مؤتمر المأمون العباسي
في مؤتمر هام عقده المأمون العبا سي وجمع فيه أقطاب المعارضة الفكرية وعلماء الأديان الباطلة.. وحضر الإمام الرضا عليه السلام .. وامتد مجلس المؤتمر إلى حين أفحم الإمام عليه السلام حجج الأحبار والحاخامات وغيرهم..
جاء في الحديث: لما قدم علي بن موسى الرضا (عليه السلام) على المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق(1) وراس الجالوت ورؤساء الصابئين، والهربذ الأكبر، وأصحاب ذرهشت (2)و نسطاس الرومي و المتكلمين ليسمع كلامه وكلامهم فجمعهم الفضل بن سهل ثم اعلم المامون باجتماعهم فقال المامون :ادخلهم علي ففعل فرحب بهم المامون ثم قال لهم : اني انما جمعتكم لخير و احببت ان تناظروا ابن عمي هذا المدني القادم علي فاذا كان بكرة فاغادوا عليّ ولا يتخلّف منكم احد فقالوا : السمع والطاعة يا امير المؤمنين نحن مبكرون انشاءالله .
قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا عليه السلام إذ دخل علينا ياسر، وكان يتولى أمر أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال له: يا سيدي إن أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويقول: فداك أخوك، إنه اجتمع إلي أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلمون من جميع الملل فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم، وإن كرهت ذلك فلا نتجشم، وإن أحببت أن نصير إليك خف ذلك علينا.
فقال أبو الحسن عليه السلام : أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله.
قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما مضى ياسر التفت إلينا ثم قال لي: يا نوفلي أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة، فما عندك في جمع ابن عمك علينا أهل الشرك واصحاب المقالات؟ فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان، وبئس والله ما بنى، فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟ قلت: إن أصحاب الكلام والبدع خلاف العلماء وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة، إن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا: صحح وحدانيته ، وإن قلت: إن محمدا رسول الله، قالوا: أثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجته ويغالطونه حتى يترك قوله، فاحذرهم جعلت فداك، قال: فتبسم عليه السلام ثم قال، يا نوفلي افتخاف أن يقطعوني علي حجتي؟ قلت: لا والله ما خفت عليك قط، وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم إن شاء الله. فقال لي: يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟ قلت: نعم، قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبور هم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى الهرابذة بفار سيتهم، وعلى أهل الروم برميتهم ، وعلى اصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته وترك مقالته ورجع إلى قولي علم المأمون أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فلما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك ابن عمك ينتظرك وقد اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه؟ فقال له الرضا عليه السلام تقدمني فإني سائر إلى ناحيتكم إن شاء الله، ثم توضأ عليه السلام وضوءه للصلاة، وشرب شربة سويق وسقانا منه، ثم خرج وخرجنا معه حتى دخلنا على المأمون، فإذا المجلس غاص بأهله، ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين والقواد حضور، فلما دخل الرضا عليه السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجميع بني هاشم، فما زالوا وقوفا والرضا عليه السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلا عليه يحدثه ساعة.
الرضا(ع) يفحم كبير ا لنصارى
ثم التفت إلى الجاثليق فقال: يا جاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا وابن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما فأحسن أن تكلمه وتحاجه وتنصفه، فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلا يحتج علي بكتاب أنا منكره، ونبي لا أؤمن به؟ فقال له الرضا عليه السلام: يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقر به؟ قال الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل؟ نعم والله أقر به على رغم أنفي، فقال له الرضا عليه السلام: سل عما بدا لك وافهم الجواب.
قال الجاثليق: ما تقول في نبوة عيسى وكتابه؟ هل تنكر منهما شيئا؟ قال الرضا عليه السلام: أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به أمته وأقرت به الحواريون وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبكتابه ولم يبشر به أمته، قال الجاثليق: أليس إنما الإحكام بشاهدي عدل؟ قال: بلى، قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد ممن لا تنكره النصرانية، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا.
قال الرضا عليه السلام: الآن جئت بالنصفة يا نصراني ألا تقبل مني العدل المقدم عند المسيح عيسى بن مريم؟ قال الجاثليق: من هذا العدل؟ سمه لي، قال: ما تقول في يوحنا الديلمي؟ قال: بخ بخ، ذكرت أحب الناس إلى المسيح، قال عليه السلام: فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال: إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي، وبشرني به أنه يكون من بعده فبشرت به الحواريين فآمنوا به؟ قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيه ولم يلخص متى يكون ذلك، ولم يسم لنا القوم فنعرفهم، قال الرضا عليه السلام: فإن جئناك بمن يقرء الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته وأمته أتؤمن به؟ قال: شديدا، قال الرضا عليه السلام لنسطاس الرومي: كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟ قال: ما احفظني له ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال: ألست تقرأ الإنجيل؟ قال: بلى لعمري فخذ علي السفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وأمته فاشهدوا لي، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي، ثم قرأ عليه السلام السفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف، ثم قال: يا نصراني إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل؟ قال: نعم، ثم تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته وأمته، ثم قال: ما تقول يا نصراني؟ هذا قول عيسى بن مريم، فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبت موسى وعيسى عليهما السلام ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل، لأنك تكون قد كفرت بربك وبنبيك وبكتابك؟ قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل، وأني لمقر به، قال الرضا عليه السلام: أشهدوا على إقراره.
ثم قال: يا جاثليق سل عما بدا لك، قال الجاثليق أخبرني عن حواريي عيسى بن مريم كم كان عدتهم؟ وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟ قال الرضا عليه السلام: على الخبير سقطت ، أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلا، وكان أفضلهم وأعلمهما ألوقا، وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال: يوحنا الأكبر بأج ويوحنا بقر قيسا ويوحنا الديلمي بزجار، وعنده كان ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر أهل بيته وأمته وهو الذي بشر أمة عيسى وبني إسرائيل به.
ثم قال له: يا نصراني والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وما ننقم على عيسا كم شيئا إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته، قال الجاثليق ، أفسدت والله علمك وضعفت أمرك، وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل الإسلام قال الرضا عليه السلام : وكيف ذاك؟ قال الجاثليق: من قولك: إن عيسى كان ضعيفا قليل الصيام، قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوما قط، ولا نام بليل قط، وما زال صائم الدهر، قائم الليل؟ قال الرضا عليه السلام: فلمن كان يصوم ويصلي؟ قال: فخرس الجاثليق وانقطع .
قال الرضا عليه السلام : يا نصراني أسألك عن مسألة، قال: سل فإن كان عندي علمها أجبتك؟ قال الرضا عليه السلام: ما أنكرت أن عيسى كان يحي الموتى بإذن الله عز وجل؟ قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قبل أن من أحيا الموتى وأبرأ ألاكمه والأبرص فهو رب مستحق لأن يعبد، قال الرضا عليه السلام : فإن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى: مشى على الماء، وأحيا الموتى، وأبرأ ألاكمه والأبرص فلم تتخذه أمته ربا ، ولم يعبده أحد من دون الله عز وجل، ولقد صنع حز قيل النبي مثل ما صنع عيسى بن مريم فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة.
ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة؟ اختارهم بخت نصر من سبى بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله تعالى عز وجل إليهم فأحياهم الله، هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكم قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه، قال: صدقت، ثم قال يا يهودي خذ علي هذا السفر من التوراة، فتلا عليه السلام علينا من التوراة آيات فأقبل اليهودي يترحج لقراءته ويتعجب.
ثم أقبل على النصراني فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟ قال: بل كانوا قبله قال الرضا عليه السلام : لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه أن يحي لهم موتاهم، فوجه معهم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له: اذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك: يا فلان، ويا فلان، ويا فلان، يقول لكم محمد رسول الله: قوموا بإذن الله عز وجل، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم، ثم أخبروهم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث نبيا وقالوا: وددنا إنا أدركناه فنؤمن به، ولقد أبرأ الأكمة والأبرص والمجانين، وكلمه البهائم والطير والجن والشياطين، ولم نتخذه ربا من دون الله عز وجل، ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم، فمتى اتخذتم عيسى ربا جاز لكم أن تتخذوا اليسع و الحز قيل ، لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى وغيره، وإن قوما من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت فأماتهم الله في ساعة واحدة، فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ومن كثرة العظام البالية، فأوحى الله عز وجل إليه: أتحب أن أحييهم لك فتنذرهم؟ قال: نعم يا رب، فأوحى الله عز وجل إليه: أن نادهم، فقال: أيها العظام البالية قومي بإذن الله عز وجل، فقاموا أحياء أجمعون، ينفضون التراب عن رؤوسهم، ثم إبراهيم خليل الرحمن حين اخذ الطير فقطعهن قطعا، ثم وضع على كل جبل منهن جزء، ثم ناداهن فأقبلن سعيا إليه؟ ثم موسى بن عمران وأصحابه السبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له: إنك قد رأيت الله سبحانه، فأرناه كما رأيته، فقال لهم: إني لم أره، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم ، وبقي موسى وحيدا فقال: يا رب إني اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم وأرجع وحدي فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به؟ فلو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فأحياهم الله عز وجل من بعد موتهم، وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه، لأن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فإن كان كل من أحيا الموتى وأبرأ الأكمة والأبرص والمجانين يتخذ ربا من دون الله فاتخذ هؤلاء كلهم أربابا ما تقول يا يهودي؟ قال الجاثليق: القول قولك، ولا إله إلا الله.
في مؤتمر هام عقده المأمون العبا سي وجمع فيه أقطاب المعارضة الفكرية وعلماء الأديان الباطلة.. وحضر الإمام الرضا عليه السلام .. وامتد مجلس المؤتمر إلى حين أفحم الإمام عليه السلام حجج الأحبار والحاخامات وغيرهم..
جاء في الحديث: لما قدم علي بن موسى الرضا (عليه السلام) على المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق(1) وراس الجالوت ورؤساء الصابئين، والهربذ الأكبر، وأصحاب ذرهشت (2)و نسطاس الرومي و المتكلمين ليسمع كلامه وكلامهم فجمعهم الفضل بن سهل ثم اعلم المامون باجتماعهم فقال المامون :ادخلهم علي ففعل فرحب بهم المامون ثم قال لهم : اني انما جمعتكم لخير و احببت ان تناظروا ابن عمي هذا المدني القادم علي فاذا كان بكرة فاغادوا عليّ ولا يتخلّف منكم احد فقالوا : السمع والطاعة يا امير المؤمنين نحن مبكرون انشاءالله .
قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا عليه السلام إذ دخل علينا ياسر، وكان يتولى أمر أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال له: يا سيدي إن أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويقول: فداك أخوك، إنه اجتمع إلي أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلمون من جميع الملل فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم، وإن كرهت ذلك فلا نتجشم، وإن أحببت أن نصير إليك خف ذلك علينا.
فقال أبو الحسن عليه السلام : أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله.
قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما مضى ياسر التفت إلينا ثم قال لي: يا نوفلي أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة، فما عندك في جمع ابن عمك علينا أهل الشرك واصحاب المقالات؟ فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان، وبئس والله ما بنى، فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟ قلت: إن أصحاب الكلام والبدع خلاف العلماء وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة، إن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا: صحح وحدانيته ، وإن قلت: إن محمدا رسول الله، قالوا: أثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجته ويغالطونه حتى يترك قوله، فاحذرهم جعلت فداك، قال: فتبسم عليه السلام ثم قال، يا نوفلي افتخاف أن يقطعوني علي حجتي؟ قلت: لا والله ما خفت عليك قط، وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم إن شاء الله. فقال لي: يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟ قلت: نعم، قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبور هم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى الهرابذة بفار سيتهم، وعلى أهل الروم برميتهم ، وعلى اصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته وترك مقالته ورجع إلى قولي علم المأمون أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فلما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك ابن عمك ينتظرك وقد اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه؟ فقال له الرضا عليه السلام تقدمني فإني سائر إلى ناحيتكم إن شاء الله، ثم توضأ عليه السلام وضوءه للصلاة، وشرب شربة سويق وسقانا منه، ثم خرج وخرجنا معه حتى دخلنا على المأمون، فإذا المجلس غاص بأهله، ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين والقواد حضور، فلما دخل الرضا عليه السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجميع بني هاشم، فما زالوا وقوفا والرضا عليه السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلا عليه يحدثه ساعة.
الرضا(ع) يفحم كبير ا لنصارى
ثم التفت إلى الجاثليق فقال: يا جاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا وابن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما فأحسن أن تكلمه وتحاجه وتنصفه، فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلا يحتج علي بكتاب أنا منكره، ونبي لا أؤمن به؟ فقال له الرضا عليه السلام: يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقر به؟ قال الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل؟ نعم والله أقر به على رغم أنفي، فقال له الرضا عليه السلام: سل عما بدا لك وافهم الجواب.
قال الجاثليق: ما تقول في نبوة عيسى وكتابه؟ هل تنكر منهما شيئا؟ قال الرضا عليه السلام: أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به أمته وأقرت به الحواريون وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبكتابه ولم يبشر به أمته، قال الجاثليق: أليس إنما الإحكام بشاهدي عدل؟ قال: بلى، قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد ممن لا تنكره النصرانية، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا.
قال الرضا عليه السلام: الآن جئت بالنصفة يا نصراني ألا تقبل مني العدل المقدم عند المسيح عيسى بن مريم؟ قال الجاثليق: من هذا العدل؟ سمه لي، قال: ما تقول في يوحنا الديلمي؟ قال: بخ بخ، ذكرت أحب الناس إلى المسيح، قال عليه السلام: فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال: إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي، وبشرني به أنه يكون من بعده فبشرت به الحواريين فآمنوا به؟ قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيه ولم يلخص متى يكون ذلك، ولم يسم لنا القوم فنعرفهم، قال الرضا عليه السلام: فإن جئناك بمن يقرء الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته وأمته أتؤمن به؟ قال: شديدا، قال الرضا عليه السلام لنسطاس الرومي: كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟ قال: ما احفظني له ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال: ألست تقرأ الإنجيل؟ قال: بلى لعمري فخذ علي السفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وأمته فاشهدوا لي، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي، ثم قرأ عليه السلام السفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف، ثم قال: يا نصراني إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل؟ قال: نعم، ثم تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته وأمته، ثم قال: ما تقول يا نصراني؟ هذا قول عيسى بن مريم، فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبت موسى وعيسى عليهما السلام ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل، لأنك تكون قد كفرت بربك وبنبيك وبكتابك؟ قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل، وأني لمقر به، قال الرضا عليه السلام: أشهدوا على إقراره.
ثم قال: يا جاثليق سل عما بدا لك، قال الجاثليق أخبرني عن حواريي عيسى بن مريم كم كان عدتهم؟ وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟ قال الرضا عليه السلام: على الخبير سقطت ، أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلا، وكان أفضلهم وأعلمهما ألوقا، وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال: يوحنا الأكبر بأج ويوحنا بقر قيسا ويوحنا الديلمي بزجار، وعنده كان ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر أهل بيته وأمته وهو الذي بشر أمة عيسى وبني إسرائيل به.
ثم قال له: يا نصراني والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وما ننقم على عيسا كم شيئا إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته، قال الجاثليق ، أفسدت والله علمك وضعفت أمرك، وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل الإسلام قال الرضا عليه السلام : وكيف ذاك؟ قال الجاثليق: من قولك: إن عيسى كان ضعيفا قليل الصيام، قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوما قط، ولا نام بليل قط، وما زال صائم الدهر، قائم الليل؟ قال الرضا عليه السلام: فلمن كان يصوم ويصلي؟ قال: فخرس الجاثليق وانقطع .
قال الرضا عليه السلام : يا نصراني أسألك عن مسألة، قال: سل فإن كان عندي علمها أجبتك؟ قال الرضا عليه السلام: ما أنكرت أن عيسى كان يحي الموتى بإذن الله عز وجل؟ قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قبل أن من أحيا الموتى وأبرأ ألاكمه والأبرص فهو رب مستحق لأن يعبد، قال الرضا عليه السلام : فإن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى: مشى على الماء، وأحيا الموتى، وأبرأ ألاكمه والأبرص فلم تتخذه أمته ربا ، ولم يعبده أحد من دون الله عز وجل، ولقد صنع حز قيل النبي مثل ما صنع عيسى بن مريم فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة.
ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة؟ اختارهم بخت نصر من سبى بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله تعالى عز وجل إليهم فأحياهم الله، هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكم قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه، قال: صدقت، ثم قال يا يهودي خذ علي هذا السفر من التوراة، فتلا عليه السلام علينا من التوراة آيات فأقبل اليهودي يترحج لقراءته ويتعجب.
ثم أقبل على النصراني فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟ قال: بل كانوا قبله قال الرضا عليه السلام : لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه أن يحي لهم موتاهم، فوجه معهم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له: اذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك: يا فلان، ويا فلان، ويا فلان، يقول لكم محمد رسول الله: قوموا بإذن الله عز وجل، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم، ثم أخبروهم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث نبيا وقالوا: وددنا إنا أدركناه فنؤمن به، ولقد أبرأ الأكمة والأبرص والمجانين، وكلمه البهائم والطير والجن والشياطين، ولم نتخذه ربا من دون الله عز وجل، ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم، فمتى اتخذتم عيسى ربا جاز لكم أن تتخذوا اليسع و الحز قيل ، لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى وغيره، وإن قوما من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت فأماتهم الله في ساعة واحدة، فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ومن كثرة العظام البالية، فأوحى الله عز وجل إليه: أتحب أن أحييهم لك فتنذرهم؟ قال: نعم يا رب، فأوحى الله عز وجل إليه: أن نادهم، فقال: أيها العظام البالية قومي بإذن الله عز وجل، فقاموا أحياء أجمعون، ينفضون التراب عن رؤوسهم، ثم إبراهيم خليل الرحمن حين اخذ الطير فقطعهن قطعا، ثم وضع على كل جبل منهن جزء، ثم ناداهن فأقبلن سعيا إليه؟ ثم موسى بن عمران وأصحابه السبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له: إنك قد رأيت الله سبحانه، فأرناه كما رأيته، فقال لهم: إني لم أره، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم ، وبقي موسى وحيدا فقال: يا رب إني اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم وأرجع وحدي فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به؟ فلو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فأحياهم الله عز وجل من بعد موتهم، وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه، لأن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فإن كان كل من أحيا الموتى وأبرأ الأكمة والأبرص والمجانين يتخذ ربا من دون الله فاتخذ هؤلاء كلهم أربابا ما تقول يا يهودي؟ قال الجاثليق: القول قولك، ولا إله إلا الله.