حقيقة السر المستودع لسيدتي ومولاتي فاطمة الزهراء
كتمان الأسرار :
أكد القرآن الكريمفي كثير من آياته المباركة على إطلاع الباري عزّ وجل على خائنة العين وما تخفيالصدور ، ويعني هذا أن الله يعلم السر وما أخفى ، وهو ما أضمره الإنسان وأسرّه ثمّنسيه( والله يعلم ما تسرون وما تعلنون )(1)، وايضاًجاء قوله تعالى (وأسروا قولكم أو اجهروا به ، أنه عليم بذاتالصدور )(2). ليؤكد هذه الحقيقة ، حقيقةالسر الذي يكتمه الإنسان على غيرهولكن لا يخفى على الله تعالى أي سرٌ لأنّ الله تعالى خالق الإنسان في هذا العالموإلى ذلك أشار القرآن( قل أنزله الذي يعلم السر في السمواتوالأرض ، إنه كان غفوراً رحيما )(3)، فيعلم الله تعال حقيقة أسرار الناسوما يكتمون ، إلاّ أنّه هناك أسرار مودعة من قبل الله تعالى عند كثير من الأولياءوخصوصاً الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين حيث أمرهم بحفظها ولا يظهروها إلالمن هو أهل لها ، ولنعم ما قيل في الشعر المنسوب إلى مولى الموحدين أمير المؤمنينعلي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال :
لا تَفْشِسِرَّا ما استطعت الى امرىءٍ * يُفشِي اليك سَرَ سَرَائر يُستودَعُ
فكمـاتـراه بِسِرّ غيـرك صانعـاً * فكذا بِسِرّكَ لا محالـة يصنـع
وإلىذلك أشار الفرزدق :
لا يكْتُم السّرَّ إلا من له شَرفُ * والسِّرُّ عند كرام الناس مكتُومُ
السِّرُّ عندي في بيت له غلقٌ * ضلتمفاتيحه والباب مَردُومُ
إذن الأسرار المودعة من قبل الله تعالىعند الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين هي أمانات وكما ورد في المثل الذي يقول « السر أمانة فانظر عند من تضع أمانتك ».
وقال الله تعالى : ( أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )(1).
وأسرار الله تعالى كلها أماناته في أرضه وقلوب أوليائه ولا إجازة لهتكهاوكشف قناعها إلا بين يدي صاحبها الذي هو أهلٌ لها وهذا أمرٌ أمر الله تعالى بهعباده المخلصين من الأنبياء والأولياء ـ عليهم السلام ـ وبالغ معهم ، وأمرهم أيضاأن يأمروا بذلك المؤمنين ويبالغوا فيه ، حتى قالوا « إفشاء سر الربوبية كفر وهتكاستار الألوهية زندقة » وقالوا « لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها ، فتظلموها ، ولاتمنعوها من أهلها فتظلموهم كونوا كالطبيب الشفيق يضع الدواء موضع الداء ».
وقالوا في الشعر المنسوب الفارسي « فمن منع الجهال علماً أضاعه ومن منعالمستوجبين فقد ظلم » ، وأقوالهم الشاهدة بذلك وإشاراتهم الدالة عليه أشهر وأظهر منأن تخفى على أحد ، ومع ذلك نحن نذكر بعض ذلك استظهاراً لك ولغيرك لئلا يهمله أحدويوقع نفسه في الهلاك الأبدي والشقاء السرمدي ، حيث جاء قوله تعالى تعليماً لعبادهوتأكيداً لهم في أداء الأمانة التي هي أسراره إلى أهلها( أناعرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، وحملها الإنسان أنهكان ظلوماً جهولاً )(2). والمراد انه يقول : الذي هم الملائكة والجنوالحيوانات والوحوش الطيور وغير ذلك ـ أو على استعداد كل واحد من السماوات والأرضوالجبال بنفسها ، لأنها عند الأكثرين شاعرة بذاتها ـ لأجل إيداع أمانتنا التي هيأسرارنا فما وجدنا أهلاً لها ومستعدين لحملها لعدم قابليتهم وضعف استعدادهم لأن حملالشيء وقبوله موقوف على قابليه ذلك الشيء واسعداده ووجدنا الإنسان أهلاً لهاومستعداً لحملها فأمرناه بحملها وأشرنا إليه بقبولها لأنّه كان « ظلوما جهولاً » أيبسبب أنه كان مستعداً لها ومستحقاً لحملها « بظلوميته وجهوليته فكأنه يقول : أنالسبب الأعظم والمُمَد الأعلى في أهليته لهذه الأمانة المعروضة على السماوات والأرضوالجبال وما فيها من المخلوقات كان « ظلوميته وجهوليته » لأنه لو لم يكن مستحقالحملها ومستعداً لقبولها لكان كغيره من الموجودات لعدم هاتين الصفتين فيه ، وعلىهذا التقدير تكون صفتا « الظلومية والجهولية » مدحاً له « يعني للإنسان » لا مذمةكما ذهب إليه أكثر المفسرين(1) ، ولا شك انه كذلك واللام في « لانه » لام التعليللا غير ، ليعرف به هذا المعنى والمراد بالإنسان نوعه وبالحمل استعداده للحملوقابليته له. وهذا هو المعنى المطابق للامانة والعرض والحمل والقبول والإباءإجمالا لاغير ، وإلاّ الأمانة ما كانت شيئاً محسوساً معروضاً على كل واحد منالموجوادات حساً وشهادة ولا كان آباؤهم عنها قولاً وفعلاً ، كما يرسخ في أذهانالمحجوبين عنها . إذن بما أنه تعالى مع عظمة شأنه وجلاله قدره لم يضع ويدع الأمانةإلا عند أهلها ، ولم يأذن بها إلا إلى صاحبها فلا ينبغي أن يفعل غيره بخلاف ذلكوألا يكون مخالفاً لأمره سالكاً غيره طريقه وأيضا لو لم تكن رعاية الأمانة عندهعظيمة ما مدح بنفسه للراغبين أمانته ، وما سلكهم في سلك المصلين الصلاة الحقيقية ،وما جعلهم من الوارثين( قد افلح المؤمنون الذي هم في صلاتهمخاشعون ، والذين هم عن اللغو معرضون ، والذين هم للزكاة فاعلون )إلى قولهتعالى( أولئك هم الوارثون الذي هم يرثون الفردوس هم فيهاخالدون )فحيث مدحهم على ذلك وسلكهم في سلك هؤلاء المعظمين بل قدمهم عليهموجعلهم من الوارثين « الذين يرثون الفردوس » فعرفنا أن رعايتها « يعني رعايةالأمانة » معتبرة وقدرها جليل وشأنها عظيم وبالجملة الخيانة في هذه الأمانة هيأيداعها عند غير أهلها ، وإمساكها عن أهلها ، وكلاهما غير جائز وإليه أشار جل ذكرهفي قوله( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونواأماناتكم وانتم تعلمون )أي « لا تخونوا الله والرسول » بأيداع أسرارهم عندغير أهلها « وأنتم تعلمون » عاقبة الخائن وصعوبة عذابه وشدة عقوبته : ( ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )اي ذلك القول « وصاكم به لعلكمتتقون » عنها أي تحتزرون عن الخيانة بعد ذلك وتعظمون مكانتها . جعلنا الله منالحاملين أمانته والراعين عهده ، الموفين به الوارثين جنته ، بمحمد وآله أجمعين.
وإذ فرغنا من كلام الله تعالى ، فلنشرع في كلام الأنبياء عليهم السلام ومنهاقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم « من وضع الحكمة في غير أهلها جهل ، ومن منع عنأهلها ظلم » « أن للحكمة حقاً ، وان لها أهلاً : فأعط كل ذي حق حقه » وقوله صلىالله عليه وآله وسلم « أن من العلم كهيئة المكنون ، لا يعلمه غلا أهل المعرفة بالله، فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار بالله » وغير ذلك من الأقوال المعلومةلأهلها.
****يتبع
تعليق