جمال أحمد خاشقجي
يقوم مسلم انتحاري بتفجير نفسه وسط مئات المصلين، فيهلكها ويهلك معه عشرات المسلمين، ممن يعتقد بكفرهم وضلالهم عن هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم يحسب أنه يبعث شهيدا، فيكون نصيبه الجنة ونعيمها، فيشفع في 70 من أهله ويزف إلى 70 حورية ويحظى برفقة المصطفى، أما قتلاه فإلى جهنم وساء سبيلا، أزعم أن هذا كله كفر وإلحاد، بل إنه إساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، أفدح وأعظم من أثني عشر رسماً دنماركياً ساخراً، أغضبت علماء الأمة فحركوا الشارع و أشعلوه إنكارا وكراهية، ولو كان قرار الحرب في يدهم لصرخ واحدهم داعيا إلى جهاد لا يتوقف إلا أمام بلدية كوبنهاجن.
لقد أغضبتنا الرسوم الدنماركية، وغضبنا يوم حرق المسجد الأقصى ويوم قام يهودي متطرف بقتل المصلين سجدا في الحرم الإبراهيمي بالخليل، ولكننا لم نغضب نفس تلك الغضبة الأربعاء الماضي عندما تسلل مسلم، هكذا بدا وسط 50 ألف مسلم آخرين، احتشدوا في حديقة عامة وسط كبرى المدن الباكستانية للاحتفال بالمولد النبوي، بل إنه نجح في صعود المنصة التي اجتمع عليها عدد من الشيوخ والعلماء، لا بد أنه نجح في كسب ثقة المنظمين لهذا التجمع، ولعله انكفأ يقبل يد مولانا عباس قادري زعيم جماعة " تحريك السنة " البريلوية التي دعت لذلك الاحتفال، والذي كان يفترض أن يبدأ بعد صلاة المغرب، اصطف الانتحاري لتأدية الصلاة مع كبار المدعوين وفجأة انفجر قاتلا لنفسه ولمن حوله، بعد عشر دقائق حصل انفجار آخر، الحصيلة 57 قتيلا وأكثر من 100 جريح، من بين القتلى زعيم الجماعة وعدد كبير من قادتها، عملية ناجحة بكل المقاييس إذا كان هدفها هو تصفية قيادة البريلوية، ولكنك لن تراها كذلك، إلا إذا كنت تكفيريا تعتقد أنك تتقرب إلى الله عز وجل بدماء المشركين، ولكن جلنا كمسلمين لا نعتقد بذلك ولله الحمد.
هل كون المستهدف هم البريلويين الذين أجزم بأن معظم القراء لم يسمعوا بهم من قبل بالرغم أن كثيراً من الباكستانيين والهنود الذين يعيشون بيننا في المملكة والخليج هم من أتباع هذه الطائفة، هو سبب هذا الصمت المخزي؟ هل هو نفس سبب الصمت والعجز عن التحرك يوم فجر مرقد إمامي الشيعة في سامراء ومن قبله ومن بعده عشرات العمليات الانتحارية في مساجد الشيعة وتجمعاتهم في العراق كل يوم؟ هل غلب علينا الخلاف الطائفي وتحول إلى حقد وكراهية، انتقلت من العامة والجهلاء إلى عقلائنا وكبرائنا؟ لماذا لا ندرك أن " الدم " هو الخط الأحمر الذي تتوقف عنده كل الاختلافات العقدية والمذهبية؟ لنختلف كيفما شئنا، ولنؤلف الكتب والرسائل والردود المفحمة وغير المفحمة ضد بعضنا البعض ولكن لنتوقف عند الدم فالأحاديث المحرمة لوقوع المسلم في دم المسلم غير مختلف عليها على الأقل.
أعرف شخصيا البريلوية وخزعبلاتهم، ورأيت في باكستان احتفالاتهم المحزنة المضحكة حول قبر " ولي " مزعوم يسمونه "إمام بري" من طواف بالقبر وذبح وتمرغ في التراب، ما جعلني اشمئز من تصرفاتهم، ولكن من الخطأ تعميم ذلك على كل أتباع هذه الطائفة الصوفية واسعة الانتشار في القارة الهندية، والخطأ الأكبر أن يقر أحد أو يسكت على إهدار دمهم مثلما حصل الأربعاء الماضي.
إننا في وسط أزمة، و صورة ديننا في أزمة، ما لم يقف العقلاء بشجاعة في وجه طغيان العنف على قوة الحجة بالدليل وقول الله والرسول عليه الصلاة والسلام.
لنستعيد توالي الأحداث علينا كي نستطيع أن نرسم الخط البياني الذي نسير إليه، لنبدأ على الأقل بعملية اختطاف وزير الأوقاف المصري الشيخ الذهبي ومن ثم قتله على يد من سموا أنفسهم " جماعة المسلمين " في أوائل السبعينات ولنبحث في خلفيتهم الفكرية، ونستمر في البحث فنتوقف عند ظهور تيارات التكفير، واستباحة دم المسلم، لنتأمل رد فعل العقلاء البارد على اغتيال الكاتب المصري فرج فودة على يد شاب أغضبته كتابات المغدور في منتصف الثمانينات، وهل كان دفاع شيوخ أفاضل عن قاتله مبررا أم كان سقطة فتحت علينا باب فتنة؟ واستمرت دائرة العنف وكبرت، واستمر معها الإنكار والتعامل معها كأنها مجرد " خلاف سياسي " ومثلما حصل أمس في الجزائر يحصل اليوم في العراق، انشغل العلماء هناك بالإنكار على سبب العنف والتكفير وكان في الجزائر حماقة إلغاء أول وآخر انتخابات تشريعية نزيهة، ننشغل اليوم بالإنكار على حماقة الاحتلال في العراق ونهمل الإنكار على التكفير والقتل الطائفي. والحل الأسهل دوما عندنا هو اتهام الآخر " لابد أن هناك أصابع صهيونية أمريكية خلف هذا التفجير أو ذاك ".
ولكن دائرة الدم لا تتوقف، هاهي تتسع من دائرة السنة والشيعة في العراق إلى دائرة السنة والسنة في باكستان، ما لم يكن هناك فعل حازم وجريء وصريح من علماء الأمة في وجه دعاة التكفير، يسمي الأشياء بأسمائها، يتوجه نحو فتنة التكفير وليس إلى أسباب الغضب التي يتعلق بها التكفيريون، وما لم يحصل ذلك لن تخمد هذه الفتنة، بل سيصل شرها ألينا أجمعين، وستبلغ شفرتها رقاب العلماء أنفسهم، وتجمعات أهل السنة والجماعة تفجيرا وتقتيلا، فالتكفيري يقف في دائرة ضيقة لا يحتمل أن يزاحمه فيها أحد ما لم يوافقه على ما يفعل قلبا وقالبا.
ما حصل في كراتشي الأسبوع الماضي خطير جدا، والأخطر منه هذا التجاهل!
*نقلا عن جريدة "الوطن" السعودية
http://www.alarabiya.net/Articles/2006/04/18/22960.htm
يقوم مسلم انتحاري بتفجير نفسه وسط مئات المصلين، فيهلكها ويهلك معه عشرات المسلمين، ممن يعتقد بكفرهم وضلالهم عن هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم يحسب أنه يبعث شهيدا، فيكون نصيبه الجنة ونعيمها، فيشفع في 70 من أهله ويزف إلى 70 حورية ويحظى برفقة المصطفى، أما قتلاه فإلى جهنم وساء سبيلا، أزعم أن هذا كله كفر وإلحاد، بل إنه إساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، أفدح وأعظم من أثني عشر رسماً دنماركياً ساخراً، أغضبت علماء الأمة فحركوا الشارع و أشعلوه إنكارا وكراهية، ولو كان قرار الحرب في يدهم لصرخ واحدهم داعيا إلى جهاد لا يتوقف إلا أمام بلدية كوبنهاجن.
لقد أغضبتنا الرسوم الدنماركية، وغضبنا يوم حرق المسجد الأقصى ويوم قام يهودي متطرف بقتل المصلين سجدا في الحرم الإبراهيمي بالخليل، ولكننا لم نغضب نفس تلك الغضبة الأربعاء الماضي عندما تسلل مسلم، هكذا بدا وسط 50 ألف مسلم آخرين، احتشدوا في حديقة عامة وسط كبرى المدن الباكستانية للاحتفال بالمولد النبوي، بل إنه نجح في صعود المنصة التي اجتمع عليها عدد من الشيوخ والعلماء، لا بد أنه نجح في كسب ثقة المنظمين لهذا التجمع، ولعله انكفأ يقبل يد مولانا عباس قادري زعيم جماعة " تحريك السنة " البريلوية التي دعت لذلك الاحتفال، والذي كان يفترض أن يبدأ بعد صلاة المغرب، اصطف الانتحاري لتأدية الصلاة مع كبار المدعوين وفجأة انفجر قاتلا لنفسه ولمن حوله، بعد عشر دقائق حصل انفجار آخر، الحصيلة 57 قتيلا وأكثر من 100 جريح، من بين القتلى زعيم الجماعة وعدد كبير من قادتها، عملية ناجحة بكل المقاييس إذا كان هدفها هو تصفية قيادة البريلوية، ولكنك لن تراها كذلك، إلا إذا كنت تكفيريا تعتقد أنك تتقرب إلى الله عز وجل بدماء المشركين، ولكن جلنا كمسلمين لا نعتقد بذلك ولله الحمد.
هل كون المستهدف هم البريلويين الذين أجزم بأن معظم القراء لم يسمعوا بهم من قبل بالرغم أن كثيراً من الباكستانيين والهنود الذين يعيشون بيننا في المملكة والخليج هم من أتباع هذه الطائفة، هو سبب هذا الصمت المخزي؟ هل هو نفس سبب الصمت والعجز عن التحرك يوم فجر مرقد إمامي الشيعة في سامراء ومن قبله ومن بعده عشرات العمليات الانتحارية في مساجد الشيعة وتجمعاتهم في العراق كل يوم؟ هل غلب علينا الخلاف الطائفي وتحول إلى حقد وكراهية، انتقلت من العامة والجهلاء إلى عقلائنا وكبرائنا؟ لماذا لا ندرك أن " الدم " هو الخط الأحمر الذي تتوقف عنده كل الاختلافات العقدية والمذهبية؟ لنختلف كيفما شئنا، ولنؤلف الكتب والرسائل والردود المفحمة وغير المفحمة ضد بعضنا البعض ولكن لنتوقف عند الدم فالأحاديث المحرمة لوقوع المسلم في دم المسلم غير مختلف عليها على الأقل.
أعرف شخصيا البريلوية وخزعبلاتهم، ورأيت في باكستان احتفالاتهم المحزنة المضحكة حول قبر " ولي " مزعوم يسمونه "إمام بري" من طواف بالقبر وذبح وتمرغ في التراب، ما جعلني اشمئز من تصرفاتهم، ولكن من الخطأ تعميم ذلك على كل أتباع هذه الطائفة الصوفية واسعة الانتشار في القارة الهندية، والخطأ الأكبر أن يقر أحد أو يسكت على إهدار دمهم مثلما حصل الأربعاء الماضي.
إننا في وسط أزمة، و صورة ديننا في أزمة، ما لم يقف العقلاء بشجاعة في وجه طغيان العنف على قوة الحجة بالدليل وقول الله والرسول عليه الصلاة والسلام.
لنستعيد توالي الأحداث علينا كي نستطيع أن نرسم الخط البياني الذي نسير إليه، لنبدأ على الأقل بعملية اختطاف وزير الأوقاف المصري الشيخ الذهبي ومن ثم قتله على يد من سموا أنفسهم " جماعة المسلمين " في أوائل السبعينات ولنبحث في خلفيتهم الفكرية، ونستمر في البحث فنتوقف عند ظهور تيارات التكفير، واستباحة دم المسلم، لنتأمل رد فعل العقلاء البارد على اغتيال الكاتب المصري فرج فودة على يد شاب أغضبته كتابات المغدور في منتصف الثمانينات، وهل كان دفاع شيوخ أفاضل عن قاتله مبررا أم كان سقطة فتحت علينا باب فتنة؟ واستمرت دائرة العنف وكبرت، واستمر معها الإنكار والتعامل معها كأنها مجرد " خلاف سياسي " ومثلما حصل أمس في الجزائر يحصل اليوم في العراق، انشغل العلماء هناك بالإنكار على سبب العنف والتكفير وكان في الجزائر حماقة إلغاء أول وآخر انتخابات تشريعية نزيهة، ننشغل اليوم بالإنكار على حماقة الاحتلال في العراق ونهمل الإنكار على التكفير والقتل الطائفي. والحل الأسهل دوما عندنا هو اتهام الآخر " لابد أن هناك أصابع صهيونية أمريكية خلف هذا التفجير أو ذاك ".
ولكن دائرة الدم لا تتوقف، هاهي تتسع من دائرة السنة والشيعة في العراق إلى دائرة السنة والسنة في باكستان، ما لم يكن هناك فعل حازم وجريء وصريح من علماء الأمة في وجه دعاة التكفير، يسمي الأشياء بأسمائها، يتوجه نحو فتنة التكفير وليس إلى أسباب الغضب التي يتعلق بها التكفيريون، وما لم يحصل ذلك لن تخمد هذه الفتنة، بل سيصل شرها ألينا أجمعين، وستبلغ شفرتها رقاب العلماء أنفسهم، وتجمعات أهل السنة والجماعة تفجيرا وتقتيلا، فالتكفيري يقف في دائرة ضيقة لا يحتمل أن يزاحمه فيها أحد ما لم يوافقه على ما يفعل قلبا وقالبا.
ما حصل في كراتشي الأسبوع الماضي خطير جدا، والأخطر منه هذا التجاهل!
*نقلا عن جريدة "الوطن" السعودية
http://www.alarabiya.net/Articles/2006/04/18/22960.htm
تعليق