كان بين جعفر البرمكي وزير الرشيد وبين والي مصر عداوة ووحشة. وكان كل منهما مجانبا للآخر. فزوّر أحد الناس كتابًا عن لسان جعفر إلى والي مصر مضمونه أن حامل هذا الكتاب من أخص أصحابنا، وقد آثر التفرّج في الديار المصرية، فأريد أن تحسن الالتفات إليه، وبالغ في الوصية. ثم أخذ الكتاب ومضى إلى مصر وعرضه على صاحبها. فلما وقف عليه تعجّب منه، وفرح به إلا أنه حصل عنده ارتياب وشك في الكتاب. فأكرم الرجل، وأنزله في دار حسنة، وأقام له ما يحتاج إليه، وأخذ الكتاب منه، وأرسل إلى وكيله ببغداد وقال له: "قد وصل شخص من أصحاب الوزير بهذا الكتاب، وقد ارتبتُ به، فأريد أن تتفحّص لي عن حقيقة الحال في ذلك، وهل هذا خط الوزير أم لا". وأرسل كتاب الوزير صُحْبة مكتوبة إلى وكيله. فجاء الوكيل إلى وكيل الوزير، وحدثه بالقصة وأراه الكتاب. فأخذه وكيل الوزير ودخل إلى الوزير وعرّفه الحال. فلما وقف جعفر البرمكي على الكتاب علم أنه مزوّر عليه. وكان عنده جماعة من ندمائه ونوابه، فرمى الكتاب عليهم وقال لهم: أهذا خطي؟ فتأملوه وأنكروه كلهم، وقالوا: هذا مزوّر على الوزير. فعرفهم صورة الحال، وأن الذي زور هذا الكتاب موجود بمصر عند صاحبها، وأنه ينتظر عود الجواب بتحقيق حاله. وقال لهم: ما ترون؟ وكيف ينبغي أن نفعل في هذا؟ فقال بعضهم: ينبغي أن يُقتل هذا الرجل حتى تنحسم هذه المادة ولا يرجع أحد يتجرأ على مثل هذا الفعل. وقال آخر: ينبغي أن تقطع يمينه التي زور بها هذا الخط. وقال آخر: ينبغي أن يوجع ضربًا ويُطلق حال سبيله. وكان أحسنهم محضرًا من قال: ينبغي أن تكون عقوبته على هذا الفعل حرمانُه، وأن يعرف صاحب مصر بحاله ليحرمه، فيكفيه من العقوبة أنه قد قطع هذه المسافة البعيدة من بغداد إلى مصر، ثم يرجع خائبا. فلما فرغوا من حديثهم قال جعفر: سبحان الله! أليس فيكم رجل رشيد؟! قد علمتم ما كان بيني وبين صاحب مصر من العداوة والمجانبة، وأن كل واحد منّا كانت تمنعه عزّة النفس أن يفتح باب الصلح، فقيّض الله لنا رجلاً فتح بيننا باب المصالحة والمكاتبة وأزال العداوة بيننا. فكيف يكون جزاؤه ما ذكرتم من الإساءة؟ ثم أخذ القلم وكتب على ظاهر الكتاب إلى صاحب مصر: "كيف حصل لك الشك في خطي؟ هذا خط يدي، والرجل من أعزّ أصحابي، وأريد أن تحسن إليه وتعيده إليّ سريعًا فإني مشتاق إليه، محتاج إلى حضوره" فلما وصل الكتاب كاد صاحب مصر يطير من الفرح، وأحسن إلى الرجل غاية الإحسان، وواصله بمال كثير. ثم إن الرجل رجع إلى بغداد، فحضر إلى مجلس جعفر. فلما دخل سلّم عليه ووقع يقبّل الأرض ويبكي. فقال له جعفر: من أنت يا أخي؟ قال: أنا عبدك وصنيعتُك المزور الكذّاب المتجرِّي! فعرفه جعفر، وبشّ به، وسأله عن حاله، وقال له: كم وصل إليك منه؟ فقال: مائة ألف دينار. فقال جعفر: لازِمْنا حتى نضاعفها لك! من كتاب "الفخري" لابن طباطبا.
X
اقرأ في منتديات يا حسين
تقليص
لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.
تعليق