فكيف وقع ذلك يا ترى؟
روى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج وغيره من المؤرّخين أنّ عائشة كتبت ـ وهي في البصرة ـ إلى زيد بن صوحان العبدي رسالة تقول له فيها: من عائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق، زوجة رسول الله، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أمّا بعد فأقم في بيتك وخذّل الناس عن أبن أبي طالب، وليبلغني عنك ما أحبّ إنك أوثق أهلي عندي والسّلام.
فأجابها هذا الرجل الصالح بما يلي: من زيد بن صوحان إلى عائشة بنت أبي بكر، أما بعد فإنّ الله أمركِ بأمر، وأمرنا بأمرٍ، أمرك أن تقرّي في بيتك، وأمرنا أن نجاهد، وقد أتاني كتابك تأمريني أن أصنع خلاف ما أمرني الله به، فأكون قد صنعت ما أمرك الله به، وصنعت أنت ما به أمرني، فأمرك عندي غير مطاع، وكتابك لا جواب له.
وبهذا يتبيّن لنا بأن عائشة لم تكتف بقيادة جيش الجمل فقط وإنّما طمحت في إمرة المؤمنين كافة في كل بقاع الأرض ولكلّ ذلك كانت هي التي تحكم طلحة والزبير اللذين كانا قد رشّحهما عمر للخلافة، ولكل ذلك أباحات لنفسها أن تراسل رؤساء القبائل والولاة وتطمعهم وتستنصرهم.
ولكلّ ذلك بلغت تلك المرتبة وتلك الشّهرة عند بني أمية فأصبحت هي المنظور إليها والمُهابة لديهم جميعاً والتي يُخشى سطوتها ومعارضتها فإذا كان الأبطال والمشاهير من الشجعان يتخاذلون ويهربون من الصفِّ إزاء علي بن أبي طالب ولا يقفون أمامه فإنها وقفت وألّبتْ واستصرخت واستفزّت.
ومن أجل هذا حيرت العقول وأدهشت المؤرّخين الذين عرفوا مواقفها في حرب الجمل الصغرى قبل قدوم الإمام علي وفي حرب الجمل الكبرى بعد مجيء الإمام علي ودعوتها لكتاب الله فأبت وأصرّت على الحرب في عنادٍ لا يمكن تفسيره إلا إذا عرفنا عمق وشدة الغيرة والبغضاء التي تحملها أمّ المؤمنين لأبنائها المخلصين لله ورسوله (صلى الله عليه وآله).
تحذير النّبي (صلى الله عليه وآله) من عائشة وفتنتها
لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدرك عمق وخطورة المؤامرة التي تدار حوله من جميع جوانبها، ولا شكّ بأنّه عرف ما للنساء من تأثير وفتنة على الرّجال، كما أدرك بأنّ كيدهن عظيم تكاد تزول منه الجبال، وعرف بالخصوص بأن زوجته عائشة هي المؤهلة لذلك الدور الخطير لما تحمله في نفسها من غيرة وبغض لخليفته علي خاصة، ولأهل بيته عامّة، كيف وقد عاش بنفسه أدواراً من مواقفها وعداوتها لهم، فكان يغضب حيناً ويتغير وجهه أحياناً، ويحاول إقناعهم في كل مرة بأنّ حبيب علي هو حبيب الله والذي يبغض عليّاً هو منافق يبغضه الله ـ ولكن هيهات لتلك الأحاديث أن تغوص في أعماق تلك النّفوس التي ما عرفتْ الحقّ حقّاً إلاّ لفائدتها وما عرفت الصّواب صواباً إلاّ إذا صدر عنها.
ولذلك وقف الرسول (صلى الله عليه وآله) لمّا عرف بأنها هي الفتنة التي جعلها الله في هذه الأمة ليبتليها بها كما ابتلى سائر الأمم السّابقة. قال تعالى: «ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون» [سورة العنكبوت: الآية 2].
وقد حذّر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمّته منها في مرّات متعدّدة حتى قام في يوم من الأيام واتّجه إلى بيتها وقال: ههنا الفتنة، ههنا الفتنة حيث يطلع قرن الشيطان، وقد أخرج البخاري في صحيحه في باب ما جاء في بيوت أزواج النبي: قال عن نافع عن عبد الله رضي الله عنه قال: قام النبي (صلى الله عليه وآله) خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال: ههنا الفتنة ثلاثاً، من حيث يطلع قرن الشيطان (47).
كما أخرج مسلم في صحيحه أيضاً عن عكرمة بن عمّار عن سالم عن ابن عمر قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بيت عائشة، فقال: رأس الكفر من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان (48).
ولا عبرة بالزّيادة التي أضافوها بقولهم: يعني المشرق، فهي واضحة الوضع ليخفّفوا بها عن أم المؤمنين ويبعدوا هذه التهمة عنها.
وقد جاء في صحيح البخاري أيضاً: قال لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، بعث علي عمّار بن ياسر وحسن بن علي فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبر فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه وقام عمّار أسفل من الحسن فاجتمعنا إليه فسمعت عماراً يقول: إن عائشة قد سارت إلى البصرة ووالله إنها لزوجة نبيّكم (صلى الله عليه وآله) في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إيّاه تطيعون أم هي (49).
الله أكبر فهذا الخبر يدلّ أيضاً أنّ طاعتها معصية لله وفي معصيتها هي والوقوف ضدّها طاعةً لله.
كما نلاحظ أيضاً في هذا الحديث أنّ الروّاة من بني أمية أضافوا عبارة والآخرة، في (أنها لزوجة نبيّكم في الدنيا والآخرة) ليموّهوا على العامّة بأنّ الله غفر لها كل ذنب اقترفته أدخلها جنّته وزوجها حبيبه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ وإلاّ من أين عَلِمَ عمّار بأنّها زوجته في الآخرة؟
وهذه هي أخر الحيل التي تفطّن لها الوضّاعون من الروّاة في عهد بني أميّة عندما يجدون حديثاً جرى على ألسنة النّاس فلا يمكنهم بعد نكرانه ولا تكذيبه فيعمدون إلى إضافة فقرة إليه أو كلمة أو تغيير بعض ألفاظه ليخفّفوا من حدّته أو يفقدوه المعنى المخصوص له، كما فعلوا ذلك بحديث، أنا مدينة العلم وعلي بابها الذي أضافوا وأبوا بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها.
وقد لا يخفى ذلك على الباحثين المنصفين فيبطلون تلك الزيادات التي تدلّ في أغلب الأحيان على سخافة عقول الوضّاعين وبُعدهم عن حكمة ونور الأحاديث النبويّة، فيلاحظون أنّ القول بأن أبا بكر أساسها، معناه أنّ علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كله من علم أبي بكر، وهذا كفر. كما أنّ القول بأنّ عمر حيطانها فمعناه بأنّ عمر يمنع الناس من الدخول للمدينة أعني يمنعهم من الوصول للعلم والقول بأن عثمان صفقها، فباطل بالضرورة لأنه ليس هناك مدينة مسقوفة وهو مستحيل. كما يلاحظون هنا بأنّ عماراً يقسم بالله على أنّ عائشة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله) في الدنيا والآخرة، وهو رجماً بالغيب فمن أين لعمّار أن يقسم على شيء يجهله؟ هل عنده آية من كتاب الله، أم هو عهد عهده إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
فيبقى الحديث الصحيح هو إنّ عائشة قد سارت إلى البصرة، وإنها لزوجة نبيّكم، ولكنّ الله ابتلاكم بها ليعلم إيّاه تطيعون أم هي.
والحمد لله ربّ العالمين على أن جعل لنا عقولاً نميّز بها الحق من الباطل وأوضح لنا السبيل ثم ابتلانا بأشياء عديدة لتكون علينا حجّةً يوم الحساب.
خاتمة البحث
والمهمّ في كل ما مرّ بنا من الأبحاث وإن كانت مختصرة أنّ عائشة بنت أبي بكر أمّ المؤمنين وزوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم تكن معدودة من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والذين عصمهم الله من كلّ الذّنوب وطهّرهم من كل رجس فأصبحوا بعد ذلك معصومين.
ويكفي عائشة أنّها قضت آخر أيّام حياتها في بكاء ونحيب وحسرة وندامة، تذكر أعمالها فتفيض عيناها ولعلّ الله سبحانه يغفر لها خطاياها فهو وحده المطّلع على أسرار عباده والذي يعلم صدق نواياها، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السّماء، وليس لنا ولا لأي أحدٍ من النّاس أن يَحكُم بالجنّة أو بالنّار على مخلوقاته فهذا تكلّف وتطفّلٌ على الله، قال تعالى: «لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء والله على كل شيء قدير» [سورة البقرة: الآية 284].
وبهذا لا يمكن لنا أن نترضّى عليها ولا أن نلعنها ولكن لنا أن لا نقتدي بها ولا نبارك أعمالها، ونتحدّث بكل ذلك لتوضيح الحقيقة إلى النّاس، عسى أن يهتدوا لطريق الحق.
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تكونوا سبّابين ولا لعّانين، ولكن قولوا: كان من فعلهم كذا وكذا لتكون أبلغ في الحجّة.
الهوامش:
1- صحيح البخاري: 4/231 باب تزويج النبي (صلى الله عليه وآله) خديجة وكذلك صحيح مسلم.
2- صحيح البخاري: 6/157 في باب الغيرة.
3- إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: 2/29 كتاب أدب النكاح.
4- كنز العمّال: 7/116 وكذلك إحياء العلوم للغزالي.
5- الطبقات الكبرى لابن سعد: 8/145. الإصابة لابن حجر: 4/233. تاريخ اليعقوبي: 2/69.
6- صحيح البخاري: 1/101 باب الصلاة على الفراش.
7- صحيح البخاري: 3/105 في باب الغرفة والعلية المشرفة من كتاب المظالم.
8- صحيح البخاري: 6/24 و128 باب هل للمرأة ان تهب نفسها لأحدٍ. صحيح مسلم باب جواز هبة المرأة نوبتها لضرّتها.
9- صحيح البخاري: 6/158 باب غيرة النساء ووجدهنّ.
10- صحيح البخاري: 3/106 باب الغرفة والعلية من كتاب المظالم.
11- صحيح البخاري: 6/69 و71 باب وإذا أسرّ النبي إلى بعض أزواجه.
12- طبقات ابن سعد: 8/115. كنز العمال: 6/294.
13- ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة: 2/80.
14- مسند الإمام أحمد بن حنبل: 6/277. وسنن النسائي: 2/148.
15- صحيح الترمذي وقد رواه عنه الزركشي في صفحة 73.
16- الطبقات الكبرى لأبن سعد: 8/212، أنساب الأشراف: 1/449، الإصابة في معرفة الصحابة للعسقلاني أخرجها في ترجمة مارية القبطية.
17- الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/37 ترجمة إبرايم بن النبي ـ وكذلك في أنساب الأشراف.
18- صحيح مسلم: 3/64 باب ما يقال عند دخول القبور. مسند أحمد بن حنبل: 6/221.
19- مسند الإمام أحمد: 6/147.
20- مسند أحمد بن حنبل: 6/115.
21- يراجع في هذا الموضوع كتاب حديث الإفك للعلاّمة جعفر مرتضى العاملي.
22- الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/29.
23- صحيح البخاري: 4/46 باب ما جاء في بيوت أزواج النبي من كتاب الجهاد والسير.
24- صحيح مسلم: 3/64. ومسند الإمام أحمد: 6/221.
25- صحيح مسلم: 4/188 في باب الإيلاء واعتزال النّساء وتخييرهنّ وقوله تعالى: «وإن تظاهرا عليه» .
26- صحيح البخاري: 7/8 من كتاب المرضى والطبّ.
27- يقول الشاعر في هذا المعنى:
عاندوا «أحمد» وعادوا عليّاً * وتولّوا منافقاً وغويّاً وأسروا سبّ النبي نفاقاً * حين سبّوا جهراً أخاه عليّاً
28- صحيح البخاري: 3/156 باب تعديل النساء بعضهن بعضهاً.
29- صحيح البخاري: 4/231. صحيح مسلم باب فضائل أم المؤمنين خديجة: 7/133.
30- قد مرّ بنا سابقاً قولها ما غرت على امرأة كما غرت على صفية وقولها ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، لك الله يا عائشة فهل سلمت واحدة من أزواج النبي من غيرتك وأذيّتك؟
31- صحيح البخاري: 4/231. صحيح مسلم باب فضل خديجة أمّ المؤمنين.
32- صحيح البخاري: 4/209 و7/142.
33- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 9/197 ينقل ذلك عن الإمام علي.
34- صحيح البخاري: 1/162 و3/135 و5/140.
35- صحيح مسلم: 1/61. صحيح الترمذي: 5/306. سنن النسائي: 8/116.
36- البخاري: 4/210.
37- صحيح البخاري: 5/82 و8/3.
38- الإمام أحمد في مسنده: 4/275.
39- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 9/195.
40- البخاري ومسلم في فضائل علي بن أبي طالب: 7/130.
41- المستدرك للحاكم: 3/130 صحّحه على شرط الشيخين البخاري ومسلم وعشرات المصادر.
42- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/77.
43- ابن قتيبة في كتابه المصنف في غريب الحديث وكذلك في الإمامة والسياسة.
44- تاريخ الطبري: 6/482.
45- الطبري في تاريخه: 5/178. وشرح النهج: 2/501 وغيرهم.
46- صحيح البخاري: 8/97 باب الفتن. والنسائي: 4/305. والمستدرك: 4/525.
47- صحيح البخاري: 4/46.
48- صحيح مسلم: 8/181.
49- صحيح البخاري: 8/97.
روى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج وغيره من المؤرّخين أنّ عائشة كتبت ـ وهي في البصرة ـ إلى زيد بن صوحان العبدي رسالة تقول له فيها: من عائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق، زوجة رسول الله، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أمّا بعد فأقم في بيتك وخذّل الناس عن أبن أبي طالب، وليبلغني عنك ما أحبّ إنك أوثق أهلي عندي والسّلام.
فأجابها هذا الرجل الصالح بما يلي: من زيد بن صوحان إلى عائشة بنت أبي بكر، أما بعد فإنّ الله أمركِ بأمر، وأمرنا بأمرٍ، أمرك أن تقرّي في بيتك، وأمرنا أن نجاهد، وقد أتاني كتابك تأمريني أن أصنع خلاف ما أمرني الله به، فأكون قد صنعت ما أمرك الله به، وصنعت أنت ما به أمرني، فأمرك عندي غير مطاع، وكتابك لا جواب له.
وبهذا يتبيّن لنا بأن عائشة لم تكتف بقيادة جيش الجمل فقط وإنّما طمحت في إمرة المؤمنين كافة في كل بقاع الأرض ولكلّ ذلك كانت هي التي تحكم طلحة والزبير اللذين كانا قد رشّحهما عمر للخلافة، ولكل ذلك أباحات لنفسها أن تراسل رؤساء القبائل والولاة وتطمعهم وتستنصرهم.
ولكلّ ذلك بلغت تلك المرتبة وتلك الشّهرة عند بني أمية فأصبحت هي المنظور إليها والمُهابة لديهم جميعاً والتي يُخشى سطوتها ومعارضتها فإذا كان الأبطال والمشاهير من الشجعان يتخاذلون ويهربون من الصفِّ إزاء علي بن أبي طالب ولا يقفون أمامه فإنها وقفت وألّبتْ واستصرخت واستفزّت.
ومن أجل هذا حيرت العقول وأدهشت المؤرّخين الذين عرفوا مواقفها في حرب الجمل الصغرى قبل قدوم الإمام علي وفي حرب الجمل الكبرى بعد مجيء الإمام علي ودعوتها لكتاب الله فأبت وأصرّت على الحرب في عنادٍ لا يمكن تفسيره إلا إذا عرفنا عمق وشدة الغيرة والبغضاء التي تحملها أمّ المؤمنين لأبنائها المخلصين لله ورسوله (صلى الله عليه وآله).
تحذير النّبي (صلى الله عليه وآله) من عائشة وفتنتها
لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدرك عمق وخطورة المؤامرة التي تدار حوله من جميع جوانبها، ولا شكّ بأنّه عرف ما للنساء من تأثير وفتنة على الرّجال، كما أدرك بأنّ كيدهن عظيم تكاد تزول منه الجبال، وعرف بالخصوص بأن زوجته عائشة هي المؤهلة لذلك الدور الخطير لما تحمله في نفسها من غيرة وبغض لخليفته علي خاصة، ولأهل بيته عامّة، كيف وقد عاش بنفسه أدواراً من مواقفها وعداوتها لهم، فكان يغضب حيناً ويتغير وجهه أحياناً، ويحاول إقناعهم في كل مرة بأنّ حبيب علي هو حبيب الله والذي يبغض عليّاً هو منافق يبغضه الله ـ ولكن هيهات لتلك الأحاديث أن تغوص في أعماق تلك النّفوس التي ما عرفتْ الحقّ حقّاً إلاّ لفائدتها وما عرفت الصّواب صواباً إلاّ إذا صدر عنها.
ولذلك وقف الرسول (صلى الله عليه وآله) لمّا عرف بأنها هي الفتنة التي جعلها الله في هذه الأمة ليبتليها بها كما ابتلى سائر الأمم السّابقة. قال تعالى: «ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون» [سورة العنكبوت: الآية 2].
وقد حذّر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمّته منها في مرّات متعدّدة حتى قام في يوم من الأيام واتّجه إلى بيتها وقال: ههنا الفتنة، ههنا الفتنة حيث يطلع قرن الشيطان، وقد أخرج البخاري في صحيحه في باب ما جاء في بيوت أزواج النبي: قال عن نافع عن عبد الله رضي الله عنه قال: قام النبي (صلى الله عليه وآله) خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال: ههنا الفتنة ثلاثاً، من حيث يطلع قرن الشيطان (47).
كما أخرج مسلم في صحيحه أيضاً عن عكرمة بن عمّار عن سالم عن ابن عمر قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بيت عائشة، فقال: رأس الكفر من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان (48).
ولا عبرة بالزّيادة التي أضافوها بقولهم: يعني المشرق، فهي واضحة الوضع ليخفّفوا بها عن أم المؤمنين ويبعدوا هذه التهمة عنها.
وقد جاء في صحيح البخاري أيضاً: قال لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، بعث علي عمّار بن ياسر وحسن بن علي فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبر فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه وقام عمّار أسفل من الحسن فاجتمعنا إليه فسمعت عماراً يقول: إن عائشة قد سارت إلى البصرة ووالله إنها لزوجة نبيّكم (صلى الله عليه وآله) في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إيّاه تطيعون أم هي (49).
الله أكبر فهذا الخبر يدلّ أيضاً أنّ طاعتها معصية لله وفي معصيتها هي والوقوف ضدّها طاعةً لله.
كما نلاحظ أيضاً في هذا الحديث أنّ الروّاة من بني أمية أضافوا عبارة والآخرة، في (أنها لزوجة نبيّكم في الدنيا والآخرة) ليموّهوا على العامّة بأنّ الله غفر لها كل ذنب اقترفته أدخلها جنّته وزوجها حبيبه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ وإلاّ من أين عَلِمَ عمّار بأنّها زوجته في الآخرة؟
وهذه هي أخر الحيل التي تفطّن لها الوضّاعون من الروّاة في عهد بني أميّة عندما يجدون حديثاً جرى على ألسنة النّاس فلا يمكنهم بعد نكرانه ولا تكذيبه فيعمدون إلى إضافة فقرة إليه أو كلمة أو تغيير بعض ألفاظه ليخفّفوا من حدّته أو يفقدوه المعنى المخصوص له، كما فعلوا ذلك بحديث، أنا مدينة العلم وعلي بابها الذي أضافوا وأبوا بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها.
وقد لا يخفى ذلك على الباحثين المنصفين فيبطلون تلك الزيادات التي تدلّ في أغلب الأحيان على سخافة عقول الوضّاعين وبُعدهم عن حكمة ونور الأحاديث النبويّة، فيلاحظون أنّ القول بأن أبا بكر أساسها، معناه أنّ علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كله من علم أبي بكر، وهذا كفر. كما أنّ القول بأنّ عمر حيطانها فمعناه بأنّ عمر يمنع الناس من الدخول للمدينة أعني يمنعهم من الوصول للعلم والقول بأن عثمان صفقها، فباطل بالضرورة لأنه ليس هناك مدينة مسقوفة وهو مستحيل. كما يلاحظون هنا بأنّ عماراً يقسم بالله على أنّ عائشة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله) في الدنيا والآخرة، وهو رجماً بالغيب فمن أين لعمّار أن يقسم على شيء يجهله؟ هل عنده آية من كتاب الله، أم هو عهد عهده إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
فيبقى الحديث الصحيح هو إنّ عائشة قد سارت إلى البصرة، وإنها لزوجة نبيّكم، ولكنّ الله ابتلاكم بها ليعلم إيّاه تطيعون أم هي.
والحمد لله ربّ العالمين على أن جعل لنا عقولاً نميّز بها الحق من الباطل وأوضح لنا السبيل ثم ابتلانا بأشياء عديدة لتكون علينا حجّةً يوم الحساب.
خاتمة البحث
والمهمّ في كل ما مرّ بنا من الأبحاث وإن كانت مختصرة أنّ عائشة بنت أبي بكر أمّ المؤمنين وزوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم تكن معدودة من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والذين عصمهم الله من كلّ الذّنوب وطهّرهم من كل رجس فأصبحوا بعد ذلك معصومين.
ويكفي عائشة أنّها قضت آخر أيّام حياتها في بكاء ونحيب وحسرة وندامة، تذكر أعمالها فتفيض عيناها ولعلّ الله سبحانه يغفر لها خطاياها فهو وحده المطّلع على أسرار عباده والذي يعلم صدق نواياها، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السّماء، وليس لنا ولا لأي أحدٍ من النّاس أن يَحكُم بالجنّة أو بالنّار على مخلوقاته فهذا تكلّف وتطفّلٌ على الله، قال تعالى: «لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء والله على كل شيء قدير» [سورة البقرة: الآية 284].
وبهذا لا يمكن لنا أن نترضّى عليها ولا أن نلعنها ولكن لنا أن لا نقتدي بها ولا نبارك أعمالها، ونتحدّث بكل ذلك لتوضيح الحقيقة إلى النّاس، عسى أن يهتدوا لطريق الحق.
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تكونوا سبّابين ولا لعّانين، ولكن قولوا: كان من فعلهم كذا وكذا لتكون أبلغ في الحجّة.
الهوامش:
1- صحيح البخاري: 4/231 باب تزويج النبي (صلى الله عليه وآله) خديجة وكذلك صحيح مسلم.
2- صحيح البخاري: 6/157 في باب الغيرة.
3- إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: 2/29 كتاب أدب النكاح.
4- كنز العمّال: 7/116 وكذلك إحياء العلوم للغزالي.
5- الطبقات الكبرى لابن سعد: 8/145. الإصابة لابن حجر: 4/233. تاريخ اليعقوبي: 2/69.
6- صحيح البخاري: 1/101 باب الصلاة على الفراش.
7- صحيح البخاري: 3/105 في باب الغرفة والعلية المشرفة من كتاب المظالم.
8- صحيح البخاري: 6/24 و128 باب هل للمرأة ان تهب نفسها لأحدٍ. صحيح مسلم باب جواز هبة المرأة نوبتها لضرّتها.
9- صحيح البخاري: 6/158 باب غيرة النساء ووجدهنّ.
10- صحيح البخاري: 3/106 باب الغرفة والعلية من كتاب المظالم.
11- صحيح البخاري: 6/69 و71 باب وإذا أسرّ النبي إلى بعض أزواجه.
12- طبقات ابن سعد: 8/115. كنز العمال: 6/294.
13- ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة: 2/80.
14- مسند الإمام أحمد بن حنبل: 6/277. وسنن النسائي: 2/148.
15- صحيح الترمذي وقد رواه عنه الزركشي في صفحة 73.
16- الطبقات الكبرى لأبن سعد: 8/212، أنساب الأشراف: 1/449، الإصابة في معرفة الصحابة للعسقلاني أخرجها في ترجمة مارية القبطية.
17- الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/37 ترجمة إبرايم بن النبي ـ وكذلك في أنساب الأشراف.
18- صحيح مسلم: 3/64 باب ما يقال عند دخول القبور. مسند أحمد بن حنبل: 6/221.
19- مسند الإمام أحمد: 6/147.
20- مسند أحمد بن حنبل: 6/115.
21- يراجع في هذا الموضوع كتاب حديث الإفك للعلاّمة جعفر مرتضى العاملي.
22- الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/29.
23- صحيح البخاري: 4/46 باب ما جاء في بيوت أزواج النبي من كتاب الجهاد والسير.
24- صحيح مسلم: 3/64. ومسند الإمام أحمد: 6/221.
25- صحيح مسلم: 4/188 في باب الإيلاء واعتزال النّساء وتخييرهنّ وقوله تعالى: «وإن تظاهرا عليه» .
26- صحيح البخاري: 7/8 من كتاب المرضى والطبّ.
27- يقول الشاعر في هذا المعنى:
عاندوا «أحمد» وعادوا عليّاً * وتولّوا منافقاً وغويّاً وأسروا سبّ النبي نفاقاً * حين سبّوا جهراً أخاه عليّاً
28- صحيح البخاري: 3/156 باب تعديل النساء بعضهن بعضهاً.
29- صحيح البخاري: 4/231. صحيح مسلم باب فضائل أم المؤمنين خديجة: 7/133.
30- قد مرّ بنا سابقاً قولها ما غرت على امرأة كما غرت على صفية وقولها ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، لك الله يا عائشة فهل سلمت واحدة من أزواج النبي من غيرتك وأذيّتك؟
31- صحيح البخاري: 4/231. صحيح مسلم باب فضل خديجة أمّ المؤمنين.
32- صحيح البخاري: 4/209 و7/142.
33- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 9/197 ينقل ذلك عن الإمام علي.
34- صحيح البخاري: 1/162 و3/135 و5/140.
35- صحيح مسلم: 1/61. صحيح الترمذي: 5/306. سنن النسائي: 8/116.
36- البخاري: 4/210.
37- صحيح البخاري: 5/82 و8/3.
38- الإمام أحمد في مسنده: 4/275.
39- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 9/195.
40- البخاري ومسلم في فضائل علي بن أبي طالب: 7/130.
41- المستدرك للحاكم: 3/130 صحّحه على شرط الشيخين البخاري ومسلم وعشرات المصادر.
42- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/77.
43- ابن قتيبة في كتابه المصنف في غريب الحديث وكذلك في الإمامة والسياسة.
44- تاريخ الطبري: 6/482.
45- الطبري في تاريخه: 5/178. وشرح النهج: 2/501 وغيرهم.
46- صحيح البخاري: 8/97 باب الفتن. والنسائي: 4/305. والمستدرك: 4/525.
47- صحيح البخاري: 4/46.
48- صحيح مسلم: 8/181.
49- صحيح البخاري: 8/97.
تعليق