قصة الشهيد هادي حسن نصرالله
إننا في حزب الله لا نوفر أولادنا للمستقبل... نفخر بأولادناعندما يذهبون إلى الخطوط الأمامية... ونرفع رؤوسنا عاليا
بأولادنا عندما يسقطونشهداء..
"سماحة السيد حسن نصر الله حفظه الله .."
بأولادنا عندما يسقطونشهداء..
"سماحة السيد حسن نصر الله حفظه الله .."
غرد عصفور على غصن تنقط منه حبيبات المطر العالقة عليه، ثم مالبث ان نفض ريشه وطار فارداً جناحيه ليستشعر الحرية والدفء بعد ليل بارد، وراح يغرداغنية اليوم الجديدة..
كان الرابع من نيسان من عام 1997م، حين عقد هادي قرانهعلى "بتول خاتون"، بعد اختياره وتشجيع والديه رغم صغر سنه الذي لا يسمح عادة بتحملمسؤلية بناء بيت واسرة. وكانت بتول فخورة بخطيبها الذي يمثل نموذجاً للشاب الواعي،الذي من جهته كان يعمل على تهيئتها وجعلها فتاة قدوة لغيرها، وهي التي ارتبطت بشاباول كلمة قالها لها :" ربما اقتل، او اسر، او اجرح؟"، فوافقت وهي مؤمنة بالخط الذييلتزمان به..
وفي احد الايام، كان مدعواً الى الغداء في منزل عمه الشيخ علي "علي"، وبينما هو منهمك بمساعدة زوجة عمه في تحضير الطعام، بلغه نبا استشهاد الشهيدمحمد الجوهري، صديقه وزميله في الجهاد، فبكاه بكاء شديداً وتأثر لأجله، واكتفى ذاكالنهار بالبكاء والدموع..
وهكذا، كلما سقط شهيد، احس بشوق في نفسه يتخطى حدودالشوق، فتسافر احلامه الى حيث تهنأ نفسه، الى حيث وقف الحسين ع يَنْظرُ الليل وقدبدت نجومه نعوش اجساد اولاده واصحابه.. "هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا…"، فيمسكهادي جرح الليل، وقد اسرجه سائراً نحو كربلاء، وفي فؤاده تغلي حرارة تلبي النداء :
"لبيك يا حسين ع"…
…وفيما كانت اوراق الايام تقلب صفحة صفحة، بدأ هاديوبتول يهيئان بيتهما الزوجي.. كل شيء كان طبيعياً.. الى ان جاء ايلول، فتبدل كلشيء.. في المرة الاخيرة التي رآها فيها ودعها قبل ان يذهب الى الجنوب، موصياً اياهاان "تنتبه الى نفسها" … وعاد الى منزل والديه ليحزم امتعته..
حضر اغراضه بنفسه،وانتظر ان تعود والدته الى المنزل، وكان من عادته اذا لم تكن في البيت واراد انيذهب الى الجنوب، ان يترك لها رسالة، الا انه هذه المرة انتظرها حتى عادت.. ودعها،وقف قرب الباب ينظر اليها، ولما وقع نظره على بصرها نكس رأسه.. ورحل.. رحل وهدوءغريب يلف تصرفاته، سكون وطمأنينة، استغرب لها الجميع، لكأنه كان يعرف ان الطريقالتي سيسلكها نحو الجنوب، ستكون طريقا نحو الجنة.. نحو الخلود..
كان عصر نهارالجمعة، وايلول يلملم ما تبقي من ايام الصيف، والسنونوات الباحثة دوماً عن الدفءتهاجر نحو الشمس..
يقال ان لايلول سكوناً لا يعرفه أي شهر في السنة، رغم مايحمله في طقسه من حر آب، الا ان لمحة الحزن لا تفارق سمائه… وتبقى الشمس فيه للرحيلفي أي لحظة خلف لون رمادي يعانق لمسات سوداء..
لكن صوت القذائف والرصاص وتحليقالطائرات المروحية مزقت هذا السكون عصر ذاك اليوم في اقليم التفاح، اذ ان مواجهاتعنيفة كانت تدور بين مجموعات من رجال المقاومة الاسلامية وقوة اسرائيلة متقدمة ضمننطاق "جبل الرفيع" كانت متجهة نحو قرية عربصاليم لضرب اهداف مدنية..
في هذهالاثناء كانت المضادات الارضية التابعة للجيش الللبناني في عربصاليم، ادت الىاستشهاد ستة من عناصر الجيش اللبناني وجرح سبعة.
في التفاصيل انه عند الساعةالخامسة والدقيقة الخامسة والاربعين، كمنت مجموعة "سيد شهداء المقاومة الاسلاميةالسيد عباس الموسوي" لقوة صهيونية متقدمة، كما قامت مجموعة الشهيدين "ربيع وهبي" و "حسن مريش" بعميلة التفاف وتطويق مكان الاشتباك.. ولدى استقدام العدو لتعزيزاتاضافية عند الساعة السادسة والدقيقة الاربعين، قامت مجموعة الشهيد رضا ياسينبمهاجمتها. وقد اعترفت الاذاعة الاسرائيلية بمقتل اربعة من جنودها خلال هذهالمواجهات.
كان هادي "ياسر" من المجموعة المساندة للقوة الاولى، ومعه قائدالمجموعة "ذو الفقار" -وهو الاخ الوحيد الذي عاد حيا من مجموعة الشهيد السيد هادي-،هيثم مغنية (جلال)، علي كوثراني (كميل)، وكانوا جميعهم بانتظار اوامر التحرك منالمجموعة الاولى.. نظر "هادي" الى "ذو الفقار" وصخب المعارك الدائرة بالقرب منهميعلو اكثر فاكثر، واقترب منه سائلا اياه بعتي وحماس:
-هل المجموعة الاولى هيوحدها التي ستواجه؟ واين دورنا نحن…؟!
-نحن نؤدي تكليفنا، واذا احبنا الله، يكوننصيبنا التدخل..
ثم اردف ذو الفقار: هناك رائحة عطر قوية، من منكم وضع عطراالان…؟
فلم يجبه احدا…فاقترب نحو هادي ليشمه:
-رائحة العطر تفوح منك ياهادي!
فارتسمت بسمة رضا على شفتي هادي وقد لمعت عيناه ببريق السعادة: والله انهارائحة الشهادة، وسارسل بطلبكم عما قريب…
وان هي الا لحظات حتى اعطيت الاوامربالاشتباك مع قوة الدعم الصهيونية التي تدخلت لمساندة الجنود الذين وقعوا فيالكمين، فاعطى "ذو الفقار" اوامره الى "هادي" و "علي" بالالتفاف على القوةومهاجمتها من الجهة الاخرى، وكان بصر "ذو الفقار" يتابعهما حتى لمحهما يتشابكانوجها لوجه مع جنود العدو وعلى مسافة لا تتجاوز المتر الواحد، كان "هادي" متحمساًجداً للشهادة، وكأن روحه فارقت جسده شوقاً للقاء احبائه الشهداء الذين سبقوه الىحيث رضوان الله تعالى، فراح يطلق الرصاص من رشاشه متقدماً نحو الصهاينة وهو يصرخ "الله اكبر" ، فيجيبه "علي" : "يا ابا عبد الله"… لحظات وخفت الصوت تدريجيا، وقدوضع هادي يده على خاصرته اليسرى حيث اصيب بطلقة نارية، ثم اصيب بشظية اخرى فيرقبته، فصرخ عاليا: "يـــا زهـــــراء " …. وهوى الى الارض.. فانغرست اصابعه بينالتراب.. "وهذا يا جبل الرفيع، دمي.. فاجعل ترابك كفني..
واغمض عينيه، وعرجتروحه مسرعة نحو السماء، حيث النبي محمد ص ينتظره ليسقيه من كأسه الاوفى.. فترنمالافق بآهات صداها وجع القلب: "المجد لايلول الشهداء… المجد لايلول الشهداء" -مقطعمن نشيد كان الشهيد يردده دائما-..ثم ما لبث ان لحق به علي، فيما كان "ذو الفقار" و "هيثم" يتابعان المواجهة بعد أن فقدا الاتصال بالمجموعة الاولى، وبدا الانسحابتدريجيا لان ذخيرتهما بدات تنفذ.. وفي نهاية الاشتباك، سقط "هيثم" صريعاً علىالأرض، فحمله "ذوالفقار" وتابع انسحابه، إلى أن اختبأ في مكان قريب من ساحةالمعركة، وعمل على تصليح الجهاز الذي معه ليعاود التنسيق مع المجموعة الاولى، إلىأن عاد سالماً يحمل على اكتافه الشهيد "هيثم" فيما اسر الصهاينة جثتي الشهيدين "هادي" و"علي" واخذوهما إلى مستشفى مرجعيون ومن ثم إلى داخل اراضي فلسطينالمحتلة.
صباح السبت في الثالث من أيلول، وفيما كانت الحاجة "أم هادي" تشتري بعضالأغراض للمنزل، كانت الملحقات الإخبارية تذاع عبر إذاعة النور آخر مستجدات إقليمالتفاح…
ولما عادت أدراجها إلى المنزل، كان شعوراً غريباً يراود نفسها لم تجد لهتفسيراً، غير أنها كانت تستعيذ بالله من كل مكروه وبلاء… بعد فترة قصيرة من الزمنجاء سماحة السيد إلى المنزل ليخبرها انه تم الاتصال به لإبلاغه أن أربعة من الاخوةالمجاهدين فُقد الاتصال بهم خلال مواجهات الأمس ( الجمعة)، وان السيد هاديبينهم..
شعرت حينها أن الدنيا أظلمت في وجهها، واحتارت ماذا تفعل، وحاول سماحةالسيد أن يهدئ من روعها، قبل أن يخرج من المنزل ليتابع مع الاخوة تفاصيل الأحداث،فيما ظلت في البيت محاولة المحافظة قدر الإمكان على هدوء أعصابها، أخذت تستعيذبالله من وسوسات الشيطان، وتدعو لهادي، إن كان حياً، أن يعود إليها سالماً، وبينفينة وأخرى ترفع رأسها إلى السماء داعيةً لله "يا راد يوسف ليعقوب، اعد إليَّ "هادي" يا رب…"، وراحت تلهي نفسها بعمل المنزل، إلا أن صورة ولدها لم تفارقمخيلتها، وتمنت من كل قلبها أن يكون شهيدا على أن يقع أسيراً لدى الصهاينةاللئام..
كان السيد دائم الاتصال بها ليطمئن عنها ويطمئنها.. فسألته إن كان يتصلبالاخوة ليعرف الأخبار مباشرة، ولما أجابها بالنفي، قالت له: "اتصل واسأل عنه، انهولدك!" فرد عليها: "لانه ابني، اخجل أن أسال عنه، فعندما تصل أخبار جديدة للاخوةسيبلغونني بها فورا…".
اجل، لقد خجل سماحة السيد من أن يسال عن "هادي" لانهابنه، وهو الذي كان يقضي الليل منتظراً قلقاً إذ ما فقدت مجموعة من هذه العمليات،أو حتى أخ واحد، ويبقى على اتصال دائم مع الاخوة، لا يطيب له عيش حتى يبلغ بمصيرهم،فإما عودة سالمة، أو فوز بشهادة مباركة.. غير انه هذه المرة اكتفى بانتظار رنينالهاتف أن يتناهى إلى سمعه، فيسمع الخبر الأخير عن ولده..
مرت ساعات النهارثقيلة.. السيد ينتظر بصبر وهدوء بعد أن عاد إلى البيت، وأم هادي جمعت اجمل صورلابنها وهو بثياب الجهاد.. وجلست تنتظر..
كان السيد يخفف عنها بكلامه، لكنهانظرت إليه وهو يحدثها، فقالت له: "إن رحل "هادي" فأنت الذي تصبرني، ولكن اخبرني.. أنت من ذا الذي يصبرك.. من؟!".
فأجابها بطمأنينة: "الله هو الذييصبرني…"
وحينما وقفت ساعة العصر على عتبات النهار، عرف الاخوة في غرفة العملياتإن ثلاثة من الاخوة المجاهدين في المجموعة المفقودة استشهدوا، فيما بقي رابعاًمفقوداً، وعرف أيضاً أن السيد هادي، هو من بين الشهداء الثلاثة…
احتار الأخالمكلف بإبلاغ سماحة السيد كيف سيبدأ، فهو عندما قرا البرقية التي وصلته من الجنوب،دمعت عيناه على ولد له، ككل الاخوة المقاومين، لكن بسمة الرضا، أبت أن تبقى مختبئةًخلف شفتيه، فهو يعرف إن نفس هادي كانت تواقةً للرحيل بسرعة من هذه الدنيا، إلى حيثتطمئن روحه، وتسكن نفسه، ويخلد في مكان ارحب بكثير من حدود الجسد.. رفع سماعةالهاتف، وراح يحدث السيد وقد بدا الارتباك واضحاً في حديثه، فهون سماحة السيد عليهسائلا إياه: "هل هادي من بين الاخوة الذين استشهدوا؟"، فأجابه ب"نعم"، فصبر نفسهوصبرهم على المصاب واحتسب اجره عند الله..
عند المساء، جاءت الأخوات ليبلغن "أمهادي" التي لم تكن على علم بعد بشهادة هادي، إلا أن قلبها حدثها بأنه لن يعود… فجلسن صامتات، كل واحدة تحاول أن تدفع الأخرى لبدء الحديث، فنظرت إليهن "أم هادي" واحدة واحدة تتأمل وجوههن التي تحمل كل معاني الحزن واللوعة، فعرفت أن هادي قداستشهد، لكنها آثرت الصمت قبل أن تقول لهن بماذا حدثها قلبها، لأنها كانت تريد أنتسمع منهن كيف سيبلغنها الخبر..
فقالت حاجة لرفيقتها: اخبريني كيف كان مجلسالعزاء البارحة؟
فأجابتها بأنه كان موفقاً بحمد الله، وانه تحدث عن مصاب أهلالبيت ع، وعن مصاب السيدة زينب ع التي فقدت جميع اخوتها وابنائها في كربلاء.. ثمنظرت إلى "أم هادي" قائلة: "والحاجة "أم هادي"، سيدة صابرة بإذن الله، وستتقبلشهادة هادي باحتساب وصبر..
قالت هذا، وضج الجميع بالبكاء، إلا أم هادي،لم تذرفدمعةً واحدةً، بل قالت إنها كانت على علم بشهادة هادي، وحمدت الله على عظيم نعمه،ورفعت يديها نحو السماء: "اللهم تقبل منا هذا القربان، بيض الله وجهك يا هادي كمابيضت وجهي عند السيدة الزهراء ع وخفف عنك، وقد جعلتني بمصابي أواسى آل البيت ع". ثمقامت وصلت ركعتي شكر لله…
في الساعة الثامنة والنصف من مساء ذاك النهار، احتشدجميع اللبنانيين، الموالين لحزب الله، وغير الموالين، أمام شاشة تلفزيون المنار،ليروا من هو حسن نصر الله، من هو ذاك الأب الذي سيعتلي الآن منبراً يتحدث فيه عنشهداء أيلول سنة ثلاث وتسعين، انتظروا أبا فقد بكر أفراحه، يقف لينعى بأسى وليده،وانتظروا أن يروا دمعاته تتململ خلف مقلتيه دماً احمر.. لكنه، حين صعد إلى المنبر،كسيف نصر استل من غمدِ دماء تكتب تاريخ الشرفاء.. وقف بصلابة جده الحسين ع أمامجمهور غفير من المحبين الذين توافدوا ليخففوا عنه، فإذا به يخفف عنهم، يواسيهم ،ويحدثهم عن الشهداء الأبرار الذين قضوا دفاعاً عن هذه الأمة، وعن هذهالأرض..
"إنني اشكر الله سبحانه وتعالى على عظيم نعمه، أن تطلع ونظر نظرة كريمةإلى عائلتي
كان الرابع من نيسان من عام 1997م، حين عقد هادي قرانهعلى "بتول خاتون"، بعد اختياره وتشجيع والديه رغم صغر سنه الذي لا يسمح عادة بتحملمسؤلية بناء بيت واسرة. وكانت بتول فخورة بخطيبها الذي يمثل نموذجاً للشاب الواعي،الذي من جهته كان يعمل على تهيئتها وجعلها فتاة قدوة لغيرها، وهي التي ارتبطت بشاباول كلمة قالها لها :" ربما اقتل، او اسر، او اجرح؟"، فوافقت وهي مؤمنة بالخط الذييلتزمان به..
وفي احد الايام، كان مدعواً الى الغداء في منزل عمه الشيخ علي "علي"، وبينما هو منهمك بمساعدة زوجة عمه في تحضير الطعام، بلغه نبا استشهاد الشهيدمحمد الجوهري، صديقه وزميله في الجهاد، فبكاه بكاء شديداً وتأثر لأجله، واكتفى ذاكالنهار بالبكاء والدموع..
وهكذا، كلما سقط شهيد، احس بشوق في نفسه يتخطى حدودالشوق، فتسافر احلامه الى حيث تهنأ نفسه، الى حيث وقف الحسين ع يَنْظرُ الليل وقدبدت نجومه نعوش اجساد اولاده واصحابه.. "هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا…"، فيمسكهادي جرح الليل، وقد اسرجه سائراً نحو كربلاء، وفي فؤاده تغلي حرارة تلبي النداء :
"لبيك يا حسين ع"…
…وفيما كانت اوراق الايام تقلب صفحة صفحة، بدأ هاديوبتول يهيئان بيتهما الزوجي.. كل شيء كان طبيعياً.. الى ان جاء ايلول، فتبدل كلشيء.. في المرة الاخيرة التي رآها فيها ودعها قبل ان يذهب الى الجنوب، موصياً اياهاان "تنتبه الى نفسها" … وعاد الى منزل والديه ليحزم امتعته..
حضر اغراضه بنفسه،وانتظر ان تعود والدته الى المنزل، وكان من عادته اذا لم تكن في البيت واراد انيذهب الى الجنوب، ان يترك لها رسالة، الا انه هذه المرة انتظرها حتى عادت.. ودعها،وقف قرب الباب ينظر اليها، ولما وقع نظره على بصرها نكس رأسه.. ورحل.. رحل وهدوءغريب يلف تصرفاته، سكون وطمأنينة، استغرب لها الجميع، لكأنه كان يعرف ان الطريقالتي سيسلكها نحو الجنوب، ستكون طريقا نحو الجنة.. نحو الخلود..
كان عصر نهارالجمعة، وايلول يلملم ما تبقي من ايام الصيف، والسنونوات الباحثة دوماً عن الدفءتهاجر نحو الشمس..
يقال ان لايلول سكوناً لا يعرفه أي شهر في السنة، رغم مايحمله في طقسه من حر آب، الا ان لمحة الحزن لا تفارق سمائه… وتبقى الشمس فيه للرحيلفي أي لحظة خلف لون رمادي يعانق لمسات سوداء..
لكن صوت القذائف والرصاص وتحليقالطائرات المروحية مزقت هذا السكون عصر ذاك اليوم في اقليم التفاح، اذ ان مواجهاتعنيفة كانت تدور بين مجموعات من رجال المقاومة الاسلامية وقوة اسرائيلة متقدمة ضمننطاق "جبل الرفيع" كانت متجهة نحو قرية عربصاليم لضرب اهداف مدنية..
في هذهالاثناء كانت المضادات الارضية التابعة للجيش الللبناني في عربصاليم، ادت الىاستشهاد ستة من عناصر الجيش اللبناني وجرح سبعة.
في التفاصيل انه عند الساعةالخامسة والدقيقة الخامسة والاربعين، كمنت مجموعة "سيد شهداء المقاومة الاسلاميةالسيد عباس الموسوي" لقوة صهيونية متقدمة، كما قامت مجموعة الشهيدين "ربيع وهبي" و "حسن مريش" بعميلة التفاف وتطويق مكان الاشتباك.. ولدى استقدام العدو لتعزيزاتاضافية عند الساعة السادسة والدقيقة الاربعين، قامت مجموعة الشهيد رضا ياسينبمهاجمتها. وقد اعترفت الاذاعة الاسرائيلية بمقتل اربعة من جنودها خلال هذهالمواجهات.
كان هادي "ياسر" من المجموعة المساندة للقوة الاولى، ومعه قائدالمجموعة "ذو الفقار" -وهو الاخ الوحيد الذي عاد حيا من مجموعة الشهيد السيد هادي-،هيثم مغنية (جلال)، علي كوثراني (كميل)، وكانوا جميعهم بانتظار اوامر التحرك منالمجموعة الاولى.. نظر "هادي" الى "ذو الفقار" وصخب المعارك الدائرة بالقرب منهميعلو اكثر فاكثر، واقترب منه سائلا اياه بعتي وحماس:
-هل المجموعة الاولى هيوحدها التي ستواجه؟ واين دورنا نحن…؟!
-نحن نؤدي تكليفنا، واذا احبنا الله، يكوننصيبنا التدخل..
ثم اردف ذو الفقار: هناك رائحة عطر قوية، من منكم وضع عطراالان…؟
فلم يجبه احدا…فاقترب نحو هادي ليشمه:
-رائحة العطر تفوح منك ياهادي!
فارتسمت بسمة رضا على شفتي هادي وقد لمعت عيناه ببريق السعادة: والله انهارائحة الشهادة، وسارسل بطلبكم عما قريب…
وان هي الا لحظات حتى اعطيت الاوامربالاشتباك مع قوة الدعم الصهيونية التي تدخلت لمساندة الجنود الذين وقعوا فيالكمين، فاعطى "ذو الفقار" اوامره الى "هادي" و "علي" بالالتفاف على القوةومهاجمتها من الجهة الاخرى، وكان بصر "ذو الفقار" يتابعهما حتى لمحهما يتشابكانوجها لوجه مع جنود العدو وعلى مسافة لا تتجاوز المتر الواحد، كان "هادي" متحمساًجداً للشهادة، وكأن روحه فارقت جسده شوقاً للقاء احبائه الشهداء الذين سبقوه الىحيث رضوان الله تعالى، فراح يطلق الرصاص من رشاشه متقدماً نحو الصهاينة وهو يصرخ "الله اكبر" ، فيجيبه "علي" : "يا ابا عبد الله"… لحظات وخفت الصوت تدريجيا، وقدوضع هادي يده على خاصرته اليسرى حيث اصيب بطلقة نارية، ثم اصيب بشظية اخرى فيرقبته، فصرخ عاليا: "يـــا زهـــــراء " …. وهوى الى الارض.. فانغرست اصابعه بينالتراب.. "وهذا يا جبل الرفيع، دمي.. فاجعل ترابك كفني..
واغمض عينيه، وعرجتروحه مسرعة نحو السماء، حيث النبي محمد ص ينتظره ليسقيه من كأسه الاوفى.. فترنمالافق بآهات صداها وجع القلب: "المجد لايلول الشهداء… المجد لايلول الشهداء" -مقطعمن نشيد كان الشهيد يردده دائما-..ثم ما لبث ان لحق به علي، فيما كان "ذو الفقار" و "هيثم" يتابعان المواجهة بعد أن فقدا الاتصال بالمجموعة الاولى، وبدا الانسحابتدريجيا لان ذخيرتهما بدات تنفذ.. وفي نهاية الاشتباك، سقط "هيثم" صريعاً علىالأرض، فحمله "ذوالفقار" وتابع انسحابه، إلى أن اختبأ في مكان قريب من ساحةالمعركة، وعمل على تصليح الجهاز الذي معه ليعاود التنسيق مع المجموعة الاولى، إلىأن عاد سالماً يحمل على اكتافه الشهيد "هيثم" فيما اسر الصهاينة جثتي الشهيدين "هادي" و"علي" واخذوهما إلى مستشفى مرجعيون ومن ثم إلى داخل اراضي فلسطينالمحتلة.
صباح السبت في الثالث من أيلول، وفيما كانت الحاجة "أم هادي" تشتري بعضالأغراض للمنزل، كانت الملحقات الإخبارية تذاع عبر إذاعة النور آخر مستجدات إقليمالتفاح…
ولما عادت أدراجها إلى المنزل، كان شعوراً غريباً يراود نفسها لم تجد لهتفسيراً، غير أنها كانت تستعيذ بالله من كل مكروه وبلاء… بعد فترة قصيرة من الزمنجاء سماحة السيد إلى المنزل ليخبرها انه تم الاتصال به لإبلاغه أن أربعة من الاخوةالمجاهدين فُقد الاتصال بهم خلال مواجهات الأمس ( الجمعة)، وان السيد هاديبينهم..
شعرت حينها أن الدنيا أظلمت في وجهها، واحتارت ماذا تفعل، وحاول سماحةالسيد أن يهدئ من روعها، قبل أن يخرج من المنزل ليتابع مع الاخوة تفاصيل الأحداث،فيما ظلت في البيت محاولة المحافظة قدر الإمكان على هدوء أعصابها، أخذت تستعيذبالله من وسوسات الشيطان، وتدعو لهادي، إن كان حياً، أن يعود إليها سالماً، وبينفينة وأخرى ترفع رأسها إلى السماء داعيةً لله "يا راد يوسف ليعقوب، اعد إليَّ "هادي" يا رب…"، وراحت تلهي نفسها بعمل المنزل، إلا أن صورة ولدها لم تفارقمخيلتها، وتمنت من كل قلبها أن يكون شهيدا على أن يقع أسيراً لدى الصهاينةاللئام..
كان السيد دائم الاتصال بها ليطمئن عنها ويطمئنها.. فسألته إن كان يتصلبالاخوة ليعرف الأخبار مباشرة، ولما أجابها بالنفي، قالت له: "اتصل واسأل عنه، انهولدك!" فرد عليها: "لانه ابني، اخجل أن أسال عنه، فعندما تصل أخبار جديدة للاخوةسيبلغونني بها فورا…".
اجل، لقد خجل سماحة السيد من أن يسال عن "هادي" لانهابنه، وهو الذي كان يقضي الليل منتظراً قلقاً إذ ما فقدت مجموعة من هذه العمليات،أو حتى أخ واحد، ويبقى على اتصال دائم مع الاخوة، لا يطيب له عيش حتى يبلغ بمصيرهم،فإما عودة سالمة، أو فوز بشهادة مباركة.. غير انه هذه المرة اكتفى بانتظار رنينالهاتف أن يتناهى إلى سمعه، فيسمع الخبر الأخير عن ولده..
مرت ساعات النهارثقيلة.. السيد ينتظر بصبر وهدوء بعد أن عاد إلى البيت، وأم هادي جمعت اجمل صورلابنها وهو بثياب الجهاد.. وجلست تنتظر..
كان السيد يخفف عنها بكلامه، لكنهانظرت إليه وهو يحدثها، فقالت له: "إن رحل "هادي" فأنت الذي تصبرني، ولكن اخبرني.. أنت من ذا الذي يصبرك.. من؟!".
فأجابها بطمأنينة: "الله هو الذييصبرني…"
وحينما وقفت ساعة العصر على عتبات النهار، عرف الاخوة في غرفة العملياتإن ثلاثة من الاخوة المجاهدين في المجموعة المفقودة استشهدوا، فيما بقي رابعاًمفقوداً، وعرف أيضاً أن السيد هادي، هو من بين الشهداء الثلاثة…
احتار الأخالمكلف بإبلاغ سماحة السيد كيف سيبدأ، فهو عندما قرا البرقية التي وصلته من الجنوب،دمعت عيناه على ولد له، ككل الاخوة المقاومين، لكن بسمة الرضا، أبت أن تبقى مختبئةًخلف شفتيه، فهو يعرف إن نفس هادي كانت تواقةً للرحيل بسرعة من هذه الدنيا، إلى حيثتطمئن روحه، وتسكن نفسه، ويخلد في مكان ارحب بكثير من حدود الجسد.. رفع سماعةالهاتف، وراح يحدث السيد وقد بدا الارتباك واضحاً في حديثه، فهون سماحة السيد عليهسائلا إياه: "هل هادي من بين الاخوة الذين استشهدوا؟"، فأجابه ب"نعم"، فصبر نفسهوصبرهم على المصاب واحتسب اجره عند الله..
عند المساء، جاءت الأخوات ليبلغن "أمهادي" التي لم تكن على علم بعد بشهادة هادي، إلا أن قلبها حدثها بأنه لن يعود… فجلسن صامتات، كل واحدة تحاول أن تدفع الأخرى لبدء الحديث، فنظرت إليهن "أم هادي" واحدة واحدة تتأمل وجوههن التي تحمل كل معاني الحزن واللوعة، فعرفت أن هادي قداستشهد، لكنها آثرت الصمت قبل أن تقول لهن بماذا حدثها قلبها، لأنها كانت تريد أنتسمع منهن كيف سيبلغنها الخبر..
فقالت حاجة لرفيقتها: اخبريني كيف كان مجلسالعزاء البارحة؟
فأجابتها بأنه كان موفقاً بحمد الله، وانه تحدث عن مصاب أهلالبيت ع، وعن مصاب السيدة زينب ع التي فقدت جميع اخوتها وابنائها في كربلاء.. ثمنظرت إلى "أم هادي" قائلة: "والحاجة "أم هادي"، سيدة صابرة بإذن الله، وستتقبلشهادة هادي باحتساب وصبر..
قالت هذا، وضج الجميع بالبكاء، إلا أم هادي،لم تذرفدمعةً واحدةً، بل قالت إنها كانت على علم بشهادة هادي، وحمدت الله على عظيم نعمه،ورفعت يديها نحو السماء: "اللهم تقبل منا هذا القربان، بيض الله وجهك يا هادي كمابيضت وجهي عند السيدة الزهراء ع وخفف عنك، وقد جعلتني بمصابي أواسى آل البيت ع". ثمقامت وصلت ركعتي شكر لله…
في الساعة الثامنة والنصف من مساء ذاك النهار، احتشدجميع اللبنانيين، الموالين لحزب الله، وغير الموالين، أمام شاشة تلفزيون المنار،ليروا من هو حسن نصر الله، من هو ذاك الأب الذي سيعتلي الآن منبراً يتحدث فيه عنشهداء أيلول سنة ثلاث وتسعين، انتظروا أبا فقد بكر أفراحه، يقف لينعى بأسى وليده،وانتظروا أن يروا دمعاته تتململ خلف مقلتيه دماً احمر.. لكنه، حين صعد إلى المنبر،كسيف نصر استل من غمدِ دماء تكتب تاريخ الشرفاء.. وقف بصلابة جده الحسين ع أمامجمهور غفير من المحبين الذين توافدوا ليخففوا عنه، فإذا به يخفف عنهم، يواسيهم ،ويحدثهم عن الشهداء الأبرار الذين قضوا دفاعاً عن هذه الأمة، وعن هذهالأرض..
"إنني اشكر الله سبحانه وتعالى على عظيم نعمه، أن تطلع ونظر نظرة كريمةإلى عائلتي
فاختار منها شهيدا.."
تعليق