على أعتاب ذكرى
المصيبة العظمى
شهادة الصديقة الكبرى
فاطمة الزهرأ
سلاماللّه عليها
ترجمة
بيان فقيه أهل بيت العصمة والطهارة :
سماحة آية اللّه العظمى الشيخ الوحيد الخراساني
مدّ ظلّه العالي
بمناسبة شهادة فاطمة الزهرأ (عليها السلام)
مركز النشر و التوزيع :
قم المقدسة ـ مدرسة باقر العلوم (عليه السلام)
تليفون : 7743256
بسماللّه الرَّحمن الرَّحِيم
الحمدللّه رَبِّ العَالَمِين
و صلَّىاللّه عَلَى سيِّدنا و نبيِّنا محمَّدٍ و آلِهِ
الطَّيبين الطَّاهرين لا سِيَّما بقيةاللّه فى الارضين
و اللعن على أعدائهم إلى يوم الدين
إنَّ الهدف من الخلقة هو معرفة اللّه سبحانه وتعالى
وعبادته . . معرفة لا يمكن أن تتأتى من غير طريق
الوحي ، وتخمد أمام عظمته و كبرائه مشاعل العقول ،
وما تنسجه الافكار وتحكيه الاوهام عن ذاته سبحانه
وصفاته وأفعاله ما هي إلا ظلمات بعضها فوق بعض :
((كُلُّ ما مَيَّزْتُمُوهُ بِأَوْهامِكُمْ في أَدَقِّ مَعانِيهِ مَخْلُوقٌ
مَصْنُوعٌ مِثْلُكُمْ مَرْدُودٌ إلَيْكُمْ))1 ، سبحانه من عظيم
تاهت الفطن في تيّار امواج عظمته ، وحصرت الالباب
عند ذكر أزليته ، وتحيّرت العقول في أفلاك ملكوته .
والمنار لبلوغ (نُورُ السَّمواتِ وَ الاَرض)2 منحصر في
مشكاة قلبٍ أضأه مصباح الوحي : (كِتابٌ أَنزَلْناهُ
إِلَيكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّور)3 ، والعبادة
تليق ذاك السبّوح القدّوس الذي خلق الانسان ـ الذي
لم يكن شيئا مذكوراً ـ من نطفة أمشاج ، و جعله سميعاً
كى يسمع آيات شريعته ، و بصيراً حتى يرى آيات
حكمته ، وخلق من المأ المهين خلقاً يرقى إلى مقام العقل
واليقين ، وعلم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين . .
(فَتَبارَكَ اللّهُ أَحسَنُ الخالِقين)4.
إلا أنَّ عبادة اللّه الذي ليس كمثله شئ مثل معرفته
لا تتيسر إلا بما شرَّعه ((العلي العظيم)) وأبلغه لنا
بواسطة الانبيأ العظام كي يدعى ((ذوالجلال والاكرام))
بأسمأ الجمال والكمال التي هى خزائن جواهر عرفانه
عزّوجلّ (وَلِلّهِ الاَسْمأُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)5
وتلك المعرفة والعبادة التي هي الغرض من خلق
الانسان والخليقة ، وحصيلة بعثة الانبيأ . . بلغت
الغاية ببعثة الخاتم للنبيين الذي هو ((الخاتِم لما سَبَق))
و ((الفاتِح لمَا استُقْبِل)) وبذا بلغ حد الكمال .
وهذه الشجرة الطيبة التي غرسها ربُّ العزَّة بعين
الحكمة ويد القدرة في أرض الفطرة البشريَّة (فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفا فِطْرَةَاللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها)6
أينعت وتكاملت وأتت أُكلها بوجوده (صلى الله عليه و آله و سلم) في ذلك
اليوم الذي قال : (اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الاْ ِسْلامَ دينا)7 فجمع ما
أمكن أن يكون من معالم الهداية فيمدينة العلم
والحكمة الخاتمية ، و بحكمته البالغة ، قد حصر تلك
المدينة بحصن حصين لاينفذ فيه الخطأ والهوى ، كى
لاتدنس العقول الناقصة والقلوب الفاسدة جواهر
العلوم الربانيَّة والحِكَم الالهيَّة ، ولم يترك لتلك المدينة
منفذا سوى الصراط المستقيم للولاية الكبرى ، ولم
يفتح بابا للخلق والخليقة سوى باب الامامة العظمى
الملازمة للعصمة المطلقة من كل خطأ وسهوٍ وهوىً
ونسيان . . ((أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَ عَلِيُّ بابُها))8.
ومن الضروري أن يُعلَم أنَّ الحلقة الرابطة لعرى
الاُمَّة إلى يوم القيامة بتلك الرسالة العظمى والامامة
الكبرى ما هي إلا الانسيَّة الحورأ.. فاطمة الزهرأ
سلام اللّه عليها .
تلك هي الوسيلة الوحيدة لامتداد الوجود الخاتم في
هذا العالم . . إذ إنَّ نسلها سلام اللّه عليها يمثِّل البُعد
المُلكي له (صلى الله عليه و آله و سلم) ، كما وأنَّ البُعد الملكوتي لدينه (صلى الله عليه و آله و سلم) باقٍ
بالائمّة من ولدها صلوات اللّه عليها .
تلك هي الوسيلة لبزوغ الكواكب السماويَّة للامامة ؛
إذ مظهر أُفق وجودها مشرق الحلم الحسني ،
والشجاعة الحسينيَّة ، والعبادة السجاديَّة ، والمآثر
الباقريَّة ، والاثار الجعفريَّة ، والعلوم الكاظميَّة ،
والحُجَج الرضويَّة ، والجود التقويَّة ، والنقاوة النقويَّة ،
والهيبة العسكريَّة ، ومن الحسين ـ الذي هو مصباح
الهدى وسفينة النجاة ـ إلى المهدي الموعود ـ الذي هو
منتهى مواريث الانبيأ ـ و ((بيُمنِهِ رُزِقَ الوَرى)) و
((بِوُجودِهِ ثَبَتَتِ الارضُ وَ السَّمأ)) ثمرة تلك الشجرة
الطيبة التي (أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّمأِ تُؤْتِي أُكُلَها
كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها)9.
والحاصل : أنَّ الجواهر المكنونة في الخزائن الالهيَّة
ما هي إلا من صدف عصمتها ، والسراج المنير لنبوة
الانبيأ ـ من آدم إلى الخاتم ـ والمشعل الوهَّاج لامامة
أئمَّة الهدى مستنير بنور وجودها . .
وآخر هذا المكنون من هذا الصدف ، والكوكب
الدرِّي لهذا الفلك هو الذي ((يَمْلاَ ُ الاَرْضَ قِسْطا وَ
عَدْلا كَما مُلِئَتْ جَوْرا وَ ظُلْما))10 وبوجوده يصدق
تأويل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ
دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)11 وبظهوره يعلم
تفسير قوله عزَّ اسمه : (وَ أَشْرَقَتِ الاْ َرْضُ بِنُورِ رَبِّها)12
وليعلم أنَّ قدر ( ليلة القدر ) التي هي ((مَنزِل كتاب
اللّه الاعظم)) مجهول ، ودرك مقام تلك العطيَّة الكوثريَّة
((عطيَّة ربِّ العرش العظيم)) للرسول الكريم عن
عقولنا محجوبٌ .
وما أقرّ بصدوره العامَّة والخاصة على لسان رسول
الاكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) الذي (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى)13 واعترفت به
نقَّاد الحديث الذين لا يُلوون جهدا في تضعيف
أسانيد الاحاديث الواردة في فضائل أهل بيت
العصمة والطهارة . . قد أعجزهم المس في سند هذا
الحديث . . بل الكل أقرَّ بصحته وتماميَّته على جميع
المباني والشروط عند المشائخ ، وشهدوا على قول
رسولاللّه 9 : ((فَإنَّما هِيَ (فاطِمَةُ) بَضْعَةٌ مِنِّي يُريبُنِي
ما أَرابَها وَ يُؤذِينِي ما آذاها))14 وقوله 9 : ((فاطِمَةُ
بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ أَغْضَبَها أَغْضَبَنِي))15 ، إذ عبَّر عن
فاطمة بأنَّها بضعة من وجوده وإنيَّته . .
ذاك الذي كان (( أوَّل ما خلق ))16 و (( أفصح من
نطق )) ، واسم اللّه الاعظم في الاسمأ الحسنى ، ومثل اللّه
الاعلى في الامثال العليا . . قد عبّر عنها بأنها السبيكة
المسبوكة من وجوده ؛ فعدَّ غضبها غضبه ، الذي غضبه
غضب اللّه . .
وهذا مقام يحكي من تفرُّع فاطمة من مثَل نور اللّه
وانعكاس غضب اللّه ورسوله ورضاهما في غضب
الصديقة الكبرى ورضاها . .
وقد نقل الفريقان أنَّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال لفاطمة (عليها السلام) : ((اِنَّ اللّهَ
يَغْضَبُ لِغَضَبِكِ وَ يَرْضى لِرِضَاكِ )).17
ومقام العصمة الذي هو أعلى مراتب الكمال
الانساني لا يكون إلا بدوران غضب العبد ورضاه مدار
رضا اللّه وغضبه سبحانه . .
وإذا كانت العصمة الكبرى تعني وصول الانسان
الكامل إلى مقام يرضى معه برضا اللّه و يغضب لغضب
اللّه بقول مطلق ، فإن فاطمة الزهرأ (عليها السلام) وصلت إلى
مرتبة يرضى اللّه لرضاها و يغضب لغضبها بقول مطلق ،
وهذا مقام يحار فيه الكمّل !
تلك هي مشرق الانوار لنجوم سمأ الولاية ، ومخزن
الاسرار لتخوم كتاب الهداية . .
تلك هي زوجة وأُمُّ اثني عشر سيِّد من ولد إسماعيل
الذين جأ ذكرهم في الباب السابع عشر من سِفر
التكوين من التوراة ، وخبَّر اللّه بهم إبراهيم الخليل . .
تلك هي العلامة العظمى في السمأ التي ظهرت في
مكاشفات يُوحنَّا . . امرأة قد احتضنت الشمس ،
والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها تاج من اثني عشر
كوكباً .18
تلك في سورة ( حمّ ) تأويل ((الليلة المباركة)) التي
(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)19.
تلك (نِسَأنَا)20 في القرآن المجيد ؛ ذاك الجمع الذي
انحصر بفرد واحد . .
تلك وبعلها..بحر النبوة والعلم الذي بهما أُوِّل قوله
عزَّ من قائل : (مَرَجَ الْبَحْرَينِ يَلْتَقيانِ)21
تلك المرأة الوحيدة التي عدَّ اللّه سبحانه دعأها
عِدل دعأ خاتم النبين وسيد الوصيين في يوم
المباهلة . .
تلك وحيدة الدهر التي توَّجها اللّه بتاج : ( إِنَّما
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزأً وَ لا شُكُورا )22
تلك التي شاهد رسول اللّه يوم المعراج مكتوبا على
باب الجنَّة : ((فاطِمَةُ خِيرَةُ اللّهِ))23 ؛ نعم تليق لاحمد
المختار خيرة اللّه .
تلك التي قال فيها رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) : ((وَ أُبْعَثُ عَلَى
البُراقِ خُطْوُها عِنْدَ أَقْصى طَرْفِها وَ تُبْعَثُ فاطِمَةُ
أَمامِي))24.
تلك كفاها أنَّها تحشر يوم النشور قدَّام ((إِمَام
الاوَّلين و الاخرين)) كي يتجلَّى معنى (يَسْعى نُورُهُمْ
بَيْنَ أَيْديهِمْ)25 . .
ذاك النور الذي يتقدَّم يوم الجزأ صاحبه الذي عبَّر
عنه ربُّ العزَّة في كتابه المجيد بـ : ((السراج المنير)) ،
وجعله مثَل نوره في آية النور .
وكفى في شخصيتها أنَّها أوَّل من ترد على بساط
القرب الذي هو (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)26 ،
((أَوَّلُ شَخْصٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فاطِمَةُعه (عليها السلام)))27 .
وحيث استقرَّت في مستقرِّ رحمته زارتها الانبيأ
كلاًّ : ((زارَكِ آدَمُ وَ مَنْ دُونَهُ مِنَ النَّبِيِّين))28.
تلك الجوهرة الفريدة الوحيدة التي منّ اللّه تعالى
بوجودها ـ الذي صار سببا لامتداد أشعة رسالة
أبيها (صلى الله عليه و آله و سلم) ـ على النّبي الخاتم حيث قال : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ) و منّ
اللّه ببعثة النّبي الخاتم على المؤمنين إذ قال : (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ
عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ).29
إنَّ خزائن علوم الائمة المعصومين سلام اللّه عليهم
أجمعين ـ بعد القرآن المبين ـ قد خزنت في ثلاث
صحف مخزونة مكنونة عندهم ، وهي : الجفر ،
والجامعة ، ومصحف فاطمة (عليها السلام) .
إذ بعد رحيل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) من هذه الدنيا الفانية ،
وابتلا الصديقة الكبرى بالحزن الشديد لفراق أبيها ،
فطبقا للحديث الصحيح المروي عن الامام السادس
جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) : (( . . كان جبرئيل (عليه السلام)
يأتيها فيحسن عزأها على أبيها ويطيِّب نفسها ،
ويخبِّرها عن أبيها ومكانه ، ويخبرها بما يكون بعدها في
ذرِّيَّتها ، وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك . . ))30 .
فهذا مصحف فاطمة (عليها السلام) . . الحاوي علم ما يكون .
والذي يلزم أن يعلم أية قدرة في تلك النفس
القدسيَّة . . وأية جذبة في بضعة الحقيقة المحمديَّة التي
جذبت بحقيقتها شديد القوى من الاُفق الاعلي ،
وقهرت بقدرتها روح الامين من سدرة المنتهى . .
نعم ؛ السلام ، والسلامة من أكدار العالم المادي في
ليلة القدر التي هي مطلع الفجر لشموس سمأ الولاية
أوجبت أن تتنزل الملائكة والروح .
وفي الحديث الصحيح عن موسى بن القاسم أنَّه
قال : قلت لابي جعفر الثاني (عليه السلام) : قد أردت أن أطوف
عنك وعن أبيك . فقيل لي : إنَّ الاوصيأ لا يُطاف
عنهم ! فقال : (( بلى ، طف ما أمكنك ، فإنّ ذلك
جائز )) ، ثم قلت له ـ بعد ذلك ـ بثلاث سنين : إني كنت
استأذنتك في الطواف عنك وعن أبيك ، فأذنت لي في
ذلك ، فطفت عنكما ما شأ اللّه . ثم وقع في قلبي شي
فعملت به ، قال : (( وما هو ؟ )) قلت : طفت يوما عن
رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ، فقال ثلاث مرات : (( صلى اللّه على
رسول اللّه )) ، ثمَّ اليوم الثاني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ثم
طفت اليوم الثالث عن الحسن (عليه السلام) ، والرابع عن
الحسين (عليه السلام) والخامس عن علي بن الحسين (عليه السلام) ،
واليوم السادس عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) ،
واليوم السابع عن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، واليوم الثامن
عن أبيك موسى (عليه السلام) ، واليوم التاسع عن أبيك
علي (عليه السلام) ، واليوم العاشر عنك يا سيدي ! وهؤلا
الذين أدين اللّه بولايتهم . فقال : (( إذا واللّه تدين اللّه
بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره )) . فقلت : وربَّما
طفت عن أُمِّك فاطمة (عليها السلام) ، وربَّما لم أطف .
فقال : (( استكثر من هذا فإنَّه أفضل ما أنت
عامله ، إن شأ اللّه ))31 .
والتي إذا أُضيف لها طواف بيت اللّه الحرام صار ذلك
الطواف أفضل الاعمال ، كيف يمكن تحريرها فضائلها
أو تقدير قدرها .
إنَّ أضوأ الكمال وأنوار الجلال الساطعة من تلك
الشمس البازغة في سمأ العصمة..ممَّا لا تَسعُه العقول
الجزئيَّة . . وما كان قصدنا هنا إلا الاشارة والتذكرة
لاولي الالباب .
***
فما الذي حدث بعد رحيل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) إلى الملا
الاعلى . . إنَّ مثل هذا الوجود الذي ملؤوا قلبه بالحزن
والالم ارتضى أن يخلع قلبه من ولده كالحسن
والحسين ، وأن يغض طرفه عن بنات صغارٍ ، وأن
تنوح عند قبر أبيها قائلة :
((يا إِلهِي! عَجِّل وَفاتِي سَرِيعا))32 ، وأن تقول :
((صُبَّتْ عَلَىَّ مَصائِبُ لَوْ أَنَّهاصُبَّتْ عَلَى الاْ َيَّامِ صِرْنَ لَيالِيا))33
ولذا عندما أُودعت التراب لم يبقَ من بدنها النحيف
إلا شبح ((وَ صارَتْ كَالخَيَالِ)) !34
فكان أن صار ذلك الرجل الذي بقدرته وإرادته
أخضع الدنيا والاخرة . . قد هدَّه مصاب فاطمة وانهار
حتى أنَّه خاطب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بقوله : ((أَمَّا حُزْنِي
فَسَرْمَدٌ ، وَ أَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ))35.
***
فما يلزمنا ـ يا ترى ـ أمام هذه الداهية الدهيأ
والمصيبة العظمى . . ؟ !
حيث كان رسول الاكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) الذي هو مَنْ به
وجودنا وكمالاته المفاضة ممّن منه الوجود ، وهو
الواسطة في تربيتنا التكوينيَّة والتشريعيَّة . . فله (صلى الله عليه و آله و سلم)
على كل مسلم قد اهتدى في مبدأه ومعاده ، وبـ :
((مَنْ أَرْسَلَاللّهُ)) و ((ما اَنْزَلَ اللّهُ)) حقُّ الحياة الابديَّة ،
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا
دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )36 وبمقتضى إدراك العقل بوجوب
شكر المنعم ، وحكم الشرع بلزوم مودَّة ذي القربى (قُلْ
لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلا المَوَدَّةَ فِي القُربى)37 ؛ وأنّ
فاطمة (عليها السلام) أقرب خلق اللّه وأحبّهم لرسول اللّه . .
فيلزمنا القيام بتقديم مقدورنا في تعظيم ـ هذه
الشعيرة ـ يوم شهادتها التي فيها دفن الناموس الالهي
وبضعة أشرف الانبيأ وكفؤ سيِّد الاوصيأ وأُمُّ الائمة
النجبأ . . وَارَوْهَا نصف الليل غريبةً ! وكان أن عُفِّي
قبرها ـ الذي هو مخزن الاسرار الالهيَّة ـ وأُخفي ،
فكانت شهادتها سند إحقاق حق أول مظلومي العالم . .
ولم أرَ مثله حقا أضيعا 38.
إنَّ تخليد يوم شهادة تلك البضعة الطاهرة بالشعائر
الفاطميَّة ؛ إنَّما هو إحيأ لامر أمير المؤمنين (عليه السلام) وإحيأ
أمره (عليه السلام) ـ الذي هو نفس رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ـ إحيأ أمر
خاتم الانبيأ ، وإحيأ أمر سيِّد الانبيأ إحيأ أمر تمام
الانبيأ والمرسلين . . وإحيأ أمر أنبيأ اللّه إحيأ لامر
العبادة والمعرفة لربِّ العالمين .
***
فالمأمول ممَّن يأمل أن يحضى بشفاعة أبيها يوم القيامة ،
ويتمنى لقأ بعلها عند خروج الروح ، وأن يأمن من
وحشة القبر ووحدة ليلة الدفن بدعأ الصديقة
الكبرى . . أن يجدَّ في إقامة مراسم العزأ ـ إلى حد
الامكان ـ بما يتناسب مع عظمتها سلام اللّه عليها ،
وأن تُرفَع أعلامُ العزأ من المواكب الدينيَّة في
مصيبة ( أُمِّ الائمة النقبأ ) معزيَّةً لسبطها الاكبر
وسيِّد الشهدأ (عليهما السلام) . . عسى أن يكون ذلك سلوى
وعزأ من هذه الاُمَّة لابيها وبعلها اللذان هما أول
وثاني مَن في عالم الامكان . . وأن يكون ذلك بلسما
لجراح قلوب وُلْدها المعصومين ، أئمة الانس والجنِّ
سلام اللّه عليهم أجمعين . . ونوع تقديم إخلاصٍ لمن هو
الان بيمنه رزق الورى ، وبوجوده ثبتت الارض
والسمأ ، وولي العصر وصاحب الزمان [ أرواحنا
لتراب مقدمه الفدأ ] .
***
وعليه فمن المفروض اللازم على عامَّة المؤمنين
الالتفات إلى هذه النكتة ـ التي لاتقال تعصبا وتعنتا ـ
بل بمقتضى الدليل والبرهان : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَاللّهِ
الاِسْلامُ)39 . . وإنَّ هذا الاسلام بأُصوله وفروعه قائمٌ
بالائمة المعصومين : : ((بِنا عُرِفَاللّهُ بِنا عُبِدَاللّهُ نَحْنُ
الاَدِلاُ عَلَى اللّهِ وَ لَوْلانا ما عُبِدَ اللّهُ)) ،40 وقد قال
رسولاللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) (( إنى تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه
واهلبيتي و انهما لن يفترقا حتى يردا علىّ الحوض ))41
وثمّة أيدي مرموزة تعمل لتضعيف الروابط المستحكمة
بين هذه الاُمَّة وأئمة الهدى ـ الذين هم مصابيح الهداية
وسفن نجاة الاُمَّة ـ وتبديل الهداية إلى هذا الصراط
المستقيم ـ الذي هو ثمرة حياة الائمة المعصومين ونتيجة
الجهاد العلمي والعملي للعلمأ الربَّانِيِّين والفقهأ
الراشدين ـ بالضلال المبين الذي هو الانحراف عن
ولاية أوليأ ربِّ العالمين والبرائة من أعدأ اللّه
المُضلِّين . .
وعليه فإنَّ اللازم العقلي والشرعي يفرض علينا
بتعظيم شعائر الدين ـ الذي مصداقها الاتم والاكمل ـ
إظهار الولا لمقام الصديقة الكبرى وإبراز الاعتصام
بحبل اللّه الذي هو القرآن والعترة وحفظ الشريعة الحقَّة
التي هي سبيل اللّه الاعظم . . وصونها عن قطَّاع الطريق
المستقيم .
طوبى لاولئك الذين يُوفَّقون لخدمة المقام المنيع
لشفيعة يوم الجزأ ، ويحضون برضاها الذي هو رضا
الرب . . إذ إنَّ رضا اللّه سبحانه هو منتهى آمال الانبيأ
والاوليأ (ذلِكَ فَضْلُاللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشأُ)42 ، وبإقامة
الشعائر يوم شهادتها تُحرَس وتُصَان هذه الطريقة الحقَّة
من كيد المخالفين والمنافقين .
***
ولنختم الكلام متبرِّكين بذكر وصيَّتِها :
((بِسْمِاللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذا ما أَوْصَتْ بِهِ فاطِمَةُ
بِنْتُ رَسُولِاللّهِ أَوْصَتْ وَ هِيَ تَشْهَدُ أَن لا إِلهَ إِلاّ اللّهُ
وَ أَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقُّ وَ النَّارَ
حَقُّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللّهَ يَبْعَثُ
مَنْ فِي القُبورِ. يا عَلِىُّ! أَنَا فاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، زَوَّجَنِيَ
اللّهُ مِنْكَ لاِ َكُونَ لَكَ فِي الدُّنْيا وَ الاخِرَةِ، أَنْتَ أَوْلى بِي
مِنْ غَيْرِي . . وَأَسْتَوْدِعُكَ اللّهَ وَ اقْرَْ عَلى وُلدِيَ
السَّلامَ إِلى يَوْمِالقِيامَةِ))43.
هذه الوصية ؛ أنشأت في حال شهود المبدأ والمعاد ،
والجنَّة والنار ، والرسالة والرسول . . ولم تقم مثل هذه
الشهادة من شهيد ولن تقوم من يوم نزول قوله تعالى :
(شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ وَ المَلائِكةُ وَ اُولُوا العِلْمِ قائِما
بِالقِسْطِ لا إِلهَ إِلا هُوَ العَـزِيزُ الحَكِيـمُ)44 إلى اليوم
المشهود .
شهادة أُدِّيت في محضر شاهدي صدق ، الاول منهما
ربِّ العزَّة والشاهد الثاني منهما وليُّ اللّه الاعظم : (قُلْ
كَفى بِاللّهِ شَهِيدا بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ
الكِتابِ)45.
إنَّ معرفة هذه الشهادة وشاهدها ومشهودها
تختص بأُولى العلم الواقفين على مراتب التوحيد ومقام
الخاتميَّة وحقيقة الجنَّة والنار ، وأسرار بعث مَن في
القبور ، وأحوال يوم النشور .
والغرض الاشارة إلى آخر ما جأ في الوصيَّة ، إذ
قالت : ((وَ اقْرَْ عَلى وُلْدِيَ السَّلامَ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ)) ،
الذي يظهر منها ـ لارتباطها بعالم الغيب وإحاطتها بعالم
الشهود ـ علمها بعدم انقراض سلسلة أولادها إلى يوم
القيامة ، لذا طلبت من أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يبلغ ولدها
السلام إلى يوم القيامة .
وليعلم الفاطميُّون والفاطميَّات أي تاج فخر كلَّلتهم
به . . وأي مسؤوليَّة كبرى حمَّلتهم . .
أين تاج سلاطين الدنيا . . ؟ وأين فخر سلام
ناموس اللّه على ذريَّة الزهرأ ؟
سلام الصديقة الكبرى النابع من قلب القرآن
وسورة يس ، وهو سلامٌ متصل بـ : (سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ
رَحِيمٍ)46 الذي هو قلب سورة يس .
إنَّ المسؤوليَّة العظمى المتأتاة في رد هذا السلام
الواصل من تلك الناحية المقدسة التي خصَّها اللّه
الّذي (لا إِلهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ)47 بصلاته
وسلامه .
إنَّ جواب هذا السلام هو ما يلزم وُلدها إلى يوم
القيامة من الدفاع عن حقِّ أُمِّهم بتمام وجودهم ، ويلزم
جواب هذا السلام من كلِّ سيِّدٍ من ولدها بما يتناسب
ومقامهم .
ولا ينبغي لسيد من ولدها قد وصل إلى مقام أو
منصب ثمّ يقصر عن أدأ حقِّها ، أو إحقاق
حقوقها . . ؟ !
تلك التي كانت تقول ـ دفاعا عن إمامة الائمة
المعصومين ـ : (( وطاعَتَنا نِظاما لِلمِلَّةِ ، وَإمامَتَنا أَمانا
مِنَ الفُرْقَةِ))48 . . وذاك في مقام إحقاق حقها ، وإحيأ
أمر إمامة أئمة الهدى . . مع ما كانت عليه من عظم
المصاب الذي هدّ قوتها ، وأنحل جسدها ، حتى
خاطبت أبيها بقولها : ((رُفِعَتْ قُوَّتِي))49 . . وكانت تنشد
عند قبر أبيها بقلب حزين في فراق ذلك الاب الرحيم :
((ماذا عَلى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدأَنْ لا يَشَمَّ مَدَى الزَّمانِ غَوالِيا))50
والحذر من عدم رعاية شيعتها المحرومين والغفلة
عنهم . . إذ قلبها تعلَّق بقلوبهم التي تحزن لحزنها وتفرح
لفرحها . .
فكان جواب هذا السَّلام من السادة البالغين مرتبة
علميَّة هو التكفل لايتام آل محمد : بالحكمة
والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ، ولا
يَدَعُون هذه القلوب في غيبة صاحبها أن تقع في حبال
شبهات المخالفين وأن يصادوا من قبل شياطين الجنِّ
والانس .
وجواب هذا السلام من قبل السادة الاغنيأ هو
البذل من مالهم في سبيل تحكيم مباني المذهب الذي من
أجله ضحَّت واستُشهِدَت ، ولا يبخلوا من الانفاق في
سبيل إحيأ شعائر يوم شهادتها . .
وعلى عموم السَّادة التأمل في هذه الكلمات
المؤلمة التي جأت في وصيَّة الصديقة الشهيدة
لاميرالمؤمنين (عليه السلام) : (( حَنِّطْنِي وَ غَسِّلْنِي وَ كَفِّنِّي بِاللَّيْلِ
وَ صَلِّ عَلَىَّ وَ ادْفِنِّى بِاللَيْلِ وَ لا تُعْلِمْ أَحَدا . . )) .
إنَّ أقل ما يجاب عن هذا الندأ ويجبر ـ وأنَّى له أن
يجبر ـ أن يُقَام مواساةً لغربة تلك الجنازة المحاطة
بأيتامها الذين لم يفارقوا صدرها . . أن يحملوا ليلة
دفنها في كل بلدةٍ وقريةٍ أعلام المصاب ، ويرتدوا ثياب
العزأ ، ويدوروا في الازقَّة والطرق قائلين لجدتهم : لن
ننساكِ أبدا ولا الظلم الذي جرى عليكِ . . وإن ننسَ
فلا ننسَ ذلك القلب المفعم بالحزن ، والبدن المألوم ،
والقبر المجهول . .
((حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ وَ ُهوَ خَيْرُ الحاكِمِينَ))51.
***
اَللّهُمَّ بِحَقِّ فاطِمَةَ وَ أَبِيها وَ بَعْلِها وَ بَنِيها وَ السِّرِّ
المُسْتَودَعِ فِيها صَلِّ عَلى فاطِمَةَ وَ أَبِيها وَ بَعْلِها
وَ بَنِيها عَدَدَ ما فِي عِلْمِكَ صَلاةً دائِمَةً بِدوامِ مُلكِكَ وَ
سُلْطانِكَ وَ عَجِّلْ فِي فَرَجِ وَلِيِّكَ وَ أَصْلِحْ كُلَّ فاسِدٍ مِنْ
أُمورِ المُسْلِمينَ وَ اغْفِرْ لَنا وَ لاِ ِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا
بِالاِيمانِ وَ آخِرُ دَعْوانا أَنِ الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِين.
أحقر عباداللّه وأفقر إلى رحمة اللّه
حسين الوحيد الخراساني
المصيبة العظمى
شهادة الصديقة الكبرى
فاطمة الزهرأ
سلاماللّه عليها
ترجمة
بيان فقيه أهل بيت العصمة والطهارة :
سماحة آية اللّه العظمى الشيخ الوحيد الخراساني
مدّ ظلّه العالي
بمناسبة شهادة فاطمة الزهرأ (عليها السلام)
مركز النشر و التوزيع :
قم المقدسة ـ مدرسة باقر العلوم (عليه السلام)
تليفون : 7743256
بسماللّه الرَّحمن الرَّحِيم
الحمدللّه رَبِّ العَالَمِين
و صلَّىاللّه عَلَى سيِّدنا و نبيِّنا محمَّدٍ و آلِهِ
الطَّيبين الطَّاهرين لا سِيَّما بقيةاللّه فى الارضين
و اللعن على أعدائهم إلى يوم الدين
إنَّ الهدف من الخلقة هو معرفة اللّه سبحانه وتعالى
وعبادته . . معرفة لا يمكن أن تتأتى من غير طريق
الوحي ، وتخمد أمام عظمته و كبرائه مشاعل العقول ،
وما تنسجه الافكار وتحكيه الاوهام عن ذاته سبحانه
وصفاته وأفعاله ما هي إلا ظلمات بعضها فوق بعض :
((كُلُّ ما مَيَّزْتُمُوهُ بِأَوْهامِكُمْ في أَدَقِّ مَعانِيهِ مَخْلُوقٌ
مَصْنُوعٌ مِثْلُكُمْ مَرْدُودٌ إلَيْكُمْ))1 ، سبحانه من عظيم
تاهت الفطن في تيّار امواج عظمته ، وحصرت الالباب
عند ذكر أزليته ، وتحيّرت العقول في أفلاك ملكوته .
والمنار لبلوغ (نُورُ السَّمواتِ وَ الاَرض)2 منحصر في
مشكاة قلبٍ أضأه مصباح الوحي : (كِتابٌ أَنزَلْناهُ
إِلَيكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّور)3 ، والعبادة
تليق ذاك السبّوح القدّوس الذي خلق الانسان ـ الذي
لم يكن شيئا مذكوراً ـ من نطفة أمشاج ، و جعله سميعاً
كى يسمع آيات شريعته ، و بصيراً حتى يرى آيات
حكمته ، وخلق من المأ المهين خلقاً يرقى إلى مقام العقل
واليقين ، وعلم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين . .
(فَتَبارَكَ اللّهُ أَحسَنُ الخالِقين)4.
إلا أنَّ عبادة اللّه الذي ليس كمثله شئ مثل معرفته
لا تتيسر إلا بما شرَّعه ((العلي العظيم)) وأبلغه لنا
بواسطة الانبيأ العظام كي يدعى ((ذوالجلال والاكرام))
بأسمأ الجمال والكمال التي هى خزائن جواهر عرفانه
عزّوجلّ (وَلِلّهِ الاَسْمأُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)5
وتلك المعرفة والعبادة التي هي الغرض من خلق
الانسان والخليقة ، وحصيلة بعثة الانبيأ . . بلغت
الغاية ببعثة الخاتم للنبيين الذي هو ((الخاتِم لما سَبَق))
و ((الفاتِح لمَا استُقْبِل)) وبذا بلغ حد الكمال .
وهذه الشجرة الطيبة التي غرسها ربُّ العزَّة بعين
الحكمة ويد القدرة في أرض الفطرة البشريَّة (فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفا فِطْرَةَاللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها)6
أينعت وتكاملت وأتت أُكلها بوجوده (صلى الله عليه و آله و سلم) في ذلك
اليوم الذي قال : (اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الاْ ِسْلامَ دينا)7 فجمع ما
أمكن أن يكون من معالم الهداية فيمدينة العلم
والحكمة الخاتمية ، و بحكمته البالغة ، قد حصر تلك
المدينة بحصن حصين لاينفذ فيه الخطأ والهوى ، كى
لاتدنس العقول الناقصة والقلوب الفاسدة جواهر
العلوم الربانيَّة والحِكَم الالهيَّة ، ولم يترك لتلك المدينة
منفذا سوى الصراط المستقيم للولاية الكبرى ، ولم
يفتح بابا للخلق والخليقة سوى باب الامامة العظمى
الملازمة للعصمة المطلقة من كل خطأ وسهوٍ وهوىً
ونسيان . . ((أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَ عَلِيُّ بابُها))8.
ومن الضروري أن يُعلَم أنَّ الحلقة الرابطة لعرى
الاُمَّة إلى يوم القيامة بتلك الرسالة العظمى والامامة
الكبرى ما هي إلا الانسيَّة الحورأ.. فاطمة الزهرأ
سلام اللّه عليها .
تلك هي الوسيلة الوحيدة لامتداد الوجود الخاتم في
هذا العالم . . إذ إنَّ نسلها سلام اللّه عليها يمثِّل البُعد
المُلكي له (صلى الله عليه و آله و سلم) ، كما وأنَّ البُعد الملكوتي لدينه (صلى الله عليه و آله و سلم) باقٍ
بالائمّة من ولدها صلوات اللّه عليها .
تلك هي الوسيلة لبزوغ الكواكب السماويَّة للامامة ؛
إذ مظهر أُفق وجودها مشرق الحلم الحسني ،
والشجاعة الحسينيَّة ، والعبادة السجاديَّة ، والمآثر
الباقريَّة ، والاثار الجعفريَّة ، والعلوم الكاظميَّة ،
والحُجَج الرضويَّة ، والجود التقويَّة ، والنقاوة النقويَّة ،
والهيبة العسكريَّة ، ومن الحسين ـ الذي هو مصباح
الهدى وسفينة النجاة ـ إلى المهدي الموعود ـ الذي هو
منتهى مواريث الانبيأ ـ و ((بيُمنِهِ رُزِقَ الوَرى)) و
((بِوُجودِهِ ثَبَتَتِ الارضُ وَ السَّمأ)) ثمرة تلك الشجرة
الطيبة التي (أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّمأِ تُؤْتِي أُكُلَها
كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها)9.
والحاصل : أنَّ الجواهر المكنونة في الخزائن الالهيَّة
ما هي إلا من صدف عصمتها ، والسراج المنير لنبوة
الانبيأ ـ من آدم إلى الخاتم ـ والمشعل الوهَّاج لامامة
أئمَّة الهدى مستنير بنور وجودها . .
وآخر هذا المكنون من هذا الصدف ، والكوكب
الدرِّي لهذا الفلك هو الذي ((يَمْلاَ ُ الاَرْضَ قِسْطا وَ
عَدْلا كَما مُلِئَتْ جَوْرا وَ ظُلْما))10 وبوجوده يصدق
تأويل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ
دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)11 وبظهوره يعلم
تفسير قوله عزَّ اسمه : (وَ أَشْرَقَتِ الاْ َرْضُ بِنُورِ رَبِّها)12
وليعلم أنَّ قدر ( ليلة القدر ) التي هي ((مَنزِل كتاب
اللّه الاعظم)) مجهول ، ودرك مقام تلك العطيَّة الكوثريَّة
((عطيَّة ربِّ العرش العظيم)) للرسول الكريم عن
عقولنا محجوبٌ .
وما أقرّ بصدوره العامَّة والخاصة على لسان رسول
الاكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) الذي (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى)13 واعترفت به
نقَّاد الحديث الذين لا يُلوون جهدا في تضعيف
أسانيد الاحاديث الواردة في فضائل أهل بيت
العصمة والطهارة . . قد أعجزهم المس في سند هذا
الحديث . . بل الكل أقرَّ بصحته وتماميَّته على جميع
المباني والشروط عند المشائخ ، وشهدوا على قول
رسولاللّه 9 : ((فَإنَّما هِيَ (فاطِمَةُ) بَضْعَةٌ مِنِّي يُريبُنِي
ما أَرابَها وَ يُؤذِينِي ما آذاها))14 وقوله 9 : ((فاطِمَةُ
بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ أَغْضَبَها أَغْضَبَنِي))15 ، إذ عبَّر عن
فاطمة بأنَّها بضعة من وجوده وإنيَّته . .
ذاك الذي كان (( أوَّل ما خلق ))16 و (( أفصح من
نطق )) ، واسم اللّه الاعظم في الاسمأ الحسنى ، ومثل اللّه
الاعلى في الامثال العليا . . قد عبّر عنها بأنها السبيكة
المسبوكة من وجوده ؛ فعدَّ غضبها غضبه ، الذي غضبه
غضب اللّه . .
وهذا مقام يحكي من تفرُّع فاطمة من مثَل نور اللّه
وانعكاس غضب اللّه ورسوله ورضاهما في غضب
الصديقة الكبرى ورضاها . .
وقد نقل الفريقان أنَّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال لفاطمة (عليها السلام) : ((اِنَّ اللّهَ
يَغْضَبُ لِغَضَبِكِ وَ يَرْضى لِرِضَاكِ )).17
ومقام العصمة الذي هو أعلى مراتب الكمال
الانساني لا يكون إلا بدوران غضب العبد ورضاه مدار
رضا اللّه وغضبه سبحانه . .
وإذا كانت العصمة الكبرى تعني وصول الانسان
الكامل إلى مقام يرضى معه برضا اللّه و يغضب لغضب
اللّه بقول مطلق ، فإن فاطمة الزهرأ (عليها السلام) وصلت إلى
مرتبة يرضى اللّه لرضاها و يغضب لغضبها بقول مطلق ،
وهذا مقام يحار فيه الكمّل !
تلك هي مشرق الانوار لنجوم سمأ الولاية ، ومخزن
الاسرار لتخوم كتاب الهداية . .
تلك هي زوجة وأُمُّ اثني عشر سيِّد من ولد إسماعيل
الذين جأ ذكرهم في الباب السابع عشر من سِفر
التكوين من التوراة ، وخبَّر اللّه بهم إبراهيم الخليل . .
تلك هي العلامة العظمى في السمأ التي ظهرت في
مكاشفات يُوحنَّا . . امرأة قد احتضنت الشمس ،
والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها تاج من اثني عشر
كوكباً .18
تلك في سورة ( حمّ ) تأويل ((الليلة المباركة)) التي
(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)19.
تلك (نِسَأنَا)20 في القرآن المجيد ؛ ذاك الجمع الذي
انحصر بفرد واحد . .
تلك وبعلها..بحر النبوة والعلم الذي بهما أُوِّل قوله
عزَّ من قائل : (مَرَجَ الْبَحْرَينِ يَلْتَقيانِ)21
تلك المرأة الوحيدة التي عدَّ اللّه سبحانه دعأها
عِدل دعأ خاتم النبين وسيد الوصيين في يوم
المباهلة . .
تلك وحيدة الدهر التي توَّجها اللّه بتاج : ( إِنَّما
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزأً وَ لا شُكُورا )22
تلك التي شاهد رسول اللّه يوم المعراج مكتوبا على
باب الجنَّة : ((فاطِمَةُ خِيرَةُ اللّهِ))23 ؛ نعم تليق لاحمد
المختار خيرة اللّه .
تلك التي قال فيها رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) : ((وَ أُبْعَثُ عَلَى
البُراقِ خُطْوُها عِنْدَ أَقْصى طَرْفِها وَ تُبْعَثُ فاطِمَةُ
أَمامِي))24.
تلك كفاها أنَّها تحشر يوم النشور قدَّام ((إِمَام
الاوَّلين و الاخرين)) كي يتجلَّى معنى (يَسْعى نُورُهُمْ
بَيْنَ أَيْديهِمْ)25 . .
ذاك النور الذي يتقدَّم يوم الجزأ صاحبه الذي عبَّر
عنه ربُّ العزَّة في كتابه المجيد بـ : ((السراج المنير)) ،
وجعله مثَل نوره في آية النور .
وكفى في شخصيتها أنَّها أوَّل من ترد على بساط
القرب الذي هو (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)26 ،
((أَوَّلُ شَخْصٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فاطِمَةُعه (عليها السلام)))27 .
وحيث استقرَّت في مستقرِّ رحمته زارتها الانبيأ
كلاًّ : ((زارَكِ آدَمُ وَ مَنْ دُونَهُ مِنَ النَّبِيِّين))28.
تلك الجوهرة الفريدة الوحيدة التي منّ اللّه تعالى
بوجودها ـ الذي صار سببا لامتداد أشعة رسالة
أبيها (صلى الله عليه و آله و سلم) ـ على النّبي الخاتم حيث قال : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ) و منّ
اللّه ببعثة النّبي الخاتم على المؤمنين إذ قال : (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ
عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ).29
إنَّ خزائن علوم الائمة المعصومين سلام اللّه عليهم
أجمعين ـ بعد القرآن المبين ـ قد خزنت في ثلاث
صحف مخزونة مكنونة عندهم ، وهي : الجفر ،
والجامعة ، ومصحف فاطمة (عليها السلام) .
إذ بعد رحيل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) من هذه الدنيا الفانية ،
وابتلا الصديقة الكبرى بالحزن الشديد لفراق أبيها ،
فطبقا للحديث الصحيح المروي عن الامام السادس
جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) : (( . . كان جبرئيل (عليه السلام)
يأتيها فيحسن عزأها على أبيها ويطيِّب نفسها ،
ويخبِّرها عن أبيها ومكانه ، ويخبرها بما يكون بعدها في
ذرِّيَّتها ، وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك . . ))30 .
فهذا مصحف فاطمة (عليها السلام) . . الحاوي علم ما يكون .
والذي يلزم أن يعلم أية قدرة في تلك النفس
القدسيَّة . . وأية جذبة في بضعة الحقيقة المحمديَّة التي
جذبت بحقيقتها شديد القوى من الاُفق الاعلي ،
وقهرت بقدرتها روح الامين من سدرة المنتهى . .
نعم ؛ السلام ، والسلامة من أكدار العالم المادي في
ليلة القدر التي هي مطلع الفجر لشموس سمأ الولاية
أوجبت أن تتنزل الملائكة والروح .
وفي الحديث الصحيح عن موسى بن القاسم أنَّه
قال : قلت لابي جعفر الثاني (عليه السلام) : قد أردت أن أطوف
عنك وعن أبيك . فقيل لي : إنَّ الاوصيأ لا يُطاف
عنهم ! فقال : (( بلى ، طف ما أمكنك ، فإنّ ذلك
جائز )) ، ثم قلت له ـ بعد ذلك ـ بثلاث سنين : إني كنت
استأذنتك في الطواف عنك وعن أبيك ، فأذنت لي في
ذلك ، فطفت عنكما ما شأ اللّه . ثم وقع في قلبي شي
فعملت به ، قال : (( وما هو ؟ )) قلت : طفت يوما عن
رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ، فقال ثلاث مرات : (( صلى اللّه على
رسول اللّه )) ، ثمَّ اليوم الثاني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ثم
طفت اليوم الثالث عن الحسن (عليه السلام) ، والرابع عن
الحسين (عليه السلام) والخامس عن علي بن الحسين (عليه السلام) ،
واليوم السادس عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) ،
واليوم السابع عن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، واليوم الثامن
عن أبيك موسى (عليه السلام) ، واليوم التاسع عن أبيك
علي (عليه السلام) ، واليوم العاشر عنك يا سيدي ! وهؤلا
الذين أدين اللّه بولايتهم . فقال : (( إذا واللّه تدين اللّه
بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره )) . فقلت : وربَّما
طفت عن أُمِّك فاطمة (عليها السلام) ، وربَّما لم أطف .
فقال : (( استكثر من هذا فإنَّه أفضل ما أنت
عامله ، إن شأ اللّه ))31 .
والتي إذا أُضيف لها طواف بيت اللّه الحرام صار ذلك
الطواف أفضل الاعمال ، كيف يمكن تحريرها فضائلها
أو تقدير قدرها .
إنَّ أضوأ الكمال وأنوار الجلال الساطعة من تلك
الشمس البازغة في سمأ العصمة..ممَّا لا تَسعُه العقول
الجزئيَّة . . وما كان قصدنا هنا إلا الاشارة والتذكرة
لاولي الالباب .
***
فما الذي حدث بعد رحيل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) إلى الملا
الاعلى . . إنَّ مثل هذا الوجود الذي ملؤوا قلبه بالحزن
والالم ارتضى أن يخلع قلبه من ولده كالحسن
والحسين ، وأن يغض طرفه عن بنات صغارٍ ، وأن
تنوح عند قبر أبيها قائلة :
((يا إِلهِي! عَجِّل وَفاتِي سَرِيعا))32 ، وأن تقول :
((صُبَّتْ عَلَىَّ مَصائِبُ لَوْ أَنَّهاصُبَّتْ عَلَى الاْ َيَّامِ صِرْنَ لَيالِيا))33
ولذا عندما أُودعت التراب لم يبقَ من بدنها النحيف
إلا شبح ((وَ صارَتْ كَالخَيَالِ)) !34
فكان أن صار ذلك الرجل الذي بقدرته وإرادته
أخضع الدنيا والاخرة . . قد هدَّه مصاب فاطمة وانهار
حتى أنَّه خاطب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بقوله : ((أَمَّا حُزْنِي
فَسَرْمَدٌ ، وَ أَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ))35.
***
فما يلزمنا ـ يا ترى ـ أمام هذه الداهية الدهيأ
والمصيبة العظمى . . ؟ !
حيث كان رسول الاكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) الذي هو مَنْ به
وجودنا وكمالاته المفاضة ممّن منه الوجود ، وهو
الواسطة في تربيتنا التكوينيَّة والتشريعيَّة . . فله (صلى الله عليه و آله و سلم)
على كل مسلم قد اهتدى في مبدأه ومعاده ، وبـ :
((مَنْ أَرْسَلَاللّهُ)) و ((ما اَنْزَلَ اللّهُ)) حقُّ الحياة الابديَّة ،
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا
دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )36 وبمقتضى إدراك العقل بوجوب
شكر المنعم ، وحكم الشرع بلزوم مودَّة ذي القربى (قُلْ
لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلا المَوَدَّةَ فِي القُربى)37 ؛ وأنّ
فاطمة (عليها السلام) أقرب خلق اللّه وأحبّهم لرسول اللّه . .
فيلزمنا القيام بتقديم مقدورنا في تعظيم ـ هذه
الشعيرة ـ يوم شهادتها التي فيها دفن الناموس الالهي
وبضعة أشرف الانبيأ وكفؤ سيِّد الاوصيأ وأُمُّ الائمة
النجبأ . . وَارَوْهَا نصف الليل غريبةً ! وكان أن عُفِّي
قبرها ـ الذي هو مخزن الاسرار الالهيَّة ـ وأُخفي ،
فكانت شهادتها سند إحقاق حق أول مظلومي العالم . .
ولم أرَ مثله حقا أضيعا 38.
إنَّ تخليد يوم شهادة تلك البضعة الطاهرة بالشعائر
الفاطميَّة ؛ إنَّما هو إحيأ لامر أمير المؤمنين (عليه السلام) وإحيأ
أمره (عليه السلام) ـ الذي هو نفس رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ـ إحيأ أمر
خاتم الانبيأ ، وإحيأ أمر سيِّد الانبيأ إحيأ أمر تمام
الانبيأ والمرسلين . . وإحيأ أمر أنبيأ اللّه إحيأ لامر
العبادة والمعرفة لربِّ العالمين .
***
فالمأمول ممَّن يأمل أن يحضى بشفاعة أبيها يوم القيامة ،
ويتمنى لقأ بعلها عند خروج الروح ، وأن يأمن من
وحشة القبر ووحدة ليلة الدفن بدعأ الصديقة
الكبرى . . أن يجدَّ في إقامة مراسم العزأ ـ إلى حد
الامكان ـ بما يتناسب مع عظمتها سلام اللّه عليها ،
وأن تُرفَع أعلامُ العزأ من المواكب الدينيَّة في
مصيبة ( أُمِّ الائمة النقبأ ) معزيَّةً لسبطها الاكبر
وسيِّد الشهدأ (عليهما السلام) . . عسى أن يكون ذلك سلوى
وعزأ من هذه الاُمَّة لابيها وبعلها اللذان هما أول
وثاني مَن في عالم الامكان . . وأن يكون ذلك بلسما
لجراح قلوب وُلْدها المعصومين ، أئمة الانس والجنِّ
سلام اللّه عليهم أجمعين . . ونوع تقديم إخلاصٍ لمن هو
الان بيمنه رزق الورى ، وبوجوده ثبتت الارض
والسمأ ، وولي العصر وصاحب الزمان [ أرواحنا
لتراب مقدمه الفدأ ] .
***
وعليه فمن المفروض اللازم على عامَّة المؤمنين
الالتفات إلى هذه النكتة ـ التي لاتقال تعصبا وتعنتا ـ
بل بمقتضى الدليل والبرهان : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَاللّهِ
الاِسْلامُ)39 . . وإنَّ هذا الاسلام بأُصوله وفروعه قائمٌ
بالائمة المعصومين : : ((بِنا عُرِفَاللّهُ بِنا عُبِدَاللّهُ نَحْنُ
الاَدِلاُ عَلَى اللّهِ وَ لَوْلانا ما عُبِدَ اللّهُ)) ،40 وقد قال
رسولاللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) (( إنى تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه
واهلبيتي و انهما لن يفترقا حتى يردا علىّ الحوض ))41
وثمّة أيدي مرموزة تعمل لتضعيف الروابط المستحكمة
بين هذه الاُمَّة وأئمة الهدى ـ الذين هم مصابيح الهداية
وسفن نجاة الاُمَّة ـ وتبديل الهداية إلى هذا الصراط
المستقيم ـ الذي هو ثمرة حياة الائمة المعصومين ونتيجة
الجهاد العلمي والعملي للعلمأ الربَّانِيِّين والفقهأ
الراشدين ـ بالضلال المبين الذي هو الانحراف عن
ولاية أوليأ ربِّ العالمين والبرائة من أعدأ اللّه
المُضلِّين . .
وعليه فإنَّ اللازم العقلي والشرعي يفرض علينا
بتعظيم شعائر الدين ـ الذي مصداقها الاتم والاكمل ـ
إظهار الولا لمقام الصديقة الكبرى وإبراز الاعتصام
بحبل اللّه الذي هو القرآن والعترة وحفظ الشريعة الحقَّة
التي هي سبيل اللّه الاعظم . . وصونها عن قطَّاع الطريق
المستقيم .
طوبى لاولئك الذين يُوفَّقون لخدمة المقام المنيع
لشفيعة يوم الجزأ ، ويحضون برضاها الذي هو رضا
الرب . . إذ إنَّ رضا اللّه سبحانه هو منتهى آمال الانبيأ
والاوليأ (ذلِكَ فَضْلُاللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشأُ)42 ، وبإقامة
الشعائر يوم شهادتها تُحرَس وتُصَان هذه الطريقة الحقَّة
من كيد المخالفين والمنافقين .
***
ولنختم الكلام متبرِّكين بذكر وصيَّتِها :
((بِسْمِاللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذا ما أَوْصَتْ بِهِ فاطِمَةُ
بِنْتُ رَسُولِاللّهِ أَوْصَتْ وَ هِيَ تَشْهَدُ أَن لا إِلهَ إِلاّ اللّهُ
وَ أَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقُّ وَ النَّارَ
حَقُّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللّهَ يَبْعَثُ
مَنْ فِي القُبورِ. يا عَلِىُّ! أَنَا فاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، زَوَّجَنِيَ
اللّهُ مِنْكَ لاِ َكُونَ لَكَ فِي الدُّنْيا وَ الاخِرَةِ، أَنْتَ أَوْلى بِي
مِنْ غَيْرِي . . وَأَسْتَوْدِعُكَ اللّهَ وَ اقْرَْ عَلى وُلدِيَ
السَّلامَ إِلى يَوْمِالقِيامَةِ))43.
هذه الوصية ؛ أنشأت في حال شهود المبدأ والمعاد ،
والجنَّة والنار ، والرسالة والرسول . . ولم تقم مثل هذه
الشهادة من شهيد ولن تقوم من يوم نزول قوله تعالى :
(شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ وَ المَلائِكةُ وَ اُولُوا العِلْمِ قائِما
بِالقِسْطِ لا إِلهَ إِلا هُوَ العَـزِيزُ الحَكِيـمُ)44 إلى اليوم
المشهود .
شهادة أُدِّيت في محضر شاهدي صدق ، الاول منهما
ربِّ العزَّة والشاهد الثاني منهما وليُّ اللّه الاعظم : (قُلْ
كَفى بِاللّهِ شَهِيدا بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ
الكِتابِ)45.
إنَّ معرفة هذه الشهادة وشاهدها ومشهودها
تختص بأُولى العلم الواقفين على مراتب التوحيد ومقام
الخاتميَّة وحقيقة الجنَّة والنار ، وأسرار بعث مَن في
القبور ، وأحوال يوم النشور .
والغرض الاشارة إلى آخر ما جأ في الوصيَّة ، إذ
قالت : ((وَ اقْرَْ عَلى وُلْدِيَ السَّلامَ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ)) ،
الذي يظهر منها ـ لارتباطها بعالم الغيب وإحاطتها بعالم
الشهود ـ علمها بعدم انقراض سلسلة أولادها إلى يوم
القيامة ، لذا طلبت من أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يبلغ ولدها
السلام إلى يوم القيامة .
وليعلم الفاطميُّون والفاطميَّات أي تاج فخر كلَّلتهم
به . . وأي مسؤوليَّة كبرى حمَّلتهم . .
أين تاج سلاطين الدنيا . . ؟ وأين فخر سلام
ناموس اللّه على ذريَّة الزهرأ ؟
سلام الصديقة الكبرى النابع من قلب القرآن
وسورة يس ، وهو سلامٌ متصل بـ : (سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ
رَحِيمٍ)46 الذي هو قلب سورة يس .
إنَّ المسؤوليَّة العظمى المتأتاة في رد هذا السلام
الواصل من تلك الناحية المقدسة التي خصَّها اللّه
الّذي (لا إِلهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ)47 بصلاته
وسلامه .
إنَّ جواب هذا السلام هو ما يلزم وُلدها إلى يوم
القيامة من الدفاع عن حقِّ أُمِّهم بتمام وجودهم ، ويلزم
جواب هذا السلام من كلِّ سيِّدٍ من ولدها بما يتناسب
ومقامهم .
ولا ينبغي لسيد من ولدها قد وصل إلى مقام أو
منصب ثمّ يقصر عن أدأ حقِّها ، أو إحقاق
حقوقها . . ؟ !
تلك التي كانت تقول ـ دفاعا عن إمامة الائمة
المعصومين ـ : (( وطاعَتَنا نِظاما لِلمِلَّةِ ، وَإمامَتَنا أَمانا
مِنَ الفُرْقَةِ))48 . . وذاك في مقام إحقاق حقها ، وإحيأ
أمر إمامة أئمة الهدى . . مع ما كانت عليه من عظم
المصاب الذي هدّ قوتها ، وأنحل جسدها ، حتى
خاطبت أبيها بقولها : ((رُفِعَتْ قُوَّتِي))49 . . وكانت تنشد
عند قبر أبيها بقلب حزين في فراق ذلك الاب الرحيم :
((ماذا عَلى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدأَنْ لا يَشَمَّ مَدَى الزَّمانِ غَوالِيا))50
والحذر من عدم رعاية شيعتها المحرومين والغفلة
عنهم . . إذ قلبها تعلَّق بقلوبهم التي تحزن لحزنها وتفرح
لفرحها . .
فكان جواب هذا السَّلام من السادة البالغين مرتبة
علميَّة هو التكفل لايتام آل محمد : بالحكمة
والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ، ولا
يَدَعُون هذه القلوب في غيبة صاحبها أن تقع في حبال
شبهات المخالفين وأن يصادوا من قبل شياطين الجنِّ
والانس .
وجواب هذا السلام من قبل السادة الاغنيأ هو
البذل من مالهم في سبيل تحكيم مباني المذهب الذي من
أجله ضحَّت واستُشهِدَت ، ولا يبخلوا من الانفاق في
سبيل إحيأ شعائر يوم شهادتها . .
وعلى عموم السَّادة التأمل في هذه الكلمات
المؤلمة التي جأت في وصيَّة الصديقة الشهيدة
لاميرالمؤمنين (عليه السلام) : (( حَنِّطْنِي وَ غَسِّلْنِي وَ كَفِّنِّي بِاللَّيْلِ
وَ صَلِّ عَلَىَّ وَ ادْفِنِّى بِاللَيْلِ وَ لا تُعْلِمْ أَحَدا . . )) .
إنَّ أقل ما يجاب عن هذا الندأ ويجبر ـ وأنَّى له أن
يجبر ـ أن يُقَام مواساةً لغربة تلك الجنازة المحاطة
بأيتامها الذين لم يفارقوا صدرها . . أن يحملوا ليلة
دفنها في كل بلدةٍ وقريةٍ أعلام المصاب ، ويرتدوا ثياب
العزأ ، ويدوروا في الازقَّة والطرق قائلين لجدتهم : لن
ننساكِ أبدا ولا الظلم الذي جرى عليكِ . . وإن ننسَ
فلا ننسَ ذلك القلب المفعم بالحزن ، والبدن المألوم ،
والقبر المجهول . .
((حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ وَ ُهوَ خَيْرُ الحاكِمِينَ))51.
***
اَللّهُمَّ بِحَقِّ فاطِمَةَ وَ أَبِيها وَ بَعْلِها وَ بَنِيها وَ السِّرِّ
المُسْتَودَعِ فِيها صَلِّ عَلى فاطِمَةَ وَ أَبِيها وَ بَعْلِها
وَ بَنِيها عَدَدَ ما فِي عِلْمِكَ صَلاةً دائِمَةً بِدوامِ مُلكِكَ وَ
سُلْطانِكَ وَ عَجِّلْ فِي فَرَجِ وَلِيِّكَ وَ أَصْلِحْ كُلَّ فاسِدٍ مِنْ
أُمورِ المُسْلِمينَ وَ اغْفِرْ لَنا وَ لاِ ِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا
بِالاِيمانِ وَ آخِرُ دَعْوانا أَنِ الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِين.
أحقر عباداللّه وأفقر إلى رحمة اللّه
حسين الوحيد الخراساني
الهوامش
.1 بحارالانوار 66/293 .
.2 سورة النور ( 24 ) : 35 .
.3 سورة ابراهيم 7( 14 ) : 1 .
.4 سورة المؤمنون ( 23 ) : 14 .
.5 سورة الاعراف ( 7 ) : 180 .
.6 سورة الروم ( 30 ) : 30 .
.7 سورة المائدة ( 5 ) : 3 .
.8 انظر : عيون أخبار الرضا7 2/66 باب 31 حديث 298، التوحيد :
307 ، المستدرك على الصحيحين 3/126، مجمع الزوائد 9/111
ومصادر أُخرى من الخاصة والعامة .
.9 سورة ابراهيم 7 ( 14 ) : 24 ـ 25 .
.10 أمالي الشيخ الصدوق : 78 مجلس 7 حديث 3 ، ومسند احمد بن
حنبل3/37 . . وغيرهم .
.11 سورة التوبة ( 9 ) : 33 .
.12 سورة الزمر ( 39 ) : 69 .
.13 سورة النجم ( 53 ) : 3 .
.14 انظر : صحيح البخارى4/210 باب مناقب قرابة رسول اللّه 9،
وباختلاف يسير في الايضاح : 541 . . ومصادر أُخرى من العامة
والخاصة .
.15 انظر : صحيح البخاري 4/210 باب مناقب قرابة رسولاللّه 9 ،
والطرائف : 262 . . و مصادر أُخرى من العامة والخاصة .
.16 إشارة إلى حديث العاشر من أُصول الكافي 1/442 .
.17 أمالي الشيخ الطوسي : 427 ، المستدرك على الصحيحين 3/154 .
.18 مكاشفات يوحنا الرسول باب 12 .
.19 سورة الدخان ( 43 ) : 4 ، وانظر : أُصول الكافي 1/479 .
.20 سورة آل عمران ( 3 ) : 61 .
.21 سورة الرحمن ( 55 ) : 19 ، وانظر : الخصال : 165 .
22. سورة الانسان ( 76 ) : 9 ، وانظر : الارشاد 1/178 .
.23 تاريخ بغداد 1/274 .
.24 المستدرك على الصحيحين 3/153 .
.25 سورة الحديد ( 57 ) : 12 .
.26 سورة القمر ( 54 ) : 55 .
.27 ميزان الاعتدال 2/131 .
.28 تفسير فرات الكوفي : 446 .
.29 سورة آل عمران ( 3 ) : 164 .
30. أُصول الكافي 1/241 .
31. الكافي 4/314 حديث 2 ، وعنه في وسائل الشيعة 11/200 أبواب
النيابة في الحج باب 26 ، ولاحظ : التهذيب 5/450 حديث 1572 .
.32 بحار الانوار 43/177 .
.33 بحار الانوار 79/106 .
.34 دعائم الاسلام 1/232 .
.35 خطب نهجالبلاغة ، برقم 202 .
36. سورة الانفال : 24 .
.37 سورة الشورى ( 42 ) : 23 .
.38 كنز الفوائد : 154 .
.39 سورة آل عمران ( 3 ) : 19 .
.40 التوحيد لشيخ الصدوق : 152 .
41. المستدرك ، ج 3 ، ص 148 و ص 110 ؛ عيون اخبار الرضا 7 ،
ج 1 ، ص 68 و مصادر الاخرى للخاصة و العامّة .
.42 سورة المائدة ( 5 ) : 54 .
.43 بحار الانوار 43/214 .
.44 سورة آل عمران ( 3 ) : 18 .
.45 سورة الرعد ( 13 ) : 43 .
.46 سورة يس ( 36 ) : 58 .
.47 سورة الحشر ( 59 ) : 23 .
.48 الاحتجاج 1/134 .
.49 بحار الانوار 43/175 .
.50 مناقب آل أبي طالب 1/208 .
.51 سورة يونس ( 10 ) : 109 .
تعليق