تمهيد:
لقد جاءت الأحاديث الصحيحة مبشِّرة باثني عشر خليفة من قريش، لا يزيدون ولا ينقصون، عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل، يكون الإسلام بهم قائماً عزيزاً منيعاً ظاهراً على مَن ناواه، ويكون الأمر بهم صالحاً، وأمر الناس بهم ماضياً...
ومع استفاضة تلك الأحاديث ووضوحها إلا أن علماء أهل السنة تحيَّروا في معرفة هؤلاء الخلفاء، ولم يهتدوا في هذه المسألة إلى شيء صحيح، فجاءت أقوالهم ـ على كثرتها ـ واهية ركيكة ضعيفة كما سيتضح قريباً إن شاء الله تعالى.
طرق حديث الخلفاء الاثني عشر:
1ـ أخرج البخاري وأحمد والبيهقي وغيرهم عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش(1).
قال البغوي: هذا حديث متّفق على صحّته(2).
2ـ وأخرج مسلم عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة. قال: ثم تكلم بكلام خفي عليَّ. قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش(3).
3 ـ وأخرج مسلم أيضاً ـ واللفظ له ـ وأحمد عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً. ثم تكلم النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بكلمة خفيت عليَّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)؟ فقال: كلهم من قريش(4).
4 ـ وأخرج مسلم أيضاً وأحمد والطيالسي وابن حبان والخطيب التبريزي وغيرهم عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة. ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش(5).
5 ـ وأخرج مسلم ـ واللفظ له ـ وأحمد وابن حبان عن جابر بن سمرة، قال: انطلقت إلى رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ومعي أبي، فسمعته يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة. فقال كلمة صَمَّنيها الناس، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش(6).
6 ـ وأخرج مسلم ـ واللفظ له ـ وأحمد عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول: لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش...(7).
7 ـ وأخرج الترمذي وأحمد عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): يكون من بعدي اثنا عشر أميراً. ثم تكلم بشيء لم أفهمه، فسألت الذي يليني، فقال: قال: كلهم من قريش(8).
8 ـ وأخرج أبو داود حديث الخلفاء الاثني عشر بثلاثة طرق صحيحة(9).
قال في أحدها: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم تجتمع عليه الأمة. فسمعت كلاماً من النبي لم أفهمه، قلت لأبي: ما يقول؟ قال: كلهم من قريش(10).
وقال في آخر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة. قال: فكبَّر الناس وضجّوا، ثم قال كلمة خفية. قلت لأبي: يا أبه، ما قال؟ قال: كلهم من قريش(11).
5 ـ وأخرج أحمد ـ واللفظ لغيره ـ، والحاكم في المستدرك، والهيثمي في مجمع الزوائد عن الطبراني في الأوسط والكبير والبزَّار، أن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال: لا يزال أمر أمتي صالحاً حتى يمضي اثنا عشر خليفة. وخفض بها صوته، فقلت لعمي وكان أمامي: ما قال يا عم؟ قال: كلهم من قريش(12).
6 ـ وأخرج أحمد في المسند، والهيثمي في مجمع الزوائد، وابن حجر في المطالب العالية، والبوصيري في مختصر الإتحاف، عن مسروق، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: هل حدَّثكم نبيَّكم كم يكون بعده من الخلفاء؟ قال: نعم، وما سألني عنها أحد قبلك وإنك لمن أحدث القوم سنًّا.
قال: يكونون عدّة نقباء موسى، اثني عشر نقيباً(13).
7 ـ وأخرج أحمد وأبو نعيم والبغوي عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش...(14).
8 ـ وأخرج أحمد بن حنبل في المسند ـ واللفظ له ـ، والحاكم النيسابوري في المستدرك عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول في حجّة الوداع: لا يزال هذا الدين ظاهراً على من ناواه، لا يضرّه مخالف ولا مفارق، حتى يمضي من أمتي اثنا عشر أميراً، كلهم. ثم خفي من قول رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، قال: يقول: كلهم من قريش(15).
إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة(16).
مَن هم الخلفاء الاثنا عشر؟
لقد حاول علماء أهل السنة كشف المراد بالخلفاء الاثني عشر في الأحاديث السابقة، بما يتَّفق مع مذهبهم، ويلتئم مع معتقدهم، فذهبوا ذات اليمين وذات الشمال لا يهتدون إلى شيء.
وحاولوا جاهدين أن يصرفوا هذه الأحاديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ويجعلونها في غيرهم ممن لا تنطبق عليهم الأوصاف الواردة فيها، فتاهوا وتحيَّروا، حتى ذهبوا إلى مذاهب عجيبة، وصدرت منهم أقوال غريبة، وأقرَّ بعضهم بالعجز، واعترف بعضهم بعدم وضوح معنى لهذه الأحاديث تركن إليه النفس.
قال ابن الجوزي في كشف المشكل: هذا الحديث قد أطلتُ البحث عنه، وتطلَّبتُ مظانّه، وسألتُ عنه، فما رأيت أحداً وقع على المقصود به...(17).
وقال ابن بطال عن المهلب: لم ألقَ أحداً يقطع في هذا الحديث ـ يعني بشيء معين(18).
اختلاف أهل السنة في الخلفاء الاثني عشر:
لقد كثرت أقوالهم في هذه المسألة، واختلفت آراؤهم اختلافاً عظيماً، وتضاربت تضارباً شديداً، ومع كثرة تلك الأقوال لا تجد فيها قولاً خالياً من الخدش والخلل، وأهم ما عثرت عليه من أقوالهم في هذه المسألة ثمانية أقوال، وإليك بيانها، وبيان ما فيها:
1 ـ رأي القاضي عياض والحافظ البيهقي:
قال القاضي عياض(19): لعل المراد بالاثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يكونون في مدة عزَّة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره، والاجتماع على مَن يقوم بالخلافة، وقد وُجد فيمن اجتمع عليه الناس، إلى أن اضطرب أمر بني أمية، ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم إلى أن قامت الدولة العباسية، فاستأصلوا أمرهم(20).
قال ابن حجر العسقلاني: كلام القاضي عياض أحسن ما قيل في الحديث وأرجحه، لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة: ( كلّهم يجتمع عليه الناس)، وإيضاح ذلك أن المراد بالاجتماع انقيادهم لبيعته، والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، إلى أن وقع أمر الحَكَمين في صفِّين، فتسمَّى معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد، ولم ينتظم للحسين أمر، بل قُتل قبل ذلك، ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد: عمرُ بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، اجتمع الناس عليه لما مات عمّه هشام، فولي نحو أربع سنين، ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك...(21).
وهذا هو قول البيهقي(22) أيضاً في دلائل النبوة، حيث قال بعد أن ساق بعضاً من الأحاديث السابقة: وقد وُجد هذا العدد بالصفة المذكورة إلى وقت الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ثم وقع الهرج والفتنة العظيمة كما أخبر في هذه الرواية، ثم ظهر ملك العباسية...(23).
ثم قال: والمراد بإقامة الدين ـ والله أعلم ـ إقامة معالمه وإن كان بعضهم يتعاطى بعد ذلك ما لا يحل(24).
أقـول:
1 ـ يرُدّ هذا القول وسائر أقوالهم ما رواه القوم عن سفينة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: الخلافة ثلاثون سنة، ثم تكون بعد ذلك ملكاً(25).
ولأجل هذا صرَّحوا بأن الخلافة عندهم منحصرة في أربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي استناداً إلى هذا الحديث، أو خمسة بضميمة عمر بن عبد العزيز(26)، فكيف صار غير هؤلاء خلفاء مع أن الحديث نصَّ على أن ما بعد ثلاثين سنة لا تكون خلافة، بل يكون ملك.
وفي سنن الترمذي: قال سعيد: فقلت له (أي لسفينة راوي الحديث): إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم. قال: كذبوا بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك.
وفي سنن أبي داود: قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن علياً لم يكن بخليفة. قال: كذبت أستاه بني الزرقاء ـ يعني بني مروان(27).
وقال القاضي عياض وغيره في الجمع بين حديث سفينة وحديث الخلفاء الاثني عشر: إنه أراد في حديث سفينة خلافة النبوة، ولم يقيّده في حديث جابر ابن سمرة بذلك(28).
وقال الألباني: وهذا جمع قوي، ويؤيّده لفظ أبي داود: ( خلافة النبوة ثلاثون سنة )، فلا ينافي مجيء خلفاء آخرين من بعدهم، لأنهم ليسوا خلفاء النبوة، فهؤلاء هم المعنيون في الحديث لا غيرهم، كما هو واضح(29).
ويردّه: أن خلافة النبوة هذه لم يذكر لها علماء أهل السنة معنى واضحاً، واختلفوا في بيان المراد منها، فمنهم من قال بأن خلافة النبوة هي التي لا طلب فيها للملك ولا منازعة فيها لأحد(30). فعليه تخرج خلافة أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) عن كونها خلافة نبوة، لمنازعة أهل الجمل وأهل النهروان ومعاوية وأهل الشام له(31)، مع أنهم ذكروا أن خلافته (عليه السلام) خلافة نبوة. وهذا تهافت واضح.
ومنهم مَن ذكر أن خلافة النبوة إنما تكون لمن عملوا بالسُّنَّة، فإذا خالفوا السنّة وبدّلوا السيرة فهم ملوك وإن تسمّوا بالخلفاء(32).
وعليه تكون خلافة النبوة أكثر من ثلاثين سنة، لاتفاقهم على أن عمر بن عبد العزيز كان يعمل بالسنّة، ولعدّهم إياه من الخلفاء الراشدين، مع أنهم لم يذكروه من ضمن مَن كانت خلافتهم خلافة نبوة.
ومنهم من قال: إن المراد بالخلافة في حديث سفينة هي الخلافة الحقَّة أو المرضية لله ورسوله، أو الكاملة، أو المتصلة(33).
وعليه فتكون خلافة النبوة هي خلافة أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) وابنه الحسن (عليه السلام) فقط دون غيرهما.
ولو سلَّمنا أن خلافة الأربعة كانت مرضيّة لله ورسوله أو كاملة أو غير ذلك فلا بد أن يُضاف إليها عندهم خلافة عمر بن عبد العزيز، فتكون خلافة النبوة حينئذ أكثر من ثلاثين سنة.
والصحيح أن يقال في هذا الحديث على تقدير صحَّته: إن خلافة النبوة لا يمكن أن يراد بها إلا الخلافة التي كانت بنصّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمَن استخلفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأمة فهو خليفة النبي، وخلافته هي خلافة النبوة، ومَن لم يستخلفه واستخلفه الناس فهو خليفتهم، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف عليّاً (عليه السلام).
وعليه يكون معنى حديث سفينة: إن خلافة النبوة ـ وهي خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ تستمر إلى ثلاثين سنة، ثم يتولى أمور المسلمين الملوك. وعدم تمكّن أمير المؤمنين (عليه السلام) من تولي أمور المسلمين، أو عدم اتّباع الناس له إلا النفر القليل لا يسلب عنه الخلافة بعد حكم الشارع المقدس بها ونصّه عليها، وهذا له نظائر كثيرة في الأصول والفروع لا تخفى(34).
وأما حديث الخلفاء الاثني عشر فهو بيان لعدد أئمة الهدى وخلفاء الحق وسادة الخلق المنصوبين من الله سبحانه، الذين لا يضرهم من ناواهم، ويكون الإسلام بهم عزيزاً، وبذلك يتّضح ألا منافاة بين الحديثين بهذين المعنيين.
2 ـ إن أكثر مَن ذكرهم لم يجتمع عليه الناس، فإن عثمان وإن تمَّت له البيعة واجتماع الناس في أول خلافته، إلا أن الأمور انتقضت عليه بعد ذلك حتى قتله الناس، وأما علي بن أبي طالب (عليه السلام) فلم يجتمع عليه الناس من أول يوم في خلافته، وذلك لأن أهل الشام لم يبايعوه، وهم كثيرون، وخرج عليه طلحة والزبير وعائشة، فحاربهم في البصرة، ثم خرج عليه الخوارج فحاربهم في النهروان... وكل ذلك كان في أقل من خمس سنين.
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية: علي رضي الله عنه... لم يجتمع الناس في زمانه، بل كانوا مختلفين، لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك(35).
فعلى ذلك لا يكون علي (عليه السلام) من هؤلاء الخلفاء عندهم.
وأما يزيد بن معاوية فلم يبايعه الحسين بن علي (عليه السلام) وأهل بيته حتى قُتلوا في كربلاء، وخرج عليه أهل المدينة، وأخرجوا منها عامله وسائر بني أمية، فوقعت بينهم وبينه وقعة الحرة، وخرج عليه ابن الزبير في مكة واستولى عليها... فأي اجتماع حصل له !!؟.
3 ـ أن معاوية ومن جاء بعده من ملوك بني أمية وغيرهم لم يجتمع عليهم الناس، بل كانوا متغلِّبين على الأمَّة بالقوة والقهر، ومن الواضح أن هناك فرقاً بيِّناً بين اجتماع الناس على شيء وجمعهم عليه، فإن الاجتماع مأخوذ في معناه اختيار المجتمعين، وأما الجمع فمأخوذ فيه عدم الاختيار، والذي حصل لبني أمية هو الثاني، والمذكور في الحديث هو الأول، وهذا واضح معلوم لمن نظر في تاريخ بني أمية وسيرتهم في الناس.
وقد روي فيما يدلِّل ذلك الكثير، ومنه ما روي عن سعيد بن سويد، قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة ـ يعني خارج الكوفة ـ الجمعة في الضحى، ثم خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلّوا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأ تأمَّر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون(36).
4 ـ أن الخلفاء حسبما ذكر في كلامه يكونون ثلاثة عشر لا اثني عشر، وهم:
1 ـ أبو بكر. 2 ـ عمر. 3 ـ عثمان. 4 ـ الإمام علي (عليه السلام). 5 ـ معاوية. 6 ـ يزيد بن معاوية . 7 ـ عبد الملك. 8 ـ الوليد. 9 ـ سليمان . 10 ـ عمر بن عبد العزيز. 11 ـ يزيد بن عبد الملك. 12 ـ هشام بن عبد الملك . 13 ـ الوليد بن يزيد.
قال ابن كثير: إن الخلفاء إلى زمن الوليد بن اليزيد أكثر من اثني عشر على كل تقدير(37).
2 ـ رأي ابن حجر العسقلاني:
قال ابن حجر العسقلاني: الأَولى أن يحمل قوله: (يكون بعدي اثنا عشر خليفة) على حقيقة البَعْدية، فإن جميع من ولي الخلافة مِن الصدِّيق إلى عمر ابن عبد العزيز أربعة عشر نفساً، منهم اثنان لم تصح ولايتهما ولم تطل مدَّتهما، وهما معاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، والباقون اثنا عشر نفساً على الولاء كما أخبر (صلى الله عليه [وآله] وسلم).
إلى أن قال: ولا يقدح في ذلك قوله: ( يجتمع عليه الناس )، لأنه يُحمَل على الأكثر الأغلب، لأن هذه الصفة لم تفقد إلا في الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير مع صحة ولايتهما، والحُكم بأن مَن خالفهما لم يثبت استحقاقه إلا بعد تسليم الحسن، وبعد قتل ابن الزبير، والله أعلم(38).
أقـول: على هذا القول يكون الخلفاء الاثنا عشر هم:
1 ـ أبو بكر. 2 ـ عمر. 3 ـ عثمان. 4 ـ الإمام علي (عليه السلام). 5 ـ الإمام الحسن (عليه السلام). 6 ـ معاوية. 7 ـ يزيد بن معاوية. 8 ـ عبد الله بن الزبير. 9 ـ عبد الملك. 10 ـ الوليد. 11 ـ سليمان. 12 ـ عمر بن عبد العزيز.
وقوله: (يجتمع عليه الناس) محمول على الأكثر الأغلب، يردّه أن مجيء التأكيد بـ (كل) في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (كلّهم يجتمع عليه الناس) الدال بالنصّ على العموم يقدح في هذا القول.
هذا مع أن الصفة المذكورة ـ وهي اجتماع الناس ـ فُقدت في غير الحسن (عليه السلام) وابن الزبير كما مر آنفاً.
وقوله: (إن معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم لم تصح ولايتهما) يردّه أن يزيد بن معاوية إن كانت ولايته صحيحة كما قال، فنص يزيد على ابنه من بعده يصحِّح ولايته بلا ريب ولا شبهة وإن لم تطل مدّته. وإن كان التغلّب على أمور المسلمين يصحّح خلافة معاوية، فتغلّب مروان بعد ذلك مصحِّح لخلافته.
ثم إن جعله طول الولاية دليلاً على صحَّتها واعتبارها لا يمكن التسليم به، فإنه لم يقل به أحد، هذا مع أنه اعتبر ولاية الإمام الحسن (عليه السلام) التي دامت ستة أشهر، ولم يعتبر ولاية مروان بن الحكم التي دامت نفس المدة.
ومن الغريب أنه زعم أن عبد الملك بن مروان لم يثبت استحقاقه للخلافة إلا بعد قيامه على الخليفة الحق عنده آنذاك وهو عبد الله بن الزبير وقتله.
والذي يظهر من كلام ابن حجر أنه يرى أن كل أولئك الحكَّام كانوا متأهِّلين للخلافة مستحقّين لها، مع أن يزيد بن معاوية مثلاً لا يختلف المنصفون في عدم أهليته للخلافة وعدم استحقاقه لها، لأنه تولَّى ثلاث سنين: السنة الأولى قتل فيها الحسين (عليه السلام)، والسنة الثانية أباح فيها المدينة، والسنة الثالثة هدم فيها الكعبة... فكيف يكون من الخلفاء الذين يكون الإسلام بهم عزيزاً منيعاً قائماً؟!.
3 ـ قول ابن أبي العز شارح العقيدة الطحاوية:
قال ابن أبي العز الحنفي(39): والاثنا عشر: الخلفاء الراشدون الأربعة، ومعاوية وابنه يزيد، وعبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة، وبينهم عمر بن عبد العزيز ثم أخذ الأمر في الانحلال، وعند الرافضة أن أمر الأمَّة لم يزل في أيام هؤلاء فاسداً منغَّصاً، يتولّى عليه الظالمون المعتدون، بل المنافقون الكافرون، وأهل الحق أذل من اليهود. وقولهم ظاهر البطلان، بل لم يزل الإسلام عزيزاً في ازدياد في أيام هؤلاء الاثني عشر(40).
أقول: الخلفاء الاثنا عشر على هذا القول هم:
1 ـ أبو بكر. 2 ـ عمر. 3 ـ عثمان. 4 ـ الإمام علي (عليه السلام). 5 ـ معاوية. 6 ـ يزيد بن معاوية. 7 ـ عبد الملك. 8 ـ الوليد. 9 ـ سليمان. 10 ـ عمر بن عبد العزيز. 11 ـ يزيد بن عبد الملك. 12 ـ هشام بن عبد الملك.
ويَرِد عليه ما قلناه في خلافة معاوية بن يزيد، وخلافة مروان بن الحكم، فراجعه.
ثم إن كل مَن نظر في تاريخ المسلمين يعلم أن الأمة لا تزال في ذلّ وهوان في زمن أكثر هؤلاء الخلفاء، وأقوال علماء أهل السنة تشهد بذلك وتصرح به، ولو لم يكن في زمانهم إلا قتل الحسين (عليه السلام) لكفى، كيف وقد أعلن بنو أمية سب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على المنابر قرابة ستين سنة، وضُرِبت الكعبة حتى تهدّمت حيطانها، وأبيحت المدينة ثلاثة أيام، فوقع فيها من المخازي ما يندى له جبين التاريخ.
فإنهم كانوا يقتلون كل من وجدوه من الناس، وكانوا يسلبون كل ما وقع تحت أيديهم من الأموال، ووقعوا على النساء حتى قيل: إنه حبلت ألف امرأة من أهل المدينة من غير زوج. وقُتل من وجوه المهاجرين والأنصار سبعمائة، ومن سائر الناس عشرة آلاف، ولما دخل مسلم بن عقبة المدينة دعا الناس للبيعة على أنهم عبيد وخَدَم ليزيد بن معاوية، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء(41).
إلى غير ذلك مما يطول ذِكره.
وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: لو لم يكن من مساوئ عبد الملك إلا الحجَّاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة رضي الله عنهم، يهينهم ويذلّهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يُحصى، فضلاً عن غيرهم، وختم على عنق أنَس وغيره من الصحابة ختماً، يريد بذلك ذلَّهم، فلا رحمه الله ولا عفا عنه(42) .
وقال الذهبي في كتابه العِبَر: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الوليد بالشام، والحجَّاج بالعراق، وقُرَّة (بن شريك) بمصر، وعثمان بن حبان بالحجاز، امتلأت والله الأرض جوراً(43).
فهل كان الإسلام عزيزاً وفي ازدياد!!؟ وهل كان الناس عامة والمؤمنون خاصة في عز وكرامة، أم في ذلَّ ومهانة؟ الأمر معلوم وواضح، ولا ينكر ذلك إلا مكابر أو جاهل أو متعصب.
ويكفي قول سفينة المتقدم فيهم لما سأله سعيد فقال: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم. قال: كذبوا بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك.
4 ـ قول ابن كثير وابن تيمية:
وهو أن المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة، يعملون بالحق وإن لم تتوالَ أيامهم، ويؤيده ما أخرجه مُسدَّد في مسنده الكبير من طريق أبي بحر، أن أبا الجلد حدَّثه أنه لا تهلك هذه الأمة حتى يكون منها اثنا عشر خليفة، كلهم يعمل بالهدى ودين الحق، منهم رجلان من أهل بيت محمد (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، يعيش أحدهما أربعين سنة، والآخر ثلاثين سنة.
وعلى هذا فالمراد بقوله: (ثم يكون الهرج) أي الفتن المؤذنة بقيام الساعة، من خروج الدجال ثم يأجوج ومأجوج إلى أن تنقضي الدنيا(44).
لقد جاءت الأحاديث الصحيحة مبشِّرة باثني عشر خليفة من قريش، لا يزيدون ولا ينقصون، عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل، يكون الإسلام بهم قائماً عزيزاً منيعاً ظاهراً على مَن ناواه، ويكون الأمر بهم صالحاً، وأمر الناس بهم ماضياً...
ومع استفاضة تلك الأحاديث ووضوحها إلا أن علماء أهل السنة تحيَّروا في معرفة هؤلاء الخلفاء، ولم يهتدوا في هذه المسألة إلى شيء صحيح، فجاءت أقوالهم ـ على كثرتها ـ واهية ركيكة ضعيفة كما سيتضح قريباً إن شاء الله تعالى.
طرق حديث الخلفاء الاثني عشر:
1ـ أخرج البخاري وأحمد والبيهقي وغيرهم عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش(1).
قال البغوي: هذا حديث متّفق على صحّته(2).
2ـ وأخرج مسلم عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة. قال: ثم تكلم بكلام خفي عليَّ. قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش(3).
3 ـ وأخرج مسلم أيضاً ـ واللفظ له ـ وأحمد عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً. ثم تكلم النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بكلمة خفيت عليَّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)؟ فقال: كلهم من قريش(4).
4 ـ وأخرج مسلم أيضاً وأحمد والطيالسي وابن حبان والخطيب التبريزي وغيرهم عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة. ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش(5).
5 ـ وأخرج مسلم ـ واللفظ له ـ وأحمد وابن حبان عن جابر بن سمرة، قال: انطلقت إلى رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ومعي أبي، فسمعته يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة. فقال كلمة صَمَّنيها الناس، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش(6).
6 ـ وأخرج مسلم ـ واللفظ له ـ وأحمد عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول: لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش...(7).
7 ـ وأخرج الترمذي وأحمد عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): يكون من بعدي اثنا عشر أميراً. ثم تكلم بشيء لم أفهمه، فسألت الذي يليني، فقال: قال: كلهم من قريش(8).
8 ـ وأخرج أبو داود حديث الخلفاء الاثني عشر بثلاثة طرق صحيحة(9).
قال في أحدها: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم تجتمع عليه الأمة. فسمعت كلاماً من النبي لم أفهمه، قلت لأبي: ما يقول؟ قال: كلهم من قريش(10).
وقال في آخر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة. قال: فكبَّر الناس وضجّوا، ثم قال كلمة خفية. قلت لأبي: يا أبه، ما قال؟ قال: كلهم من قريش(11).
5 ـ وأخرج أحمد ـ واللفظ لغيره ـ، والحاكم في المستدرك، والهيثمي في مجمع الزوائد عن الطبراني في الأوسط والكبير والبزَّار، أن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال: لا يزال أمر أمتي صالحاً حتى يمضي اثنا عشر خليفة. وخفض بها صوته، فقلت لعمي وكان أمامي: ما قال يا عم؟ قال: كلهم من قريش(12).
6 ـ وأخرج أحمد في المسند، والهيثمي في مجمع الزوائد، وابن حجر في المطالب العالية، والبوصيري في مختصر الإتحاف، عن مسروق، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: هل حدَّثكم نبيَّكم كم يكون بعده من الخلفاء؟ قال: نعم، وما سألني عنها أحد قبلك وإنك لمن أحدث القوم سنًّا.
قال: يكونون عدّة نقباء موسى، اثني عشر نقيباً(13).
7 ـ وأخرج أحمد وأبو نعيم والبغوي عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش...(14).
8 ـ وأخرج أحمد بن حنبل في المسند ـ واللفظ له ـ، والحاكم النيسابوري في المستدرك عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول في حجّة الوداع: لا يزال هذا الدين ظاهراً على من ناواه، لا يضرّه مخالف ولا مفارق، حتى يمضي من أمتي اثنا عشر أميراً، كلهم. ثم خفي من قول رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، قال: يقول: كلهم من قريش(15).
إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة(16).
مَن هم الخلفاء الاثنا عشر؟
لقد حاول علماء أهل السنة كشف المراد بالخلفاء الاثني عشر في الأحاديث السابقة، بما يتَّفق مع مذهبهم، ويلتئم مع معتقدهم، فذهبوا ذات اليمين وذات الشمال لا يهتدون إلى شيء.
وحاولوا جاهدين أن يصرفوا هذه الأحاديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ويجعلونها في غيرهم ممن لا تنطبق عليهم الأوصاف الواردة فيها، فتاهوا وتحيَّروا، حتى ذهبوا إلى مذاهب عجيبة، وصدرت منهم أقوال غريبة، وأقرَّ بعضهم بالعجز، واعترف بعضهم بعدم وضوح معنى لهذه الأحاديث تركن إليه النفس.
قال ابن الجوزي في كشف المشكل: هذا الحديث قد أطلتُ البحث عنه، وتطلَّبتُ مظانّه، وسألتُ عنه، فما رأيت أحداً وقع على المقصود به...(17).
وقال ابن بطال عن المهلب: لم ألقَ أحداً يقطع في هذا الحديث ـ يعني بشيء معين(18).
اختلاف أهل السنة في الخلفاء الاثني عشر:
لقد كثرت أقوالهم في هذه المسألة، واختلفت آراؤهم اختلافاً عظيماً، وتضاربت تضارباً شديداً، ومع كثرة تلك الأقوال لا تجد فيها قولاً خالياً من الخدش والخلل، وأهم ما عثرت عليه من أقوالهم في هذه المسألة ثمانية أقوال، وإليك بيانها، وبيان ما فيها:
1 ـ رأي القاضي عياض والحافظ البيهقي:
قال القاضي عياض(19): لعل المراد بالاثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يكونون في مدة عزَّة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره، والاجتماع على مَن يقوم بالخلافة، وقد وُجد فيمن اجتمع عليه الناس، إلى أن اضطرب أمر بني أمية، ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم إلى أن قامت الدولة العباسية، فاستأصلوا أمرهم(20).
قال ابن حجر العسقلاني: كلام القاضي عياض أحسن ما قيل في الحديث وأرجحه، لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة: ( كلّهم يجتمع عليه الناس)، وإيضاح ذلك أن المراد بالاجتماع انقيادهم لبيعته، والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، إلى أن وقع أمر الحَكَمين في صفِّين، فتسمَّى معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد، ولم ينتظم للحسين أمر، بل قُتل قبل ذلك، ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد: عمرُ بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، اجتمع الناس عليه لما مات عمّه هشام، فولي نحو أربع سنين، ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك...(21).
وهذا هو قول البيهقي(22) أيضاً في دلائل النبوة، حيث قال بعد أن ساق بعضاً من الأحاديث السابقة: وقد وُجد هذا العدد بالصفة المذكورة إلى وقت الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ثم وقع الهرج والفتنة العظيمة كما أخبر في هذه الرواية، ثم ظهر ملك العباسية...(23).
ثم قال: والمراد بإقامة الدين ـ والله أعلم ـ إقامة معالمه وإن كان بعضهم يتعاطى بعد ذلك ما لا يحل(24).
أقـول:
1 ـ يرُدّ هذا القول وسائر أقوالهم ما رواه القوم عن سفينة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: الخلافة ثلاثون سنة، ثم تكون بعد ذلك ملكاً(25).
ولأجل هذا صرَّحوا بأن الخلافة عندهم منحصرة في أربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي استناداً إلى هذا الحديث، أو خمسة بضميمة عمر بن عبد العزيز(26)، فكيف صار غير هؤلاء خلفاء مع أن الحديث نصَّ على أن ما بعد ثلاثين سنة لا تكون خلافة، بل يكون ملك.
وفي سنن الترمذي: قال سعيد: فقلت له (أي لسفينة راوي الحديث): إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم. قال: كذبوا بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك.
وفي سنن أبي داود: قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن علياً لم يكن بخليفة. قال: كذبت أستاه بني الزرقاء ـ يعني بني مروان(27).
وقال القاضي عياض وغيره في الجمع بين حديث سفينة وحديث الخلفاء الاثني عشر: إنه أراد في حديث سفينة خلافة النبوة، ولم يقيّده في حديث جابر ابن سمرة بذلك(28).
وقال الألباني: وهذا جمع قوي، ويؤيّده لفظ أبي داود: ( خلافة النبوة ثلاثون سنة )، فلا ينافي مجيء خلفاء آخرين من بعدهم، لأنهم ليسوا خلفاء النبوة، فهؤلاء هم المعنيون في الحديث لا غيرهم، كما هو واضح(29).
ويردّه: أن خلافة النبوة هذه لم يذكر لها علماء أهل السنة معنى واضحاً، واختلفوا في بيان المراد منها، فمنهم من قال بأن خلافة النبوة هي التي لا طلب فيها للملك ولا منازعة فيها لأحد(30). فعليه تخرج خلافة أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) عن كونها خلافة نبوة، لمنازعة أهل الجمل وأهل النهروان ومعاوية وأهل الشام له(31)، مع أنهم ذكروا أن خلافته (عليه السلام) خلافة نبوة. وهذا تهافت واضح.
ومنهم مَن ذكر أن خلافة النبوة إنما تكون لمن عملوا بالسُّنَّة، فإذا خالفوا السنّة وبدّلوا السيرة فهم ملوك وإن تسمّوا بالخلفاء(32).
وعليه تكون خلافة النبوة أكثر من ثلاثين سنة، لاتفاقهم على أن عمر بن عبد العزيز كان يعمل بالسنّة، ولعدّهم إياه من الخلفاء الراشدين، مع أنهم لم يذكروه من ضمن مَن كانت خلافتهم خلافة نبوة.
ومنهم من قال: إن المراد بالخلافة في حديث سفينة هي الخلافة الحقَّة أو المرضية لله ورسوله، أو الكاملة، أو المتصلة(33).
وعليه فتكون خلافة النبوة هي خلافة أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) وابنه الحسن (عليه السلام) فقط دون غيرهما.
ولو سلَّمنا أن خلافة الأربعة كانت مرضيّة لله ورسوله أو كاملة أو غير ذلك فلا بد أن يُضاف إليها عندهم خلافة عمر بن عبد العزيز، فتكون خلافة النبوة حينئذ أكثر من ثلاثين سنة.
والصحيح أن يقال في هذا الحديث على تقدير صحَّته: إن خلافة النبوة لا يمكن أن يراد بها إلا الخلافة التي كانت بنصّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمَن استخلفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأمة فهو خليفة النبي، وخلافته هي خلافة النبوة، ومَن لم يستخلفه واستخلفه الناس فهو خليفتهم، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف عليّاً (عليه السلام).
وعليه يكون معنى حديث سفينة: إن خلافة النبوة ـ وهي خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ تستمر إلى ثلاثين سنة، ثم يتولى أمور المسلمين الملوك. وعدم تمكّن أمير المؤمنين (عليه السلام) من تولي أمور المسلمين، أو عدم اتّباع الناس له إلا النفر القليل لا يسلب عنه الخلافة بعد حكم الشارع المقدس بها ونصّه عليها، وهذا له نظائر كثيرة في الأصول والفروع لا تخفى(34).
وأما حديث الخلفاء الاثني عشر فهو بيان لعدد أئمة الهدى وخلفاء الحق وسادة الخلق المنصوبين من الله سبحانه، الذين لا يضرهم من ناواهم، ويكون الإسلام بهم عزيزاً، وبذلك يتّضح ألا منافاة بين الحديثين بهذين المعنيين.
2 ـ إن أكثر مَن ذكرهم لم يجتمع عليه الناس، فإن عثمان وإن تمَّت له البيعة واجتماع الناس في أول خلافته، إلا أن الأمور انتقضت عليه بعد ذلك حتى قتله الناس، وأما علي بن أبي طالب (عليه السلام) فلم يجتمع عليه الناس من أول يوم في خلافته، وذلك لأن أهل الشام لم يبايعوه، وهم كثيرون، وخرج عليه طلحة والزبير وعائشة، فحاربهم في البصرة، ثم خرج عليه الخوارج فحاربهم في النهروان... وكل ذلك كان في أقل من خمس سنين.
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية: علي رضي الله عنه... لم يجتمع الناس في زمانه، بل كانوا مختلفين، لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك(35).
فعلى ذلك لا يكون علي (عليه السلام) من هؤلاء الخلفاء عندهم.
وأما يزيد بن معاوية فلم يبايعه الحسين بن علي (عليه السلام) وأهل بيته حتى قُتلوا في كربلاء، وخرج عليه أهل المدينة، وأخرجوا منها عامله وسائر بني أمية، فوقعت بينهم وبينه وقعة الحرة، وخرج عليه ابن الزبير في مكة واستولى عليها... فأي اجتماع حصل له !!؟.
3 ـ أن معاوية ومن جاء بعده من ملوك بني أمية وغيرهم لم يجتمع عليهم الناس، بل كانوا متغلِّبين على الأمَّة بالقوة والقهر، ومن الواضح أن هناك فرقاً بيِّناً بين اجتماع الناس على شيء وجمعهم عليه، فإن الاجتماع مأخوذ في معناه اختيار المجتمعين، وأما الجمع فمأخوذ فيه عدم الاختيار، والذي حصل لبني أمية هو الثاني، والمذكور في الحديث هو الأول، وهذا واضح معلوم لمن نظر في تاريخ بني أمية وسيرتهم في الناس.
وقد روي فيما يدلِّل ذلك الكثير، ومنه ما روي عن سعيد بن سويد، قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة ـ يعني خارج الكوفة ـ الجمعة في الضحى، ثم خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلّوا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأ تأمَّر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون(36).
4 ـ أن الخلفاء حسبما ذكر في كلامه يكونون ثلاثة عشر لا اثني عشر، وهم:
1 ـ أبو بكر. 2 ـ عمر. 3 ـ عثمان. 4 ـ الإمام علي (عليه السلام). 5 ـ معاوية. 6 ـ يزيد بن معاوية . 7 ـ عبد الملك. 8 ـ الوليد. 9 ـ سليمان . 10 ـ عمر بن عبد العزيز. 11 ـ يزيد بن عبد الملك. 12 ـ هشام بن عبد الملك . 13 ـ الوليد بن يزيد.
قال ابن كثير: إن الخلفاء إلى زمن الوليد بن اليزيد أكثر من اثني عشر على كل تقدير(37).
2 ـ رأي ابن حجر العسقلاني:
قال ابن حجر العسقلاني: الأَولى أن يحمل قوله: (يكون بعدي اثنا عشر خليفة) على حقيقة البَعْدية، فإن جميع من ولي الخلافة مِن الصدِّيق إلى عمر ابن عبد العزيز أربعة عشر نفساً، منهم اثنان لم تصح ولايتهما ولم تطل مدَّتهما، وهما معاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، والباقون اثنا عشر نفساً على الولاء كما أخبر (صلى الله عليه [وآله] وسلم).
إلى أن قال: ولا يقدح في ذلك قوله: ( يجتمع عليه الناس )، لأنه يُحمَل على الأكثر الأغلب، لأن هذه الصفة لم تفقد إلا في الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير مع صحة ولايتهما، والحُكم بأن مَن خالفهما لم يثبت استحقاقه إلا بعد تسليم الحسن، وبعد قتل ابن الزبير، والله أعلم(38).
أقـول: على هذا القول يكون الخلفاء الاثنا عشر هم:
1 ـ أبو بكر. 2 ـ عمر. 3 ـ عثمان. 4 ـ الإمام علي (عليه السلام). 5 ـ الإمام الحسن (عليه السلام). 6 ـ معاوية. 7 ـ يزيد بن معاوية. 8 ـ عبد الله بن الزبير. 9 ـ عبد الملك. 10 ـ الوليد. 11 ـ سليمان. 12 ـ عمر بن عبد العزيز.
وقوله: (يجتمع عليه الناس) محمول على الأكثر الأغلب، يردّه أن مجيء التأكيد بـ (كل) في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (كلّهم يجتمع عليه الناس) الدال بالنصّ على العموم يقدح في هذا القول.
هذا مع أن الصفة المذكورة ـ وهي اجتماع الناس ـ فُقدت في غير الحسن (عليه السلام) وابن الزبير كما مر آنفاً.
وقوله: (إن معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم لم تصح ولايتهما) يردّه أن يزيد بن معاوية إن كانت ولايته صحيحة كما قال، فنص يزيد على ابنه من بعده يصحِّح ولايته بلا ريب ولا شبهة وإن لم تطل مدّته. وإن كان التغلّب على أمور المسلمين يصحّح خلافة معاوية، فتغلّب مروان بعد ذلك مصحِّح لخلافته.
ثم إن جعله طول الولاية دليلاً على صحَّتها واعتبارها لا يمكن التسليم به، فإنه لم يقل به أحد، هذا مع أنه اعتبر ولاية الإمام الحسن (عليه السلام) التي دامت ستة أشهر، ولم يعتبر ولاية مروان بن الحكم التي دامت نفس المدة.
ومن الغريب أنه زعم أن عبد الملك بن مروان لم يثبت استحقاقه للخلافة إلا بعد قيامه على الخليفة الحق عنده آنذاك وهو عبد الله بن الزبير وقتله.
والذي يظهر من كلام ابن حجر أنه يرى أن كل أولئك الحكَّام كانوا متأهِّلين للخلافة مستحقّين لها، مع أن يزيد بن معاوية مثلاً لا يختلف المنصفون في عدم أهليته للخلافة وعدم استحقاقه لها، لأنه تولَّى ثلاث سنين: السنة الأولى قتل فيها الحسين (عليه السلام)، والسنة الثانية أباح فيها المدينة، والسنة الثالثة هدم فيها الكعبة... فكيف يكون من الخلفاء الذين يكون الإسلام بهم عزيزاً منيعاً قائماً؟!.
3 ـ قول ابن أبي العز شارح العقيدة الطحاوية:
قال ابن أبي العز الحنفي(39): والاثنا عشر: الخلفاء الراشدون الأربعة، ومعاوية وابنه يزيد، وعبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة، وبينهم عمر بن عبد العزيز ثم أخذ الأمر في الانحلال، وعند الرافضة أن أمر الأمَّة لم يزل في أيام هؤلاء فاسداً منغَّصاً، يتولّى عليه الظالمون المعتدون، بل المنافقون الكافرون، وأهل الحق أذل من اليهود. وقولهم ظاهر البطلان، بل لم يزل الإسلام عزيزاً في ازدياد في أيام هؤلاء الاثني عشر(40).
أقول: الخلفاء الاثنا عشر على هذا القول هم:
1 ـ أبو بكر. 2 ـ عمر. 3 ـ عثمان. 4 ـ الإمام علي (عليه السلام). 5 ـ معاوية. 6 ـ يزيد بن معاوية. 7 ـ عبد الملك. 8 ـ الوليد. 9 ـ سليمان. 10 ـ عمر بن عبد العزيز. 11 ـ يزيد بن عبد الملك. 12 ـ هشام بن عبد الملك.
ويَرِد عليه ما قلناه في خلافة معاوية بن يزيد، وخلافة مروان بن الحكم، فراجعه.
ثم إن كل مَن نظر في تاريخ المسلمين يعلم أن الأمة لا تزال في ذلّ وهوان في زمن أكثر هؤلاء الخلفاء، وأقوال علماء أهل السنة تشهد بذلك وتصرح به، ولو لم يكن في زمانهم إلا قتل الحسين (عليه السلام) لكفى، كيف وقد أعلن بنو أمية سب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على المنابر قرابة ستين سنة، وضُرِبت الكعبة حتى تهدّمت حيطانها، وأبيحت المدينة ثلاثة أيام، فوقع فيها من المخازي ما يندى له جبين التاريخ.
فإنهم كانوا يقتلون كل من وجدوه من الناس، وكانوا يسلبون كل ما وقع تحت أيديهم من الأموال، ووقعوا على النساء حتى قيل: إنه حبلت ألف امرأة من أهل المدينة من غير زوج. وقُتل من وجوه المهاجرين والأنصار سبعمائة، ومن سائر الناس عشرة آلاف، ولما دخل مسلم بن عقبة المدينة دعا الناس للبيعة على أنهم عبيد وخَدَم ليزيد بن معاوية، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء(41).
إلى غير ذلك مما يطول ذِكره.
وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: لو لم يكن من مساوئ عبد الملك إلا الحجَّاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة رضي الله عنهم، يهينهم ويذلّهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يُحصى، فضلاً عن غيرهم، وختم على عنق أنَس وغيره من الصحابة ختماً، يريد بذلك ذلَّهم، فلا رحمه الله ولا عفا عنه(42) .
وقال الذهبي في كتابه العِبَر: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الوليد بالشام، والحجَّاج بالعراق، وقُرَّة (بن شريك) بمصر، وعثمان بن حبان بالحجاز، امتلأت والله الأرض جوراً(43).
فهل كان الإسلام عزيزاً وفي ازدياد!!؟ وهل كان الناس عامة والمؤمنون خاصة في عز وكرامة، أم في ذلَّ ومهانة؟ الأمر معلوم وواضح، ولا ينكر ذلك إلا مكابر أو جاهل أو متعصب.
ويكفي قول سفينة المتقدم فيهم لما سأله سعيد فقال: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم. قال: كذبوا بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك.
4 ـ قول ابن كثير وابن تيمية:
وهو أن المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة، يعملون بالحق وإن لم تتوالَ أيامهم، ويؤيده ما أخرجه مُسدَّد في مسنده الكبير من طريق أبي بحر، أن أبا الجلد حدَّثه أنه لا تهلك هذه الأمة حتى يكون منها اثنا عشر خليفة، كلهم يعمل بالهدى ودين الحق، منهم رجلان من أهل بيت محمد (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، يعيش أحدهما أربعين سنة، والآخر ثلاثين سنة.
وعلى هذا فالمراد بقوله: (ثم يكون الهرج) أي الفتن المؤذنة بقيام الساعة، من خروج الدجال ثم يأجوج ومأجوج إلى أن تنقضي الدنيا(44).
تعليق