لمّا أجمع أبو بكر على منع فاطمة عليها السلام فدك، و بلغها ذلك لاثت خمارها على رأسها و اشتملت بجلبابها و أقبلت في لمّة من حفدتها و نساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى دخلت على أبي بكر و هو في حشد من المهاجرين و الأنصار و غيرهم فنيطت دونها ملاءة، فجلست ثم أنّت أنّة أجهش القوم لها بالبكاء، فارتجّ المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتّى إذا سكن نشيج القوم و هدأت فورتهم، افتتحت الكلام بحمد اللّه و الثناء عليه و الصلاة على رسول اللّه ص ، فعاد القوم في بكائهم فلما أمسكوا عادت في كلامها.
يا معاشر الفتية و أعضاد الملّة، و أنصار الإسلام، ما هذه الغميزة في حقّي، و السّنة عن ظلامتي، أما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبي يقول المرء يحفظ في ولده، سرعان ما أحدثتم، و عجلان ذا إهالة، و لكم طاقة بما أحاول، و قوّة على ما أطلب و أزاول، أ تقولون مات محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فخطب جليل استوسع وهنه، و استنهر فتقه، و انفتق رتقه، و اظلمّت الأرض لغيبته، و كسفت النجوم لمصيبته، و أكدت الآمال، و خشعت الجبال، و أضيع الحريم، و أزيلت الحرمة عند مماته، فتلك و اللّه النازلة الكبرى، و المصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، و لا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب اللّه جلّ ثناؤه في أفنيتكم في ممساكم و مصبحكم، هتافا و صراخا، و تلاوة و ألحانا، و لقبله ما حلّ بأنبياء اللّه و رسله، حكم فصل و قضاء حتم وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ. إيها بني قيلة أأهضم تراث أبي و أنتم بمرأى منّي و مسمع، و مبتدى و مجمع، تلبسكم الدعوة، و تشملكم الخبرة، و أنتم ذا العدد و العدّة، و الأداة و القوّة، و عندكم السلاح و الجنّة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، و تأتيكم الصرخة فلا تغيثون، و أنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير و الصلاح، و النجبة التي انتجبت، و الخيرة التي اختيرت، قاتلتم العرب، و تحمّلتم الكدّ و التعب، و ناطحتم الأمم، و كافحتم البهم، فلا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام، و درّ حلب الأيام، و خضعت ثغرة الشرك، و سكنت فورة الإفك، و خمدت نيران الكفر، و هدأت دعوة الهرج، و استوسق نظام الدين، فأنّى حرتم بعد البيان، و أسررتم بعد الإعلان، و نكصتم بعد الإقدام، و أشركتم بعد الإيمان أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، و أبعدتم من هو أحقّ بالبسط و القبض، و خلوتم بالدعة، و نجوتم من الضيق بالسعة، فمججتم ما وعيتم، و دسعتم الذي تسوّغتم، فإن تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ألا و قد قلت ما قلت على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم، و الغدرة التي استشعرتها قلوبكم، و لكنّها فيضة النفس، و نفثة الغيظ، و خور القنا، و بثّة الصدر، و تقدمة الحجّة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخف، باقية العار، موسومة بغضب اللّه و شنار الأبد، موصولة بنار اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة فبعين اللّه ما تفعلون وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. و أنا ابنة نذير لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ فاعملوا... إِنَّا عامِلُونَ وَ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ.
فأجابها أبو بكر عبد اللّه بن عثمان فقال : يا ابنة رسول اللّه ص لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما، رءوفا رحيما، و على الكافرين عذابا أليما، و عقابا عظيما، فإن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، و أخا لبعلك دون الأخلاء، آثره على كلّ حميم، و ساعده في كلّ أمر جسيم، لا يحبّكم إلا كلّ سعيد، و لا يغضكم إلا كلّ شقي، فأنتم عترة رسول اللّه ص الطيّبون، و الخيرة المنتجبون، على الخير أدلّتنا، و إلى الجنّة مسالكنا، و أنت يا خيرة النساء و ابنة خير الأنبياء صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقّك، و لا مصدودة عن صدقك، وواللّه ما عدوت رأي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا عملت إلا بإذنه، و إنّ الرائد لا يكذب أهله، و إنّي أشهد اللّه و كفى به شهيدا أنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة و لا دارا و لا عقارا و إنّما نورث الكتب و الحكمة و العلم و النبوة، و ما كان لنا من طعمة فلوليّ الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه، و قد جعلنا ما حاولته في الكراع و السلاح يقاتل به المسلمون و يجاهدون الكفار، و يجالدون المردة، ثم الفجار، و ذلك بإجماع من المسلمين، لم أتفرّد به وحدي، و لم أستبدّ بما كان الرأي فيه عندي، و هذه حالي و مالي هي لك و بين يديك لا نزوي عنك و لا ندّخر دونك، و أنت سيدة أمّة أبيك، و الشجرة الطيّبة لبنيك، لا يدفع ما لك من فضلك، و لا يوضع من فرعك و أصلك، حكمك نافذ فيما ملكت يداي، فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فقالت عليها السلام : سبحان اللّه ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن كتاب اللّه صارفا، و لا لأحكامه مخالفا، بل كان يتّبع أثره، و يقفو سوره، أ فتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور، و هذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته، هذا كتاب اللّه حكما عدلا، و ناطقا فصلا، يقول يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ فبيّن عزّ و جلّ فيما وزّع عليه من الأقساط، و شرّع من الفرائض و الميراث، و أباح من حظّ الذكران و الإناث ما أزاح علّة المبطلين، و أزال التظنّي و الشبهات في الغابرين، كلّا بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.
فقال أبو بكر : صدق اللّه و صدق رسوله و صدقت ابنته، أنت معدن الحكمة، و موطن الهدى و الرحمة، و ركن الدين، و عين الحجّة، لا أبعد صوابك، ولا أنكر خطابك، هؤلاء المسلمون بيني و بينك قلّدوني ما تقلّدت، و باتّفاق منهم أخذت ما أخذت، غير مكابر و لا مستبدّ و لا مستأثر، و هم بذلك شهود.
فالتفتت فاطمة عليها السلام إلى الناس و قالت : معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل، المغضية على الفعل القبيح الخاسر أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها، كلا بل ران على قلوبكم، ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم و أبصاركم، و لبئس ما تأولتم، و ساء ما به أشرتم، و شرّ ما منه اعتضتم، لتجدنّ و اللّه محمله ثقيلا، و غبّه وبيلا، إذا كشف لكم الغطاء، و بان ما وراءه الضرّاء، و بدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ .
فقالت عليها السلام :
الحمد للّه على ما أنعم، و له الشكر على ما ألهم، و الثناء بما قدّم من عموم نعم ابتداها، و سبوغ آلاء أسداها، و تمام منن والاها جمّ عن الإحصاء عددها، و نأى عن الجزاء أمدها، و تفاوت عن الإدراك أبدها، و ندبهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، و ثنى بالندب إلى أمثالها، و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، و ضمن القلوب موصولها، و أنار في الفكرة معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، و من الألسن صفته، و من الأوهام كيفيّته، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، و أنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، و ذرأها بمشيّته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، و لا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته، و تنبيها على طاعته، و إظهارا لقدرته، و تعبّدا لبريّته، و إعزازا لدعوته، ثم جعل الثواب على طاعته، و وضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته و حياشة منه إلى جنّته، و أشهد أنّ أبي محمّدا ص عبده و رسوله، اختاره و انتجبه قبل أن أرسله، و سمّاه قبل أن اجتبله، و اصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، و بستر الأهاويل مصونة، و بنهاية العدم مقرونة، علما من اللّه تعالى بمآيل الأمور، و إحاطة بحوادث الدهور، و معرفة بمواقع المقدور، ابتعثه اللّه تعالى إتماما لأمره، و عزيمة على إمضاء حكمه، و إنفاذا لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكّفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة للّه مع عرفانها، فأنار اللّه بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله ظلمها، و كشف عن القلوب بهمها، و جلى عن الأبصار غممها، و قام في الناس بالهداية، و أنقذهم من الغواية، و بصرّهم من العماية، و هداهم إلى الدين القويم، و دعاهم إلى الطريق المستقيم، ثم قبضه اللّه إليه قبض رأفة و اختيار، و رغبة و إيثار فمحمد صلّى اللّه عليه و آله عن تعب هذه الدار في راحة، قد حفّ بالملائكة الأبرار، و رضوان الربّ الغفّار، و مجاورة الملك الجبّار، صلّى اللّه على أبي نبيّه و أمينه على الوحي وصفيّه و خيرته من الخلق و رضيّه، و السلام عليه و رحمة اللّه و بركاته.
ثم التفتت إلى أهل المجلس، و قالت :
أنتم عباد اللّه نصب أمره و نهيه، و حملة دينه و وحيه، و أمناء اللّه على أنفسكم، و بلغاؤه إلى الأمم، و زعمتم حقّ لكم للّه فيكم عهد قدّمه إليكم، و بقية استخلفها عليكم، كتاب اللّه الناطق، و القرآن الصادق، و النور الساطع، و الضياء اللامع، بيّنة بصائره، منكشفة سرائره، متجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائد إلى الرضوان أتباعه، مؤدّ إلى النجاة أسماعه، به تنال حجج اللّه المنوّرة، و عزائمه المفسّرة، و محارمه المحذّرة، و بيّناته الجالية، و براهينه الكافية، و فضائله المندوبة، و رخصه الموهوبة، و شرائعه المكتوبة، فجعل اللّه الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، و الصلاة تنزيها لكم عن الكبر، و الزكاة تزكية للنفس، و نماء في الرزق، و الصيام تثبيتا للإخلاص، و الحج تشييدا للدين، و العدل تنسيقا للقلوب، و طاعتنا نظاما للملّة، و إمامتنا أمانا من الفرقة، و الجهاد عزّا للإسلام، و الصبر معونة على استيجاب الأجر، و الأمر بالمعروف مصلحة للعامّة، و برّ الوالدين وقاية من السخط، و صلة الأرحام منماة للعدد، و القصاص حقنا للدماء، و الوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، و توفية المكاييل و الموازين تغييرا للبخس، و النهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس، و اجتناب القذف حجابا عن اللعنة، و ترك السرقة إيجابا للعفّة، و حرّم اللّه الشرك إخلاصا له بالربوبيّة، فاتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إلا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، و أطيعوا اللّه فيما أمركم به و نهاكم عنه فإنّه إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ.
ثم قالت :
أيّها الناس اعلموا أنّي فاطمة و أبي محمّد صلّى اللّه عليه و آله، أقول عودا و بدءا، و لا أقول ما أقول غلطا، و لا أفعل ما أفعل شططا لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، فإن تعزوه و تعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، و أخا ابن عمّي دون رجالكم، و لنعم المعزي إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فبلّغ الرسالة، صادعا بالنذارة، مائلا عن مدرجة المشركين، ضاربا ثبجهم، آخذا بأكظامهم، داعيا إلى سبيل ربّه بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، يكسّر الأصنام، و ينكث الهام، حتى انهزم الجمع و ولّوا الدبر، حتى تفرّى الليل عن صبحه، و أسفر الحقّ عن محضه، و نطق زعيم الدين، و خرست شقاشق الشياطين، و طاح وشيظ النفاق، و انحلّت عقد الكفر و الشقاق، و فهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص، وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، مذقة الشارب، و نهزة الطامع، و قبسة العجلان، و موطئ الأقدام، تشربون الطرق، و تقتاتون الورق، أذلّة خاسئين، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ من حولكم، فأنقذكم اللّه تبارك و تعالى بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله بعد اللتيا و الّتي، و بعد أن مني ببهم الرجال، و ذؤبان العرب، و مردة أهل الكتاب كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ، أو نجم قرن للشيطان، و فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، و يخمد لهبها بسيفه، مكدودا في ذات اللّه، و مجتهدا في أمر اللّه، قريبا من رسول اللّه، سيد أولياء اللّه، مشمّرا ناصحا، مجدّا كادحا، و أنتم في رفاهيّة من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربّصون بنا الدوائر، و تتوكّفون الأخبار، و تنكصون عند النزال، و تفرّون عند القتال، فلمّا اختار اللّه لنبيّه دار أنبيائه، و مأوى أصفيائه، ظهرت فيكم حسيكة النفاق، و سمل جلباب الدين، و نطق كاظم الغاوين، و نبغ خامل الأقلين، و هدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، و للغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، و أحمشكم فألفاكم غضابا، فوسمتم غير أبلكم، و أوردتم غير شربكم، هذا و العهد قريب، و الكلم رحيب، و الجرح لمّا يندمل، و الرسول لمّا يقبر، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ، فهيهات منكم و كيف بكم و أنّى تؤفكون و كتاب اللّه بين أظهركم، أموره ظاهرة، و أحكامه زاهرة، و أعلامه باهرة، و زواجره لائحة، و أوامره واضحة، قد خلّفتموه وراء ظهوركم، أ رغبة عنه تريدون..، أم بغيره تحكمون بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ، ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها، و يسلس قيادها، ثم أخذتم تورون وقدتها، و تهيجون جمرتها، و تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، و إطفاء أنوار الدين الجلي، و إهماد سنن النبيّ الصفي، تسرون حسوا في ارتغاء، و تمشون لأهله و ولده في الخمر و الضراء، و نصبر منكم على مثل حزّ المدى، و وخز السنان في الحشا، و أنتم تزعمون ألا إرث لنا أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أ فلا تعلمون بلى، تجلى لكم كالشمس الضاحية أنّي ابنته أيّها المسلمون، أ أغلب على إرثي.
يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب اللّه أن ترث أباك و لا أرث أبي لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا أ فعلى عمد تركتم كتاب اللّه و نبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ و قال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا ع إذ قال ربّ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، و قال وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، و قال يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، و قال إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، و زعمتم ألا حظوة لي و لا أرث من أبي و لا رحم بيننا، أفخصّكم اللّه بآية أخرج منها أبي صلى الله عليه وآله ؟ أم هل تقولون أهل ملّتين لا يتوارثان، أولست أنا و أبي من أهل ملّة واحدة ؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمّي ؟! فدونكما مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم اللّه، و الزعيم محمّد، و الموعد القيامة، و عند الساعة ما تخسرون، و لا ينفعكم إذ تندمون، و لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ و فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ...
ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت :الحمد للّه على ما أنعم، و له الشكر على ما ألهم، و الثناء بما قدّم من عموم نعم ابتداها، و سبوغ آلاء أسداها، و تمام منن والاها جمّ عن الإحصاء عددها، و نأى عن الجزاء أمدها، و تفاوت عن الإدراك أبدها، و ندبهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، و ثنى بالندب إلى أمثالها، و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، و ضمن القلوب موصولها، و أنار في الفكرة معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، و من الألسن صفته، و من الأوهام كيفيّته، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، و أنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، و ذرأها بمشيّته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، و لا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته، و تنبيها على طاعته، و إظهارا لقدرته، و تعبّدا لبريّته، و إعزازا لدعوته، ثم جعل الثواب على طاعته، و وضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته و حياشة منه إلى جنّته، و أشهد أنّ أبي محمّدا ص عبده و رسوله، اختاره و انتجبه قبل أن أرسله، و سمّاه قبل أن اجتبله، و اصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، و بستر الأهاويل مصونة، و بنهاية العدم مقرونة، علما من اللّه تعالى بمآيل الأمور، و إحاطة بحوادث الدهور، و معرفة بمواقع المقدور، ابتعثه اللّه تعالى إتماما لأمره، و عزيمة على إمضاء حكمه، و إنفاذا لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكّفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة للّه مع عرفانها، فأنار اللّه بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله ظلمها، و كشف عن القلوب بهمها، و جلى عن الأبصار غممها، و قام في الناس بالهداية، و أنقذهم من الغواية، و بصرّهم من العماية، و هداهم إلى الدين القويم، و دعاهم إلى الطريق المستقيم، ثم قبضه اللّه إليه قبض رأفة و اختيار، و رغبة و إيثار فمحمد صلّى اللّه عليه و آله عن تعب هذه الدار في راحة، قد حفّ بالملائكة الأبرار، و رضوان الربّ الغفّار، و مجاورة الملك الجبّار، صلّى اللّه على أبي نبيّه و أمينه على الوحي وصفيّه و خيرته من الخلق و رضيّه، و السلام عليه و رحمة اللّه و بركاته.
ثم التفتت إلى أهل المجلس، و قالت :
أنتم عباد اللّه نصب أمره و نهيه، و حملة دينه و وحيه، و أمناء اللّه على أنفسكم، و بلغاؤه إلى الأمم، و زعمتم حقّ لكم للّه فيكم عهد قدّمه إليكم، و بقية استخلفها عليكم، كتاب اللّه الناطق، و القرآن الصادق، و النور الساطع، و الضياء اللامع، بيّنة بصائره، منكشفة سرائره، متجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائد إلى الرضوان أتباعه، مؤدّ إلى النجاة أسماعه، به تنال حجج اللّه المنوّرة، و عزائمه المفسّرة، و محارمه المحذّرة، و بيّناته الجالية، و براهينه الكافية، و فضائله المندوبة، و رخصه الموهوبة، و شرائعه المكتوبة، فجعل اللّه الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، و الصلاة تنزيها لكم عن الكبر، و الزكاة تزكية للنفس، و نماء في الرزق، و الصيام تثبيتا للإخلاص، و الحج تشييدا للدين، و العدل تنسيقا للقلوب، و طاعتنا نظاما للملّة، و إمامتنا أمانا من الفرقة، و الجهاد عزّا للإسلام، و الصبر معونة على استيجاب الأجر، و الأمر بالمعروف مصلحة للعامّة، و برّ الوالدين وقاية من السخط، و صلة الأرحام منماة للعدد، و القصاص حقنا للدماء، و الوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، و توفية المكاييل و الموازين تغييرا للبخس، و النهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس، و اجتناب القذف حجابا عن اللعنة، و ترك السرقة إيجابا للعفّة، و حرّم اللّه الشرك إخلاصا له بالربوبيّة، فاتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إلا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، و أطيعوا اللّه فيما أمركم به و نهاكم عنه فإنّه إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ.
ثم قالت :
أيّها الناس اعلموا أنّي فاطمة و أبي محمّد صلّى اللّه عليه و آله، أقول عودا و بدءا، و لا أقول ما أقول غلطا، و لا أفعل ما أفعل شططا لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، فإن تعزوه و تعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، و أخا ابن عمّي دون رجالكم، و لنعم المعزي إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فبلّغ الرسالة، صادعا بالنذارة، مائلا عن مدرجة المشركين، ضاربا ثبجهم، آخذا بأكظامهم، داعيا إلى سبيل ربّه بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، يكسّر الأصنام، و ينكث الهام، حتى انهزم الجمع و ولّوا الدبر، حتى تفرّى الليل عن صبحه، و أسفر الحقّ عن محضه، و نطق زعيم الدين، و خرست شقاشق الشياطين، و طاح وشيظ النفاق، و انحلّت عقد الكفر و الشقاق، و فهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص، وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، مذقة الشارب، و نهزة الطامع، و قبسة العجلان، و موطئ الأقدام، تشربون الطرق، و تقتاتون الورق، أذلّة خاسئين، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ من حولكم، فأنقذكم اللّه تبارك و تعالى بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله بعد اللتيا و الّتي، و بعد أن مني ببهم الرجال، و ذؤبان العرب، و مردة أهل الكتاب كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ، أو نجم قرن للشيطان، و فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، و يخمد لهبها بسيفه، مكدودا في ذات اللّه، و مجتهدا في أمر اللّه، قريبا من رسول اللّه، سيد أولياء اللّه، مشمّرا ناصحا، مجدّا كادحا، و أنتم في رفاهيّة من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربّصون بنا الدوائر، و تتوكّفون الأخبار، و تنكصون عند النزال، و تفرّون عند القتال، فلمّا اختار اللّه لنبيّه دار أنبيائه، و مأوى أصفيائه، ظهرت فيكم حسيكة النفاق، و سمل جلباب الدين، و نطق كاظم الغاوين، و نبغ خامل الأقلين، و هدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، و للغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، و أحمشكم فألفاكم غضابا، فوسمتم غير أبلكم، و أوردتم غير شربكم، هذا و العهد قريب، و الكلم رحيب، و الجرح لمّا يندمل، و الرسول لمّا يقبر، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ، فهيهات منكم و كيف بكم و أنّى تؤفكون و كتاب اللّه بين أظهركم، أموره ظاهرة، و أحكامه زاهرة، و أعلامه باهرة، و زواجره لائحة، و أوامره واضحة، قد خلّفتموه وراء ظهوركم، أ رغبة عنه تريدون..، أم بغيره تحكمون بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ، ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها، و يسلس قيادها، ثم أخذتم تورون وقدتها، و تهيجون جمرتها، و تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، و إطفاء أنوار الدين الجلي، و إهماد سنن النبيّ الصفي، تسرون حسوا في ارتغاء، و تمشون لأهله و ولده في الخمر و الضراء، و نصبر منكم على مثل حزّ المدى، و وخز السنان في الحشا، و أنتم تزعمون ألا إرث لنا أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أ فلا تعلمون بلى، تجلى لكم كالشمس الضاحية أنّي ابنته أيّها المسلمون، أ أغلب على إرثي.
يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب اللّه أن ترث أباك و لا أرث أبي لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا أ فعلى عمد تركتم كتاب اللّه و نبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ و قال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا ع إذ قال ربّ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، و قال وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، و قال يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، و قال إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، و زعمتم ألا حظوة لي و لا أرث من أبي و لا رحم بيننا، أفخصّكم اللّه بآية أخرج منها أبي صلى الله عليه وآله ؟ أم هل تقولون أهل ملّتين لا يتوارثان، أولست أنا و أبي من أهل ملّة واحدة ؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمّي ؟! فدونكما مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم اللّه، و الزعيم محمّد، و الموعد القيامة، و عند الساعة ما تخسرون، و لا ينفعكم إذ تندمون، و لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ و فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ...
يا معاشر الفتية و أعضاد الملّة، و أنصار الإسلام، ما هذه الغميزة في حقّي، و السّنة عن ظلامتي، أما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبي يقول المرء يحفظ في ولده، سرعان ما أحدثتم، و عجلان ذا إهالة، و لكم طاقة بما أحاول، و قوّة على ما أطلب و أزاول، أ تقولون مات محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فخطب جليل استوسع وهنه، و استنهر فتقه، و انفتق رتقه، و اظلمّت الأرض لغيبته، و كسفت النجوم لمصيبته، و أكدت الآمال، و خشعت الجبال، و أضيع الحريم، و أزيلت الحرمة عند مماته، فتلك و اللّه النازلة الكبرى، و المصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، و لا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب اللّه جلّ ثناؤه في أفنيتكم في ممساكم و مصبحكم، هتافا و صراخا، و تلاوة و ألحانا، و لقبله ما حلّ بأنبياء اللّه و رسله، حكم فصل و قضاء حتم وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ. إيها بني قيلة أأهضم تراث أبي و أنتم بمرأى منّي و مسمع، و مبتدى و مجمع، تلبسكم الدعوة، و تشملكم الخبرة، و أنتم ذا العدد و العدّة، و الأداة و القوّة، و عندكم السلاح و الجنّة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، و تأتيكم الصرخة فلا تغيثون، و أنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير و الصلاح، و النجبة التي انتجبت، و الخيرة التي اختيرت، قاتلتم العرب، و تحمّلتم الكدّ و التعب، و ناطحتم الأمم، و كافحتم البهم، فلا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام، و درّ حلب الأيام، و خضعت ثغرة الشرك، و سكنت فورة الإفك، و خمدت نيران الكفر، و هدأت دعوة الهرج، و استوسق نظام الدين، فأنّى حرتم بعد البيان، و أسررتم بعد الإعلان، و نكصتم بعد الإقدام، و أشركتم بعد الإيمان أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، و أبعدتم من هو أحقّ بالبسط و القبض، و خلوتم بالدعة، و نجوتم من الضيق بالسعة، فمججتم ما وعيتم، و دسعتم الذي تسوّغتم، فإن تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ألا و قد قلت ما قلت على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم، و الغدرة التي استشعرتها قلوبكم، و لكنّها فيضة النفس، و نفثة الغيظ، و خور القنا، و بثّة الصدر، و تقدمة الحجّة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخف، باقية العار، موسومة بغضب اللّه و شنار الأبد، موصولة بنار اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة فبعين اللّه ما تفعلون وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. و أنا ابنة نذير لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ فاعملوا... إِنَّا عامِلُونَ وَ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ.
فأجابها أبو بكر عبد اللّه بن عثمان فقال : يا ابنة رسول اللّه ص لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما، رءوفا رحيما، و على الكافرين عذابا أليما، و عقابا عظيما، فإن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، و أخا لبعلك دون الأخلاء، آثره على كلّ حميم، و ساعده في كلّ أمر جسيم، لا يحبّكم إلا كلّ سعيد، و لا يغضكم إلا كلّ شقي، فأنتم عترة رسول اللّه ص الطيّبون، و الخيرة المنتجبون، على الخير أدلّتنا، و إلى الجنّة مسالكنا، و أنت يا خيرة النساء و ابنة خير الأنبياء صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقّك، و لا مصدودة عن صدقك، وواللّه ما عدوت رأي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا عملت إلا بإذنه، و إنّ الرائد لا يكذب أهله، و إنّي أشهد اللّه و كفى به شهيدا أنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة و لا دارا و لا عقارا و إنّما نورث الكتب و الحكمة و العلم و النبوة، و ما كان لنا من طعمة فلوليّ الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه، و قد جعلنا ما حاولته في الكراع و السلاح يقاتل به المسلمون و يجاهدون الكفار، و يجالدون المردة، ثم الفجار، و ذلك بإجماع من المسلمين، لم أتفرّد به وحدي، و لم أستبدّ بما كان الرأي فيه عندي، و هذه حالي و مالي هي لك و بين يديك لا نزوي عنك و لا ندّخر دونك، و أنت سيدة أمّة أبيك، و الشجرة الطيّبة لبنيك، لا يدفع ما لك من فضلك، و لا يوضع من فرعك و أصلك، حكمك نافذ فيما ملكت يداي، فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فقالت عليها السلام : سبحان اللّه ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن كتاب اللّه صارفا، و لا لأحكامه مخالفا، بل كان يتّبع أثره، و يقفو سوره، أ فتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور، و هذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته، هذا كتاب اللّه حكما عدلا، و ناطقا فصلا، يقول يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ فبيّن عزّ و جلّ فيما وزّع عليه من الأقساط، و شرّع من الفرائض و الميراث، و أباح من حظّ الذكران و الإناث ما أزاح علّة المبطلين، و أزال التظنّي و الشبهات في الغابرين، كلّا بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.
فقال أبو بكر : صدق اللّه و صدق رسوله و صدقت ابنته، أنت معدن الحكمة، و موطن الهدى و الرحمة، و ركن الدين، و عين الحجّة، لا أبعد صوابك، ولا أنكر خطابك، هؤلاء المسلمون بيني و بينك قلّدوني ما تقلّدت، و باتّفاق منهم أخذت ما أخذت، غير مكابر و لا مستبدّ و لا مستأثر، و هم بذلك شهود.
فالتفتت فاطمة عليها السلام إلى الناس و قالت : معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل، المغضية على الفعل القبيح الخاسر أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها، كلا بل ران على قلوبكم، ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم و أبصاركم، و لبئس ما تأولتم، و ساء ما به أشرتم، و شرّ ما منه اعتضتم، لتجدنّ و اللّه محمله ثقيلا، و غبّه وبيلا، إذا كشف لكم الغطاء، و بان ما وراءه الضرّاء، و بدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ .