عصمة الإمام ؛ تعريفها، وأدلتها
ا
عصمة الإمام:
تفرّدت الإمامية من بين الفرق الإسلامية بوجوب عصمة الامام من الذنب والخطأ، مع اتّفاق غيرهم على عدمه .
قال الشيخ المفيد: إنّ الأئمّة معصومون كعصمة الأنبياء، ولا تجوز عليهم صغيرة إلاّ ما تقدم ذكر جوازه على الأنبياء، ولا ينسون شيئاً من الأحكام، ولا يدخل في مفهوم العصمة سلب القدرة عن المعاصي، ولا كون المعصوم مضطراً إلى فعل الطاعات، فإنّ ذلك يستدعي بطلان الثواب والعقاب، هذه هي عقيدة الإمامية في الامامة، وقد استدلّوا عليه بوجوه من العقل والسمع. أمّا العقل فقالوا: إنّ الامام منفذ لما جاء به الرسول، وحافظ للشرع، وقائم بمهام الرسول كلّها، فلو جاز عليه الخطأ والكذب، لا يحصل الغرض من إمامته .
حقيقة العصمة:
العصمة قوة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ، حيث لا يترك واجباً، ولا يفعل محرَّماً مع قدرته على الترك والفعل، وإلاّ لم يستحق مدحاً ولا ثواباً، وإن شئت قلت: إنّ المعصوم قد بلغ من التقوى حدّاً لا تتغلَّب عليه الشهوات والأهواء، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبةً لا يخطأ معها أبداً.
وليست العصمة شيئاً ابتدعته الشيعة، وإنّما دلَّهم عليهم في حق العترة الطاهرة، كتاب اللّه وسنّة رسوله. قال سبحانه: (إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرِكُمْ تَطْهِيراً)[الأحزاب / 33] وليس المراد من الرجس إلاّ الرجس المعنوي وأظهره هو الفسق. وقال الرسول: «علي مع الحق والحق مع عليٍّ يدور معه كيفما دار»[ حديث مستفيض، رواه الخطيب في تاريخه 14 / 321 والهيثمي في مجمعه 7 / 236 وغيرهما] ومن دار معه الحق كيفما دار، محال أن يعصي أو أن يخطأ، وقول الرسول في حق العترة: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا»[ حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه، والدارمي في فضائل القرآن وأحمد في مسنده 2 / 114 وغيرهم] فاذا كانت العترة عدل القرآن تصبح معصومة كالكتاب، لا يخالف أحدهما الآخر، وليس القول بعصمة العترة بأعظم من القول بكون الصحابة كلّهم عدول .
وليس للقول بالعصمة في حق العترة منشأ سوى الكتاب والسنّة، وسيوافيك بعض دلائلهم .
نعم شذَّ من قال انّ عقيدة العصمة تسرّبت إلى الشيعة من الفرس الذين نشأوا على تقديس الحاكم، لهذا أطلق عليها العرب النزعة الكسروية، ولا أعرف أحداً من العرب قال ذلك في حدود اطلاعي، ولعلّ غالبية الشيعة كانت ترمي من وراء هذه الفكرة إلى تنزيه علي من الخطأ حتّى يتّضح للملأ عدوان بني أمية في اغتصاب الخلافة. هذا وفي اليهودية كثير من المذاهب الّتي تسرَّبت إلى الشيعة[ الدكتور نبيه حجاب: مظاهر الشعوبية في الأدب العربي 492، كما في هوية التشيع 166 ] .
هب انّ عصمة الامام تسرّبت إلى الشيعة من الطريق الّذي أشار إليه الكاتب فمن أين تسرّبت عصمة النبي الّتي يقول بها أهل السنّة جميعاً في التبليغ وبيان الشريعة، فهل هذه الفكرة تسرّبت إلى أهل السنّة من اليهود .
لا واللّه إنّها عقيدة اسلامية واقتبسها القوم من الكتاب والسنّة من دون أخذ من اليهود والفرس، فما ذكره الكاتب تخرُّص على الغيب، بل فرية واضحة .
إنّ الاختلاف في لزوم توصيف الامام وعدمه، ينشأ من الاختلاف في تفسير الامامة بعد الرسول وماهيتها وحقيقتها فمن تلقّى الامامة ـ بعد الرسول ـ بأنّها مقام عرفي لتأمين السبل، وتعمير البلاد واجراء الحدود، فشأنه شأن سائر الحكّام العرفيين. وأمّا من رأى الامامة بأنّها استمرار لتحقيق وظيفة الرسالة وأنّ الامام ليس بنبىّ ولا يوحى إليه، لكنّه مكلّف بملء الفراغات الحاصلة برحلة النبي، فلا محيص له عن الالتزام بها، لأنّ الغاية المنشودة لا تحصل بلا تسديد إلهي كما سيوافيك، نعم إنّ أهل السنّة يتحرَّجون من توصيف الامام بالعصمة ويتخيِّلون أنّ ذلك يلازم النبوّة وما هذا إلاّ أنّهم لا يفرّقون بين الإمامتين ولكل معطياته والتفصيل موكول إلى محلّه .
الدليل على لزوم عصمة الامام بعد النبىّ:
استدل على لزوم العصمة في الامام بوجوه نأتي بها.
الأوّل: انّ الامامة إذا كانت استمراراً لوظيفة النبوة والرسالة، وكان الامام يملأ جميع الفراغات الحاصلة جرّاء رحلة النبي الأكرم، فلا مناص من لزوم عصمته، وذلك لأنّ تجويز المعصية يتنافى مع الغاية الّتي لأجلها نصبه اللّه سبحانه إماماً للاُمّة، فانّ الغاية هي هداية الاُمّة إلى الطريق المهيع، ولا يحصل ذلك إلاّ بالوثوق بقوله، والاطمئنان بصحة كلامه، فاذا جاز على الامام الخطأ والنسيان، والمعصية والخلاف، لم يحصل الوثوق بأفعاله وأقواله، وضعفت ثقة الناس به، فتنتفي الغاية من نصبه، وهذا نفس الدليل الّذي استدلّ به المتكلمون على عصمة الأنبياء، والامام وإن لم يكن رسولا ولا نبيّاً ولكنّه قائم بوظائفهما .
نعم لو كانت وظيفة الامام مقتصرة بتأمين السبل وغزو العدو و الانتصاف للمظلوم وما أشبه ذلك، لكفى فيه كونه رجلا عادلا قائماً بالوظائف الدينية، وأمّا إذا كانت وظيفته أوسع من ذلك كما هو الحال في مورد النبىّ، فكون الامام عادلا قائماً بالوظائف الدينية، غير كاف في تحقيق الهدف المنشود من نصب الامام .
فقد كان النبي الأكرم يفسّر القرآن الكريم ويشرح مقاصده وأهدافه ويبيّن أسراره .
كما كان يجيب على الأسئلة في مجال الموضوعات المستحدثة وكان يردّ على الشبهات والتشكيكات الّتي كان يلقيها أعداء الإسلام .
وكان يصون الدين من محاولات التحريف والتغيير .
وكان يربّي المسلمين ويهذّبهم ويدفعهم نحو التكامل .
فالفراغات الحاصلة برحلة النبي الأكرم لا تسدّ إلاّ بوجود انسان مثالي تقوم بتلك الواجبات وهو فرع كونه معصوماً عن الخطأ والعصيان [ هذا اجمال ما أوضحناه في بحوثنا الكلامية فلاحظ الإلهيات 2 / 528 ـ 539 ] .
الثاني: قوله سبحانه: (أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِى الأمْرِ مِنْكُمْ) [ النساء / 59] .
والاستدلال مبني على دعامتين:
1- إنّ اللّه سبحانه أمر بطاعة اُولي الأمر على وجه الاطلاق، إي في جميع الأزمنة والأمكنة، وفي جميع الحالات والخصوصيات، ولم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشيء كما هو مقتضى الآية .
2- إنّ من البديهي أنّه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان (ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْر) [ الزمر / 7 ] من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آمر أو نهي ناه، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من اُولي الأمر .
فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين (وجوب اطاعة اُولي الأمر على وجه الاطلاق، وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان) أن يتّصف أُولي الأمر الذين وجبت اطاعتهم على وجه الاطلاق، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربّانية، تصدّهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس هذا إلاّ عبارة أُخرى عن كونهم معصومين، وإلاّ فلو كانوا غير واقعين تحت تلك العناية، لما صحّ الأمر باطاعتهم على وجه الاطلاق ولما صحَّ الأمر بالطاعة بلا قيد وشرط. فتستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة، اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة .
وممّن صرّح بدلالة الآية على العصمة الامام والرازي في تفسيره، ويطيب لي أن أذكر نصَّه حتّى يمعن فيه أبناء جلدته وأتباع طريقته قال:
إنّ اللّه تعالى أمر بطاعة اُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع، لابد وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير اقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنّه محال، فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة اُولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كل من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أنّ اُولي الأمر المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون معصوماً [ مفاتيح الغيب 10 / 144 ] .
ولمّا وقف الرازي على تمامية دلالة الآية على عصمة اُولي الأمر، وهي لا توافق مذهبه في الامامة حاول أن يؤول الآية بما يوافقه مع أنّ الواجب على أمثاله، أن يتعرّف على «اُولي الأمر» الّذي استظهر من الآية كونهم معصومين، ولكنّه زلّت قدمه، ولم يستغل هذه الفكرة، ولم يستثمرها، فأخذ يتهرّب من نتائج الفكرة بالقول بأنّا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليه، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منه، فاذا كان الأمر كذلك فالمراد ليس بعضاً من أبعاض الاُمّة، بل المراد هو أهل الحل والعقد من الاُمّة .
يلاحظ عليه: بأنّه إذا دلّت الآية على عصمة اُولي الأمر فيجب علينا التعرّف عليهم، وادّعاء العجز، هروب من الحقيقة فهل العجز يختص بزمانه أو كان يشمل زمان نزول الآية، لا أظن أن يقول الرازي بالثاني فعليه أن يتعرّف على المعصوم في زمان النبىّ وعصر نزول الآية، فبالتعرّف عليهم، يعرف معصوم زمانه، حلقة بعد أخرى، ولا يعقل أن يأمر الوحي الإلهي باطاعة المعصوم ثم لا يقوم بتعريفه حين النزول، فلو آمن الرازي بدلالة الآية على عصمة اُولي الأمر، لكان عليه أن يؤمن بقيام الوحي الإلهي على تعريفهم بلسان النبي الأكرم .
إذ لا معنى أن يأمر اللّه سبحانه باطاعة المعصوم، ولا يقوم بتعريفه .
ثمّ إنّ تفسير «اُولي الأمر» بأهل الحل والعقد، تفسير للغامض ـ حسب نظر الرازي ـ بالأغمض إذ هو ليس بأوضح من الأول، فهل المراد منهم: العساكر والضباط، أو العلماء والمحدّثون، أو الحكام والسياسيون أو الكل. وهل اتّفق اجماعهم على شيء، ولم يخالفهم لفيف من المسلمين .
إذا كانت العصمة ثابتة للاُمّة عند الرازي كما علمت، فهناك من يرى العصمة لجماعة من الاُمّة كالقراء والفقهاء والمحدّثين، هذا هو ابن تيمية يقول في ردّه على الشيعة عند قولهم:
انّ وجود الامام المعصوم لابدّ منه بعد موت النبي يكون حافظاً للشريعة ومبيّناً أحكامها خصوصاً أحكام الموضوعات المتجدّدة، يقول:
إنّ أهل السنّة لا يسلمون أن يكون الامام حافظاً للشرع بعد انقطاع الوحي، وذلك لأنّ ذلك حاصل للمجموع، والشرع إذا نقله أهل التواتر كان ذلك خيراً من نقل الواحد، فالقرّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدّثون معصومون في حفظ الأحاديث وتبليغها، والفقهاء معصومون في الكلام والاستدلال [ ابن تيمية: منهاج السنّة كما في نظرية الامامية 120 ] .
يلاحظ عليه: كيف يدّعي العصمة لهذه الطوائف مع أنّهم غارقين في الاختلاف في القراءة والتفسير، و الحديث والأثر، والحكم والفتوى، والعقيدة والنظر، ولو أغمضنا عن ذلك فما الدليل على عصمة تلكم الطوائف خصوصاً على قول القائل بأنّ القول بالعصمة تسرّب من اليهود إلى الأوساط الإسلامية .
الثالث: قوله سبحانه: (وإذِ ابْتَلى إبراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمات فَأتَمَّهُنَّ قالَ إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمينَ) [ البقرة / 124] .
والاستدلال بالآية على عصمة الامام، يتوقّف على تحديد مفهوم الامامة الوارد في الآية والمقصود منها غير النبوّة وغير الرسالة، فأمّا الأوّل فهو عبارة عن منصب تحمّل الوحي، والثاني عبارة عن منصب ابلاغه إلى الناس. والإمامة المعطاة للخليل في اُخريات عمره غير هذه وتلك، لأنّه كان نبياً ورسولا وقائماً بوظائفهما طيلة سنين حتّى خوطب بهذه الآية، فالمراد من الإمامة في المقام هو منصب القيادة، وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوة وقدرة. ويعرب عن كون المراد من الامامة في المقام هو المعنى الثالث، قوله سبحانه: (أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ و آتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظيماً) [ النساء / 54] .
فالإمامة الّتي أنعم بها اللّه سبحانه على الخليل وبعض ذرّيته، هي الملك العظيم الوارد في هذه الآية. وعلينا الفحص عن المراد بالملك العظيم، إذ عند ذلك يتّضح أنّ مقام الامامة، وراء النبوّة والرسالة، وانّما هو قيادة حكيمة، وحكومة إلهية، يبلغ المجتمع بها إلى السعادة. واللّه سبحانه يوضح حقيقة هذا الملك في الآيات التالية:
1- يقول سبحانه ـ حاكياً قول يوسف ـ عليه السلام ـ : (رَبِّ قَدْ اَتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأويلِ الأحاديثِ) [ يوسف / 101 ] ومن المعلوم أنّ الملك الّذي منّ به سبحانه على عبده يوسف، ليس النبوّة، بل الحاكمية حيث صار أميناً مكيناً في الأرض. فقوله: (وعلمتني من تأويل الأحاديث)اشارة إلى نبوّته، والملك اشارة إلى سلطته وقدرته .
2- ويقول سبحانه في داود ـ عليه السلام ـ : (وَ آتاهُ اللّهُ المُلْكَ وَ الحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشآءُ) [ البقرة / 251 ] ويقول سبحانه: (وَ شَدَدْنَا مُلْكَهُ وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ) [ ص / 20 ] .
3- ويحكي اللّه تعالى عن سليمان أنّه قال: (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأحَد مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ) [ ص / 35] .
فملاحظة هذه الآيات يفسر لنا حقيقة الامامة، وذلك بفضل الاُمور التالية:
أ ـ إنّ إبراهيم طلب الإمامة لذريته، وقد أجاب سبحانه دعوته في بعضهم.
ب ـ إنّ مجموعة من ذرّيته، كيوسف وداود وسليمان، نالوا ـ وراء النبوّة والرسالة ـ منصب الحكومة والقيادة .
ج ـ إنّه سبحانه أعطى آل ابراهيم الكتاب، والحكمة، والملك العظيم .
فمن ضم هذه الاُمور بعضها إلى بعض، يخرج بهذه النتيجة: انّ ملاك الإمامة في ذرّية إبراهيم، هو قيادتهم وحكمهم في المجتمع، وهذه هي حقيقة الامامة، غير أنّها ربّما تجتمع مع المقامين الاُخريين، كما في الخليل، ويوسف، وداود، وسليمان، وغيرهم، وربّما تنفصل عنهما كما في قوله سبحانه: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُّ بِالمُلكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُم وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَ اللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشآءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَليمٌ) [البقرة / 247] .
والامامة الّتي يتبنّاها المسلمون بعد رحلة النبي الأكرم، تتّحد واقعيتها مع هذه الامامة.
ما هو المراد من الظالم:
قد تعرّفت على المقصود من جعل الخليل إماماً للناس، وانّ المراد هو القيادة الإلهية، وسوق الناس إلى السعادة بقوّة وقدرة ومنعة. بقي الكلام في تفسير الظالم الّذي ليس له من الإمامة سهم، فنقول:
لمّا خلع سبحانه ثوب الامامة على خليله، ونصبه إماماً للناس، ودعا إبراهيم أن يجعل من ذرّيته إماماً، اُجيب بأنّ الامامة منصب إلهي، لا يناله الظالمون، لأنّ الإمام هو المطاع بين الناس، المتصرّف في الأموال والنفوس، فيجب أن يكون على الصراط السويّ، والظالم المتجاوز عن الحد لا يصلح لهذا المنصب .
إنّ الظالم الناكث لعهد اللّه، والناقض لقوانينه وحدوده، على شفا جرف هار، لا يؤتمن عليه ولا تلقى إليه مقاليد الخلافة، لأنّه على مقربة من الخيانة والتعدي، وعلى استعداد لأن يقع أداة للجائرين، فكيف يصحّ في منطق العقل أن يكون إماماً مطاعاً، نافذ القول، مشروع التصرّف. وعلى ذلك، فكل من ارتكب ظلماً وتجاوز حداً في يوم من أيام عمره، أو عبد صنماً، أو لاذ إلى وثن، وبالجملة ارتكب ما هو حرام فضلا عمّا هو شرك وكفر، ينادى من فوق العرش في حقه
لا ينال عهدي الظالمين) من غير فرق بين صلاح حالهم بعد تلك الفترة، أو البقاء على ما كانوا عليه .
نعم اعترض «الجصاص» على هذا الاستدلال وقال: «إنّ الآية إنّما تشمل من كان مقيماً على الظلم وأمّا التائب منه فلا يتعلّق به الحكم، لأنّ الحكم إذا كان معلّقاً على صفة، وزالت تلك الصفة، زال الحكم. ألاترى أنّ قوله: (وَ لا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [ هود / 113] إنّما ينهى عن الركون إليهم ما أقاموا على الظلم، فقوله تعالى: (لا يَنال عَهدِى الظّالِمينَ) لم ينف به العهد عمّن تاب عن ظلمه، لأنّه في هذه الحاله لا يسمّى ظالماً، كما لا يسمّى من تاب من الكفر كافراً» [ تفسير آيات الأحكام 1 / 72 ].
يلاحظ عليه: أنّ قوله «الحكم يدور مدار وجود الموضوع» ليس ضابطاً كلياً، بل الأحكام على قسمين، قسم كذلك، وآخر يكفي فيه اتّصاف الموضوع بالوصف والعنوان آناً ما، ولحظة خاصة، وإن انتفى بعد الاتّصاف، فقوله: «الخمر حرام»، أو: «في سائمة الغنم زكاة» من قبيل القسم الأوّل، وأمّا قوله: «الزاني يحد»، و «السارق يقطع» فالمراد منه انّ الإنسان المتلبّس بالزنا أو السرقة يكون محكوماً بهما وإن زال العنوان، وتاب السارق والزاني، ومثله: «المستطيع يجب عليه الحج» فالحكم ثابت، وإن زالت عنه الاستطاعة عن تقصير لا عن قصور .
وعلى ذلك فالمدعى أنّ «الظالمين» في الآية المباركة كالسارق والسارقة والزاني والزانية والمستطيع واُمّهات نسائكم في الآيات الراجعة إليهم .
نعم المهم في المقام، اثبات أنّ الموضوع في الآية من قبيل الثاني، وأنّ التلبّس بالظلم ولو آناً ما، يسلب عن الإنسان صلاحية الامامة، وإن تاب من ذنبه، فإنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أقسام أربعة:
1- من كان طيلة عمره ظالماً .
2- من كان طاهراً ونقياً في جميع فترات عمره.
3- من كان ظالماً في بداية عمره، وتائباً في آخره .
4- من كان طاهراً في بداية عمره، وظالماً في آخره .
عند ذلك يجب أن نقف على أنّ إبراهيم ـ عليه السلام ـ ، الّذي سأل الإمامة لبعض ذريته أىّ قسم منها أراد؟ حاشا إبراهيم أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل، والرابع من ذريته، لوضوح انّ الغارق في الظلم من بداية عمره إلى آخره، أو المتّصف به أيام تصدّيه للإمامة، لا يصلح لأن يؤتمن عليها .
بقي القسمان الآخران، الثاني والثالث، وقد نص سبحانه على أنّه لا ينال عهده الظالم، والظالم في هذه العبارة لا ينطبق إلاّ على القسم الثالث، أعني من كان ظالماً في بداية عمره، وكان تائباً حين التصدي .
فإذا خرج هذا القسم، بقي القسم الثاني، وهو من كان نقي الصحيفة طيلة عمره، ولم ير منه لا قبل التصدّي ولا بعده أي انحراف عن جادة الحق، ومجاوزة للصراط السوي. وهو يساوي المعصوم .
العصمة في القول والراي:
إنّ الأئمة معصومون عن العصيان والمخالفة أوّلا، وعن الخطأ والزلة في القول ثانياً وما ذلك إلاّ لأنّ كلّ إمام من الأوّل إلى الثاني عشر، قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكل ما في هذين الأصلين بحيث لا يشذ عن علمهم معنى آية من آي الذكر الحكيم تنزيلا وتأويلا، ولا شيء من سنّة رسول اللّه قولا وفعلا وتقريراً و كفى بمن أحاط بعلوم الكتاب والسنّة فضلا وعلماً.
ومن هنا كانوا قدوة الناس جميعاً بعد جدّهم الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ . مراتب عصمة الأنبياء:
العِصمة تعني المصُونيّة ولها في باب النبوّة مراتب هي:
ألف: العصمة في مرحلة تلقّي الوحي وإبلاغه.
ب : العصمة عن المعصية والذنب.
ج : العصمة عن الخطأ في الأُمور الفردية والاجتماعية.
وعصمة الأَنبياء في المرحلة الأُولى موضعُ اتفاق الجميع، لأنّ احتمالَ الخطأ والإلتباس في هذه المرحلة يؤثر على وثوق الناس، واطمئنانِهم، ويوجب أن لا يعتمدَ الناسُ على إخبارات النبي وأقواله، فينتقضُ هدفُ النبوّةِ في المآل.
هذا مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الله يحفظُ نبيَّه، ويصونهُ صيانةً كاملةً حتى يبلّغ الوحيَ الإلهيَّ بصورة صحيحة كما قال: (عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيهِ وَمِنْ خَلْفهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أن قَد أَبْلَغُوا رِسالات رَبّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيء عَدَدا) [ الجن / 26 ـ 28 ].
ففي هذه الآية ذكَرَ القرآن الكريم نوعين من الحَفَظَة لصيانة الوحي:
ألف: الملائكة الذين يحيطون بالنبيّ من كلّ ناحية وجانب.
ب : انّ الله تعالى نفسه يحيط بالملائكة والنبيّ .
وهذه النظارة الشديدة والمراقَبَة الكاملة انّما هي لتحقيق غرض النبوّة، وهو إيصال الوحي الإلهيّ إلى البشر.
عصمة الأنبياء من كل معصية وذنب إنّ أنبياء الله ورُسُلَه معصومون من الذنب والزلل، في مجال العمل بأحكامِ الشريعةِ، عصمةً مطلقةً.
لأنّ الهدف من بعثة الأنبياء إنّما يتحقّق أساساً إذا تمتّع الأنبياء والرُسُل بمثل هذه العصمة، لأنّهم إذا لم يلتزموا بالأَحكام الإلهيّة التي كُلِّفُوا بإِبلاغها إلى الناس، انتفى الوثوق بكلامهم، فلم يتحقّق الغرضُ المنشودُ من بعثِهم، وإرسالهم.
ولقد أشارَ المحققُ الطوسيُّ إلى هذا البرهان بعبارة موجَزَة حيث قال: «ويجب في النبيّ العصمةُ ليحصلَ الوثوقُ فيحصل الغرضُ» [ كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد 217 ].
إنّ عصمة الأنبياء عن المعصية أمر قد أكّده القرآنُ الكريمُ في آيات مختلفة نورد هنا بعضها:
ألف: إنّ القرآن الكريم يعتبر الأنبياءَ أشخاصاً مهدِيّين ومختارين من قِبل الله تعالى إذ قال: (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إلى صِراط مُسْتَقيْم) [الأنعام / 87 ].
ب : إنَّ القرآنَ الكريمَ يذكِّر بأنّ الذي يهديه الله لا يقدر أحد على إضلاله إذ يقول: (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلّ) [ الزمر / 37].
ج : يعتبر المعصية ضَلالاً إذ يقول: (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً) [يس / 62 ].
فيستفاد من مجموعة هذه الآيات أنّ الأنبياء معصومون من كلّ أنواع الضلال، ومصونون من كل ألوان المعصية.
إنّ البُرهانَ العَقليّ الذي أقمناه فيما سبق على عِصمة الأنبياء يدلّ على عصمتهم قبل البعثة أيضاً، لأنّ الإنسان الذي صَرَفَ رَدْحاً من عمره في الذنب والمعصية، ثم حَمَلَ لواءَ الهداية والإرشاد لم يتمكّن من الحصول على ثقة النّاس به، وسكونهم إلى أقواله، بخلاف من عاش قَبلَ بعثته نقيَّ الجيب، طاهِرَ الذَيل، فإنّه قادرٌ على جَلب ثقة الناس، وكسب تأييدهم له. هذا مضافاً إلى أنّ في مقدور معارضي الرسالة، أن يغتالوا بسهولة شخصيّة الرسول، ويطعنوا فيه بالتلويح بسوابقه قبلَ النبوة، ويحطُّوا ـ بذلك ـ من شأنه، وشأن رسالته.
إنّ الذي استطاع ـ بفضل العيش بطهر ونقاء، في بيئة فاسدة ـ أن يكتسب لقب «محمد الأمين» هو الشخص الوحيد الذي يستطيع بشخصيّتهِ الساطعة النقيّة، أن يُبدّد حُجُب الدعايات المضادة، ويفنّد مزاعم أعدائه، ومعارضي رسالته، ويضيء باستقامته العجيبة، البيئةَ الجاهليةَ المظلمة تدريجاً.
هذا مضافاً إلى أنّ من البديهي أنّ الإنسان الذي كان معصوماً من بداية حياته، أفضلُ من الذي تحلّى بصفة العصمة منذ أن صار نَبيّاً، كما أنّ تأثيرَه، ودوره الإرشاديّ لا ريب يكون أقوى، والحكمة الإلهيّة تقتضي اختيار الفَردِ الأحسن الأكمل.
عصمة الأنبياء عن الخطأ والزلل
إنَّ الأنبياء ـ مضافاً إلى كونهم معصومين من الذَّنْب ـ معصومون كذلك في الأُمور التالية:
ألف : في القضاء في المنازعات والفصل في الخصومات.
والنبي(ص) وإنْ كان مأموراً بالقضاء على وفق البيّنة واليمين، لكنّه في صورة خطأ البيّنة أو كذب الحالف واقف على الحق المرّ، وإنْ لم يكن مأموراً بالقضاء على طبقه.
ب : في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعية (مثل انّ المائع الفلانيّ هل هو خمرٌ أم لا؟).
ج : في القضايا اليوميّة العاديّة .
إنّ لزوم وصف النبيّ بالعصمة في الموارد المذكورة نابعٌ من أنّ الخطأ في مثل هذه المجالات ملازمٌ للخطأ في مجال الأحكام الدينيّة، وبالتالي فإنّ الخطأ في هذه الأُمور والمجالات يَضُرُّ بثقةِ النّاس بشخص النبيّ، ويُوجب في المآل تَعَرُّضَ الغَرَض المنشُود للخَطَر، وان كان لُزوم العصمة في الصورتين الأُولَيَين، أوضح من العصمة في الصورة الأخيرة.
الأنبياء مبرَّأون عن الأمراض المنفّرة
إنّ من مراتب العصمة هي أن لا تكون في وجود الأنبياء أُمور توجب تنفّر الناس وابتعادهم عنهم.
فكلُّنا يعلم بأنّ بعضَ الأمراض والعاهات الجسمية، أو بعض الخصال الروحيّة، التي تنم عن دناءة الطبع، وخِسّة النفس توجب تنفّرَ النّاسِ وابتعادهم عنه.
ولهذا فإنّ على الأنبياء أنّ يكونوا مُنَزَّهين عن العيوب الجسمية والروحيّة، لأنّ تَنَفّرَ الناس من النبي، واجتنابَهم عنه ينافي الهدف من بعثهم، وهو إبلاغ الرسالات الإلهيّة بواسطة الأنبياء إلى الناس.
كما أنّنا نُذَكِّرُ بأنَّ المراد من حكمِ العقل في هذا المجال هو الكشف عن حقيقة، هي أنّ على الله ـ لكونه حكيماً ـ أنّ يختارَ للنبوّة من يكون عارياً ومنزَّهاً عن مِثل هذه العيوب.[ إنّ حكمَ العقل في هذا المجال حكمٌ قَطعيٌّ، ولهذا فإنّ بعضَ الروايات التي وَرَدت حول النبي أيوب وهي تحكي عن ابتلائه بأمراض منفِّرة، مضافاً إلى كونها مخالفةً للحكمِ القَطعيِّ للعقل تنافي الرواياتِ المعارضة التي وَرَدَت عن أهل البيت في هذا المجال.
فقد قال الإمامُ الصادق (ع) : «إنَّ أيوب مع جميع ما ابتُلي به لم تنتنْ له رائحةٌ، ولا قَبُحَتْ له صورةٌ، ولا خرجَتْ منه مَدّةٌ من دَم، ولا قيح، ولا استَقْذرَهُ أحَدٌ رآه، ولا استوحش منه أحدٌ شاهدَه ولادوّد شيءٌ من جَسَدهِ، وهكذا يصنعُ الله عزّ وجلّ بجميع من يبتليه من أنبيائه، وأوليائه المكرَّمين عليه، وإنما اجتنَبَهُ الناسُ لِفَقره، وضَعْفِهِ في ظاهِرِ أمرهِ، لجَهْلهم بما لَهُ عند ربّه تعالى ذكْرُهُ، من التأييد والفَرَج».
(الخصال ج 1، أبواب السبعة، الحديث 107) ولهذا فإنّ الروايةَ المخالفةَ لهذا الموضوع، لا أساس لها من الصحة فهي مرفوضة]
دراسة الآيات الدالة على عدم العصمة
لقد عرفنا بِحُكمِ العقل القطعيّ، وقضاء القرآنِ الصَريح عصمة الأنبياء، ولكن ثمّة في هذا الصعيد بضع آيات تحكي ـ في بدو النظر ـ عن صُدُور الذنب والمعصية عنهم (مثل الآيات الواردة حول النبي آدم وغيره) فما هو الحلّ في هذه الآيات؟
في البداية يجب أنّ نقول: إنّ من المُسَلَّم أنّه حيث لا تناقض في القرآن الكريم أبداً، وجب أنْ نهتدي في ضوءِ القرائن الموجودة في نفس الآيات إلى المراد الحقيقي فيها.
ففي هذه الموارد لا يمكن أن يكونَ الظهور الإبتدائيّ هو الملاك للحكم المُتسَرِّع.
ومن حُسن الحَظّ أنَّ كبار مفَسّري الشيعة ومتكلّميهم قاموا بدراسة هذه الآيات القرآنية، بل وأقدم بعضهم على تأليف كتب مستقلة في هذا المجال.
وحيث إنّ معالَجة هذه الآيات واحدة واحدةً لا تحتملُها هذه الرسالةُ فإنّنا نحيل القرّاء الكرام إلى الكتب المذكورة في الهامش[تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى، وعصمة الأنبياء للفخر الرازي، ومفاهيم القرآن لجعفر السبحاني ج5 فصل عصمة الأنبياء].
منشأ العصمة وسببها
يمكن انّ نلَخّص منشأ العصمة وسببها في أمرين:
ألف : إنّ الأنبياء حيث إنّهم يتمتعون بمعرفة واسعة بالله سبحانه، لا يَستبدلون رضاه تعالى بشيء مطلقاً.
وبِعبارة أُخرى ; انّ إدراكهم العميق للعظمة الإلهيّة وللجمالِ والكمال الإلهيّين يمنعهم من التوجّه إلى أيّ شيء غير الحقّ تعالى، والتفكير في أيّ شيء غير الله سبحانه.
إنّ هذه المرتَبَة والدَّرَجة من المعرفة هي التي قال عنها الإمامُ أميرُ المؤمنين عليُ بن أبي طالب(ع): «ما رَأَيتُ شَيئاً إلاّ وَرَأَيْتُ اللهَ قبْلَهُ، وبَعْدَهُ ومَعَهُ»[بحار الأنوار 70 / 22 ].
وقال عنها الإمام الصادقُ (ع): «وَلكنِّي أعْبُدُهُ حُبّاً لَهُ فتلكَ عِبادةُ الكِرامِ»[المصدر السابق: 70 / 18 ضمن الحديث 9 ].
ب : إنّ اطّلاع الأنبياء الكامل على نتائج الطاعة وثمارها، وعلى آثار المعصية وتبعاتها السَيئة، هو سبب صيانتهم عن مخالفة الأمر الإلهيّ.
على أنّ العصمة المطلقة مختصّة بثلَّة خاصّة من أولياء الله، إلاّ أنّ في إمكان بعض المؤمنين الأتقياء أنْ يكونوا معصومين عن ارتكاب المعصية في قسم عظيم من أفعالهم، فالفَرد المتّقي مثلاً، لا يُقدم على الإنتحار، أو قتل الأبرياء أبداً[ قالَ الإمامُ عليُ بن أبي طالب (ع) عن هذا الفريق: «هُم والجَنّةُ كَمَنْ قَدْ رآها فَهُمْ فيها مُنَعَّمون، وَهُمْ والنّارُ كَمَنْ قد رَآها فَهُمْ فيها مُعَذَّبُون» نهج البلاغة، الخطبة رقم 193 الموجّهة إلى همّام].
بل وحتّى بعضُ الأشخاص العاديّين يتمتعون بالعصمة عن بعض الذنوب، وللمثال لا يُقدمُ أيُّ شخص على لمس سلك كهربائي فعّال تجنباً من الصَعق بالتيار الكهربائي.
ومن البَيّن أنّ العصمة في هذه الموارد ناشئ من العِلم القطعيّ بآثار عمله السيئة، فإذا كان مثل هذا العِلم حاصلاً للشخص في مجال تبعات الذنوب الخطيرة جداً أيضاً، كان ذلك موجباً حتماً لصيانة الشخص عن المعصية.
لا تنافي بين العصمة والاختيار
نَظَراً لمَنشأ العصمة نُذَكّر بأنّ العصمة لا تنافي إختيار المعصوم، وكونه حرّاً في إرادته، بل إنّ الشخصَ المعصومَ مع مَعرفته الكاملة بالله، وبآثار الطاعة والمعصية ونتائجهما، يمكنه أنّ يرتكب المعصية وإنْ لم يستخدم هذه القدرة، مثل الوالد الحنون الذي يقدر على قتل ابنه، ولكنّه لا يفعل ذلك أبَداً.
وأوضحُ من ذلك هو عدمُ صدور القبيح من الله تعالى، فإنَّ الله القادرَ المطلَق يمكنه أن يُدخلَ الصالحين المطيعين في جهنم، أو يُدخِل العاصِين في الجنة، إلاّ أنّ عدلَه وحكمته يمنعان من القيام بمثل هذا العمل.
ومِن هذا البيان يتضح أَنَّ تركَ المعصية والتزام الطاعة، والعبادة، يُعتبران مفخرة كبرى للأنبياء، لأنّهم مع كونهم قادرين على ترك الطاعة، وفعل المعصية، لا يفعلون ذلك اختياراً، وبإرادة منهم.
العصمة لاتلازم النبوّة
نحن مع اعتقادنا بعصمة جميع الأنبياء لا نرى أنّ العصمة تلازم النبوّة، أي أنّنا لا نرى أنّ كلَ معصوم هو نبيٌّ بالضرورةِ، وإنْ كان كلّ نبيٍّ معصوماً بالضرورة، فربّ إنسان معصومٌ ولكنّه ليس بِنبيّ، فها هو القرآنُ الكريم يقول حول السيدة مريم: (يا مَرْيَمُ إنّ اللهَ اصْطفاكِ وَطَهَّرَكِ واصْطَفاكِ عَلى نِساءِ العالَمِيْن)[ آل عمران / 42 ].
إنّ استخدامَ القرآن الكريم للفظة «الاصطفاء» في شأن السيّدة مريم (س) يَدلُّ على عِصمتها لأنّ نفسَ هذه اللَّفظة «الإصطفاء» استخدمت في شأن الأنبياء سلامُ الله عليهم أيضاً:
(إنّ الله اصْطَفى آدمَ ونُوحاً وآلَ إبراهيمَ وآلَ عِمرانَ عَلى العالَمِيْن)[ آل عمران / 33 ].
هذا مضافاً إلى أنّ الآية قد تحدَّثتْ حول طهارة السيدة مريم(س)، والمقصود هو طهارتها من أيّ نوع من أنواع الرجْس، والمعصية، وليست هذه الطهارة والبراءة هو براءتها من الذنب الذي رَمَتْها اليهودُ به في مجال ولادة عيسى منها من دون والد، لأنّ تبرئة مريم من هذه المعصية ثبتت في الأيّام الأُولى لولادة عيسى(ع) بتكلُّمه[ «فَأشارَتْ إليه...» مريم / 29 ]، فلم تعُدْ حاجة إلى بيان ذلك مجدّداً.
إضف إلى ذلك أنّ الآية تتحدّث عن مريم قبل ان تحمل بالمسيح، حيث جاء حديث حملها له عبر هذه الآية فلاحظ.
لُزُوم عِصمَةِ الإمام
ثبت في محلّه أنّ الامام والخليفة ليس قائداً عاديّاً، يقدر على إدارة دفّة البلاد اقتصادياً، وسياسيّاً، وحفظ ثغور البلاد الإسلامية تجاه الأعداء فقط، بل ثمّت وظائف أُخرى يجب أن يقومَ بها مضافاً إلى الوظائف المذكُورة. وقد أشرنا إليها في الأصل السابق.
إنّ القيام بِهذه الوَظائف الخطيرة مثل تفسير القرآن الكَريم، وبَيان الأحكام الشرعيّة، والإجابة على أسئلة الناس الإعتقادية ، والحيلولة دون تسرّب الانحراف إلى العقيدة، والتحريف إلى الشريعة، رهنُ علم واسع، لا يخطئ ولا يتطرّق إليه الاشتباهُ، والأشخاص العاديّون إذا تَوَلَّوا هذه الأُمور لن يكونوا في مأمن عن الخطأ والزللِ.
على أنّه يجب أن نَعلمَ بأنّ العصمة لا تساوي النبوّة، ولا تلازمُها ولا تستلزمها، لأنّه ربما يكونُ الشخص معصوماً عن الخطأ ولكن لا يتمتع بمقام النبوة أي لا يكون نبياً.
وأوضحُ نموذج لذلك السيدةُ مريم العذراء التي مرّت الإشارةُ إلّى أدلّة عصمتها، عند الحديث عن عصمة الأنبياءِ والرُسُل.[ راجع كتاب الإلهيّات، تأليف صاحب هذه الرسالة: 2 / 146 ـ 198 ]
ثم إنّ هناك ـ مضافاً إلى التحليل والاستدلال العقلي السابق ـ أُموراً تدلُّ على عصمةِ الإمام نذكر هنا بعضها:
1. تعلّق إرادةِ الله القطعيّة والحتمية بطهارة أهل البيت عن «الرجس» كما قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً)[ الأحزاب / 33 ].
إنّ دَلالَة هذه الآية على عِصمة أهل البيت(ع) تكونُ على النحو التالي: إنّ تعلّق إرادة الله الخاصّـة بطهـارة أهـل البيت من أي نـوع من أنواع الرّجس يلازمُ عصمَتهم مِن الذُنوب والمعاصي، لأنّ المقصودَ مِن تطهيرهم من «الرِّجس» في الآية هو تطهيرهم من أيّ نوع مِن أنواع القذارة الفِكرية والرُّوحِيَّة، والعَمَليّة التي من أبرزها المعاصي والذُنوب.
وحيث إنّ هذه الإرادة تعلّقَتْ بأفراد مخصوصين لا بجميع الأفراد، فإنّها تَختَلِف عن إرادة التطهير التي تعَلّقت بالجميع بدونِ إستثناء. إن إرادةَ التَّطهير التي تَشملُ عامّة المسلمين إرادةٌ تشريعيةٌ [ (وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ) (المائدة / 6)] وما أكثر الموارد الّتي تتخلّف فيها هذه الإرادةُ، ولا تتحقق بسبب تمرّد الأشخاص، وعدم إطاعتهم للأوامر والنواهي الشرعية في حين أنّ هذه الإرادة إرادةٌ تكوينيّةٌ لا يتخلّف فيها المرادُ والمتعلَّقُ (وهو العصمة عن الذَّنب والمعصية) عنها أبداً.
والجدير بالذكر أن تعلّق الإرادة التكوينيّة الإلهيّة بعصمة أهل البيت(ع) لا توجبُ سَلب الإختيار والحريّة عنهم تماماً كما لا يوجب تعلّق الإرادة التكوينية الإلهيّة بعصمة الأنبياء سلبَ الإختيار والحرية عن الأنبياء أيضاً (وقد جاءَ تفصيل هذا الموضوع في كتب العقائد).
2. إنّ أئمة أهل البيت (ع) يمثِّلون بحكم حديث الثقلين الذي قال فيه رسولُ الله: «إني تاركٌ فيكمُ الثَّقَلَين كتابَ الله وعترتي» عِدلَ القرآن الكريم، يعني أنّه كما يكون القرآنُ الكريمُ مصوناً من أيّ لون من ألوانِ الخطأ والإشتباه، كذلك يكون أئمة أهلِ البَيت مصونين من أيّ لون من ألوانِ الخطأ الفكري، والعملي، ومعصومين من أيّ نوع من أنواعِ الزَلَل والخَطَل.
وهذا المطلب واضحٌ تمامَ الوضوح، إذا أمعنّا في العبارات التي جاءت في ذيلِ الحَديث المذكور.
ألف: «ما إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِما لَنْ تَضِلُّوا أَبَداً».
ب: «إنَّهما لَنْ يَفْتَرِقا حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوضَ».
لأنّ ما يكون التمسُّكُ به موجباً للهداية وأنه لا يفترق عن القرآن (المصون والمعصوم) مَصُونٌ ومعصومٌ هو كذلك .
3. لقد شَبَّهَ رسولُ الله (ص) أهلَ بيته بسفينةِ نوح التي ينجو من الغرق من رَكِبها ويغرق في الأمواج من تخلّف عنها، إذ قال: «إنّما مَثَلُ أهل بَيْتي كَسَفينَةِ نُوْح مَن رَكِبَها نَجا وَمَنْ تخلَّفَ عَنهاَ غَرِقَ» [ مستدرك الحاكم: 2 / 151، والخصائص الكبرى للسيوطي: 2 / 266].
بالنَظَر إلى هذه الأدلّة الّتي بينّها بصورة موجزة تكونُ عصمة أهل البيت واضحةً، وحقيقةً مبرهَناً عليها.
ومن الجدير بالذِّكر أنّ الأدلّة النَقليّة على عِصمة أهل البَيت (ع) لا تنحصر في ما ذكرناه.
ا

تفرّدت الإمامية من بين الفرق الإسلامية بوجوب عصمة الامام من الذنب والخطأ، مع اتّفاق غيرهم على عدمه .
قال الشيخ المفيد: إنّ الأئمّة معصومون كعصمة الأنبياء، ولا تجوز عليهم صغيرة إلاّ ما تقدم ذكر جوازه على الأنبياء، ولا ينسون شيئاً من الأحكام، ولا يدخل في مفهوم العصمة سلب القدرة عن المعاصي، ولا كون المعصوم مضطراً إلى فعل الطاعات، فإنّ ذلك يستدعي بطلان الثواب والعقاب، هذه هي عقيدة الإمامية في الامامة، وقد استدلّوا عليه بوجوه من العقل والسمع. أمّا العقل فقالوا: إنّ الامام منفذ لما جاء به الرسول، وحافظ للشرع، وقائم بمهام الرسول كلّها، فلو جاز عليه الخطأ والكذب، لا يحصل الغرض من إمامته .
حقيقة العصمة:
العصمة قوة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ، حيث لا يترك واجباً، ولا يفعل محرَّماً مع قدرته على الترك والفعل، وإلاّ لم يستحق مدحاً ولا ثواباً، وإن شئت قلت: إنّ المعصوم قد بلغ من التقوى حدّاً لا تتغلَّب عليه الشهوات والأهواء، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبةً لا يخطأ معها أبداً.
وليست العصمة شيئاً ابتدعته الشيعة، وإنّما دلَّهم عليهم في حق العترة الطاهرة، كتاب اللّه وسنّة رسوله. قال سبحانه: (إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرِكُمْ تَطْهِيراً)[الأحزاب / 33] وليس المراد من الرجس إلاّ الرجس المعنوي وأظهره هو الفسق. وقال الرسول: «علي مع الحق والحق مع عليٍّ يدور معه كيفما دار»[ حديث مستفيض، رواه الخطيب في تاريخه 14 / 321 والهيثمي في مجمعه 7 / 236 وغيرهما] ومن دار معه الحق كيفما دار، محال أن يعصي أو أن يخطأ، وقول الرسول في حق العترة: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا»[ حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه، والدارمي في فضائل القرآن وأحمد في مسنده 2 / 114 وغيرهم] فاذا كانت العترة عدل القرآن تصبح معصومة كالكتاب، لا يخالف أحدهما الآخر، وليس القول بعصمة العترة بأعظم من القول بكون الصحابة كلّهم عدول .
وليس للقول بالعصمة في حق العترة منشأ سوى الكتاب والسنّة، وسيوافيك بعض دلائلهم .
نعم شذَّ من قال انّ عقيدة العصمة تسرّبت إلى الشيعة من الفرس الذين نشأوا على تقديس الحاكم، لهذا أطلق عليها العرب النزعة الكسروية، ولا أعرف أحداً من العرب قال ذلك في حدود اطلاعي، ولعلّ غالبية الشيعة كانت ترمي من وراء هذه الفكرة إلى تنزيه علي من الخطأ حتّى يتّضح للملأ عدوان بني أمية في اغتصاب الخلافة. هذا وفي اليهودية كثير من المذاهب الّتي تسرَّبت إلى الشيعة[ الدكتور نبيه حجاب: مظاهر الشعوبية في الأدب العربي 492، كما في هوية التشيع 166 ] .
هب انّ عصمة الامام تسرّبت إلى الشيعة من الطريق الّذي أشار إليه الكاتب فمن أين تسرّبت عصمة النبي الّتي يقول بها أهل السنّة جميعاً في التبليغ وبيان الشريعة، فهل هذه الفكرة تسرّبت إلى أهل السنّة من اليهود .
لا واللّه إنّها عقيدة اسلامية واقتبسها القوم من الكتاب والسنّة من دون أخذ من اليهود والفرس، فما ذكره الكاتب تخرُّص على الغيب، بل فرية واضحة .
إنّ الاختلاف في لزوم توصيف الامام وعدمه، ينشأ من الاختلاف في تفسير الامامة بعد الرسول وماهيتها وحقيقتها فمن تلقّى الامامة ـ بعد الرسول ـ بأنّها مقام عرفي لتأمين السبل، وتعمير البلاد واجراء الحدود، فشأنه شأن سائر الحكّام العرفيين. وأمّا من رأى الامامة بأنّها استمرار لتحقيق وظيفة الرسالة وأنّ الامام ليس بنبىّ ولا يوحى إليه، لكنّه مكلّف بملء الفراغات الحاصلة برحلة النبي، فلا محيص له عن الالتزام بها، لأنّ الغاية المنشودة لا تحصل بلا تسديد إلهي كما سيوافيك، نعم إنّ أهل السنّة يتحرَّجون من توصيف الامام بالعصمة ويتخيِّلون أنّ ذلك يلازم النبوّة وما هذا إلاّ أنّهم لا يفرّقون بين الإمامتين ولكل معطياته والتفصيل موكول إلى محلّه .
الدليل على لزوم عصمة الامام بعد النبىّ:
استدل على لزوم العصمة في الامام بوجوه نأتي بها.
الأوّل: انّ الامامة إذا كانت استمراراً لوظيفة النبوة والرسالة، وكان الامام يملأ جميع الفراغات الحاصلة جرّاء رحلة النبي الأكرم، فلا مناص من لزوم عصمته، وذلك لأنّ تجويز المعصية يتنافى مع الغاية الّتي لأجلها نصبه اللّه سبحانه إماماً للاُمّة، فانّ الغاية هي هداية الاُمّة إلى الطريق المهيع، ولا يحصل ذلك إلاّ بالوثوق بقوله، والاطمئنان بصحة كلامه، فاذا جاز على الامام الخطأ والنسيان، والمعصية والخلاف، لم يحصل الوثوق بأفعاله وأقواله، وضعفت ثقة الناس به، فتنتفي الغاية من نصبه، وهذا نفس الدليل الّذي استدلّ به المتكلمون على عصمة الأنبياء، والامام وإن لم يكن رسولا ولا نبيّاً ولكنّه قائم بوظائفهما .
نعم لو كانت وظيفة الامام مقتصرة بتأمين السبل وغزو العدو و الانتصاف للمظلوم وما أشبه ذلك، لكفى فيه كونه رجلا عادلا قائماً بالوظائف الدينية، وأمّا إذا كانت وظيفته أوسع من ذلك كما هو الحال في مورد النبىّ، فكون الامام عادلا قائماً بالوظائف الدينية، غير كاف في تحقيق الهدف المنشود من نصب الامام .
فقد كان النبي الأكرم يفسّر القرآن الكريم ويشرح مقاصده وأهدافه ويبيّن أسراره .
كما كان يجيب على الأسئلة في مجال الموضوعات المستحدثة وكان يردّ على الشبهات والتشكيكات الّتي كان يلقيها أعداء الإسلام .
وكان يصون الدين من محاولات التحريف والتغيير .
وكان يربّي المسلمين ويهذّبهم ويدفعهم نحو التكامل .
فالفراغات الحاصلة برحلة النبي الأكرم لا تسدّ إلاّ بوجود انسان مثالي تقوم بتلك الواجبات وهو فرع كونه معصوماً عن الخطأ والعصيان [ هذا اجمال ما أوضحناه في بحوثنا الكلامية فلاحظ الإلهيات 2 / 528 ـ 539 ] .
الثاني: قوله سبحانه: (أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِى الأمْرِ مِنْكُمْ) [ النساء / 59] .
والاستدلال مبني على دعامتين:
1- إنّ اللّه سبحانه أمر بطاعة اُولي الأمر على وجه الاطلاق، إي في جميع الأزمنة والأمكنة، وفي جميع الحالات والخصوصيات، ولم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشيء كما هو مقتضى الآية .
2- إنّ من البديهي أنّه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان (ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْر) [ الزمر / 7 ] من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آمر أو نهي ناه، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من اُولي الأمر .
فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين (وجوب اطاعة اُولي الأمر على وجه الاطلاق، وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان) أن يتّصف أُولي الأمر الذين وجبت اطاعتهم على وجه الاطلاق، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربّانية، تصدّهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس هذا إلاّ عبارة أُخرى عن كونهم معصومين، وإلاّ فلو كانوا غير واقعين تحت تلك العناية، لما صحّ الأمر باطاعتهم على وجه الاطلاق ولما صحَّ الأمر بالطاعة بلا قيد وشرط. فتستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة، اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة .
وممّن صرّح بدلالة الآية على العصمة الامام والرازي في تفسيره، ويطيب لي أن أذكر نصَّه حتّى يمعن فيه أبناء جلدته وأتباع طريقته قال:
إنّ اللّه تعالى أمر بطاعة اُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع، لابد وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير اقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنّه محال، فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة اُولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كل من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أنّ اُولي الأمر المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون معصوماً [ مفاتيح الغيب 10 / 144 ] .
ولمّا وقف الرازي على تمامية دلالة الآية على عصمة اُولي الأمر، وهي لا توافق مذهبه في الامامة حاول أن يؤول الآية بما يوافقه مع أنّ الواجب على أمثاله، أن يتعرّف على «اُولي الأمر» الّذي استظهر من الآية كونهم معصومين، ولكنّه زلّت قدمه، ولم يستغل هذه الفكرة، ولم يستثمرها، فأخذ يتهرّب من نتائج الفكرة بالقول بأنّا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليه، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منه، فاذا كان الأمر كذلك فالمراد ليس بعضاً من أبعاض الاُمّة، بل المراد هو أهل الحل والعقد من الاُمّة .
يلاحظ عليه: بأنّه إذا دلّت الآية على عصمة اُولي الأمر فيجب علينا التعرّف عليهم، وادّعاء العجز، هروب من الحقيقة فهل العجز يختص بزمانه أو كان يشمل زمان نزول الآية، لا أظن أن يقول الرازي بالثاني فعليه أن يتعرّف على المعصوم في زمان النبىّ وعصر نزول الآية، فبالتعرّف عليهم، يعرف معصوم زمانه، حلقة بعد أخرى، ولا يعقل أن يأمر الوحي الإلهي باطاعة المعصوم ثم لا يقوم بتعريفه حين النزول، فلو آمن الرازي بدلالة الآية على عصمة اُولي الأمر، لكان عليه أن يؤمن بقيام الوحي الإلهي على تعريفهم بلسان النبي الأكرم .
إذ لا معنى أن يأمر اللّه سبحانه باطاعة المعصوم، ولا يقوم بتعريفه .
ثمّ إنّ تفسير «اُولي الأمر» بأهل الحل والعقد، تفسير للغامض ـ حسب نظر الرازي ـ بالأغمض إذ هو ليس بأوضح من الأول، فهل المراد منهم: العساكر والضباط، أو العلماء والمحدّثون، أو الحكام والسياسيون أو الكل. وهل اتّفق اجماعهم على شيء، ولم يخالفهم لفيف من المسلمين .
إذا كانت العصمة ثابتة للاُمّة عند الرازي كما علمت، فهناك من يرى العصمة لجماعة من الاُمّة كالقراء والفقهاء والمحدّثين، هذا هو ابن تيمية يقول في ردّه على الشيعة عند قولهم:
انّ وجود الامام المعصوم لابدّ منه بعد موت النبي يكون حافظاً للشريعة ومبيّناً أحكامها خصوصاً أحكام الموضوعات المتجدّدة، يقول:
إنّ أهل السنّة لا يسلمون أن يكون الامام حافظاً للشرع بعد انقطاع الوحي، وذلك لأنّ ذلك حاصل للمجموع، والشرع إذا نقله أهل التواتر كان ذلك خيراً من نقل الواحد، فالقرّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدّثون معصومون في حفظ الأحاديث وتبليغها، والفقهاء معصومون في الكلام والاستدلال [ ابن تيمية: منهاج السنّة كما في نظرية الامامية 120 ] .
يلاحظ عليه: كيف يدّعي العصمة لهذه الطوائف مع أنّهم غارقين في الاختلاف في القراءة والتفسير، و الحديث والأثر، والحكم والفتوى، والعقيدة والنظر، ولو أغمضنا عن ذلك فما الدليل على عصمة تلكم الطوائف خصوصاً على قول القائل بأنّ القول بالعصمة تسرّب من اليهود إلى الأوساط الإسلامية .
الثالث: قوله سبحانه: (وإذِ ابْتَلى إبراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمات فَأتَمَّهُنَّ قالَ إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمينَ) [ البقرة / 124] .
والاستدلال بالآية على عصمة الامام، يتوقّف على تحديد مفهوم الامامة الوارد في الآية والمقصود منها غير النبوّة وغير الرسالة، فأمّا الأوّل فهو عبارة عن منصب تحمّل الوحي، والثاني عبارة عن منصب ابلاغه إلى الناس. والإمامة المعطاة للخليل في اُخريات عمره غير هذه وتلك، لأنّه كان نبياً ورسولا وقائماً بوظائفهما طيلة سنين حتّى خوطب بهذه الآية، فالمراد من الإمامة في المقام هو منصب القيادة، وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوة وقدرة. ويعرب عن كون المراد من الامامة في المقام هو المعنى الثالث، قوله سبحانه: (أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ و آتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظيماً) [ النساء / 54] .
فالإمامة الّتي أنعم بها اللّه سبحانه على الخليل وبعض ذرّيته، هي الملك العظيم الوارد في هذه الآية. وعلينا الفحص عن المراد بالملك العظيم، إذ عند ذلك يتّضح أنّ مقام الامامة، وراء النبوّة والرسالة، وانّما هو قيادة حكيمة، وحكومة إلهية، يبلغ المجتمع بها إلى السعادة. واللّه سبحانه يوضح حقيقة هذا الملك في الآيات التالية:
1- يقول سبحانه ـ حاكياً قول يوسف ـ عليه السلام ـ : (رَبِّ قَدْ اَتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأويلِ الأحاديثِ) [ يوسف / 101 ] ومن المعلوم أنّ الملك الّذي منّ به سبحانه على عبده يوسف، ليس النبوّة، بل الحاكمية حيث صار أميناً مكيناً في الأرض. فقوله: (وعلمتني من تأويل الأحاديث)اشارة إلى نبوّته، والملك اشارة إلى سلطته وقدرته .
2- ويقول سبحانه في داود ـ عليه السلام ـ : (وَ آتاهُ اللّهُ المُلْكَ وَ الحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشآءُ) [ البقرة / 251 ] ويقول سبحانه: (وَ شَدَدْنَا مُلْكَهُ وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ) [ ص / 20 ] .
3- ويحكي اللّه تعالى عن سليمان أنّه قال: (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأحَد مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ) [ ص / 35] .
فملاحظة هذه الآيات يفسر لنا حقيقة الامامة، وذلك بفضل الاُمور التالية:
أ ـ إنّ إبراهيم طلب الإمامة لذريته، وقد أجاب سبحانه دعوته في بعضهم.
ب ـ إنّ مجموعة من ذرّيته، كيوسف وداود وسليمان، نالوا ـ وراء النبوّة والرسالة ـ منصب الحكومة والقيادة .
ج ـ إنّه سبحانه أعطى آل ابراهيم الكتاب، والحكمة، والملك العظيم .
فمن ضم هذه الاُمور بعضها إلى بعض، يخرج بهذه النتيجة: انّ ملاك الإمامة في ذرّية إبراهيم، هو قيادتهم وحكمهم في المجتمع، وهذه هي حقيقة الامامة، غير أنّها ربّما تجتمع مع المقامين الاُخريين، كما في الخليل، ويوسف، وداود، وسليمان، وغيرهم، وربّما تنفصل عنهما كما في قوله سبحانه: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُّ بِالمُلكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُم وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَ اللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشآءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَليمٌ) [البقرة / 247] .
والامامة الّتي يتبنّاها المسلمون بعد رحلة النبي الأكرم، تتّحد واقعيتها مع هذه الامامة.
ما هو المراد من الظالم:
قد تعرّفت على المقصود من جعل الخليل إماماً للناس، وانّ المراد هو القيادة الإلهية، وسوق الناس إلى السعادة بقوّة وقدرة ومنعة. بقي الكلام في تفسير الظالم الّذي ليس له من الإمامة سهم، فنقول:
لمّا خلع سبحانه ثوب الامامة على خليله، ونصبه إماماً للناس، ودعا إبراهيم أن يجعل من ذرّيته إماماً، اُجيب بأنّ الامامة منصب إلهي، لا يناله الظالمون، لأنّ الإمام هو المطاع بين الناس، المتصرّف في الأموال والنفوس، فيجب أن يكون على الصراط السويّ، والظالم المتجاوز عن الحد لا يصلح لهذا المنصب .
إنّ الظالم الناكث لعهد اللّه، والناقض لقوانينه وحدوده، على شفا جرف هار، لا يؤتمن عليه ولا تلقى إليه مقاليد الخلافة، لأنّه على مقربة من الخيانة والتعدي، وعلى استعداد لأن يقع أداة للجائرين، فكيف يصحّ في منطق العقل أن يكون إماماً مطاعاً، نافذ القول، مشروع التصرّف. وعلى ذلك، فكل من ارتكب ظلماً وتجاوز حداً في يوم من أيام عمره، أو عبد صنماً، أو لاذ إلى وثن، وبالجملة ارتكب ما هو حرام فضلا عمّا هو شرك وكفر، ينادى من فوق العرش في حقه

نعم اعترض «الجصاص» على هذا الاستدلال وقال: «إنّ الآية إنّما تشمل من كان مقيماً على الظلم وأمّا التائب منه فلا يتعلّق به الحكم، لأنّ الحكم إذا كان معلّقاً على صفة، وزالت تلك الصفة، زال الحكم. ألاترى أنّ قوله: (وَ لا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [ هود / 113] إنّما ينهى عن الركون إليهم ما أقاموا على الظلم، فقوله تعالى: (لا يَنال عَهدِى الظّالِمينَ) لم ينف به العهد عمّن تاب عن ظلمه، لأنّه في هذه الحاله لا يسمّى ظالماً، كما لا يسمّى من تاب من الكفر كافراً» [ تفسير آيات الأحكام 1 / 72 ].
يلاحظ عليه: أنّ قوله «الحكم يدور مدار وجود الموضوع» ليس ضابطاً كلياً، بل الأحكام على قسمين، قسم كذلك، وآخر يكفي فيه اتّصاف الموضوع بالوصف والعنوان آناً ما، ولحظة خاصة، وإن انتفى بعد الاتّصاف، فقوله: «الخمر حرام»، أو: «في سائمة الغنم زكاة» من قبيل القسم الأوّل، وأمّا قوله: «الزاني يحد»، و «السارق يقطع» فالمراد منه انّ الإنسان المتلبّس بالزنا أو السرقة يكون محكوماً بهما وإن زال العنوان، وتاب السارق والزاني، ومثله: «المستطيع يجب عليه الحج» فالحكم ثابت، وإن زالت عنه الاستطاعة عن تقصير لا عن قصور .
وعلى ذلك فالمدعى أنّ «الظالمين» في الآية المباركة كالسارق والسارقة والزاني والزانية والمستطيع واُمّهات نسائكم في الآيات الراجعة إليهم .
نعم المهم في المقام، اثبات أنّ الموضوع في الآية من قبيل الثاني، وأنّ التلبّس بالظلم ولو آناً ما، يسلب عن الإنسان صلاحية الامامة، وإن تاب من ذنبه، فإنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أقسام أربعة:
1- من كان طيلة عمره ظالماً .
2- من كان طاهراً ونقياً في جميع فترات عمره.
3- من كان ظالماً في بداية عمره، وتائباً في آخره .
4- من كان طاهراً في بداية عمره، وظالماً في آخره .
عند ذلك يجب أن نقف على أنّ إبراهيم ـ عليه السلام ـ ، الّذي سأل الإمامة لبعض ذريته أىّ قسم منها أراد؟ حاشا إبراهيم أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل، والرابع من ذريته، لوضوح انّ الغارق في الظلم من بداية عمره إلى آخره، أو المتّصف به أيام تصدّيه للإمامة، لا يصلح لأن يؤتمن عليها .
بقي القسمان الآخران، الثاني والثالث، وقد نص سبحانه على أنّه لا ينال عهده الظالم، والظالم في هذه العبارة لا ينطبق إلاّ على القسم الثالث، أعني من كان ظالماً في بداية عمره، وكان تائباً حين التصدي .
فإذا خرج هذا القسم، بقي القسم الثاني، وهو من كان نقي الصحيفة طيلة عمره، ولم ير منه لا قبل التصدّي ولا بعده أي انحراف عن جادة الحق، ومجاوزة للصراط السوي. وهو يساوي المعصوم .
العصمة في القول والراي:
إنّ الأئمة معصومون عن العصيان والمخالفة أوّلا، وعن الخطأ والزلة في القول ثانياً وما ذلك إلاّ لأنّ كلّ إمام من الأوّل إلى الثاني عشر، قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكل ما في هذين الأصلين بحيث لا يشذ عن علمهم معنى آية من آي الذكر الحكيم تنزيلا وتأويلا، ولا شيء من سنّة رسول اللّه قولا وفعلا وتقريراً و كفى بمن أحاط بعلوم الكتاب والسنّة فضلا وعلماً.
ومن هنا كانوا قدوة الناس جميعاً بعد جدّهم الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ . مراتب عصمة الأنبياء:
العِصمة تعني المصُونيّة ولها في باب النبوّة مراتب هي:
ألف: العصمة في مرحلة تلقّي الوحي وإبلاغه.
ب : العصمة عن المعصية والذنب.
ج : العصمة عن الخطأ في الأُمور الفردية والاجتماعية.
وعصمة الأَنبياء في المرحلة الأُولى موضعُ اتفاق الجميع، لأنّ احتمالَ الخطأ والإلتباس في هذه المرحلة يؤثر على وثوق الناس، واطمئنانِهم، ويوجب أن لا يعتمدَ الناسُ على إخبارات النبي وأقواله، فينتقضُ هدفُ النبوّةِ في المآل.
هذا مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الله يحفظُ نبيَّه، ويصونهُ صيانةً كاملةً حتى يبلّغ الوحيَ الإلهيَّ بصورة صحيحة كما قال: (عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيهِ وَمِنْ خَلْفهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أن قَد أَبْلَغُوا رِسالات رَبّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيء عَدَدا) [ الجن / 26 ـ 28 ].
ففي هذه الآية ذكَرَ القرآن الكريم نوعين من الحَفَظَة لصيانة الوحي:
ألف: الملائكة الذين يحيطون بالنبيّ من كلّ ناحية وجانب.
ب : انّ الله تعالى نفسه يحيط بالملائكة والنبيّ .
وهذه النظارة الشديدة والمراقَبَة الكاملة انّما هي لتحقيق غرض النبوّة، وهو إيصال الوحي الإلهيّ إلى البشر.
عصمة الأنبياء من كل معصية وذنب إنّ أنبياء الله ورُسُلَه معصومون من الذنب والزلل، في مجال العمل بأحكامِ الشريعةِ، عصمةً مطلقةً.
لأنّ الهدف من بعثة الأنبياء إنّما يتحقّق أساساً إذا تمتّع الأنبياء والرُسُل بمثل هذه العصمة، لأنّهم إذا لم يلتزموا بالأَحكام الإلهيّة التي كُلِّفُوا بإِبلاغها إلى الناس، انتفى الوثوق بكلامهم، فلم يتحقّق الغرضُ المنشودُ من بعثِهم، وإرسالهم.
ولقد أشارَ المحققُ الطوسيُّ إلى هذا البرهان بعبارة موجَزَة حيث قال: «ويجب في النبيّ العصمةُ ليحصلَ الوثوقُ فيحصل الغرضُ» [ كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد 217 ].
إنّ عصمة الأنبياء عن المعصية أمر قد أكّده القرآنُ الكريمُ في آيات مختلفة نورد هنا بعضها:
ألف: إنّ القرآن الكريم يعتبر الأنبياءَ أشخاصاً مهدِيّين ومختارين من قِبل الله تعالى إذ قال: (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إلى صِراط مُسْتَقيْم) [الأنعام / 87 ].
ب : إنَّ القرآنَ الكريمَ يذكِّر بأنّ الذي يهديه الله لا يقدر أحد على إضلاله إذ يقول: (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلّ) [ الزمر / 37].
ج : يعتبر المعصية ضَلالاً إذ يقول: (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً) [يس / 62 ].
فيستفاد من مجموعة هذه الآيات أنّ الأنبياء معصومون من كلّ أنواع الضلال، ومصونون من كل ألوان المعصية.
إنّ البُرهانَ العَقليّ الذي أقمناه فيما سبق على عِصمة الأنبياء يدلّ على عصمتهم قبل البعثة أيضاً، لأنّ الإنسان الذي صَرَفَ رَدْحاً من عمره في الذنب والمعصية، ثم حَمَلَ لواءَ الهداية والإرشاد لم يتمكّن من الحصول على ثقة النّاس به، وسكونهم إلى أقواله، بخلاف من عاش قَبلَ بعثته نقيَّ الجيب، طاهِرَ الذَيل، فإنّه قادرٌ على جَلب ثقة الناس، وكسب تأييدهم له. هذا مضافاً إلى أنّ في مقدور معارضي الرسالة، أن يغتالوا بسهولة شخصيّة الرسول، ويطعنوا فيه بالتلويح بسوابقه قبلَ النبوة، ويحطُّوا ـ بذلك ـ من شأنه، وشأن رسالته.
إنّ الذي استطاع ـ بفضل العيش بطهر ونقاء، في بيئة فاسدة ـ أن يكتسب لقب «محمد الأمين» هو الشخص الوحيد الذي يستطيع بشخصيّتهِ الساطعة النقيّة، أن يُبدّد حُجُب الدعايات المضادة، ويفنّد مزاعم أعدائه، ومعارضي رسالته، ويضيء باستقامته العجيبة، البيئةَ الجاهليةَ المظلمة تدريجاً.
هذا مضافاً إلى أنّ من البديهي أنّ الإنسان الذي كان معصوماً من بداية حياته، أفضلُ من الذي تحلّى بصفة العصمة منذ أن صار نَبيّاً، كما أنّ تأثيرَه، ودوره الإرشاديّ لا ريب يكون أقوى، والحكمة الإلهيّة تقتضي اختيار الفَردِ الأحسن الأكمل.
عصمة الأنبياء عن الخطأ والزلل
إنَّ الأنبياء ـ مضافاً إلى كونهم معصومين من الذَّنْب ـ معصومون كذلك في الأُمور التالية:
ألف : في القضاء في المنازعات والفصل في الخصومات.
والنبي(ص) وإنْ كان مأموراً بالقضاء على وفق البيّنة واليمين، لكنّه في صورة خطأ البيّنة أو كذب الحالف واقف على الحق المرّ، وإنْ لم يكن مأموراً بالقضاء على طبقه.
ب : في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعية (مثل انّ المائع الفلانيّ هل هو خمرٌ أم لا؟).
ج : في القضايا اليوميّة العاديّة .
إنّ لزوم وصف النبيّ بالعصمة في الموارد المذكورة نابعٌ من أنّ الخطأ في مثل هذه المجالات ملازمٌ للخطأ في مجال الأحكام الدينيّة، وبالتالي فإنّ الخطأ في هذه الأُمور والمجالات يَضُرُّ بثقةِ النّاس بشخص النبيّ، ويُوجب في المآل تَعَرُّضَ الغَرَض المنشُود للخَطَر، وان كان لُزوم العصمة في الصورتين الأُولَيَين، أوضح من العصمة في الصورة الأخيرة.
الأنبياء مبرَّأون عن الأمراض المنفّرة
إنّ من مراتب العصمة هي أن لا تكون في وجود الأنبياء أُمور توجب تنفّر الناس وابتعادهم عنهم.
فكلُّنا يعلم بأنّ بعضَ الأمراض والعاهات الجسمية، أو بعض الخصال الروحيّة، التي تنم عن دناءة الطبع، وخِسّة النفس توجب تنفّرَ النّاسِ وابتعادهم عنه.
ولهذا فإنّ على الأنبياء أنّ يكونوا مُنَزَّهين عن العيوب الجسمية والروحيّة، لأنّ تَنَفّرَ الناس من النبي، واجتنابَهم عنه ينافي الهدف من بعثهم، وهو إبلاغ الرسالات الإلهيّة بواسطة الأنبياء إلى الناس.
كما أنّنا نُذَكِّرُ بأنَّ المراد من حكمِ العقل في هذا المجال هو الكشف عن حقيقة، هي أنّ على الله ـ لكونه حكيماً ـ أنّ يختارَ للنبوّة من يكون عارياً ومنزَّهاً عن مِثل هذه العيوب.[ إنّ حكمَ العقل في هذا المجال حكمٌ قَطعيٌّ، ولهذا فإنّ بعضَ الروايات التي وَرَدت حول النبي أيوب وهي تحكي عن ابتلائه بأمراض منفِّرة، مضافاً إلى كونها مخالفةً للحكمِ القَطعيِّ للعقل تنافي الرواياتِ المعارضة التي وَرَدَت عن أهل البيت في هذا المجال.
فقد قال الإمامُ الصادق (ع) : «إنَّ أيوب مع جميع ما ابتُلي به لم تنتنْ له رائحةٌ، ولا قَبُحَتْ له صورةٌ، ولا خرجَتْ منه مَدّةٌ من دَم، ولا قيح، ولا استَقْذرَهُ أحَدٌ رآه، ولا استوحش منه أحدٌ شاهدَه ولادوّد شيءٌ من جَسَدهِ، وهكذا يصنعُ الله عزّ وجلّ بجميع من يبتليه من أنبيائه، وأوليائه المكرَّمين عليه، وإنما اجتنَبَهُ الناسُ لِفَقره، وضَعْفِهِ في ظاهِرِ أمرهِ، لجَهْلهم بما لَهُ عند ربّه تعالى ذكْرُهُ، من التأييد والفَرَج».
(الخصال ج 1، أبواب السبعة، الحديث 107) ولهذا فإنّ الروايةَ المخالفةَ لهذا الموضوع، لا أساس لها من الصحة فهي مرفوضة]
دراسة الآيات الدالة على عدم العصمة
لقد عرفنا بِحُكمِ العقل القطعيّ، وقضاء القرآنِ الصَريح عصمة الأنبياء، ولكن ثمّة في هذا الصعيد بضع آيات تحكي ـ في بدو النظر ـ عن صُدُور الذنب والمعصية عنهم (مثل الآيات الواردة حول النبي آدم وغيره) فما هو الحلّ في هذه الآيات؟
في البداية يجب أنّ نقول: إنّ من المُسَلَّم أنّه حيث لا تناقض في القرآن الكريم أبداً، وجب أنْ نهتدي في ضوءِ القرائن الموجودة في نفس الآيات إلى المراد الحقيقي فيها.
ففي هذه الموارد لا يمكن أن يكونَ الظهور الإبتدائيّ هو الملاك للحكم المُتسَرِّع.
ومن حُسن الحَظّ أنَّ كبار مفَسّري الشيعة ومتكلّميهم قاموا بدراسة هذه الآيات القرآنية، بل وأقدم بعضهم على تأليف كتب مستقلة في هذا المجال.
وحيث إنّ معالَجة هذه الآيات واحدة واحدةً لا تحتملُها هذه الرسالةُ فإنّنا نحيل القرّاء الكرام إلى الكتب المذكورة في الهامش[تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى، وعصمة الأنبياء للفخر الرازي، ومفاهيم القرآن لجعفر السبحاني ج5 فصل عصمة الأنبياء].
منشأ العصمة وسببها
يمكن انّ نلَخّص منشأ العصمة وسببها في أمرين:
ألف : إنّ الأنبياء حيث إنّهم يتمتعون بمعرفة واسعة بالله سبحانه، لا يَستبدلون رضاه تعالى بشيء مطلقاً.
وبِعبارة أُخرى ; انّ إدراكهم العميق للعظمة الإلهيّة وللجمالِ والكمال الإلهيّين يمنعهم من التوجّه إلى أيّ شيء غير الحقّ تعالى، والتفكير في أيّ شيء غير الله سبحانه.
إنّ هذه المرتَبَة والدَّرَجة من المعرفة هي التي قال عنها الإمامُ أميرُ المؤمنين عليُ بن أبي طالب(ع): «ما رَأَيتُ شَيئاً إلاّ وَرَأَيْتُ اللهَ قبْلَهُ، وبَعْدَهُ ومَعَهُ»[بحار الأنوار 70 / 22 ].
وقال عنها الإمام الصادقُ (ع): «وَلكنِّي أعْبُدُهُ حُبّاً لَهُ فتلكَ عِبادةُ الكِرامِ»[المصدر السابق: 70 / 18 ضمن الحديث 9 ].
ب : إنّ اطّلاع الأنبياء الكامل على نتائج الطاعة وثمارها، وعلى آثار المعصية وتبعاتها السَيئة، هو سبب صيانتهم عن مخالفة الأمر الإلهيّ.
على أنّ العصمة المطلقة مختصّة بثلَّة خاصّة من أولياء الله، إلاّ أنّ في إمكان بعض المؤمنين الأتقياء أنْ يكونوا معصومين عن ارتكاب المعصية في قسم عظيم من أفعالهم، فالفَرد المتّقي مثلاً، لا يُقدم على الإنتحار، أو قتل الأبرياء أبداً[ قالَ الإمامُ عليُ بن أبي طالب (ع) عن هذا الفريق: «هُم والجَنّةُ كَمَنْ قَدْ رآها فَهُمْ فيها مُنَعَّمون، وَهُمْ والنّارُ كَمَنْ قد رَآها فَهُمْ فيها مُعَذَّبُون» نهج البلاغة، الخطبة رقم 193 الموجّهة إلى همّام].
بل وحتّى بعضُ الأشخاص العاديّين يتمتعون بالعصمة عن بعض الذنوب، وللمثال لا يُقدمُ أيُّ شخص على لمس سلك كهربائي فعّال تجنباً من الصَعق بالتيار الكهربائي.
ومن البَيّن أنّ العصمة في هذه الموارد ناشئ من العِلم القطعيّ بآثار عمله السيئة، فإذا كان مثل هذا العِلم حاصلاً للشخص في مجال تبعات الذنوب الخطيرة جداً أيضاً، كان ذلك موجباً حتماً لصيانة الشخص عن المعصية.
لا تنافي بين العصمة والاختيار
نَظَراً لمَنشأ العصمة نُذَكّر بأنّ العصمة لا تنافي إختيار المعصوم، وكونه حرّاً في إرادته، بل إنّ الشخصَ المعصومَ مع مَعرفته الكاملة بالله، وبآثار الطاعة والمعصية ونتائجهما، يمكنه أنّ يرتكب المعصية وإنْ لم يستخدم هذه القدرة، مثل الوالد الحنون الذي يقدر على قتل ابنه، ولكنّه لا يفعل ذلك أبَداً.
وأوضحُ من ذلك هو عدمُ صدور القبيح من الله تعالى، فإنَّ الله القادرَ المطلَق يمكنه أن يُدخلَ الصالحين المطيعين في جهنم، أو يُدخِل العاصِين في الجنة، إلاّ أنّ عدلَه وحكمته يمنعان من القيام بمثل هذا العمل.
ومِن هذا البيان يتضح أَنَّ تركَ المعصية والتزام الطاعة، والعبادة، يُعتبران مفخرة كبرى للأنبياء، لأنّهم مع كونهم قادرين على ترك الطاعة، وفعل المعصية، لا يفعلون ذلك اختياراً، وبإرادة منهم.
العصمة لاتلازم النبوّة
نحن مع اعتقادنا بعصمة جميع الأنبياء لا نرى أنّ العصمة تلازم النبوّة، أي أنّنا لا نرى أنّ كلَ معصوم هو نبيٌّ بالضرورةِ، وإنْ كان كلّ نبيٍّ معصوماً بالضرورة، فربّ إنسان معصومٌ ولكنّه ليس بِنبيّ، فها هو القرآنُ الكريم يقول حول السيدة مريم: (يا مَرْيَمُ إنّ اللهَ اصْطفاكِ وَطَهَّرَكِ واصْطَفاكِ عَلى نِساءِ العالَمِيْن)[ آل عمران / 42 ].
إنّ استخدامَ القرآن الكريم للفظة «الاصطفاء» في شأن السيّدة مريم (س) يَدلُّ على عِصمتها لأنّ نفسَ هذه اللَّفظة «الإصطفاء» استخدمت في شأن الأنبياء سلامُ الله عليهم أيضاً:
(إنّ الله اصْطَفى آدمَ ونُوحاً وآلَ إبراهيمَ وآلَ عِمرانَ عَلى العالَمِيْن)[ آل عمران / 33 ].
هذا مضافاً إلى أنّ الآية قد تحدَّثتْ حول طهارة السيدة مريم(س)، والمقصود هو طهارتها من أيّ نوع من أنواع الرجْس، والمعصية، وليست هذه الطهارة والبراءة هو براءتها من الذنب الذي رَمَتْها اليهودُ به في مجال ولادة عيسى منها من دون والد، لأنّ تبرئة مريم من هذه المعصية ثبتت في الأيّام الأُولى لولادة عيسى(ع) بتكلُّمه[ «فَأشارَتْ إليه...» مريم / 29 ]، فلم تعُدْ حاجة إلى بيان ذلك مجدّداً.
إضف إلى ذلك أنّ الآية تتحدّث عن مريم قبل ان تحمل بالمسيح، حيث جاء حديث حملها له عبر هذه الآية فلاحظ.
لُزُوم عِصمَةِ الإمام
ثبت في محلّه أنّ الامام والخليفة ليس قائداً عاديّاً، يقدر على إدارة دفّة البلاد اقتصادياً، وسياسيّاً، وحفظ ثغور البلاد الإسلامية تجاه الأعداء فقط، بل ثمّت وظائف أُخرى يجب أن يقومَ بها مضافاً إلى الوظائف المذكُورة. وقد أشرنا إليها في الأصل السابق.
إنّ القيام بِهذه الوَظائف الخطيرة مثل تفسير القرآن الكَريم، وبَيان الأحكام الشرعيّة، والإجابة على أسئلة الناس الإعتقادية ، والحيلولة دون تسرّب الانحراف إلى العقيدة، والتحريف إلى الشريعة، رهنُ علم واسع، لا يخطئ ولا يتطرّق إليه الاشتباهُ، والأشخاص العاديّون إذا تَوَلَّوا هذه الأُمور لن يكونوا في مأمن عن الخطأ والزللِ.
على أنّه يجب أن نَعلمَ بأنّ العصمة لا تساوي النبوّة، ولا تلازمُها ولا تستلزمها، لأنّه ربما يكونُ الشخص معصوماً عن الخطأ ولكن لا يتمتع بمقام النبوة أي لا يكون نبياً.
وأوضحُ نموذج لذلك السيدةُ مريم العذراء التي مرّت الإشارةُ إلّى أدلّة عصمتها، عند الحديث عن عصمة الأنبياءِ والرُسُل.[ راجع كتاب الإلهيّات، تأليف صاحب هذه الرسالة: 2 / 146 ـ 198 ]
ثم إنّ هناك ـ مضافاً إلى التحليل والاستدلال العقلي السابق ـ أُموراً تدلُّ على عصمةِ الإمام نذكر هنا بعضها:
1. تعلّق إرادةِ الله القطعيّة والحتمية بطهارة أهل البيت عن «الرجس» كما قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً)[ الأحزاب / 33 ].
إنّ دَلالَة هذه الآية على عِصمة أهل البيت(ع) تكونُ على النحو التالي: إنّ تعلّق إرادة الله الخاصّـة بطهـارة أهـل البيت من أي نـوع من أنواع الرّجس يلازمُ عصمَتهم مِن الذُنوب والمعاصي، لأنّ المقصودَ مِن تطهيرهم من «الرِّجس» في الآية هو تطهيرهم من أيّ نوع مِن أنواع القذارة الفِكرية والرُّوحِيَّة، والعَمَليّة التي من أبرزها المعاصي والذُنوب.
وحيث إنّ هذه الإرادة تعلّقَتْ بأفراد مخصوصين لا بجميع الأفراد، فإنّها تَختَلِف عن إرادة التطهير التي تعَلّقت بالجميع بدونِ إستثناء. إن إرادةَ التَّطهير التي تَشملُ عامّة المسلمين إرادةٌ تشريعيةٌ [ (وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ) (المائدة / 6)] وما أكثر الموارد الّتي تتخلّف فيها هذه الإرادةُ، ولا تتحقق بسبب تمرّد الأشخاص، وعدم إطاعتهم للأوامر والنواهي الشرعية في حين أنّ هذه الإرادة إرادةٌ تكوينيّةٌ لا يتخلّف فيها المرادُ والمتعلَّقُ (وهو العصمة عن الذَّنب والمعصية) عنها أبداً.
والجدير بالذكر أن تعلّق الإرادة التكوينيّة الإلهيّة بعصمة أهل البيت(ع) لا توجبُ سَلب الإختيار والحريّة عنهم تماماً كما لا يوجب تعلّق الإرادة التكوينية الإلهيّة بعصمة الأنبياء سلبَ الإختيار والحرية عن الأنبياء أيضاً (وقد جاءَ تفصيل هذا الموضوع في كتب العقائد).
2. إنّ أئمة أهل البيت (ع) يمثِّلون بحكم حديث الثقلين الذي قال فيه رسولُ الله: «إني تاركٌ فيكمُ الثَّقَلَين كتابَ الله وعترتي» عِدلَ القرآن الكريم، يعني أنّه كما يكون القرآنُ الكريمُ مصوناً من أيّ لون من ألوانِ الخطأ والإشتباه، كذلك يكون أئمة أهلِ البَيت مصونين من أيّ لون من ألوانِ الخطأ الفكري، والعملي، ومعصومين من أيّ نوع من أنواعِ الزَلَل والخَطَل.
وهذا المطلب واضحٌ تمامَ الوضوح، إذا أمعنّا في العبارات التي جاءت في ذيلِ الحَديث المذكور.
ألف: «ما إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِما لَنْ تَضِلُّوا أَبَداً».
ب: «إنَّهما لَنْ يَفْتَرِقا حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوضَ».
لأنّ ما يكون التمسُّكُ به موجباً للهداية وأنه لا يفترق عن القرآن (المصون والمعصوم) مَصُونٌ ومعصومٌ هو كذلك .
3. لقد شَبَّهَ رسولُ الله (ص) أهلَ بيته بسفينةِ نوح التي ينجو من الغرق من رَكِبها ويغرق في الأمواج من تخلّف عنها، إذ قال: «إنّما مَثَلُ أهل بَيْتي كَسَفينَةِ نُوْح مَن رَكِبَها نَجا وَمَنْ تخلَّفَ عَنهاَ غَرِقَ» [ مستدرك الحاكم: 2 / 151، والخصائص الكبرى للسيوطي: 2 / 266].
بالنَظَر إلى هذه الأدلّة الّتي بينّها بصورة موجزة تكونُ عصمة أهل البيت واضحةً، وحقيقةً مبرهَناً عليها.
ومن الجدير بالذِّكر أنّ الأدلّة النَقليّة على عِصمة أهل البَيت (ع) لا تنحصر في ما ذكرناه.