بسمه تعالى
( أيتها الأم : ما أقساك )
لم يكن :
إسمه المقترن بإسم الإمام علي الرضا عليه السلام ..
ولا صغر سنه الذي لم يبلغ العشر سنوات ..
ولا لون عينيه الزرقاوتين الحائرتين ..
ولا براءة الطفولة المعذبة في قسمات و جهه الشاحب ..
ولا خطوط الضياع التي حفرها يتم الأب بعناية فوق جبينه ..
ولا مشاعر الأمومة المفترض أن تغمره بالعطف و الرحمة ..
نعم .. كل ذلك .. لم يكن ليشفع لطفل بعمر الزهر و نضارة الورد أن يعيش لحظة من لحظات الطفولة الحالمة التي ينعم بها أطفالنا صباح مساء ..
علي رضا .. أول طفل رمقته عيناي حين وصلت مدينة مشهد المقدسة .. كان جالسا في إحدى زوايا الشارع المقابل للفندق الذي أقيم فيه ..
يمسك بأنامله الصغيرة علبة طلاء سوداء مع قطعة إسفنج بالية ..
يقلب عينيه ذات اليمين و ذات الشمال ..
يستجدي المارة لعل أحدهم يشفق عليه فيتكرم بمد إحدى قدميه لينكب الولد فرحا مسرعا لتنظيفها وتلميعها مقابل مبلغ زهيدٍ .. وزهيدٍ جدا .
.. في بداية الأمر لم تكن تلك الصورة التراجيدية لذلك الطفل المسكين تثير مشاعري بشكل كبير ظنا مني بأنه ينتمي لفئة الغجر ، وهم مجموعة من الناس يقطنون بعض البلدان مثل سوريا و المغرب وإيران ، يتحدثون لغة خاصة ، يعيشون مشردين بلا مأوى و لا هوية ويعملون في الحرف الدنيا كجمع القمامة و التسول وبيع الهوى والعياذ بالله .
لكنني لاحظت بعد فترة تعاطف الكثيرمن الناس خصوصا أصحاب المحلات التجارية و كذلك العاملين في الفنادق المجاورة مع علي رضا مما أثار فضولي بالسؤال عنه فأخبروني أنه من عائلة محترمة ، يعيش مع أمه بعد أن مات والده تاركا خمسة أطفال أكبرهم علي رضا .
بدأت بعدها أتعاطف مع علي رضا بشكل أكبر فكنت أمد إليه بعض النقود ، وأحيانا أرسله ليشتري بعض المستلزمات من السوق مقابل مبلغ معين ، كما كنت أصطحبه معي في الفندق لأناوله بعض الطعام حتى علم مسؤول الفندق وطلب مني عدم السماح لمثل هذه الأشكال - على حد تعبيره - بدخول الفندق مرة أخرى .
في إحدى الليالي .. كنت عائدا في وقت متأخر برفقة سائق أجرة عراقي من منطقة شانديز السياحية ، وقد كانت ليلة ممطرة شديدة البرودة صاحبتها رياح ثلجية قوية .. مما جعلني أطلب من سائق سيارة الأجرة أن يقلني عند باب الفندق مباشرة .. وما إن وصلت .. وهممت بالنزول .. حتى لاحظت قرب بوابة الفندق جسما يضطرب في الظلام .. فحسبته حيوانا يتقي تساقط الثلج الشديد بمظلة واجهة الفندق .. وحين أشرت للسائق .. قال : لا أعتقد ذلك .. فالقطط و الكلاب لا تتواجد في مثل هذه الأماكن خصوصا عند تساقط الثلج و المطر.. نزل سائق التاكسي معي ليستطلع الأمر .. فوجدنا طفلا نائما على قطعة كرتون .. ملتويا حول نفسه بشكل حلزوني وهو يرتجف من شدة البرد .. وحين أمعنت النظر .. وجدته ذلك الطفل الصغير.. إنه علي رضا ..
حين أحس الطفل باقترابنا منه جلس فزعا ً مذعورا ً .. سألته :
ما لنومك هنا ؟!..
لمَ لمْ تذهب إلى بيتك حتى الآن ؟!..
مازال الطفل المسكين في حالة روع و فزع .. ولم يفهم شيئا مما قلت ..
فسأله السائق العراقي .. ودار بينهما كلاما بالفارسية ولا حظت الطفل يشير إلى أسفل قدمه و باطن يديه .. فسألت السائق عن ذلك فقال : منذ مدة لم يذهب علي إلى البيت لأن أمه كانت تضربه ضربا مبرحا إذا لم يحضر مبلغا جيدا من المال آخر النهار و قد عاقبته آخر مرة بالكي في يديه و رجليه فهرب من المنزل دون عودة ..
إنتابتني حالة من الدهشة والذهول ..
ورفعت طرفي إلى السماء ..
ودون أن أنطق ببنت شفة .. توجهت إلى الفندق .. و دخلت غرفتي لأطمئن أن ولداي فداء و هادي ينعمان بفراش دافيء و نوم هاديء.. و استقل السائق العراقي أيضا سيارته لينام بعد مشواره الطويل مع أفراد عائلته في دفء و أمان .. و بقي علي رضا وحيدا يجلس القرفصاء على قطعة من الكرتون مبتلة بالماء و الوحل ، ليكمل ليلته الطويلة والتي قد تمتد بطول عمره كله بصحبة المطر و الثلج و الرياح الباردة و الظلام الدامس و الصمت الرهيب .
تحيــــاتي
تعليق