

يخطئ مَنْ يتصوّر أنّ الأب قدوة لابنه فقط ، وأنّ الأم قدوة لابنتها فقط ، فكلاهما قدوة لأبنائهما وبناتهما . نعم ، قد تكون بصمات الأم على شخصية ابنتها أكثر لكونهما من جنس واحد ، كما أنّ بصمات الأب أوضح وأصرح على الابن لاتحادهما في الجنس ، لكن ذلك ليس قاعدة ثابتة صارمة ، فقد يتأثر الابن بأمّه أكثر من أبيه ، وقد تتأثر الفتاة بأبيها أكثر من أمّها ، حتى أنّ العرب كانت تقول : «كلّ فتاة بأبيها معجبة» وإعجابها يدعوها للإقتداء به وتمثّل سيرته .
وقد يتأثّران بأحد الوالدين أو بكليهما ، فأنت حينما تتصفّح حياة وسيرة الرجال والنساء من المبدعين والمبدعات ، ترى هذا التأثير المتبادل أو الذي لا جنسية له ، فكم من النابغات كان أبوها قدوتها ، وكم من البارعين من كانت أمّه قدوته ، وثمة صنف ثالث أخذ من هذا وهذه .
وهذا يعني أنّ المهم هو أن يكون الوالدان أحدهما أو كلاهما في موقع القدوة والتأسّي ، فإنّ توفّر قدوتين في البيت أو الأسرة سيكون له مردود أكبر من القدوة الواحدة ، وانعدام القدوة تماماً سيكون له آثار سيِّئة على الأبناء والبنات .
فالقدوة الوالدية يتجلّى أثرها في حياتنا منذ نعومة أظفارنا ، لأنّهما أوّل معلّمين في حياة كلّ فتاة وفتى ، والقدوتان اللتان يبقى صدى تأثيرهما يرنّ في مدى العمر .
وقد يكون الأبوان ـ أو أحدهما ـ قدوتين صالحتين .
وقد يكونان ـ أو أحدهما ـ مثالين سيِّئين .
فإن كانا من الصنف الأوّل حظي الابن أو البنت بمعلّم ومربٍّ هو المثل الأعلى في حياتهما ، وإن كان أبواهما من الصنف الثاني ، فقد يبنيان أسوأ الخصال فيهما ، وقد قال الشاعر :
إذا كان ربّ البيت بالدفّ ناقراً***فشيمةُ أهل البيتِ كلّهم الرقصُ
و (النقرُ بالدفّ) هنا كناية عن كلّ عمل سوء يصدر من الأب أو الأم فيلتقطه الصغار على أنّه الصحيح الذي لا جدال فيه .
والقدوة الوالدية أيّاً كانت ـ أمّاً أو أباً ـ لها ميزاتها الخاصّة :
أ . فهي الأعمق تأثيراً وبقاء في نفوسنا وبناء شخصياتنا .
ب . تأثيرها يمتد مع الحياة ، فبعض بصمات هاتين القدوتين تبقى محفورة لا تقدر يد الأيام على محوها . فـ «العلم في الصغر كالنقش في الحجر.
ج . هي قدوة ملازمة لا تفارقنا ، وكأنّها جزء لا يتجزّأ منّا .
د . هي قدوة حريصة مخلصة وتريد لنا الخير وتطمح إلى أن نكون أفضل منها ، وأن لا نكتفي بمجاراتها فقط .
هـ . هي قدوة تلقائية تقدّم النموذج الحيّ المباشر من نفسها ، في كلّ كلمةِ حبٍّ وصدق ، وحركة عطف وحنان ، وموقف تضحية وإيثار .
وليس ضرورياً أن تكون القدوة الوالدية قدوة حائزة على شهادة دراسية معيّنة ، فهي بما أوتيت من خزين عاطفي كبير ، ورغبة صميمية جامعة في الإسعاد ، تحاول أقصى جهدها في أن تقدّم المثال الصالح لأبنائها وبناتها .
فربّ أب فلاّح مكافح لا يجيد القراءة والكتابة ، لكنّه إنسان نبيل كريم الطباع ، حميد الخصال والسجايا ، يعرف بالتجربة ما هو الخبث وما هو الطيبة ، وأين الاستقامة وأين الإعوجاج ، هو قدوة صالحة قد لا نستفيد منها في تعليمنا القراءة والكتابة ، لكنّها بالتأكيد أفضل من أب متعلِّم لكنّه منصرف عن أبنائه وبناته .
وربّ أمّ أميّة ، لكنّها قرأت كتاب الحياة من خلال تجربتها الحياتية والزوجية بعينين مفتوحتين ، فقدّمت لأبنائها وبناتها نموذجاً يحتذى من الإخلاص والوفاء ونكران الذات .
غير أنّ هذا لا يقلل إطلاقاً من أهميّة الأب المثقف والأم المتعلّمة كقدوتين ، بل بالعكس ، فإنّ القدوة الوالدية المثقفة تترك أثراً أكبر في نفوس وأذهان ذريتهما من الأبناء والبنات .

تعليق