
الإنسان الكامل
ان الحديث عن شخصية الإمام علي (ع)، وكما قال الإمام الخميني (ره)، أمر صعب للغاية. ويكاد يكون من المستحيل الاحاطة بجميع أبعاد هذه الشخصية العظيمة التي تعد معدن الإنسانية والفضائل. وجميع ما كتبه الباحثون وقاله المتكلمون عن شخصيته (ع) ليس هو، في الواقع، الا محاولات للتعرف إلى أبعاد هذه الشخصية الفريدة. يقول الإمام الخميني (ره)، في هذا الصدد:
«... نحن، في حديثنا عن الإمام علي بن أبي طالب، نتكلم على شخصيته غير المعروفة، أو عن معرفتنا القاصرة والبعيدة عن ادراكه ».
أساسا، هل ان عليا (ع) من البشر في عالم الملك والدنيا كي يتكلم عليه من هو في هذا العالم، أو هو موجود ملكوتي لا يعرف قدره الا الملائكة، فالعرفاء والفلاسفة الالهيون، باي وسيلة يريدون التعرف إلى شخصيته والكلام عليها، فهم لا يقدرون الا بالمستوى المحدود لمعارفهم وعلومهم، فاي مستوى وصلوا في معرفته (ع) كي يستطيعوا ان يعرفونا به.
فالعلماء والعرفاء والفلاسفة، مع كل ما يتصفون به من علم وفضيلة، كل ما حصلوا عليه من مظهر الحق، انما هو من خلال ما هم فيه من حجاب ونفوس محدودة، ومولانا الإمام علي (ع) غير هذا الذي عرفوه.
اذن فالاولى بنا ان نتخطى هذا المجال ونقتصر على القول: ان علي بن أبي طالب كان عبدا لله، وهذه أهم صفة وخصوصية يمكن ذكرها عنه، وهو الذي تربى على يد الرسول العظيم وهذا أهم فخر له»[1].
وعن أبعاد هذه الشخصية يقول الإمام الخميني:
«ان الأبعاد المختلفة لهذه الشخصية العظيمة لا يمكن ادراكها من خلال ما نعقده نحن من ندوات، ولا يمكن قياسها طبقا للمقاييس البشرية، فالذي بلغ درجة الإنسان الكامل، وكان مجسدا لأسماء الحق تعالى وصفاته جميعها، تكون أبعاد شخصيته على حسب الأسماء والصفات التي هي الف اسم وصفة، ونحن قاصرون عن شرح اسم من هذه الأسماء وصفة من هذه الصفات وبيانها»[2].
ويتحدث الإمام الخميني (ره) عن تربية النبي (ص) له، فيقول:
«... فلو كان النبي (ص) لم يرب من الامة غير هذا الفرد لكان ذلك مجزيا له. ولو لم يبعث النبي (ص) الا لتربية مثل هذا الشخص وتقديمه للمجتمع البشري لكان كافيا له»[3].
فمن المتيقن ان حكم مثل هذا الإنسان وان كانت مدته قصيرة سيكون مليئا بالعبر والدروس وزاخرا بالمشاعر الإنسانية والفضائل والجدية في سبيل احقاق الحق.
فحكومته (ع)، وان كانت جزءا من أبعاد شخصيته وسيرته، الا انها اعطت للتاريخ مع ما فيه من ظلمات جاذبية خاصة.
وأضحت السياسة بها مع ما تتصف به من ظلم وحيلة وسحق للحقوق مبتغى لطالبي العدل وتكليفا لطالبي الحقوق.
وعرفت السلطة مع ما تمارسه من جنايات بالوسيلة التي لا بديل لها لمن يريد اقامة القسط والعدل والحق.
لا يوجد، في التاريخ، مرحلة اكثر جاذبية من مرحلة حكم الإمام علي (ع)، ولا توجد سياسة اكثر التزاما بالدين واكثر شعبية من سياسة الإمام علي (ع)، ولا توجد سلطة امتلكت المشروعية كمشروعية حكومته (ع)، ولذا يرى الإمام الخميني (ره) ان غصب خلافته (ع) من اكبر المصائب التي مني بها الإسلام، وكان من الجدير الاحتفال بحكومته (ع) وان كانت مدتها قصيرة إلى الابد، لأن ذلك يعني الاحتفال بالعدل:
«... ان من اكبر المصائب التي مني بها الإسلام هي مصيبة سلب الحكم عن أمير المؤمنين (ع)، فهو يفوق واقعة كربلاء من حيث المصاب، فالمصيبة التي اصابت أمير المؤمنين، ومن ثم اصابت الإسلام اعظم اثرا من المصاب الذي اصاب الحسين (ع).
فالمصيبة العظيمة وقعت عندما حالوا بين الإمام علي (ع) وبين الحكم بعد النبي (ص)، حيث لم يتركوا مجالا ليتعرف العالم إلى الإسلام ويفهم ماذا يعني.
فالسنوات الخمس التي اطلقت فيها يد الإمام علي (ع) في الحكم يجب ان يحتفل بها إلى الابد، يحتفل بها لأجل العدالة واقامتها...، فهذا الحكم هو الحكم الذي يجب اقامة العزاء لأجل زواله، ويحتفل لأجل اقامته.
فالاحتفال بهذا الحكم هو الاحتفال لأجل الله، لأن هذا الحاكم كان يعيش في مستوى واحد مع الناس، بل يواسي اضعفهم في عيشه.
فلمثل هذا الحكم الذي هو حكم العقل والعدل، وحكم الايمان وحكم الله، تجب اقامة العزاء لفقده، وفي المقابل يحتفل باقامته[4]. وفي نظر الإمام الخميني (ره) ان يوم الغدير قد اكتسب فضله من مقام الإمام علي (ع) وفضيلته، فالغدير لم يضف فضلا إلى فضائل الإمام علي (ع)، بل ان مقام الامام علي (ع) وكماله هو الذي اظهر الغدير في هذا الفضل وتلك المنزلة:
«... ان مسألة الغدير ليست بنفسها مسألة تزيد في مقام أمير المؤمنين (ع)، بل ان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) هو الذي اوجد مسألة الغدير. فوجوده المتكامل، ومن الجهات جميعها، هو الذي اقتضى ظهور مسألة الغدير، فهذه المسألة بالنسبة للامام علي (ع) ليست لها اي أهمية، فالذي له قيمة وأهمية هو الامام (ع) نفسه، فتبعا له ظهرت مسألة الغدير.
فالله قد علم انه لا يوجد احد بعد رسول الله (ص) باستطاعته اقامة العدل بالصورة التي تجب اقامتها، وكما يريد الله تعالى، غير الإمام علي (ع)، فامر رسوله (ص) بنصب أمير المؤمنين علي (ع) وليا من بعده وخليفته على الناس. فالخلافة ليست من فضائل أمير المؤمنين (ع)، بل من فضائله ومقامه برزت مسألة الغدير»[5].
ان هذه المرحلة التاريخية البارزة والحساسة التي لا يمكن تكررها اي مرحلة حكم الإمام علي (ع) القصيرة هي كالشمس تتالق لاضفاء الدفء والنور لطلاب الحق والعدالة والسياسة بالمعنى الصحيح للكلمة، وليست الا شعاع من نور وجود أمير المؤمنين (ع) وفضائله الروحية التي تعجز الاصطلاحات والعبارات عن بيان كنهها.
وكل ما قاله الإمام الخميني (ره) طوال عشرات السنين في وصف الحكم الإسلامي، وسعى إلى الاقتداء به عمليا، تعبير عن الاهتمام الخاص الذي كان يبذله في سبيل تعريف خصائص حكم الإمام علي (ع) وتبيينها، تلك الخصائص التي يحتاجها مجتمعنا وحكومتنا للاقتداء بها.
فمجتمعنا بحاجة دائما إلى تبيين تلك الخصائص وتعريفها، وكل مسؤولي المراكز المختلفة في الحكومة بحاجة شديدة إلى الالتزام بها والاستقامة عليها كي يمكننا الافتخار بالاقتداء، ولو بالقدر اليسير بحكمه (ع).
وكلنا نسلم بان حتى هذا القدر من التطبيق صعب، وليس من السهل القيام به الا بالتقوى والاجتهاد والعفاف والاستقامة على منهج الحق، وكما قال الإمام علي (ع):
«... الا وانكم لا تقدرون على ذلك، ولكن اعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد...»[6].
الامام علي (ع) وبيان أهمية الحكم الإسلامي وكيفيته
كان الإمام الخميني (ره) يعتقد ان الدليل على وجوب تشكيل الحكومة الإسلامية هو وجوب تطبيق أحكام الشريعة، وكان (ره) يعتقد ان امكانية تطبيق أحكام الإسلام وقوانينه لا تتأتى من دون تأسيس حكم إسلامي. ولذلك رأى ان الرسول (ص) والائمة (ع) بذلوا الجهد لأجل اقامة الحكم الإسلامي: «... لما كان من اللازم اقامة الأحكام الإسلامية بعد رسول الله (ص)، والى آخر الزمان، فمن الضروري تشكيل الدولة الإسلامية التي تضمن لنا التطبيق والادارة حسب تلك الأحكام، فالعقل والشرع يحكمان بأن ما كان لازما في زمن الرسول الاكرم (ص)، وفي زمن أمير المؤمنين علي (ع) اي الدولة وجهاز الحكم يكون لازما ايضا بعدهما، وفي وقتنا هذا»[7]. وصرح في موضع آخر: «لم يكن احد من افراد الامة الإسلامية يشكك، بعد وفاة الرسول (ص)، في وجوب اقامة الحكم الإسلامي، فلم يقل احد: لا نحتاج إلى حكم ولم يسمع ذلك من اي شخص، فالجميع كانوا متفقين على وجوب اقامة الحكم، انما كان الاختلاف حول من يرأس هذه الدولة ويحكمها. ولذلك نرى، في المرحلة التي اعقبت وفاة الرسول (ص)، في زمن الخلفاء الثلاثة، وفي عهد أمير المؤمنين (ع)، ان الدولة الإسلامية كانت قائمة، وكان الحكم يمارس من قبل المتصدين لها»[8]. فالامام الخميني (ره) كان يسعى في سبيل اقامة الحكم الإسلامي وبتعبيره (ره): «الحكم الإسلامي العادل»[9].
وكان هدفه، في ذلك، تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية واقامة العدل وفاقا لما كان عليه النبي (ص)، والامام علي (ع) في المدينة المنورة وفي الكوفة.
فمهما كان لفظ «الحكم الإسلامي» لفظا كليا وعاما، ويحتمل معاني مختلفة واطرا سياسية متفاوتة، الا ان لهذا المصطلح، في فكر الإمام الخميني (ره)، ظهورا في الغاية من الحكم وواجبات الدولة، قبل ان يكون ظاهرا في معنى السلطة والهيمنة.
وتعد العدالة من أهم الغايات التي يثبتها الإمام الخميني (ره) للحكم الديني. والعدالة نفسها هي مقدمة لتطبيق الشريعة، ولذا كان الاقتداء، وبالقدر المستطاع، بنهج الإمام علي (ع) واسلوبه في الحكم هو المقياس عنده في كون الحكم إسلاميا:
«علينا ان نتعلم من طريقة الإمام علي (ع) ونقتبس من منهجه في الحكم، غاية الامر نحن لا نستطيع ان نلتزم بكل ما كان يراعيه الإمام (ع)، ولا يوجد احد يستطيع ذلك، اي ان هناك بعض الجوانب كانت خاصة به (ع)، وليست عامة في مسألة الحكم، الا ان الاصل المشترك هو اقامة الحكم العادل وعدم ظلم الناس»[10].
وقال الإمام الخميني في تعريف الحكومة الإسلامية: «الحكومة الإسلامية هي الحكومة القائمة على أساس العدل والديمقراطية والتي تعتمد على اصول الإسلام وقوانينه»[11]. اما في ما يخص برامج الدولة واوصاف حاكمها فكان يعتقد انه يجب الاقتداء بالبرامج والاوصاف التي ذكرها وبينها الإمام علي (ع) في خطبه ورسائله وطبقها في حكمه:
«لقد بين الإسلام طريقته ومنهاجه في الحكم، ولم يهملها، فقد بين الإسلام الصفات التي على الحاكم ان يتحلى بها، كما ان أمير المؤمنين (ع) قد بين لنا المنهج في الحكم، وحدد معالم الحكومة الإسلامية في مختلف جوانبها، في القضاء والادارة والجوانب الاخرى...»[12].
ويعد العهد الذي كتبه الإمام علي (ع) لمالك الاشتر، عندما ولاه مصر، اغنى سند تاريخي واثراه، فقد دون فيه الإمام (ع) معالم الحكومة الدينية، وخصائص المسؤولين في النظام الإسلامي وصفاتهم. وقد اشار الإمام الخميني (ره) إلى محتوى هذه الرسالة قائلا:
«ولقد بين أمير المؤمنين (ع) في هذه الرسالة برنامجه في الحكم، ودون فيها المواصفات والخصائص التي يتصف بها الحكم الإسلامي، وما يجب على مسؤولي هذا النظام من الاتصاف به، ووظائفهم في هذا الحكم»[13].
الهدف من اقامة الحكومة الإسلامية
يعتقد الإمام الخميني (ره)، وطبقا لحديث الإمام علي (ع)، ان أهم اهداف اقامة الحكومة الإسلامية هو: المنع من الفوضى في المجتمع الإسلامي وحفظ الثغور والدفاع ضد اي اعتداء خارجي على حدود الدولة الإسلامية، وتطبيق أحكام الشريعة في المجتمع.
وبالنظر إلى قول الإمام علي (ع) في احدى خطبه: «اما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما اخذ الله على العلماء ان لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكاس اولها...»[14]، يعد الإمام الخميني (ره) انقاذ المحرومين والمظلومين والوقوف بوجه الظالمين من اهداف قيام الحكم الإسلامي، فقد قال: «نحن مكلفون بانقاذ المحرومين والمظلومين وان نكون اعداء للظالمين».
وهذا هو نفس ما ذكره أمير المؤمنين (ع) في وصيته لولديه الحسن والحسين (ع): «كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا»[15].
خصائص حكم الإمام علي (ع) في نظر الإمام الخميني (ره)
تعد سيرة أمير المؤمنين (ع) المباركة ومنهجه في العيش، ايام خلافته القصيرة، في نظر الإمام الخميني (ره)، مليئة بالدروس والعبر في ما يخص التعايش وما يخص الحكم.
فاوامره إلى رجاله ومسؤولي المراكز المختلفة في الدولة، وخطبه في الكوفة وبقية خطبه واحاديثه رسمت، وبصورة واضحة، الخصائص والمميزات التي يتصف بها الحكم الجيد والصالح في نظره (ع).

تعليق