
الطاعة المطلقة :
إذا أردنا أن نبحث عن نموذج للمرأة المسلمة التي سلّمت تسليماً مطلقاً لله سبحانه وتعالى، بحيث أنّ حياتها كانت خطّاً متصلاً من الطاعة الخالصة المخلصة لله، لمثلت أمامنا (هاجر) التي لعبت مع زوجها (إبراهيم (عليه السلام)) وابنها ( إسماعيل (عليه السلام)) دوراً رائعاً في انشاء أسرة مسلمة بكلّها .
كانت خادمة لسارة زوجة إبراهيم (عليه السلام) وهاجرت من مصر إلى الأرض المقدّسة في فلسطين، ولمّا كانت سارة عقيماً أشارت على زوجها بأن يتزوّج أمتها هاجر الوفيّة الكريمة المطيعة الأمينة ، فتزوّجها وولدت له غلاماً زكيّاً هو إسماعيل (عليه السلام) .
وشاءت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يهاجر إبراهيم (عليه السلام) بهاجر وابنها إلى واد غير ذي زرع (مكّة المكرّمة) ليتركها هناك ويرجع إلى فلسطين، وراحت هاجر تسترحم إبراهيم (عليه السلام) وتستعطفه أن لايتركها ورضيعها في هذه الأرض القاحلة القـفراء والوحشة المحيطة المخيفـة ، وما أن قال لها إنّ ذاك هو أمر الله عزّ وجلّ حتّى استكانت وخشعت وخضعت مستسلمة لأمر الله وركنت راضية لرحمته قائلة : « إنّ الله لن يضيِّعنا » !!
إنّنا فيما نحاولُ أن نستهدي تجاربَ القرآن ونسترشد سير العظيمات من النِّساء الخالدات ، نمتلئ إجلالاً وإكباراً لموقف هاجر التي تُترك في الأرض الجرداء العزلاء الموحشة وهي تكابد معاناة فريدة من نوعها ، وقد أوت إلى ركن وثيق وهو رحمة الله تعالى : « إنّ الله لن يضيعنا » فكأ نّها تقول نحن عيال الله من قبل أن نكون عيال إبراهيم (عليه السلام) ، ولن يكون إبراهيم (عليه السلام) ـ مهما امتلأ قلبه حبّاً لنا وعطفاً علينا ـ أرأف من الله بنا .
هذا الشعور الروحيّ المفعم باليقين وبروح الله حينما يتحوّل لدينا من مجرد إحساس أو دفقة أو خفقة إلى واقع نحياه ، تتحوّل الصحراء الجدباء من حولنا إلى رياض وجنان .
ألَيْسَ الكون ـ كلّ الكون ـ قبضَ يده وطوع بنانه ؟ وهل الله في الأرض المقدّسة (فلسطين) هو غير الله في الأرض المقدّسة (مكّة) أو حتّى غيرها من بقاع الأرض ؟ هل رحمته مجزّأة ، أو فيها تمييز كما هو التمييز الانساني في الرحمة ؟ أليست رحمته وسعت كلّ شيء …
إنّ الإجابات الشافية لكلّ تلك الأسئلة كانت تتنزّل على قلب هاجر، لتربط عليه وتملأه بدل الخوف أمناً ومكان الوحشة اُنساً وسروراً. فكلمة «لن يضيِّعنا» استشعارٌ كامل وحميم في أنّ الذي يتّقي الله يجعل مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب . ولعلّ كلّ منّا قد جرّب ذلك في المواطن الخالصة المخلصة .
امتثلت (هاجر) للقضاء المحتوم بصدر منشرح ، وتحمّلت العبء الثقيل بصبر جميل حتّى نفد الماء الذي معها فلم تجد ماءً يبلّ عطش رضيعها ولا لبناً في صدرها تسقيه منه .. وكان الطفل يئن ويصرخ تحت وطأة الظمأ ، وهاجر تتقطّع حسرات وهي تراه يتلوّى من الألم ، وذلك كلّه في عين الله وما دام كذلك فهو هيّن ، فماذا صنعت ؟
هل استسلمت للأمر الواقع ؟ هل قالت : لا جدوى .. لقد اُسقط ما في يدي ؟ هل انتظرت أن يحلّ الموت بها وبرضيعها ؟ هل اكتفت بالتضرّع إلى الله أن ينجيها من المأزق الحرج ؟
لقد هامت على وجهها تعدو وتهرول يدفعها التياعُ صغيرها إلى التشبّث بأدنى قشّة .. اعتلت جبل ( الصفا ) علّها تجد ماءً حولها ، ثمّ سعت نحو سراب لمحته عند جبل ( المروة ) وقد حسبته ماءً حتّى إذا جاءته لم تجده شيئاً ، ثمّ كرّت راجعة إلى الصفا . وهكذا سبعة أشواط لم تكلّ ولم تملّ ولم يوقعها اليأس في براثنه ، ففي كلّ شوط تمنّي النفس بالعثور على الماء في مكان ما .. كان الأمل يطفح في جوانحها .. جفّ الماء أو انتهى ولكنّ الأمل لم يجف ولم ينته «إنّ الله لن يضيِّعنا» وهل يضيّع الله عبداً امتثل لأوامره واستجاب لإرادته وأسلم أمره إليه ؟!
في نهاية الشوط السابع يتفتّح الأمل باسماً فيسيل في عروقها برداً وشراباً حين ترى طفلها يفحص الأرض برجليه والماء ينبجس من تحت قدميه لا ليرويه أو يرويها فقط بل ليروي الأجيال اللاّحقة كلّها .
لقد كان ماء (زمزم) وسيبقى سلسـلاً (يروي) وارديه كما (يروي) الذكرى للذاكرين ممّن يمرّون بتلك الديار فيتعظون .
(هاجر (عليها السلام) ) في أملها برحمة الله ; وثقتها العالية بألطافه الظاهرة والخفيّة ، تقول لنا : قد لا تصلون إلى مبتغاكم في المحاولة الأولى ، ولا في الثانية ولا حتّى في الخامسة والسادسة ، لكن ذلك ينبغي أن لا يفتّ في عضدكم ، ولا يهدم جسور اليقين وحسن الظنّ بالله في نفوسكم ، فمن سارَ على الدرب وصل، وما أراد الانسان شيئاً ـ مهما كان صعباً وبعيداً ـ إلاّ ناله بهمّته « لو تعلّقت همّة أحدكم بالثريا لنالها » .
(هاجر) تقول لنا : إنّ أعدى أعداء الإرادة والثقة بالله هو اليأس القاتل الذي إنّما عُدّ كفراً ، لا لأنّ اليائس انسان فاقد لحسن الظنّ بالله فحسب ، بل لأنّه لا يعرف طبيعة وحقيقة الرحمة الإلهية التي قد تُدرِك الانسان المؤمن وهو في بطن الحوت كما فعلت مع يونس (عليه السلام) .
وتتعرّض (هاجر) التي عاشت التجربة الصعبة واجتازتها بنجاح باهر، لاختيار أشدّ صعوبة وأثقل على نفس الأم، فحين يأتيها الشيطان ليخبرها أنّ إبراهيم (عليه السلام) ذهب بابنها ليذبحه ، تسأله : ولِمَ يذبحه ؟! فيقول الشيطان : زعم أنّ ربّه أمره بذلك ! فتجيبه على الفور : إذن فقد أحسن أن يطيع ربّه !!
ولعلّ هذا الخط الموصول من الطاعة التامّة والعبودية المستسلمة لقضاء الله وقدره ، إنْ في الامتثال للبقاء في صحراء مكّة وهي الأرض الميتة إلاّ من نسائم رحمة الله ، والتسليم لأمر الله الذي لا يضيّع مخلصاً ولا مخلصة قطّ ، وإنْ في القبول بإرادته عزّ وجلّ ذبح إسماعيل (عليه السلام)الذي هو قرّة عين أبيه وأمّه ، يقدِّم المثال الناصع والرائع لامرأة على غاية من معرفة الله ، وعلى غاية من تقديم طاعته على كلّ طاعة .. فطالما أ نّنا (لله) وأ نّا (إليه) راجعون فكلّ مصيبة وكلّ شديدة وكلّ نائبة من نوائب الدهر تهون .
ولهذا فإنّ المرأة التي تتربّى على هدي هاجر وتربِّي بناتها عليه ولو بحدود القدرة والاستطاعة ، توسّع من إطار التجربة القرآنية من نموذج في التأريخ إلى نماذج أخرى في الواقع . ولقد شهدت الأمّة المسلمة في تاريخها «هواجر» كثيرات وإنْ بنسب متفاوتة . وهذه هي الغاية من ضرب المثل بها وبأمثالها من المؤمنات الصالحات القانتات الطائعات المجاهدات

تعليق