مكفوف يضع الرسم الهندسي لمنزله ويحفظ 8 آلاف «رقم هاتف»

ربما لا تكفي الأسطر المخصصة للموضوع لملئها بعلامات التعجب، فما رأيناه وسمعناه من أبوزهير وعنه يندرج تحت بند الغرائب، بل قد يصل الأمر إلى حد المعجزات.
رأينا ـ بكل الدهشة ـ شخصاً يحفظ ثمانية آلاف رقم هاتفي، بل يتذكر أرقاماً ترجع إلى عشر سنوات أو أكثر، وما يقابلها من أرقام جديدة.
له القدرة على حفظ الأرقام المكونة من اثنتي عشرة خانة بعد تكرارها عليه مرتين فقط، الأغرب أنه خطط منزله المكون من ثلاثة طوابق بنفسه من دون أن يستعين بمهندس معماري.. أما وجه الغرابة فلكونه كفيفاً.
إنه عبداللطيف عبدالوهاب المضبط (55 عاماً)، أو كما يطلقون عليه ‘’أبوزهير’’. أب لستة أبناء، متقاعد من وزارة الكهرباء والماء،ئفقد بصره تدريجياً وهو في ريعان شبابه، لكن - على رغم صدمة فقد البصر - لم تتحطم آماله ولم تثنه تلك الصدمة عن مواصلة حياته، كما يحدث لأمثاله عادة، عمل في عدد من الأعمال، تزوج وكون أسرة، واستطاع أن يكوّن له بصمات تدهش كل من يعرفه، أو حتى يسمع عنه.
ولدخول عالم هذا الرجل، كان علينا أن نشد رحالنا حيث يوجد، وفي قرية عالي ( مملكة البحرين ) حيث يسكن كان لقاؤنا معه. أوقفنا السيارة حيث كان أبوزهير في استقبالنا. للوهلة الأولى، لم ندرك أنه هو الشخص المعني، بدا كالمبصر، حتى قسمات وجهه لم تفصح عن إعاقته.. تقدمنا ليفسح المجال لنا لكي ندخل إلى المنزل، لاحقته أعيننا.
كان يتصرف تماماً مثل المبصرين. بدأ يحكي لحظات سجلها في تاريخه الشخصي، التاريخ الذي ‘’أرشفه’’ بنفسه في ملفات، فما إن يذكر حادثة حتى يخرج لنا ما يثبتها من أوراق رسمية.
قال وعلى وجهه ابتسامة لا ينساها كل من يراها ‘’فقدت بصري تدريجياً وأنا في سن الخامسة والعشرين بعد عملية جراحية أجريتها في الخارج لمعاناتي من ضعف في البصر’’. يواصل وهو يضحك ‘’لم ألتزم بإرشادات الطبيب وتحركت من مكاني وأخذت (حماماً)، على رغم خطورة ذلك وعلى رغم تحذيرات الطبيب، ومن ذلك فقدت بصري للأبد’’.
ومسترجعا ذكريات يعتز بها يقول إنه عمل قبل العملية في عدد من الوظائف ومنها وظيفة في القاعدة الأميركية، وفي أحد البنوك مراسلاً، وعامل بناء، وعامل توصيل أسلاك كهربائية في وزارة الكهرباء والماء، ليأتي بعدها القدر ليرسم له طريقاً آخر وينضم إلى فئة المكفوفين في معهد النور.
ويكمل انه تدرب لمدة عام كامل واجتاز التدريب بدرجة امتياز، بل وصل إلى الدرجات النهائية في مادتي الاتصالات الدولية اللاسلكية، والبدالة. بعدها عمل في قسم البدالة في وزارة الكهرباء والماءئوكان ذلك في العام 1987 حتى تقاعد نهاية العام الماضي .2005 وبشهادة ديوان الخدمة المدنية عبر استمارة تقويم الأداء فإن أداءه الوظيفي تراوح ما بين الـ ‘’امتياز’’ والـ ‘’جيد جدا’’.
كاتب الرسائل والعرائض
ويؤكد حسين الخياط، (صديق أبوزهير) ـ وعلى رغم فارق العمر بينهما ـ أن علاقاته متشعبة، وما من معاملة أو خدمة في أي مكان حتى ييسرها من دون عراقيل، بل يلجأ إليه القاصي والداني ليكون واسطة لتسهيل المعاملات لدى عدد من الشخصيات المعروفة في البحرين.
الأغرب أنه يكتب الرسائل ويطبعها ويرسلها بنفسه للجهات ذات العلاقة. ومنها رسالة أرسلها إلى ديوان رئيس الوزراء وحيث تلقى برقية منه ، وأخرى لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة السابق الشيخ زايد آل نهيان (طيب الله ثراه). بل إنه يكتب العرائض ويجمع التواقيع بنفسه، إذ ما مرت قضية ما تحتاج إلى رفع قائمة بالمؤيدين أو الرافضين لها، إلا وتبناها.
ويقول الخياط وبكلمات تفوح منها الدهشة ‘’لو ترونه في الشارع كيف يمشى ويتحرك بين السيارات لأصابتكم الدهشة. هو يعرف طريقه تماماً ولم أسمع عنه أنه ضل طريقه، على رغم أنه ينتقل من منطقة إلى أخرى ويذهب إلى الأسواق متى شاء من دون الاستعانة بأحد.
يضحك أبوزهير على كلامه ويعقب بلهجته العاميةئ’’حتى إذا تغويت ما أعترف’’، أي حتى لو ضل طريقة وسأله من يعرفه إذا كان في حاجة إلى مساعدة فإنه ينفي، ويصر على أنه يعرف طريقه وليس بحاجة إلى مرشد، ويتابع سيره إلى أن يعود إلى منزله سالماً. والجميل أنه يحب ممارسة رياضة المشي، ويداوم عليها يومياً.
أما ما يثير مزيداً من الدهشة فهو حفظه الأرقام التي تردد عليه مرتين، حتى وصل عدد الأرقام الهاتفية التي يحفظها إلى 8 آلاف، بخلاف 300 تحويل، بل إنه يتذكر الأرقام القديمة التي مضى عليها عشر سنوات، وما يقابلها من أرقام جديدة.
ولنتأكد من قدرته أجرينا له عدداً من الاختبارات واجتازها وسط ذهولنا، وليزيد ما نحن فيه، قال ضاحكا ‘’قولوا لي رقم من اثنتي عشرة خانة لمرتين فقط وسأعيده عليكم’’، وقد كان.
وفي حركة سريعة جلب ملفاً من ضمن ملفاته ليرينا تخطيطه الهندسي لبيته المكون من ثلاثة طوابق، وأخذ يشير بإصبعه إلى الغرفة التي كنا فيها ويقول ‘’أنا من هندسها، ولم أستعن بأي مهندس متخصص، وأنا من يشرف على عمال البناء، إذ ألبس (الفانيلة والشورت والقبعة والنظارة الشمسية) وأشرف عليهم بنفسي. بل تعديت ذلك إلى تخطيط منازل معارفي’’.
أعمى ما تشوف؟
ومن جملة المواقف الطريفة التي علقت في ذاكرة أبوزهيرئأنه وبينما كان يمشي في سوق المنامة اصطدم بامرأة، فأخذت تصرخ عليه وتقول ‘’أنت أعمى ما تشوف؟’’، فقال لها صادقاً وممازحاً ‘’أي والله يا الشيخة أعمى ما أشوف’’. وحدث أنه وأثناء ما كان في العمرة أراد أصدقاؤه ممازحته وتصويره وهو في الحمام من دون أن يعلم، فأحس ببصيرته ما يجري حوله وسايرهم حتى دفع بمن أراد تصويره تحت رشاش الماء. يقول أبوزهير إنه ما إن يسافر على الجسر حتى تسهل أمور مرافقيه، إذ إنه و’’بلسانه الحلو’’، كما عبر، يفلت من التفتيش ولا يتعطل في طابور الانتظار مثل غيره.
ويضحك وهو يقول ‘’أغرمت إحدى النساء بي بعد اتصال لها بوزارة الكهرباء والماء، فأخذت تتصل كل يوم تسأل عني، إلى أن عرفت من إحدى زميلاتي في القسم أني متزوج ومكفوف فتوقفت عن السؤال عني’’.
نعم، لقد فقد أبوزهير نور عينيه وبصره، ولكنه لم يفقد بصيرته. ولم تفارق وجهه الابتسامة طوال الساعتين ونصف الساعة، التي قضيناها معه، وعلى رغم أننا رددنا عليه رقم هاتفنا مرتين فقط، إلا أنه حفظه كعادته واتصل بنا بعدها بأيام ليسأل عن موعد نشر قصته الغريبة، وها نحن ننشرها اليوم ومازالت الدهشة تملأنا.