إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

الحكومة العلوية في قراءة الإمام الخميني (ره)

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحكومة العلوية في قراءة الإمام الخميني (ره)



    الإنسان الكامل
    ان الحديث عن شخصية الإمام علي (ع)، وكما قال الإمام الخميني (ره)، أمر صعب للغاية. ويكاد يكون من المستحيل الاحاطة بجميع أبعاد هذه الشخصية العظيمة التي تعد معدن الإنسانية والفضائل. وجميع ما كتبه الباحثون وقاله المتكلمون عن شخصيته (ع) ليس هو، في الواقع، الا محاولات للتعرف إلى أبعاد هذه الشخصية الفريدة. يقول الإمام الخميني (ره)، في هذا الصدد:
    «... نحن، في حديثنا عن الإمام علي بن أبي طالب، نتكلم على شخصيته غير المعروفة، أو عن معرفتنا القاصرة والبعيدة عن ادراكه ».

    أساسا، هل ان عليا (ع) من البشر في عالم الملك والدنيا كي يتكلم عليه من هو في هذا العالم، أو هو موجود ملكوتي لا يعرف قدره الا الملائكة، فالعرفاء والفلاسفة الالهيون، باي وسيلة يريدون التعرف إلى شخصيته والكلام عليها، فهم لا يقدرون الا بالمستوى المحدود لمعارفهم وعلومهم، فاي مستوى وصلوا في معرفته (ع) كي يستطيعوا ان يعرفونا به.

    فالعلماء والعرفاء والفلاسفة، مع كل ما يتصفون به من علم وفضيلة، كل ما حصلوا عليه من مظهر الحق، انما هو من خلال ما هم فيه من حجاب ونفوس محدودة، ومولانا الإمام علي (ع) غير هذا الذي عرفوه.

    اذن فالاولى بنا ان نتخطى هذا المجال ونقتصر على القول: ان علي بن أبي طالب كان عبدا لله، وهذه أهم صفة وخصوصية يمكن ذكرها عنه، وهو الذي تربى على يد الرسول العظيم وهذا أهم فخر له»[1].

    وعن أبعاد هذه الشخصية يقول الإمام الخميني:

    «ان الأبعاد المختلفة لهذه الشخصية العظيمة لا يمكن ادراكها من خلال ما نعقده نحن من ندوات، ولا يمكن قياسها طبقا للمقاييس البشرية، فالذي بلغ درجة الإنسان الكامل، وكان مجسدا لأسماء الحق تعالى وصفاته جميعها، تكون أبعاد شخصيته على حسب الأسماء والصفات التي هي الف اسم وصفة، ونحن قاصرون عن شرح اسم من هذه الأسماء وصفة من هذه الصفات وبيانها»[2].

    ويتحدث الإمام الخميني (ره) عن تربية النبي (ص) له، فيقول:

    «... فلو كان النبي (ص) لم يرب من الامة غير هذا الفرد لكان ذلك مجزيا له. ولو لم يبعث النبي (ص) الا لتربية مثل هذا الشخص وتقديمه للمجتمع البشري لكان كافيا له»[3].

    فمن المتيقن ان حكم مثل هذا الإنسان وان كانت مدته قصيرة سيكون مليئا بالعبر والدروس وزاخرا بالمشاعر الإنسانية والفضائل والجدية في سبيل احقاق الحق.

    فحكومته (ع)، وان كانت جزءا من أبعاد شخصيته وسيرته، الا انها اعطت للتاريخ مع ما فيه من ظلمات جاذبية خاصة.

    وأضحت السياسة بها مع ما تتصف به من ظلم وحيلة وسحق للحقوق مبتغى لطالبي العدل وتكليفا لطالبي الحقوق.

    وعرفت السلطة مع ما تمارسه من جنايات بالوسيلة التي لا بديل لها لمن يريد اقامة القسط والعدل والحق.

    لا يوجد، في التاريخ، مرحلة اكثر جاذبية من مرحلة حكم الإمام علي (ع)، ولا توجد سياسة اكثر التزاما بالدين واكثر شعبية من سياسة الإمام علي (ع)، ولا توجد سلطة امتلكت المشروعية كمشروعية حكومته (ع)، ولذا يرى الإمام الخميني (ره) ان غصب خلافته (ع) من اكبر المصائب التي مني بها الإسلام، وكان من الجدير الاحتفال بحكومته (ع) وان كانت مدتها قصيرة إلى الابد، لأن ذلك يعني الاحتفال بالعدل:

    «... ان من اكبر المصائب التي مني بها الإسلام هي مصيبة سلب الحكم عن أمير المؤمنين (ع)، فهو يفوق واقعة كربلاء من حيث المصاب، فالمصيبة التي اصابت أمير المؤمنين، ومن ثم اصابت الإسلام اعظم اثرا من المصاب الذي اصاب الحسين (ع).

    فالمصيبة العظيمة وقعت عندما حالوا بين الإمام علي (ع) وبين الحكم بعد النبي (ص)، حيث لم يتركوا مجالا ليتعرف العالم إلى الإسلام ويفهم ماذا يعني.

    فالسنوات الخمس التي اطلقت فيها يد الإمام علي (ع) في الحكم يجب ان يحتفل بها إلى الابد، يحتفل بها لأجل العدالة واقامتها...، فهذا الحكم هو الحكم الذي يجب اقامة العزاء لأجل زواله، ويحتفل لأجل اقامته.

    فالاحتفال بهذا الحكم هو الاحتفال لأجل الله، لأن هذا الحاكم كان يعيش في مستوى واحد مع الناس، بل يواسي اضعفهم في عيشه.

    فلمثل هذا الحكم الذي هو حكم العقل والعدل، وحكم الايمان وحكم الله، تجب اقامة العزاء لفقده، وفي المقابل يحتفل باقامته[4]. وفي نظر الإمام الخميني (ره) ان يوم الغدير قد اكتسب فضله من مقام الإمام علي (ع) وفضيلته، فالغدير لم يضف فضلا إلى فضائل الإمام علي (ع)، بل ان مقام الامام علي (ع) وكماله هو الذي اظهر الغدير في هذا الفضل وتلك المنزلة:

    «... ان مسألة الغدير ليست بنفسها مسألة تزيد في مقام أمير المؤمنين (ع)، بل ان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) هو الذي اوجد مسألة الغدير. فوجوده المتكامل، ومن الجهات جميعها، هو الذي اقتضى ظهور مسألة الغدير، فهذه المسألة بالنسبة للامام علي (ع) ليست لها اي أهمية، فالذي له قيمة وأهمية هو الامام (ع) نفسه، فتبعا له ظهرت مسألة الغدير.

    فالله قد علم انه لا يوجد احد بعد رسول الله (ص) باستطاعته اقامة العدل بالصورة التي تجب اقامتها، وكما يريد الله تعالى، غير الإمام علي (ع)، فامر رسوله (ص) بنصب أمير المؤمنين علي (ع) وليا من بعده وخليفته على الناس. فالخلافة ليست من فضائل أمير المؤمنين (ع)، بل من فضائله ومقامه برزت مسألة الغدير»[5].

    ان هذه المرحلة التاريخية البارزة والحساسة التي لا يمكن تكررها اي مرحلة حكم الإمام علي (ع) القصيرة هي كالشمس تتالق لاضفاء الدفء والنور لطلاب الحق والعدالة والسياسة بالمعنى الصحيح للكلمة، وليست الا شعاع من نور وجود أمير المؤمنين (ع) وفضائله الروحية التي تعجز الاصطلاحات والعبارات عن بيان كنهها.

    وكل ما قاله الإمام الخميني (ره) طوال عشرات السنين في وصف الحكم الإسلامي، وسعى إلى الاقتداء به عمليا، تعبير عن الاهتمام الخاص الذي كان يبذله في سبيل تعريف خصائص حكم الإمام علي (ع) وتبيينها، تلك الخصائص التي يحتاجها مجتمعنا وحكومتنا للاقتداء بها.

    فمجتمعنا بحاجة دائما إلى تبيين تلك الخصائص وتعريفها، وكل مسؤولي المراكز المختلفة في الحكومة بحاجة شديدة إلى الالتزام بها والاستقامة عليها كي يمكننا الافتخار بالاقتداء، ولو بالقدر اليسير بحكمه (ع).

    وكلنا نسلم بان حتى هذا القدر من التطبيق صعب، وليس من السهل القيام به الا بالتقوى والاجتهاد والعفاف والاستقامة على منهج الحق، وكما قال الإمام علي (ع):

    «... الا وانكم لا تقدرون على ذلك، ولكن اعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد...»[6].

    الامام علي (ع) وبيان أهمية الحكم الإسلامي وكيفيته

    كان الإمام الخميني (ره) يعتقد ان الدليل على وجوب تشكيل الحكومة الإسلامية هو وجوب تطبيق أحكام الشريعة، وكان (ره) يعتقد ان امكانية تطبيق أحكام الإسلام وقوانينه لا تتأتى من دون تأسيس حكم إسلامي. ولذلك رأى ان الرسول (ص) والائمة (ع) بذلوا الجهد لأجل اقامة الحكم الإسلامي: «... لما كان من اللازم اقامة الأحكام الإسلامية بعد رسول الله (ص)، والى آخر الزمان، فمن الضروري تشكيل الدولة الإسلامية التي تضمن لنا التطبيق والادارة حسب تلك الأحكام، فالعقل والشرع يحكمان بأن ما كان لازما في زمن الرسول الاكرم (ص)، وفي زمن أمير المؤمنين علي (ع) اي الدولة وجهاز الحكم يكون لازما ايضا بعدهما، وفي وقتنا هذا»[7]. وصرح في موضع آخر: «لم يكن احد من افراد الامة الإسلامية يشكك، بعد وفاة الرسول (ص)، في وجوب اقامة الحكم الإسلامي، فلم يقل احد: لا نحتاج إلى حكم ولم يسمع ذلك من اي شخص، فالجميع كانوا متفقين على وجوب اقامة الحكم، انما كان الاختلاف حول من يرأس هذه الدولة ويحكمها. ولذلك نرى، في المرحلة التي اعقبت وفاة الرسول (ص)، في زمن الخلفاء الثلاثة، وفي عهد أمير المؤمنين (ع)، ان الدولة الإسلامية كانت قائمة، وكان الحكم يمارس من قبل المتصدين لها»[8]. فالامام الخميني (ره) كان يسعى في سبيل اقامة الحكم الإسلامي وبتعبيره (ره): «الحكم الإسلامي العادل»[9].

    وكان هدفه، في ذلك، تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية واقامة العدل وفاقا لما كان عليه النبي (ص)، والامام علي (ع) في المدينة المنورة وفي الكوفة.

    فمهما كان لفظ «الحكم الإسلامي» لفظا كليا وعاما، ويحتمل معاني مختلفة واطرا سياسية متفاوتة، الا ان لهذا المصطلح، في فكر الإمام الخميني (ره)، ظهورا في الغاية من الحكم وواجبات الدولة، قبل ان يكون ظاهرا في معنى السلطة والهيمنة.

    وتعد العدالة من أهم الغايات التي يثبتها الإمام الخميني (ره) للحكم الديني. والعدالة نفسها هي مقدمة لتطبيق الشريعة، ولذا كان الاقتداء، وبالقدر المستطاع، بنهج الإمام علي (ع) واسلوبه في الحكم هو المقياس عنده في كون الحكم إسلاميا:

    «علينا ان نتعلم من طريقة الإمام علي (ع) ونقتبس من منهجه في الحكم، غاية الامر نحن لا نستطيع ان نلتزم بكل ما كان يراعيه الإمام (ع)، ولا يوجد احد يستطيع ذلك، اي ان هناك بعض الجوانب كانت خاصة به (ع)، وليست عامة في مسألة الحكم، الا ان الاصل المشترك هو اقامة الحكم العادل وعدم ظلم الناس»[10].

    وقال الإمام الخميني في تعريف الحكومة الإسلامية: «الحكومة الإسلامية هي الحكومة القائمة على أساس العدل والديمقراطية والتي تعتمد على اصول الإسلام وقوانينه»[11]. اما في ما يخص برامج الدولة واوصاف حاكمها فكان يعتقد انه يجب الاقتداء بالبرامج والاوصاف التي ذكرها وبينها الإمام علي (ع) في خطبه ورسائله وطبقها في حكمه:

    «لقد بين الإسلام طريقته ومنهاجه في الحكم، ولم يهملها، فقد بين الإسلام الصفات التي على الحاكم ان يتحلى بها، كما ان أمير المؤمنين (ع) قد بين لنا المنهج في الحكم، وحدد معالم الحكومة الإسلامية في مختلف جوانبها، في القضاء والادارة والجوانب الاخرى...»[12].

    ويعد العهد الذي كتبه الإمام علي (ع) لمالك الاشتر، عندما ولاه مصر، اغنى سند تاريخي واثراه، فقد دون فيه الإمام (ع) معالم الحكومة الدينية، وخصائص المسؤولين في النظام الإسلامي وصفاتهم. وقد اشار الإمام الخميني (ره) إلى محتوى هذه الرسالة قائلا:

    «ولقد بين أمير المؤمنين (ع) في هذه الرسالة برنامجه في الحكم، ودون فيها المواصفات والخصائص التي يتصف بها الحكم الإسلامي، وما يجب على مسؤولي هذا النظام من الاتصاف به، ووظائفهم في هذا الحكم»[13].

    الهدف من اقامة الحكومة الإسلامية

    يعتقد الإمام الخميني (ره)، وطبقا لحديث الإمام علي (ع)، ان أهم اهداف اقامة الحكومة الإسلامية هو: المنع من الفوضى في المجتمع الإسلامي وحفظ الثغور والدفاع ضد اي اعتداء خارجي على حدود الدولة الإسلامية، وتطبيق أحكام الشريعة في المجتمع.

    وبالنظر إلى قول الإمام علي (ع) في احدى خطبه: «اما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما اخذ الله على العلماء ان لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكاس اولها...»[14]، يعد الإمام الخميني (ره) انقاذ المحرومين والمظلومين والوقوف بوجه الظالمين من اهداف قيام الحكم الإسلامي، فقد قال: «نحن مكلفون بانقاذ المحرومين والمظلومين وان نكون اعداء للظالمين».

    وهذا هو نفس ما ذكره أمير المؤمنين (ع) في وصيته لولديه الحسن والحسين (ع): «كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا»[15].

    خصائص حكم الإمام علي (ع) في نظر الإمام الخميني (ره)

    تعد سيرة أمير المؤمنين (ع) المباركة ومنهجه في العيش، ايام خلافته القصيرة، في نظر الإمام الخميني (ره)، مليئة بالدروس والعبر في ما يخص التعايش وما يخص الحكم.

    فاوامره إلى رجاله ومسؤولي المراكز المختلفة في الدولة، وخطبه في الكوفة وبقية خطبه واحاديثه رسمت، وبصورة واضحة، الخصائص والمميزات التي يتصف بها الحكم الجيد والصالح في نظره (ع).



  • #2
    تكملة الموضوع

    ونستعرض، الآن، أهم تلك الخصائص:

    1ــ تواضع الحاكم للناس واحترامه لهم من أهم خصائص حكم الإمام علي (ع) التي ذكرها الإمام الخميني (ره) في خطبه، تواضع الحاكم وعطفه على الناس واحترامه لهم حتى بالنسبة إلى غير المسلمين.
    ففي منظار الإمام علي (ع) الناس جميعهم، ولذاتهم الإنسانية، يستحقون الاحترام، وباللين والمحبة يمكن هدايتهم إلى الصراط المستقيم.
    وقد استدل الإمام علي (ع)، في اوائل كتابه إلى مالك الاشتر لما ولاه مصر، على لزوم اتخاذ الاسلوب اللين والتعامل مع الناس بالمحبة والعطف واجتناب العنف والتعسف. بتقسيم الناس إلى صنفين، قال (ع):
    «واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم، فانهم صنفان: اما اخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»[16].
    ولهذا نرى الإمام (ع) عندما يبلغه خبر غزو الانبار، من قبل جيش معاوية، وتعديهم على الناس وسلبهم ما يملكون، يقول:
    «... ولقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والاخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ما تمتنع منه الا الاسترجاع والاسترحام... ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم، ولا اريق لهم دم، فلو ان امرأ مسلما مات من بعد هذا اسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا»[17].
    قال الإمام الخميني (ره) في ما يخص هذه الميزة لحكم الإمام علي (ع):
    «ان شخصية هذا الرجل العظيم الذي كان اماما للامة شخصية لا يمكن العثور على مثيلها لا قبل الإسلام ولا بعد ظهوره، شخصية قد جمعت الاضداد فيها، فرجل الحرب كيف له ان يكون من اهل العبادة، والشجاع ذو القدرة الجسمانية العظيمة كيف يمكن عدّه من الزاهدين، والشخص الذي يحصد بسيفه رؤوس المنحرفين كيف يمكنه الاتصاف باللين والرحمة، كما كان يتصف بها أمير المؤمنين (ع)، فهذا الرجل بلغت به الرحمة بالناس درجة انه عندما يسمع ان الاعداء سلبوا من المرأة اليهودية المعاهدة خلخالها ينادي: «... لو ان امرأ مسلما مات من بعد هذا اسفا ما كان به ملوما»[18].
    هذه الرحمة بلغت قمتها عندما شملت عدوه وقاتله، فقد قاسمه قدح اللبن الذي قدم اليه. وكذلك نرى مصاديقها بالنسبة للافراد الذين يحاكمون ويقام عليهم الحد، ففي احدى المرات بعد ان اقيم الحد على اثنين من السارقين وقطعت يدا كل منهما، ابدى الإمام علي (ع)، بعد اقامته الحد، عطفه على هذين المحدودين واهتمامه بهما، واسهم في معالجة اليد المقطوعة ليسرع برأها، واهتم بتغذيتهما، كي يقويا بعد ذلك على العمل حتى انهما بعد ذلك صارا من المادحين له، فعندما سئلا بعد زمن: من قطعكما؟ قالا: قطعنا خير الناس[19].
    فالرحمة للناس جميعهم، واللين مع الجميع، وبالاخص مع اولئك الذين ليس لهم من يلجأون اليه سوى رحمة الحاكم الذي يعمل في سبيل خدمة الناس.
    كان الإمام علي (ع) يحكم في وقت امتدت فيه سلطة الدولة الإسلامية إلى مناطق بعيدة وشاسعة، فمن الشرق الاوسط إلى شمال افريقيا، ومن الحجاز إلى ايران، ومع ذلك كله لم يكن يتوانى عن اي عمل في سبيل ادخال السرور إلى نفوس اليتامى وملاطفتهم، ولو من خلال اللعب معهم.
    «كان عليه السلام يصلهم بما يحتاجونه في حين ان الكثير من العوائل لم تكن تعرف هوية الشخص الذي يأتيها بالمعونات، وفي احدى المرات عندما كان يوصل المعونة إلى احدى العوائل كان اطفالها يبكون، فدخل عليهم ولاطفهم واطعمهم، وبعد ذلك أخذ في ابداء صوت يشبه صوت الناقة كي يضحك الاطفال قائلا: عندما دخلت عليهم كانوا يبكون وبودي ان يضحكوا حين خروجي، هذا سلوك حاكم كانت دولته تمتد من الحجاز إلى مصر ومن ايران إلى افريقيا»[20].
    فالتواضع للنس جميعهم من الصفحات المضيئة لحكم الإمام علي (ع)، وهذا لم يكن منه الا بعد التسليم والخضوع المطلق لما يريده الله سبحانه وتعالى. ومن الواضح ان ارضية هذا التواضع هي نفسها ارضية الخضوع والتسليم لله عز وجل.
    وهذا التواضع للناس ليس من باب العجز وعدم القدرة، بل هو صادر من اشجع الناس، ومن قبل شخص لم يسبقه احد في ميادين الجهاد والحرب سوى رسول الله (ص)، وكان يقول:
    «والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها»[21].
    ومع ذلك كله: «فهذا الشخص، مع كل ما كان تحت سلطته، ورغم امتداد حكومته في اقطار واسعة من الارض، علاوة على ما يملك من قوة بدنية وروحية نراه في تواضعه يفوق افراد الطبقات الدنيا أو المتوسطة، فلم تؤثر هذه القدرة التي يملكها في نفسه ابدا، وذلك لأن الروح واسعة وكبيرة بدرجة تشمل كل العالم وتستوعبه، فالروح المجردة يعد العالم كله بالنسبة لها نقطة، فمثل هذه الشخصية والروح العالية لائقة للسياسة والحكم، والإسلام قد اختار مثل هذه الشخصية للقيادة»[22].
    ولقد أكد الإمام الخميني (ره) على هذا الجانب من الحديث، لأن التكبر والاستعلاء والغرور بالقدرة والسلطة يجر الحاكم إلى سحق حقوق الشعوب وظلمها، فالسلطة لا تتناسب والادمغة الصغيرة والمريضة، فهذه النفوس بمجرد تعرضها لمشكلة صغيرة يثور غضبها، فكم احرقت مدن واهلكت آلاف الانفس بسبب هذا الغضب.
    لكن التواضع، في شخصية كشخصية أمير المؤمنين (ع) الذي حكم نفسه وروضها قبل ان يكون حاكما على الناس، نشأ من قدرته على ضبط نفسه وترويضها في حال كونه مقتدرا وذا سلطة واسعة. ويظهر هذا التواضع في سلوك الحاكم حتى انه لا يستنكف عن الجلوس على الارض. ويظهر ايضا في عيشه وتذوقه للجوع كي يبقى ذاكرا للجائعين من افراد المجتمع.
    يأكل ويمشي كما يأكل العبيد ويمشون، اكتفى من اللباس بأبسطه وأزهده.
    عندما اعترض الإمام الخميني (ره) على الترف الذي غرق فيه النظام الطاغوتي، وانتقد الاحتفالات التي اقامها النظام لذكرى مرور 2500 سنة على الحكم الملكي في ايران، جعل المقياس للحكم نهج أمير المؤمنين (ع)، فقال: «يجب ان يحتفل بذلك الحاكم الذي عندما يحتمل وجود جائع واحد في اقصى انحاء الدولة لا يشبع في اكله، ويكتفي بالقليل والبسيط منه كي يواسيه، الحاكم الذي جعل محل ادارته للحكم وقضاءه بين الناس جانبا من جوانب مسجد الكوفة، ونصب هناك دكة القضاء ليحكم في دعاوى الناس. يجلس على الارض ويأكل كما يأكل العبيد ويمشي كما يمشي العبيد، وعندما يهدى اليه ثوب جديد يعطيه لخادمه قنبر، ويكتفي هو بلباسه القديم. وعندما يرى امامه ثيابا طويلة يقطعها ويذهب هكذا إلى المسجد ليخطب بالناس. هكذا كان في الوقت الذي كانت دولته تمتد إلى مسافات شاسعة تعادل عشرة اضعاف مساحة ايران، مثل هذا الحاكم يستحق ان يحتفل به»[23].
    2ــ حكم الإمام علي (ع) حكم القانون:
    ان انتظام المجتمع البشري المفضي إلى تحديد العلاقات بين افراده، والذي يعد القاعدة في الطمأنينة والامان والتطور والرقي، يعتمد على تحديد الحقوق والواجبات والالتزام بها.

    فالقوانين والدولة والمؤسسات الاجتماعية والقوى المسلحة جميعها وسائل لتحقيق الانتظام في المجتمع ولتحديد العلاقات بين افراده.

    ونتيجة لذلك كان القسم الاكبر من رسالة الانبياء ينصب على تحديد واجبات الإنسان وحقوقه.


    تعليق


    • #3
      تكملة

      هناك ثلاثة امور تعد اركانا لمقولة التقنين:

      1- تبيين القوانين ووضوحها.

      2- تطبيق القانون.

      3- مساواة الناس امام القانون.

      وهذه الامور الثلاثة واضحة جدا في سيرة الانبياء والاولياء.

      قال الإمام علي (ع)، عندما علم ان احدى بناته قد استعارت من ابن أبي رافع، خازنه على بيت المال، عقد لؤلؤ على ان ترده بعد ثلاث: «... ثم اولى لابنتي لو كانت اخذت العقد على غير عارية مضمونة مردودة، لكانت اذا اول هاشمية قطعت يدها في سرقة..»[24]. وقال ايضا: «والله لو اعطيت الاقاليم السبعة، بما تحت افلاكها، على ان أعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلته»[25]. فالاصرار على تطبيق القوانين يعد احياء للقيم الدينية، وليس مجرد شعار في المعترك السياسي.

      ويعد الإمام الخميني (ره) من السابقين، في هذا العصر، إلى احياء مقولة تطبيق القانون. وقد اشار، في كثير من خطبه وبياناته، إلى دور الالتزام بالقانون في تطور الحياة الاجتماعية، وعد عدم الالتزام بالقوانين السبب في جميع انواع الفساد الاجتماعي. قال (ره):

      «ان الدولة التي لا تلتزم بالقوانين، وليس للقانون (وبالاخص القانون الإسلامي) في مجتمعها اي دور واي حاكمية، لا يمكن تسميتها وعدّها دولة إسلامية»[26].

      وقال ايضا: «في الإسلام للقانون حاكمية على المجتمع، حتى النبي (ص) نفسه كان تابعا للقانون الالهي، ولا يمكنه مخالفته»[27].

      وقال (ره) ايضا: «في الإسلام الحاكم الوحيد هو القانون الالهي، والنبي (ص) ايضا، كان يطبق القانون وتابعا له، وخلفاء النبي (ص) ايضا، كانوا يطبقون ذلك القانون. والآن ايضا نحن مكلفون بالعمل طبقا للقانون.

      فالقانون هو الحاكم، وليس الحكم للفرد، فالفرد، حتى لو كان رسول الله، وحتى لو كان خليفة الرسول، ليس هو الحاكم، ففي الإسلام الذي يحكم انما هو القانون، والكل تابع له»[28]. ويضع الإمام الخميني (ره) في هذه الدعوة الحقيقية إلى الالتزام بالقانون سيرة الإمام علي بن أبي طالب (ع) ملاكا لذلك، لأن من أهم مصاديق حكومة الإمام علي (ع) واوضحها هو حكم القانون، فلو طالعنا واستقرأنا، ولو بصورة سريعة وعابرة، سيرة الإمام علي (ع) وسلوكه في عمره الشريف كله، وبالاخص في مرحلة قيادته وحكمه للامة، نجد هذا الملاك (حكم القانون) في كل موضع من حياته المباركة.

      وهذا في الوقت الذي يعد فيه الإمام علي (ع) هو الحق المطلق والقانون المطلق، والقرآن الناطق ومحور الحق، حيث يقول الرسول الاكرم (ص): «علي مع الحق، والحق مع علي يدور حيثما دار».

      فالامام (ع) لم يستغل حكمه الا في سبيل توفير ما يستحقه الناس وتطبيق القانون الالهي واجتناب التفريق والتمييز بينهم. ويعد كل ما عدا هذا، مهما كان، ظلما وجورا. نعم، فالفرار من القانون واهمال الاوامر الادارية لا يمكن وصفه الا بالظلم والجور، قال الإمام الخميني (ره):

      «لقد تحقق حكم الإسلام الاصيل في مرحلتين تاريخيتين في صدر الإسلام: الاولى في زمن رسول الله (ص)، والثانية عندما باشر الإمام علي بن أبي طالب الحكم في الكوفة، حيث حكمت المبادئ في هاتين المرحلتين. وبتعبير آخر: قامت في هاتين المرحلتين، حكومة عادلة تدير المجتمع لم يكن الحاكم فيها يخالف القانون، ولو بمثقال ذرة، فالحكم في هاتين المرحلتين كان حكم القانون، ولعله لم يذكر لنا التاريخ اي مرحلة اخرى كان فيها للقانون هذه الدرجة التي يتساوى فيها الحاكم مع اضعف الناس اجتماعيا امام القانون وحكمه، هكذا كان في صدر الإسلام»[29].

      وقال (ره) ايضا: «في زمن النبي (ص) كان القانون هو الحاكم، وكان النبي (ص) منفذا له، وكذا في زمن الإمام علي (ع) كان الحكم للقانون، وكان أمير المؤمنين منفذا ومسؤولا عن تطبيقه، وفي كل زمان ومكان لابد من الحكم بهذا الشكل فالحكم للقانون اي الحكم لله»[30].

      كان الإمام علي (ع) يحذر من الفوضى والتعسف تحذيرا شديدا، ويكره الظلم والظالمين، ويتجنبهم ويعبر عن ذلك بأقسى العبارات واشدها، ومع ذلك فانه (ع) كان يفضل الحاكم الظالم على الفوضى والفتن، فكان يقول: «اسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم خير من فتن تدوم»[31].

      كان الكل في زمن حكم الإمام علي (ع) مكلف بمراعاة القانون وتطبيقه، والا فانهم كانوا يواجهون باجراء شديد من قبل أمير المؤمنين (ع)، فلا يمكن تشييد حكم عادل من دون تطبيق القوانين والتسليم له في المراحل جميعها، وفي المراكز جميعها، ومن قبل الافراد جميعهم.

      أليست العدالة متجذرة في القانون، واحياء العدالة متقوم باحياء القانون، وتطبيق القانون وتنفيذه لا يفرق بين الصغير والكبير والفقير والغني والقريب والغريب، ولا يتأثر بالعلاقات الحزبية والمنافع الفردية.

      فذلك كله كان لأن أساس الحكم عند أمير المؤمنين (ع) هو القانون لا غير. وبتعبير آخر: طاعة مثل هذا الحكم هي طاعة للقانون: «كان حكم النبي (ص) وحكم أمير المؤمنين (ع) حكم القانون، اي ان الله أمر وحكم بتعيينهم، فهؤلاء (ع) تجب اطاعتهم بحكم القانون، اذاً فالحكم كان للقانون الالهي»[32].

      وحكم القانون يعني ان يكون الناس مكلفين باطاعة اوامر الحكومة وقوانينها في اطار القانون، لا بتأثير سلطة الحاكم وافراده المتسلطين:

      «ان حكومة الإمام علي (ع) والذي كان وليا على كل شيء وفي خدمة الناس لم تكن بالشكل الذي يريد الحاكم فيه ان يحكم ويتسلط على الناس، وعلى الناس اطاعته مهما كان الامر. ولم تكن الحكومة بشكل تظلم الناس وتتعدى على حقوقهم، ونتيجة لذلك يكره الناس هذه الحكومة»[33].

      وولاية الفقيه، في نظر الإمام الخميني، هي ايضا تحكيم للقانون الالهي، وليست ديكتاتورية، وكما كان أمير المؤمنين تابعا للقانون، كذلك الفقيه الذي ينوب عنه وينتخب لامامة الامة منفذ للقانون وتابع له:

      «ان ذلك الفقيه الذي ينصب لقيادة الامة هو ذلك الفقيه الذي يريد كسر الديكتاتورية وتوجيه الجميع للانضواء تحت بيرق الإسلام وحكم القانون.

      فحكومة الإسلام حكومة القانون، اي القانون الالهي، قانون القرآن والسنة، فالحكم تبع للقانون، اي ان النبي (ص) نفسه تابع للقانون، وكذا أمير المؤمنين (ع) نفسه تابع للقانون، ولا احد يخالفه قيد انملة ولا يستطيع ذلك»[34].
      انتهى

      تعليق

      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
      حفظ-تلقائي
      x

      رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

      صورة التسجيل تحديث الصورة

      اقرأ في منتديات يا حسين

      تقليص

      لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

      يعمل...
      X