[frame="1 80"]التعريف بأئمة الشيعة [/frame]
لقد انقطع الشيعة للأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام)، أولهم علي بن أبي طالب ثم ابنه الحسن، ثم ابنه الحسين، ثم التسعة المعصومون من ذرية الحسن ومن نسله.
وقد نص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء الأئمة في العديد من المرات تصريحاً وتلميحاً وقد ذكرهم بأسمائهم في بعض الروايات التي أخرجها الشيعة والبعض من علماء «السنة».
وقد يعترض البعض من «أهل السنة» على هذه الروايات مستغرباً كيف يتكلم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور غيبية ما زالت في طي العدم ؟ وقد جاء في القرآن قوله: «لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء» (الأعراف: 188).
وإجابة على ذلك نقول بأن هذه الآية الكريمة لا تنفي عن الرسول علمه بالغيب مطلقاً، إنما جاءت رداً على المشركين الذين طلبوا منه أن يعلمهم عن قيام الساعة، وموعد الساعة قد اختص الله سبحانه بعلمه.
وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ….» (الجن: 26 ـ 27).
وفي هذا دلالة على أنه سبحانه يطلع على غيبه رسله الذين اصطفاهم، ومن ذلك مثلاً قول يوسف (عليه السلام) لأصحابه في السجن: «لا يأتيكما طعام
ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي …» (يوسف: 37).
وكقوله تعالى: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً» (الكهف: 65). حكاية عن الخضر الذي التقى بموسى وعلمه من علم الغيب ما لم يستطع عليه صبراً.
والمسلمون شيعة وسنة لم يختلفوا في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم الغيب وقد سجلت سيرته الكثير من الأخبار بالغيب كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية» وقوله لعلي: «أشقى الآخرين الذي يضربك على رأسك فيخضب لحيتك» وقوله: «إن ابني الحسن يصلح الله به فئتين عظيمتين» وكقوله لأبي ذر بأنه سيموت وحيداً طريداً إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، ومنها حديثه المشهور الذي أخرجه البخاري ومسلم وكل المحدثين والذي جاء فيه: «الأئمة من بعدي اثنا عشر كلهم من قريش» وفي بعض الروايات «كلهم من بني هاشم».
وقد أثبتنا في الأبحاث السابقة من كتاب «مع الصادقين» وكتاب «فاسألوا أهل الذكر» بأن علماء السنة أنفسهم أشاروا في صحاحهم ومسانيدهم إلى تلك الأحاديث الدالة على إمامة الأئمة الاثني عشر وصححوها.
وإذا سأل سائل: لماذا تركوهم واقتدوا بغيرهم من ائمة المذاهب الأربعة، إذا كانوا يعترفون بتلك الأحاديث ويصححونها ؟ ؟
والجواب هو: إن «السلف الصالح» كلهم من أنصار الخلفاء الثلاثة الذين أولدتهم السقيفة أبو بكر وعمر وعثمان، فكان نفورهم من أهل البيت وعداؤهم للإمام علي وأولاده لابد منه، فعملوا كما قدمنا على محق السنة النبوية وإبدالها باجتهاداتهم.
وسبب ذلك انقسام الأمة إلى فرقتين بعد وفاة الرسول مباشرة فكان «السلف الصالح» ومن تبعهم ورأى رأيهم يمثلون «أهل السنة والجماعة» وهم الأغلبية الساحقة في الأمة، وكان الأقلية القليلة علي وشيعته الذين تخلفوا عن البيعة ولم يقبلوا بها فأصبحوا من المنبوذين والمغضوب عليهم وأطلقوا عليهم اسم الروافض.
وبما أن «أهل السنة والجماعة» هم الذين تحكموا بمصير الأمة عبر القرون فحكام بني أمية كلهم وحكام بني العباس كلهم هم أنصار وأتباع مدرسة الخلافة التي أسسها أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية(1) ويزيد.
ولما فشل أمر الخلافة وذهبت هيبتها وأصبحت في أيدي المماليك والأعاجم وسمع بتدوين السنة النبوية، عند ذلك ظهرت تلكم الأحاديث التي عمل الأولون على طمسها وكتمانها ولم يقدروا فيما بعد على محوها وتكذيبها، وبقيت تلك الأحاديث من الألغاز المحيرة عندهم لأنها تخالف الأمر الواقع الذي آمنوا به.
وحاول بعضهم التوفيق بين تلك الأحاديث وما هم عليه من العقيدة فتظاهروا بمحبة أهل البيت ومودتهم فتراهم كلما ذكروا الإمام علياً يقولون رضي الله عنه وكرم الله وجهه، حتى يتبين للناس بأنهم ليسوا بأعداء لأهل البيت النبوي.
فلا يمكن لأي واحد من المسلمين حتى المنافقين منهم أن يظهر عداءه لأهل البيت النبوي، لأن أعداء أهل البيت هم أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك يخرجهم من الإسلام كما لا يخفى.
والمفهوم من كل هذا بأنهم في الحقيقة أعداء أهل البيت النبوي ونقصد بهؤلاء «السلف الصالح» الذين تسموا أو سماهم أنصارهم بـ «أهل السنة والجماعة» والدليل أنك تجدهم كلهم يقلدون المذاهب الأربعة الذين أوجدتم السلطة الحاكمة (كما سنبينه عما قريب)، وليس عندهم في أحكام الدين شيء يرجعون فيه لفقه أهل البيت أو لأحد الأئمة الاثني عشر.
____________
(1) لقد أغفلنا ذكر خلافة علي بن أبي طالب قصداً، لأن «أهل السنة والجماعة» لم يكونوا يعترفون بها كما قدمنا إلا في زمن أحمد بن حنبل. راجع فصل (أهل السنة لا يعرفون السنة النبوية» ص 44 من هذا الكتاب. --------------------------------------------------------------------------------
والحقيقة تفرض بأن الشيعة الإمامية هم أهل السنة المحمدية لأنهم تقيدوا في كل أحكامهم الفقهية بأئمة أهل البيت الذين توارثوا السنة الصحيحة عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدخلوا فيها الآراء والاجتهادات وأقوال العلماء.
وبقي الشيعة على مر العصور يتعبدون بالنصوص ويرفضون الاجتهاد في مقابل النص، كما يؤمنون بخلافة علي وبنيه لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص على ذلك، فهم يسمونهم خلفاء الرسول ولو لم يصل منهم إلى الخلافة الفعلية إلا علي، ويرفضون ولا يعترفون بالحكام الذين تداولوا الخلافة من أولها إلى آخرها لأن أساسها كان فلتة وقى الله شرها ولأنها قامت رفضاً ورداً على الله ورسوله وكل الذين جاؤوا بعدها هم عيال عليها فلم يقم خليفة إلا بتعيين السابق له، أو بالقتال والتغلب والقهر(1) .
ولذلك اضطر «أهل السنة والجماعة» للقول بإمامة البر والفاجر لأنهم قببلوا بخلافة كل الحكام حتى الفاسقين منهم.
وامتاز الشيعة الإمامية بالقول بوجوب عصمة الإمام فلا تصح الإمامة الكبرى وقيادة الأمة إلا للإمام المعصوم وليس في هذه الأمة بشر معصوم إلا الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
____________
(1) يستثنى من ذلك فقط خلافة علي بن أبي طالب، فهو الوحيد الذي لم يتعين من قبل الذي سبقه، ولم يسلط عليها بالقهر والقوة، بل بايعه المسلمون بكل حرية وطواعية بل ودعوهم إليها بإصرار.
[frame="1 80"]التعريف بأئمة «أهل السنة والجماعة»[/frame]
وقد انقطع «أهل السنة والجماعة» إلى الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المعروفة، وهم: أبو حنيفة ومالك، والشافعي وأحمد بن حنبل.
وهؤلاء الأئمة الأربعة لم يكونوا من صحابة الرسولصلى الله عليه وآله وسلم ولا من التابعين فلا يعرفهم رسول الله ولا يعرفونه، ولم يرهم ولم يرونه، فأكبرهم سنا أبو حنيفة بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة عام لأن مولده كان في سنة ثمانين للهجرة ووفاتة سنة خمسين ومائة، أما أصغرهم أحمد بن حنبل فكان مولده سنة خمس وستين ومائة وكانت وفاته سنة إحدى وأربعين ومائتين، هذا بالنسبة لفروع الدين.
أما بالنسبة لأصول الدين فـ «أهل السنة والجماعة» يرجعون للإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري الذي ولد سنة سبعين ومائتين وتوفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
فهؤلاء هم أئمة «أهل السنة والجماعة» والذين ينقطعون إليهم في أصول الدين وفروعه.
فهل ترى فيهم واحداً من أئمة أهل البيت، أو من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو تكلم رسول الله عن واحد منهم وأرشد الأمة إليه ؟ ؟ كلا لا يوجد شيء من ذلك ودونه خرط القتاد.
وإذا كان «أهل السنة والجماعة» يدعون التمسك بالسنة النبوية، فلماذا
تأخرت تلك المذاهب إلى ذلك العهد ؟ وأين كان «أهل السنة والجماعة» قبل وجود تلك المذاهب ؟ وبماذا كانوا يتعبدون، وإلى من كانوا يرجعون ؟
ثم كيف ينقطعون إلى رجال لم يعاصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عرفوه، وإنما ولدوا بعدما وقعت الفتنة وبعدما تحارب الصحابة وقتل بعضهم بعضا وكفر بعضهم بعضاً، وبعدما تصرف الخلفاء في القرآن والسنة واجتهدوا فيهما بآرائهم.
وبعدما استولى يزيد بن معاوية على الخلافة فاستباح مدينة الرسول المنورة لجيشه يفعل فيها ما يشاء، فعاث جيشه فيها فساداً وقتل خيار الصحابة الذين لم يبايعوه واستبيحت الفروج وانتهكت المحارم وحبلت النساء من سفاح.
فكيف يركن العاقل إلى أولئك الأئمة الذين هم من تلك الطبقة البشرية التي تدنست بأوحال الفتنة وتغذت بألبانها المتلونة، وشبت وترعرت على أساليبها الماكرة الخداعة، وقلدتها أوسمة العلم المزيفة. فلم يبرز للوجود منهم إلا الذين رضيت عليهم الدولة ورضوا عنها(1) .
كيف يترك ـ من يدعي التمسك بالسنة ـ الإمام علي باب مدينة العلم والإمام الحسن والإمام الحسين سيدا شباب أهل الجنة والأئمة الطاهرين من عترة النبي الذين ورثوا علوم جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتبع أئمة لا علم لهم بالسنة النبوية بل هم صنيعة السياسة الأموية ؟
كيف يدعي «أهل السنة والجماعة» بأنهم أتباع السنة النبوية وهم يهملون القيمين عليها ؟ بل كيف يتركون وصايا النبي وأوامره بالتمسك بالعترة الطاهرة، ثم يدعون أنهم أهل السنة ؟ !
وهل يشك مسلم عرف التاريخ الإسلامي وعرف القرآن والسنة بأن «أهل السنة والجماعة» هم أتباع الأمويين والعباسيين ؟
وهل يشك مسلم عرف القرآن والسنة وعرف التاريخ الإسلامي بأن الشيعة الذين يقلدون عترة النبي ويوالونهم هم اتباع السنة النبوية، وليس لأحد غيرهم أن يدعيها ؟
____________
(1) سيأتي في الأبحاث القادمة بأن الحكام الأمويين والعباسيين هم الذين أوجدوا تلك المذاهب وفرضوها.
أرأيت أيها القارئ العزيز كيف تقلب السياسة الأمور وتجعل من الباطل حقاً ومن الحق باطلاً ! فإذا بالموالين للنبي وعترته تسميهم بالروافض وبأهل البدع، وإذا بأهل البدع الذين نبذوا سنة النبي وعترته واتبعوا اجتهاد الحكام الجائرين تسميهم «أهل السنة والجماعة» إنه حقاً أمر عجيب.
أما أنا فأعتقد جرماً بأن قريش هي وراء هذه التسمية وهو سر من أسرارها ولغز من ألغازها.
وقد عرفنا في ما سبق بأن قريشاً هي التي نهت عبد الله بن عمرو عن كتابه السنة النبوية بدعوى أن النبي غير معصوم.
فقريش هي في الحقيقة أشخاص معينون لهم نفوذ وعصبية وقوة معنوية في أوساط القبائل العربية، وقد يسميهم بعض المؤرخين بـ «دهاة العرب» لما اشتهروا به من المكر والدهاء والتفوق في إدارة الأمور، ويسميهم البعض بـ «أهل الحل والعقد».
ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعثمان وأبو سفيان ومعاوية ابنه وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومروان بن الحكم، وطلحة بن عبد الله، وعبد الرحمان بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح وغيرهم(1) .
وقد يجتمع هؤلاء للتشاور وتقرير أمر يتفقون عليه فيبرمون أمرهم ويفشونه في الناس ليصبح فيما بعد أمراً واقعاً وحقيقة متبعة دون أن يعرف سائر الناس سر ذلك.
ومن هذا المكر الذي مكروه قولهم بأن محمداً غير معصوم وهو كسائر البشر يجوز عليه الخطأ فينتقصونه ويجادلونه في الحق وهم يعلمون.
ومنها شتمهم لعلي بن أبي طالب ولعنهم إياه باسم أبي تراب وتصويره للناس بأنه عدو لله ولرسوله.
(1) لقد استثنينا من هؤلاء الإمام علياً (عليه السلام) لأنه يفرق بين دهاء الحكمة وحسن التدبير وبين دهاء الخداع والغش والنفاق، وقد قال غير مرة: «لولا الغش والنفاق لكننت أدهى العرب» كما جاء في القرآن قوله: «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين» فمكر الله هو الحكمة وحسن التدبير، أما مكر المشركين فهو غش ونفاق وخداع وزور وبهتان.
ومنها شتمهم ولعنهم للصحابي الجليل عمار بن ياسر تحت اسم مستعار فسموه عبد الله بن سبأ أو ابن السوداء، لأن عماراً كان ضد الخلفاء وكان يدعو الناس لإمامة علي بن أبي طالب(1) .
ومنها تسمية الشيعة الذين والوا علياً ـ بالروافض ـ كي يموهوا على الناس بأن هؤلاء رفضوا محمداً واتبعوا علياً.
ومنها تسمية أنفسهم بـ «أهل السنة والجماعة» حتى يموهوا على المؤمنين المخلصين بأنهم يتمسكون بسنة النبي مقابل الروافض الذين يرفضونها.
وفي الحقيقة هم يقصدون بـ «السنة» البدعة المشؤومة التي ابتدعوها في سب ولعن أمير المؤمنين وأهل بيت النبي على المنابر في كل مسجد من مساجد المسلمين وفي كل البلدان والمدن والقرى، فدامت تلك البدعة ثمانين عاماً، حتى كان خطيبهم إذا نزل للصلاة قبل أن يلعن علي بن أبي طالب، صاح به من في المسجد «تركت السنة، تركت السنة».
ولما أراد الخليفة عمر بن عبد العزيز إبدال هذه السنة بقوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى …» (النحل: 90) تآمروا عليه وقتلوه لأنه أمات سنتهم وسفه بذلك أقوال أسلافه الذين أوصلوه للخلافة فقتلوه بالسم وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة ولم تطل خلافته غير سنتين وذهب ضحية الإصلاح لأن بني عمومته الأمويين لم يقبلوا أن يميت سنتهم ويرفع بذلك شأن أبي تراب والأئمة من ولده.
وبعد سقوط الدولة الأموية جاء العباسيون فنكلوا بدورهم بأئمة أهل البيت وشيعتهم إلى أن جاء دور الخليفة جعفر بن المعتصم الملقب «بالمتوكل» فكان من أشد الناس عداوة لعلي وأولاده ووصل به البغض والحقد إلى نبش قبر الحسين في كربلاء
____________
(1) يراجع في ذلك كتاب «الصلة بين التصوف والتشيع» للدكتور مصطفى كامل الشبيبي المصري، والذي بين فيه بعشرة أدلة قوية بأن عبد الله بن سبأ اليهودي أو ابن السوداء ليس إلا سيدنا عمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه).
ومنع الناس من زيارته(1) وكان لايعطي عطاء ولا يبذل مالا إلا لمن شتم علياً وولده.
وقصة المتوكل مع ابن السكيت العالم النحوي المشهور معروفة وقد قتله شر قتلة، فاستخرج لسانه من قفاه عندما اكتشف بأنه يتشيع لعلي وأهل بيته في حين أنه كان أستاذاً لولديه.
وبلغ حقد المتوكل ونصبه أن أمر بقتل كل مولود يسميه أبواه باسم علي لأنه أبغض الأسماء إليه. حتى أن علي بن الجهم الشاعر لما تقابل مع المتوكل قال له: يا أمير المؤمنين إن أهلي عقوني، قال المتوكل: لماذا ؟ قال: لأنهم سموني علياً وأنا أكره هذا الاسم وأكره من يتسمى به، فضحك المتوكل وأمر له بجائزة.
وكان يقيم في مجلسه رجلاً يتشبه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فيضحك الناس عليه ويقولون: قد أقبل الأصلع البطين فيسخر منه أهل المجلس ويتسلى بذلك الخليفة.
ولا يفوتنا هنا أن نلاحظ بأن المتوكل هذا، والذي دل بغضه لعلي على نفاقه وفسقه يحبه أهل الحديث وقد لقبه بـ «محيي السنة».
وبما أن أهل الحديث هم أنفسهم «أهل السنة والجماعة» فثبت بالدليل الذي لا ريب فهي أن «السنة» المقصودة عندهم هي بغض علي بن أبي طالب ولعنه والبراءة منه فهي النصب.
ومما يزيدنا وضوحاً على ذلك أن الخوارزمي يقول في كتابه: «حتى أن هارون بن الخيزران وجعفر المتوكل على الشيطان لا على الرحمان، كانا لا يعطيان مالاً ولا يبذلان نوالاً، إلا لمن شتم آل أبي طالب ونصر مذهب النواصب»(2) .
____________
(1) وإذا كان الخليفة يصل إلى هذه الدرجة من الخسة والانحطاط فينبش قبور الأئمة من أهل البيت وبالخصوص قبر سيد شباب أهل الجنة، فلا تسأل بعدها عما فعلوه في الشيعة الذين كانوا بتبركون بزيارة قبره. فقد وصل شيعة أهل البيت إلى أقصى المعاناة والمحن حتى يتمنى المسلم أن يتهموه بأنه يهودي ولا يتهموه بالتشيع فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(2) كتاب الخوارزمي ص 135. كما ذكر ابن حجر عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: لما حدث نصر بن علي بن صهبان بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد الحسن والحسين وقال: «من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان في درجتي يوم القيامة»، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فأشرف على الهلاك، فكلمه فيه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: يا أمير المؤمنين هذا من أهل السنة، فلم يزل به حتى تركه(1) .
والعاقل يفهم من قول جعفر بن عبد الواحد للمتوكل بأن نصراً هو من أهل السنة لينفذه من القتل دليل آخر بأن «أهل السنة» هم أعداء أهل البيت الذين يبغضهم المتوكل ويقتل كل من يذكر هلم فضيلة واحدة وإن لم يكن يتشيع لهم.
وهذا ابن حجر يذكر أيضاً في كتابه بأن عبد الله بن إدريس الأزدي كان صاحب «سنة وجماعة» وكان صلباً في السنة مرضياً وكان عثمانياً(2) .
كما قال في عبد الله بن عون البصري: إنه موثق وله عبادة وصلابة في السنة وشدة على أهل البدع، قال ابن سعد: كان عثمانياً(3) .
وذكر أيضاً أن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني كان حريزي المذهب، (أي على مذهب حريز بن عثمان الدمشقي) المعروف بالنصب وقال ابن حيان: إنه كان صلباً في السنة(4) .
وبهذا عرفنا بأن النصب والبغض لعلي وأولاده وشتم آل أبي طالب ولعن أهل البيت يعد عندهم من الصلابة في «السنة»، وعرفنا بأن العثمانيين هم أهل النصب والعداء لأهل البيت، وهم أهل الشدة على من يتولى علياً وذريته.
(1) تهذيب التهذيب لابن حجر ترجمة نصر بن علي بن صهبان.
(2) ابن حجر في تهذيب التهذيب ج 5 ص 145 والمعروف أن العثمانيين كانوا يلعنون علياً ويتهمونه بقتل عثمان بن عفان.
(3) إبن حجر في تهذيب التهذيب ج 5 ص 348.
(4) إبن حجر في تهذيب التهذيب ج 1 ص 82.
--------------------------------------------------------------------------------
ويقصدون بأهل البدع «الشيعة الذين قالوا بإمامة علي»، لأنها عندهم بدعة، إذ خالفت ما عليه الصحابة والخلفاء الراشدين و «السلف الصالح» من إبعاده وعدم الاعتراف بإمامته ووصايته.
والشواهد التاريخية على إقامة هذا الدليل كثيرة جداً ولكن ما ذكرناه فيه الكفاية لمن أراد البحث والتحقيق وقد رمنا الاختصار كالعادة، وعلى الباحثين أن يدركوا أضعاف ذلك إن شاؤوا.
«والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين» (العنكبوت: 69).
لقد انقطع الشيعة للأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام)، أولهم علي بن أبي طالب ثم ابنه الحسن، ثم ابنه الحسين، ثم التسعة المعصومون من ذرية الحسن ومن نسله.
وقد نص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء الأئمة في العديد من المرات تصريحاً وتلميحاً وقد ذكرهم بأسمائهم في بعض الروايات التي أخرجها الشيعة والبعض من علماء «السنة».
وقد يعترض البعض من «أهل السنة» على هذه الروايات مستغرباً كيف يتكلم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور غيبية ما زالت في طي العدم ؟ وقد جاء في القرآن قوله: «لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء» (الأعراف: 188).
وإجابة على ذلك نقول بأن هذه الآية الكريمة لا تنفي عن الرسول علمه بالغيب مطلقاً، إنما جاءت رداً على المشركين الذين طلبوا منه أن يعلمهم عن قيام الساعة، وموعد الساعة قد اختص الله سبحانه بعلمه.
وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ….» (الجن: 26 ـ 27).
وفي هذا دلالة على أنه سبحانه يطلع على غيبه رسله الذين اصطفاهم، ومن ذلك مثلاً قول يوسف (عليه السلام) لأصحابه في السجن: «لا يأتيكما طعام
ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي …» (يوسف: 37).
وكقوله تعالى: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً» (الكهف: 65). حكاية عن الخضر الذي التقى بموسى وعلمه من علم الغيب ما لم يستطع عليه صبراً.
والمسلمون شيعة وسنة لم يختلفوا في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم الغيب وقد سجلت سيرته الكثير من الأخبار بالغيب كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية» وقوله لعلي: «أشقى الآخرين الذي يضربك على رأسك فيخضب لحيتك» وقوله: «إن ابني الحسن يصلح الله به فئتين عظيمتين» وكقوله لأبي ذر بأنه سيموت وحيداً طريداً إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، ومنها حديثه المشهور الذي أخرجه البخاري ومسلم وكل المحدثين والذي جاء فيه: «الأئمة من بعدي اثنا عشر كلهم من قريش» وفي بعض الروايات «كلهم من بني هاشم».
وقد أثبتنا في الأبحاث السابقة من كتاب «مع الصادقين» وكتاب «فاسألوا أهل الذكر» بأن علماء السنة أنفسهم أشاروا في صحاحهم ومسانيدهم إلى تلك الأحاديث الدالة على إمامة الأئمة الاثني عشر وصححوها.
وإذا سأل سائل: لماذا تركوهم واقتدوا بغيرهم من ائمة المذاهب الأربعة، إذا كانوا يعترفون بتلك الأحاديث ويصححونها ؟ ؟
والجواب هو: إن «السلف الصالح» كلهم من أنصار الخلفاء الثلاثة الذين أولدتهم السقيفة أبو بكر وعمر وعثمان، فكان نفورهم من أهل البيت وعداؤهم للإمام علي وأولاده لابد منه، فعملوا كما قدمنا على محق السنة النبوية وإبدالها باجتهاداتهم.
وسبب ذلك انقسام الأمة إلى فرقتين بعد وفاة الرسول مباشرة فكان «السلف الصالح» ومن تبعهم ورأى رأيهم يمثلون «أهل السنة والجماعة» وهم الأغلبية الساحقة في الأمة، وكان الأقلية القليلة علي وشيعته الذين تخلفوا عن البيعة ولم يقبلوا بها فأصبحوا من المنبوذين والمغضوب عليهم وأطلقوا عليهم اسم الروافض.
وبما أن «أهل السنة والجماعة» هم الذين تحكموا بمصير الأمة عبر القرون فحكام بني أمية كلهم وحكام بني العباس كلهم هم أنصار وأتباع مدرسة الخلافة التي أسسها أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية(1) ويزيد.
ولما فشل أمر الخلافة وذهبت هيبتها وأصبحت في أيدي المماليك والأعاجم وسمع بتدوين السنة النبوية، عند ذلك ظهرت تلكم الأحاديث التي عمل الأولون على طمسها وكتمانها ولم يقدروا فيما بعد على محوها وتكذيبها، وبقيت تلك الأحاديث من الألغاز المحيرة عندهم لأنها تخالف الأمر الواقع الذي آمنوا به.
وحاول بعضهم التوفيق بين تلك الأحاديث وما هم عليه من العقيدة فتظاهروا بمحبة أهل البيت ومودتهم فتراهم كلما ذكروا الإمام علياً يقولون رضي الله عنه وكرم الله وجهه، حتى يتبين للناس بأنهم ليسوا بأعداء لأهل البيت النبوي.
فلا يمكن لأي واحد من المسلمين حتى المنافقين منهم أن يظهر عداءه لأهل البيت النبوي، لأن أعداء أهل البيت هم أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك يخرجهم من الإسلام كما لا يخفى.
والمفهوم من كل هذا بأنهم في الحقيقة أعداء أهل البيت النبوي ونقصد بهؤلاء «السلف الصالح» الذين تسموا أو سماهم أنصارهم بـ «أهل السنة والجماعة» والدليل أنك تجدهم كلهم يقلدون المذاهب الأربعة الذين أوجدتم السلطة الحاكمة (كما سنبينه عما قريب)، وليس عندهم في أحكام الدين شيء يرجعون فيه لفقه أهل البيت أو لأحد الأئمة الاثني عشر.
____________
(1) لقد أغفلنا ذكر خلافة علي بن أبي طالب قصداً، لأن «أهل السنة والجماعة» لم يكونوا يعترفون بها كما قدمنا إلا في زمن أحمد بن حنبل. راجع فصل (أهل السنة لا يعرفون السنة النبوية» ص 44 من هذا الكتاب. --------------------------------------------------------------------------------
والحقيقة تفرض بأن الشيعة الإمامية هم أهل السنة المحمدية لأنهم تقيدوا في كل أحكامهم الفقهية بأئمة أهل البيت الذين توارثوا السنة الصحيحة عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدخلوا فيها الآراء والاجتهادات وأقوال العلماء.
وبقي الشيعة على مر العصور يتعبدون بالنصوص ويرفضون الاجتهاد في مقابل النص، كما يؤمنون بخلافة علي وبنيه لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص على ذلك، فهم يسمونهم خلفاء الرسول ولو لم يصل منهم إلى الخلافة الفعلية إلا علي، ويرفضون ولا يعترفون بالحكام الذين تداولوا الخلافة من أولها إلى آخرها لأن أساسها كان فلتة وقى الله شرها ولأنها قامت رفضاً ورداً على الله ورسوله وكل الذين جاؤوا بعدها هم عيال عليها فلم يقم خليفة إلا بتعيين السابق له، أو بالقتال والتغلب والقهر(1) .
ولذلك اضطر «أهل السنة والجماعة» للقول بإمامة البر والفاجر لأنهم قببلوا بخلافة كل الحكام حتى الفاسقين منهم.
وامتاز الشيعة الإمامية بالقول بوجوب عصمة الإمام فلا تصح الإمامة الكبرى وقيادة الأمة إلا للإمام المعصوم وليس في هذه الأمة بشر معصوم إلا الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
____________
(1) يستثنى من ذلك فقط خلافة علي بن أبي طالب، فهو الوحيد الذي لم يتعين من قبل الذي سبقه، ولم يسلط عليها بالقهر والقوة، بل بايعه المسلمون بكل حرية وطواعية بل ودعوهم إليها بإصرار.
[frame="1 80"]التعريف بأئمة «أهل السنة والجماعة»[/frame]
وقد انقطع «أهل السنة والجماعة» إلى الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المعروفة، وهم: أبو حنيفة ومالك، والشافعي وأحمد بن حنبل.
وهؤلاء الأئمة الأربعة لم يكونوا من صحابة الرسولصلى الله عليه وآله وسلم ولا من التابعين فلا يعرفهم رسول الله ولا يعرفونه، ولم يرهم ولم يرونه، فأكبرهم سنا أبو حنيفة بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة عام لأن مولده كان في سنة ثمانين للهجرة ووفاتة سنة خمسين ومائة، أما أصغرهم أحمد بن حنبل فكان مولده سنة خمس وستين ومائة وكانت وفاته سنة إحدى وأربعين ومائتين، هذا بالنسبة لفروع الدين.
أما بالنسبة لأصول الدين فـ «أهل السنة والجماعة» يرجعون للإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري الذي ولد سنة سبعين ومائتين وتوفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
فهؤلاء هم أئمة «أهل السنة والجماعة» والذين ينقطعون إليهم في أصول الدين وفروعه.
فهل ترى فيهم واحداً من أئمة أهل البيت، أو من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو تكلم رسول الله عن واحد منهم وأرشد الأمة إليه ؟ ؟ كلا لا يوجد شيء من ذلك ودونه خرط القتاد.
وإذا كان «أهل السنة والجماعة» يدعون التمسك بالسنة النبوية، فلماذا
تأخرت تلك المذاهب إلى ذلك العهد ؟ وأين كان «أهل السنة والجماعة» قبل وجود تلك المذاهب ؟ وبماذا كانوا يتعبدون، وإلى من كانوا يرجعون ؟
ثم كيف ينقطعون إلى رجال لم يعاصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عرفوه، وإنما ولدوا بعدما وقعت الفتنة وبعدما تحارب الصحابة وقتل بعضهم بعضا وكفر بعضهم بعضاً، وبعدما تصرف الخلفاء في القرآن والسنة واجتهدوا فيهما بآرائهم.
وبعدما استولى يزيد بن معاوية على الخلافة فاستباح مدينة الرسول المنورة لجيشه يفعل فيها ما يشاء، فعاث جيشه فيها فساداً وقتل خيار الصحابة الذين لم يبايعوه واستبيحت الفروج وانتهكت المحارم وحبلت النساء من سفاح.
فكيف يركن العاقل إلى أولئك الأئمة الذين هم من تلك الطبقة البشرية التي تدنست بأوحال الفتنة وتغذت بألبانها المتلونة، وشبت وترعرت على أساليبها الماكرة الخداعة، وقلدتها أوسمة العلم المزيفة. فلم يبرز للوجود منهم إلا الذين رضيت عليهم الدولة ورضوا عنها(1) .
كيف يترك ـ من يدعي التمسك بالسنة ـ الإمام علي باب مدينة العلم والإمام الحسن والإمام الحسين سيدا شباب أهل الجنة والأئمة الطاهرين من عترة النبي الذين ورثوا علوم جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتبع أئمة لا علم لهم بالسنة النبوية بل هم صنيعة السياسة الأموية ؟
كيف يدعي «أهل السنة والجماعة» بأنهم أتباع السنة النبوية وهم يهملون القيمين عليها ؟ بل كيف يتركون وصايا النبي وأوامره بالتمسك بالعترة الطاهرة، ثم يدعون أنهم أهل السنة ؟ !
وهل يشك مسلم عرف التاريخ الإسلامي وعرف القرآن والسنة بأن «أهل السنة والجماعة» هم أتباع الأمويين والعباسيين ؟
وهل يشك مسلم عرف القرآن والسنة وعرف التاريخ الإسلامي بأن الشيعة الذين يقلدون عترة النبي ويوالونهم هم اتباع السنة النبوية، وليس لأحد غيرهم أن يدعيها ؟
____________
(1) سيأتي في الأبحاث القادمة بأن الحكام الأمويين والعباسيين هم الذين أوجدوا تلك المذاهب وفرضوها.
أرأيت أيها القارئ العزيز كيف تقلب السياسة الأمور وتجعل من الباطل حقاً ومن الحق باطلاً ! فإذا بالموالين للنبي وعترته تسميهم بالروافض وبأهل البدع، وإذا بأهل البدع الذين نبذوا سنة النبي وعترته واتبعوا اجتهاد الحكام الجائرين تسميهم «أهل السنة والجماعة» إنه حقاً أمر عجيب.
أما أنا فأعتقد جرماً بأن قريش هي وراء هذه التسمية وهو سر من أسرارها ولغز من ألغازها.
وقد عرفنا في ما سبق بأن قريشاً هي التي نهت عبد الله بن عمرو عن كتابه السنة النبوية بدعوى أن النبي غير معصوم.
فقريش هي في الحقيقة أشخاص معينون لهم نفوذ وعصبية وقوة معنوية في أوساط القبائل العربية، وقد يسميهم بعض المؤرخين بـ «دهاة العرب» لما اشتهروا به من المكر والدهاء والتفوق في إدارة الأمور، ويسميهم البعض بـ «أهل الحل والعقد».
ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعثمان وأبو سفيان ومعاوية ابنه وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومروان بن الحكم، وطلحة بن عبد الله، وعبد الرحمان بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح وغيرهم(1) .
وقد يجتمع هؤلاء للتشاور وتقرير أمر يتفقون عليه فيبرمون أمرهم ويفشونه في الناس ليصبح فيما بعد أمراً واقعاً وحقيقة متبعة دون أن يعرف سائر الناس سر ذلك.
ومن هذا المكر الذي مكروه قولهم بأن محمداً غير معصوم وهو كسائر البشر يجوز عليه الخطأ فينتقصونه ويجادلونه في الحق وهم يعلمون.
ومنها شتمهم لعلي بن أبي طالب ولعنهم إياه باسم أبي تراب وتصويره للناس بأنه عدو لله ولرسوله.
(1) لقد استثنينا من هؤلاء الإمام علياً (عليه السلام) لأنه يفرق بين دهاء الحكمة وحسن التدبير وبين دهاء الخداع والغش والنفاق، وقد قال غير مرة: «لولا الغش والنفاق لكننت أدهى العرب» كما جاء في القرآن قوله: «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين» فمكر الله هو الحكمة وحسن التدبير، أما مكر المشركين فهو غش ونفاق وخداع وزور وبهتان.
ومنها شتمهم ولعنهم للصحابي الجليل عمار بن ياسر تحت اسم مستعار فسموه عبد الله بن سبأ أو ابن السوداء، لأن عماراً كان ضد الخلفاء وكان يدعو الناس لإمامة علي بن أبي طالب(1) .
ومنها تسمية الشيعة الذين والوا علياً ـ بالروافض ـ كي يموهوا على الناس بأن هؤلاء رفضوا محمداً واتبعوا علياً.
ومنها تسمية أنفسهم بـ «أهل السنة والجماعة» حتى يموهوا على المؤمنين المخلصين بأنهم يتمسكون بسنة النبي مقابل الروافض الذين يرفضونها.
وفي الحقيقة هم يقصدون بـ «السنة» البدعة المشؤومة التي ابتدعوها في سب ولعن أمير المؤمنين وأهل بيت النبي على المنابر في كل مسجد من مساجد المسلمين وفي كل البلدان والمدن والقرى، فدامت تلك البدعة ثمانين عاماً، حتى كان خطيبهم إذا نزل للصلاة قبل أن يلعن علي بن أبي طالب، صاح به من في المسجد «تركت السنة، تركت السنة».
ولما أراد الخليفة عمر بن عبد العزيز إبدال هذه السنة بقوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى …» (النحل: 90) تآمروا عليه وقتلوه لأنه أمات سنتهم وسفه بذلك أقوال أسلافه الذين أوصلوه للخلافة فقتلوه بالسم وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة ولم تطل خلافته غير سنتين وذهب ضحية الإصلاح لأن بني عمومته الأمويين لم يقبلوا أن يميت سنتهم ويرفع بذلك شأن أبي تراب والأئمة من ولده.
وبعد سقوط الدولة الأموية جاء العباسيون فنكلوا بدورهم بأئمة أهل البيت وشيعتهم إلى أن جاء دور الخليفة جعفر بن المعتصم الملقب «بالمتوكل» فكان من أشد الناس عداوة لعلي وأولاده ووصل به البغض والحقد إلى نبش قبر الحسين في كربلاء
____________
(1) يراجع في ذلك كتاب «الصلة بين التصوف والتشيع» للدكتور مصطفى كامل الشبيبي المصري، والذي بين فيه بعشرة أدلة قوية بأن عبد الله بن سبأ اليهودي أو ابن السوداء ليس إلا سيدنا عمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه).
ومنع الناس من زيارته(1) وكان لايعطي عطاء ولا يبذل مالا إلا لمن شتم علياً وولده.
وقصة المتوكل مع ابن السكيت العالم النحوي المشهور معروفة وقد قتله شر قتلة، فاستخرج لسانه من قفاه عندما اكتشف بأنه يتشيع لعلي وأهل بيته في حين أنه كان أستاذاً لولديه.
وبلغ حقد المتوكل ونصبه أن أمر بقتل كل مولود يسميه أبواه باسم علي لأنه أبغض الأسماء إليه. حتى أن علي بن الجهم الشاعر لما تقابل مع المتوكل قال له: يا أمير المؤمنين إن أهلي عقوني، قال المتوكل: لماذا ؟ قال: لأنهم سموني علياً وأنا أكره هذا الاسم وأكره من يتسمى به، فضحك المتوكل وأمر له بجائزة.
وكان يقيم في مجلسه رجلاً يتشبه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فيضحك الناس عليه ويقولون: قد أقبل الأصلع البطين فيسخر منه أهل المجلس ويتسلى بذلك الخليفة.
ولا يفوتنا هنا أن نلاحظ بأن المتوكل هذا، والذي دل بغضه لعلي على نفاقه وفسقه يحبه أهل الحديث وقد لقبه بـ «محيي السنة».
وبما أن أهل الحديث هم أنفسهم «أهل السنة والجماعة» فثبت بالدليل الذي لا ريب فهي أن «السنة» المقصودة عندهم هي بغض علي بن أبي طالب ولعنه والبراءة منه فهي النصب.
ومما يزيدنا وضوحاً على ذلك أن الخوارزمي يقول في كتابه: «حتى أن هارون بن الخيزران وجعفر المتوكل على الشيطان لا على الرحمان، كانا لا يعطيان مالاً ولا يبذلان نوالاً، إلا لمن شتم آل أبي طالب ونصر مذهب النواصب»(2) .
____________
(1) وإذا كان الخليفة يصل إلى هذه الدرجة من الخسة والانحطاط فينبش قبور الأئمة من أهل البيت وبالخصوص قبر سيد شباب أهل الجنة، فلا تسأل بعدها عما فعلوه في الشيعة الذين كانوا بتبركون بزيارة قبره. فقد وصل شيعة أهل البيت إلى أقصى المعاناة والمحن حتى يتمنى المسلم أن يتهموه بأنه يهودي ولا يتهموه بالتشيع فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(2) كتاب الخوارزمي ص 135. كما ذكر ابن حجر عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: لما حدث نصر بن علي بن صهبان بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد الحسن والحسين وقال: «من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان في درجتي يوم القيامة»، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فأشرف على الهلاك، فكلمه فيه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: يا أمير المؤمنين هذا من أهل السنة، فلم يزل به حتى تركه(1) .
والعاقل يفهم من قول جعفر بن عبد الواحد للمتوكل بأن نصراً هو من أهل السنة لينفذه من القتل دليل آخر بأن «أهل السنة» هم أعداء أهل البيت الذين يبغضهم المتوكل ويقتل كل من يذكر هلم فضيلة واحدة وإن لم يكن يتشيع لهم.
وهذا ابن حجر يذكر أيضاً في كتابه بأن عبد الله بن إدريس الأزدي كان صاحب «سنة وجماعة» وكان صلباً في السنة مرضياً وكان عثمانياً(2) .
كما قال في عبد الله بن عون البصري: إنه موثق وله عبادة وصلابة في السنة وشدة على أهل البدع، قال ابن سعد: كان عثمانياً(3) .
وذكر أيضاً أن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني كان حريزي المذهب، (أي على مذهب حريز بن عثمان الدمشقي) المعروف بالنصب وقال ابن حيان: إنه كان صلباً في السنة(4) .
وبهذا عرفنا بأن النصب والبغض لعلي وأولاده وشتم آل أبي طالب ولعن أهل البيت يعد عندهم من الصلابة في «السنة»، وعرفنا بأن العثمانيين هم أهل النصب والعداء لأهل البيت، وهم أهل الشدة على من يتولى علياً وذريته.
(1) تهذيب التهذيب لابن حجر ترجمة نصر بن علي بن صهبان.
(2) ابن حجر في تهذيب التهذيب ج 5 ص 145 والمعروف أن العثمانيين كانوا يلعنون علياً ويتهمونه بقتل عثمان بن عفان.
(3) إبن حجر في تهذيب التهذيب ج 5 ص 348.
(4) إبن حجر في تهذيب التهذيب ج 1 ص 82.
--------------------------------------------------------------------------------
ويقصدون بأهل البدع «الشيعة الذين قالوا بإمامة علي»، لأنها عندهم بدعة، إذ خالفت ما عليه الصحابة والخلفاء الراشدين و «السلف الصالح» من إبعاده وعدم الاعتراف بإمامته ووصايته.
والشواهد التاريخية على إقامة هذا الدليل كثيرة جداً ولكن ما ذكرناه فيه الكفاية لمن أراد البحث والتحقيق وقد رمنا الاختصار كالعادة، وعلى الباحثين أن يدركوا أضعاف ذلك إن شاؤوا.
«والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين» (العنكبوت: 69).