاله ما يقارب السبعة عشر يوماً، عجز العدو فيها عن تحقيق أيّة مكاسب.
في تلك المرحلة المحتدمة من مراحل الصراع، كانت العمليات الجهادية للمقاومين المسلمين، تشتد وتتصاعد، ولقد كان الشيخ آنئذ، قائد المقاومة، ورائدها، فأرادوا أن يتخلصوا منه علّهم يطفئون الشعلة المتأججة..
ففي السادس عشر من شهر شباط، وفي ليلة الجمعة من عام 1984، وبعد أن أنهى الشيخ قراءة دعاء كميل، توجه للسهر مع بعض إخوانه في بيت بجوار منزله، وأثناء خروجه، صوّب العملاء والمأجورون، رصاص حقدهم الغادر، ولم يسقط الفارس، بل ارتفع شهيداً فتسامت دماؤه وأنبتت فيما بعد مجاهدين ومقاومين ليكملوا المسيرة.
منقول من شبكة ابو هادي
تحياتي
تعليق