إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

بحث فقهي حول الاجتهاد (( مهم جدا))

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بحث فقهي حول الاجتهاد (( مهم جدا))

    موضوع طويل ولكنه مهم غاية الاهمية لغرض تعميق الثقافة الفهية وترسيخها
    وهو بحث سماحة السيد المرجع الصادق الشيرازي دام ظله
    واتمنى من كل الاعضاء قرائته والتمعن فيه
    المسألة (1) : يجب ... .
    الوجوب : معنىً وتقسيماً
    المسألة (1): يجب الوجوب ـ بمعنى الحكم اللزومي على فعل شيء يذمّ على تركه ذماً بالغاً أكيداً، ويحثّ على فعله حثّاً بالغاً أكيداً ـ ينقسم إلى عدّة تقسيمات :


    التقسيم الاوّل
    تقسيم الوجوب إلى العيني والكفائي ـ بلحاظ المحكوم بالوجوب ـ .
    والعيني : هو الالزام المتعلّق بجميع الافراد ، ولا يغني فعل بعضهم عن بعض .
    والكفائي : هو المتعلّق بجميع الافراد ، ويغني فعل بعضهم عن الاخرين .
    والتخيير بين التقليد والاجتهاد والاحتياط عيني ، لا يغني عمل البعض عن الاخرين ، ولا احتمال آخر في المقام ـ إلاّ اللّهم في الاجتهاد الّذي هو كفائي على المشهور كما سيأتي و هو خارج عن ما نحن بصدده من تكليف كل شخص لعمل نفسه ، إذ الاجتهاد الكفائي هو لحفظ الاحكام عن الاندراس ، وعمل الاخرين ، ونحو ذلك ـ فلذلك لا نوسّع هذا التقسيم بحثاً .



    التقسيم الثاني
    تقسيم الوجوب إلى التكليفي ، والوضعي ، والمقدّمي .
    وأمّا الغيري والنفسي فليسا قسيمين لهذه الثلاثة ، وإنّما هما قسمان للتكليفي ، إذ التكليفي إمّا نفسي كالصلاة ، أو غيري كالوضوء .
    فالتكليفي هو الالزام، والوضعي هو الثبوت، والمقدّمي ما كان مقدّمة لحصول تكليف أو وضع، أو مقدّمة لسقوطهما ، و حيث إنّ العلم ـ الوجداني أو التعبّدي ـ هو الطريق المتعارف للواقعيات ، عدّ ـ مسامحة ـ الوجوب المقدمي مقدمة للعلم بثبوت أو سقوط ، و إلاّ فلا وجوب للعلم إلاّ في العقائد ـ كما عليه المشهور ـ و سيأتي إن شاء الله تعالى بحثه .
    وقد استعمل الوجوب بالمعاني الثلاثة في الروايات ، ففي خبر داود بن سرحان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) : « إذا أولجه فقد وجب الغسل والجلد والرجم ووجب المهر »(1).
    هذا للوجوبين التكليفي والوضعي .
    وفي الصحيح ـ على الاصحّ بإبراهيم بن هاشم ـ فيمن كان له ثوبان أحدهما نجس ولا يعرفه بعينه ، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : «يصلّي فيهما جميعاً »(2).
    تقسيمات الوجوب
    وهذا الوجوب مقدّمة لحصول الصلاة ـ في الثوب الطاهر ـ التي اشتغلت الذمّة بها عند دخول الوقت ، وحيث إنّ العلم بذلك يتوقّف على تكرار الصلاة في الثوبين وجبتا ، وهي أيضاً مقدّمة للعلم بسقوط التكليف .
    ولا يخفى: إنّ مادة الوجوب من أضداد اللغة، وقد استعمل للثبوت وللسقوط جميعاً في العديد من الروايات، ومن الثاني: حديث الامام الصادق (عليه السلام): «وقت المغرب حين تجب الشمس إلى أن تشتبك النجوم»(3).



    التقسيم الثالث
    تقسيم الوجوب إلى العقلي ، والعقلائي ، والفطري ، والشرعي ، يعني : الدالّ على اللزوم إمّا هو حكم العقل ، أو سيرة العقلاء ، أو الفطرة ، أو الشرع ، والوجوب المذكور في المتن يمكن كونه ـ في مقام الثبوت ـ كلّ واحد من الاربعة ، ولعلّ النسبة بين كلّ واحد من هذه الاربعة مع البقيّة العموم من وجه ـ لكن بملاحظة ملاكاتها ومناطاتها ـ فليس كل وجوب عقلي شرعيّاً ، ولا عقلائيّاً ، ولا فطريّاً ، بمعنى : أنّه لولا إيجاب العقل ، لما استفيد من الشرع وجوبه ، ولا من سيرة العقلاء ، ولا من الفطرة ، وكذا الوجوب الشرعي ليس مطلقاً عقلياً ، ولا عقلائياً ، ولا فطريّاً ، وهكذا دواليك .
    نعم ، الشرع لا يخلو من الارشاد إلى كلّ الوجوبات الثلاثة بالخصوص أو العموم على ما حقّق في محلّه ، كما عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجّة الوداع فقال : « ياأيها الناس ! ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار ، إلاّ وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة ، إلاّ وقد نهيتكم عنه ...»(4).
    والفرق بين الوجوبين العقلي والفطري ، هو : كلّما كان يدرك من سيرة الحيوانات ، والاطفال ، فهو وجوب فطري ، وكلّما لم يكن يلمس منهم فهو عقلي ـ كما قاله بعضهم ـ .



    المناطات والملاكات
    وأمّا المناطات والملاكات لهذه الاقسام الاربعة من الوجوب فهي كالتالي :
    أمّا الوجوب العقلي فمناطه إمّا وجوب شكر المنعم ـ كما قيل ـ وإمّا وجوب دفع الضرر المحتمل على سبيل منع الخلوّ ـ كما أصرّ عليه بعض مشايخنا المعاصرين ـ .
    وأمّا الوجوب العقلائي : فمناطه هما ، مع جلب النفع على سبيل منع الخلوّ أيضاً ، والكاشف عن ذلك استقرار سيرة العقلاء من كلّ دين ونحلة على شيء بنحو اللزوم .
    وأمّا الوجوب الفطري : فمناطه وجوب دفع الضرر المحتمل ـ كما هو المعروف ـ أو الاعمّ منه ومن وجوب جلب المنفعة الملزمة ، إن لم يرجع الثاني إلى الاوّل ، فتأمّل .
    وأمّا الشرعي : فمناطه ثبوتاً : المصالح البالغة المؤكّدة ، والمفاسد البالغة المؤكّدة .
    وإثباتاً : الامر المولوي الشرعي الالزامي ، إذ لا طريق إليه سواه ، لانّ مناطات الاحكام الشرعية ، لا يعلم بها إلاّ الله تعالى ، و إذا علم النبي أو الوصي (عليهما السلام) منها شيئاً فبتعليم الله ، كما يدلّ عليه الحديث الشريف المعروف :
    « إنّ الله أدّب نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على أدبه ... ففوّض إليه دينه »(5).
    وعن الامام الصادق (عليه السلام) : « فما فوّض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد فوّضه إلينا »(6).



    إشكال ونقاش
    لكن في كبرى الثلاثة الاُوَلْ وصغرى الاخير ، إشكال .



    مناقشة وجوب شكر المنعم
    أمّا وجوب شكر المنعم : فلا يُلزمه العقل كلّية ، نعم كلّ منعم ولو بنعمة ، صغيرة جّداً ، يحسن شكره ، أمّا أنه يلزم شكره بحيث يأمر العقل به أمراً أكيداً إلزامياً ، ويذّم على تركه ذمّاً بالغاً ، فلا .
    فهل تجد من نفسك إنّه إذا قدّم لك إنسان فلساً واحداً ، في ظرف لا تحتاج أنت إلى ذلك ولا ينقص المعطي شيئاً ، فإن لم تشكره تكون أنت فاعلاً للحرام العقلي يذمّك العقل ذمّاً بالغاً ، ويؤكّد على فعله تأكيداً إلزاميّاً ؟ كلاّ .
    نعم يرى العقل حسن شكره ، ويحكم بحسنه ، ويبعث على شكره بعثاً غير إلزامي ـ على الاصح من تحقّق الحكم للعقل كما سيأتي بعض الحديث عنه ـ . ومن المعلوم : أنّ بين البعث غير الالزامي والبعث الالزامي فرقاً واضحاً ، لكن ظاهر إطلاق جمع من المعاصرين وجوب شكر المنعم مطلقاً ، ولعلّه ليس كما ينبغي ، والّذي أوقعهم في ذلك هو : دقة الفرق بين مطلق الحسن ، وبين الوجوب ، فحسبوا تحسين العقل الشكر ، وجوباً وكلّ بعث عقلي بعثاً إلزاميّاً .
    نعم المنعم بنعمة كبيرة يجب شكره عقلاً وأظهر مصاديقه على الاطلاق هو الله تعالى الّذي أنعم على الانسان بجميع النعم العظام ، ولكن أين هذا من كلّية الكبرى ؟
    فالصغرى مسلّمة ، وهي تفيدنا فيما نحن فيه ـ بعد تسليم أنّ التقليد أو الاجتهاد أو الاحتياط من مصاديق شكر الله تعالى ـ وأمّا الكبرى ، فلا .



    هنا إيرادان
    ثمّ إنّه أورد على المستمسك في قوله ـ تبعاً للقوم ـ بالوجوب العقلي من باب وجوب شكر المنعم بإيرادين .
    الاوّل : بأنّه لو ترك الشكر فإن استحقّ العقاب كان داخلاً في دفع الضرر ، وإلاّ فلا وجوب .
    الثاني : بأنّه عليه، كان الوجوب للشكر غير مختص بأطراف العلم الاجمالي بل شاملاً لموارد الشبهة البدوية أيضاً (7).
    لكنّه يلاحظ عليه بالنسبة للايراد الاوّل : إنّ سببيّة استحقاق العقاب على الترك أعمّ من دفع الضرر ، وإلاّ لاقتضى ذلك نفي الوجوب الشرعي ، لانّ تركه سبب لاستحقاق العقاب .
    وبالنسبة للايراد الثاني : نلتزم ـ كما التزموا ـ بالوجوب للشكر حتّى في البدويات ، وإنّما خرجوا عن ذلك بـ « رفع ما لا يعلمون » ونحوه ، فتأمّل .



    مناقشة وجوب دفع الضرر المحتمل
    وأمّا وجوب دفع الضرر المحتمل : فلا يُلزمه على نحو الكلّية ، لا العقل ، ولا سيرة العقلاء ، ولا الفطرة السليمة ، فالضرر إمّا بالغ كبير ، أو صغير حقير ، وكلّ منهما دنيويّ وأُخرويّ .
    أمّا الضرر البالغ الكبير فلا شكّ أنّ دفعه لازم بالفطرة والعقل وسيرة العقلاء سواء كان دنيويّاً كضرر القتل وقطع الاطراف وتلف كلّ ما يملك ، أم أُخرويّاً كضرر إرتكاب المحرّمات الموجب لاستحقاق العقاب في الدار الاخرة .
    وأمّا الضرر الحقير اليسير فلا تُلزم الفطرة دفع المتيقّن منه ، فكيف بالمظنون منه أو المحتمل ، سواء كان دنيوياً كضرر نتف شعرة خفيفة أو قلع جلدة رقيقة ، أم أُخرويّاً كضرر : « سوء الحساب » الّذي يخافه المتّقون في قوله تعالى : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ)(8) المفسّر بالمداقة في الحساب ؟
    نعم يحكم الفطرة والعقل والعقلاء بحسن دفعه ، لكن بلا إلزام على فعله ، أو ذمّ أكيد على تركه إذا لم يكن في ذلك الضرر اليسير ، نفع مساو أو أكثر ، وإلاّ ربما حكم الفطرة والعقل والعقلاء بحسن إرتكابه ، كما هو المشاهد في الحيوانات إنّهم إذا اشتدّ بهم الجوع يهجمون على الطعام وإن كان في ذلك تيقّن أو احتمال ضربهم ضرباً يسيراً ، وكذا العقل يحسّن التعرّض للضرر المالي أو البدني اليسيرين في مقابل نفع أكثر .
    وهكذا استقرّت على ذلك سيرة العقلاء بلا نكير .
    وإذا كان هذا حكم دفع الضرر المحتمل ، فبالاولى يكون هكذا حكم جلب النفع المحتمل ، فالكلّية منظور فيها ، في وجوب شكر المنعم ، وفي دفع الضرر المحتمل ، وفي جلب النفع المحتمل.



    مناط الوجوب الشرعي ومناقشته ثبوتاً
    وأمّا الوجوب الشرعي ـ الّذي مناطه في مقام الثبوت المصالح والمفاسد البالغة ، وفي مقام الاثبات الكاشف عنه الامر المولوي من الشارع ـ فلا إشكال في إمكانه في مرحلة الثبوت .
    وما اشتهر أخيراً من أنّه كلّما كان في واقعة حكم عقلي ، أو فطري فالحكم الشرعي فيه ـ إذا ورد ـ لا يكون إلاّ إرشاداً إلى حكم العقل أو الفطرة ، ولا معنى للحكم المولوي فيه . ففيه : إنّه ليس معنى الحكم المولوي إلاّ الحكم المستتبع بذاته لاستحقاق العقاب ، وأيّ مانع في أن يحكم الشارع بوجوب واحد من : الاجتهاد ، والتقليد ، والاحتياط ، على سبيل التخيير ، فيكون حكمه هذا مستتبعاً لاستحقاق العقاب على مخالفته ؟



    إشكال وجواب
    إن قلت : أيّ أثر لهذا الحكم الشرعي بعد ما يحكم العقل قطعاً بلزوم اختيار إحدى هذه الطرق الثلاث في أداء التكاليف الشرعية ؟
    قلت : البحث لا يدور ـ في مقام الثبوت ـ مدار الاثر وعدمه ، وإنّما يدور مدار المحذور العقلي وعدمه ، فإن كان الحكم المولوي الشرعي في مورد ذا محذور عقلي ـ نظير حكمه بوجوب الاطاعة وحرمة المعصية المستلزم للدور أو التسلسل المحالين عقلاً ـ فنلتزم بعدم إمكانه ، وأمّا إن لم يكن فيه محذور عقلي ، فمجرّد الاستغناء عن حكم الشرع بحكم العقل أو الفطرة لا يوجب عدم إمكان الحكم المولوي للشرع .
    مضافاً إلى أنّ الحكم الشرعي حيث كان للجميع وكثير منهم ليس ملتفتاً إلى حكم العقل أو الفطرة ، فالاثر لحكم الشرع واضح ، مع أنّ هذا الحكم الشرعي يصحّ حجّة على المتعنّت الّذي لا يعتني بحكم العقل والفطرة حتّى مع التفاته إليه .
    وكذلك حكم العقل أو الفطرة يكون لبّياً ـ لا إطلاق له ـ وحكم الشرع اللفظي في موردهما قد يكون عاماً أو مطلقاً ، فينفع مولويّته في موارد الشك ونحوها ، وهناك نظائر كثيرة لذلك .
    مثلاً : الظلم ، الّذي يحكم الشرع بحرمته مستتبعاً للعقاب على إرتكابه ، مع أنّه في غنى عن هذا الحكم بحكم العقل القطعي إنّ الظلم قبيح يستحقّ مرتكبه العقاب ، وهذا الحكم الشرعي بحرمة الظلم ينفع في الموارد المشكوكة التي لم يحرز حكم العقل بالقبح كما في إيذاء الحيوانات غير المؤذية ، أو بجهة المزاحمات ونحو ذلك ، وكذلك ينفع للجاهلين بحكم العقل من بسطاء الناس ، وللمتعنّتين ونحو ذلك .



    حاصل الكلام
    والحاصل : إنّ الاصل في كلّ حكم إنّه يصحّ كونه مولويّاً ، إلاّ إذا كان هناك محذور عقلي فيه ، أو كان دليل آخر على خلافه ، وفيما نحن فيه لا محذور عقلي ولا دليل خاص على الخلاف ، وقد فصّلنا الكلام حول ذلك في الاُصول .



    مناط الوجوب الشرعي ومناقشته إثباتاً
    وأمّا مرحلة الاثبات وإنّه هل حكم الشارع مولويّاً بهذا الوجوب التخييري أم لا ؟ فنقول : ظاهر الادلّة الاتية الدالّة على لزوم اتّباع كلّ واحدة من هذه الطرق الثلاث هو كونه حكماً مولويّاً والاصل في كلّ حكم شك في مولويته ، أم إرشاديته أن يكون مولوياً ، لانّ ظاهر الامر إنّه سيق لاجل الاطاعة لا مجرّد الارشاد إلى ما يأمر بالطاعة من عقل أو فطرة أو غيرهما ، فتأمّل .



    هل للطرق الثلاث موضوعيّة ؟
    ثمّ إنّه بناءً على كون الوجوب التخييري مولويّاً هل لهذه الطرق الثلاث : ـ الاجتهاد والتقليد والاحتياط ـ موضوعية ، حتّى يجب سلوكها لتحصيل الحكم الشرعي ، بحيث لو لم يسلك شيئاً منها وعمل بلا تقليد ولا اجتهاد ولا احتياط وطابق الواقع ، أو سلك غيرها من الطرق غير المتعارفة أو غير المعتبرة كالعمل بالظنّ ، أو الرمل ، والجفر ، والمنام ، ونحو ذلك بطلت أعماله ، أو لا يجب سلوك هذه الطرق الثلاث بالخصوص ؟
    وبعبارة أُخرى : هل هذا الوجوب التخييري تكليفي فقط ، أم وضعي فقط ، أم كلاهما ، أم مقدّمي صرف ؟ وهذا نظير الخلاف الواقع بين المشهور القائلين بمقدّمية وجوب تعلّم الاحكام للعمل ، وبين المقدّس الاردبيلي (قدس سره)ومن قال بقوله : من أنّه نفسي ، فإن قلنا بمقالة المشهور ـ كما هو الظاهر المنصور ـ لما يتبادر عرفاً من أوامر الموالى في تعيين طرق تحصيل أوامرهم : إنّ الطرق أُريد بها فقط وفقط الوصول إلى طاعة الموالى ، ولا خصوصية في أصل الطرق إطلاقاً ، وظاهر الاوامر الشرعية إنّها منزّلة منزلة سائر الاوامر العرفية .
    فالطرق الثلاث لا موضوعية لها ، حتّى وإن قلنا بمقالة الاردبيلي (قدس سره) : من أنّ وجوب التعلّم للاحكام الشرعية نفسي لما هو ظاهر الاوامر الخاصّة الكثيرة في الكتاب والسنّة الواردة على وجوب التعلّم ، وإلاّ فإنّ ظاهر كلّ أمر أن يكون نفسيّاً لا غيريّاً ، وعليه كان الوجوب التخييري موضوعيّاً .



    الاشكال على الموضوعية
    و فيه : إنّ التمسّك بظهور الامر في النفسية لا الغيرية إنّما هو في مقام التحيّر والشك ، أمّا مع قيام هذه القرينة الظاهرة بأن الاوامر الشرعية سبيلها سبيل سائر الاوامر العرفية المؤيّدة بالكتاب والسنة ، كقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)(9).
    وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « إنّا معاشر الانبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم »(10).
    وقول الامام الصادق (عليه السلام) : « حدّثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون »(11).
    ونحو ذلك ، فالاوامر العرفية لا يراد بطرقها إلاّ الطريقية المحضة ، حتى إنّ الموضوعية في الطرق لدى العرف قيد زائد يحتاج إلى دليل خاص عليه ، فلا تحيّر ولا شكّ حتى يتمسّك بظهور الامر في النفسية .



    الطرق الثلاث على المصلحة السلوكية
    نعم ، قد يقال : إن قلنا بالمصلحة السلوكية التي قالها الشيخ الانصاري (قدس سره)ـ في الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ـ وتعتبر واسطة بين القول بالموضوعية ، والقول بالطريقية المحضة ، وهي إنّه يحتمل أن يكون للشارع مصلحة في سلوك هذه الطرق إلى أحكامه .
    إذن : فلا يبقى مجال لادّعاء الطريقية المحضة ، لانّ القول بالطريقية المحضة مبني على الدليل على عدم موضوعية خاصّة للطرق أصلاً ، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ، إن قلنا ذلك صحّ ادّعاء النفسية بالمعنى السلوكي في الوجوب التخييري فيما نحن فيه .
    ولكنّ فيه : إنّ الشيخ الانصاري (قدس سره) نفسه لم يلتزم بالمصلحة السلوكية ، إلاّ في ما ذكره الشارع من الحكم الظاهري فقط لا مطلقاً .
    والحاصل : إنّ ظهور تعيين الطرق إلى الاحكام في أنّها مجرّد طرق لا موضوعية فيها متّبع لدى العقلاء ، إلاّ إذا قامت قرينة على خلافه ، ولم يدلّ دليل
    شرعي على خلاف هذا الظهور العرفي بحيث يشمل جميع الطرق الشرعية ، فلا مناص من الالتزام به ، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى الاُصول .



    استنتاج
    فتحقّق من جميع ذلك إنّ الوجوب التخييري بين الثلاث : عقلي ، وفطري ، ولا مانع من أن يكون وجوباً شرعياً مولوياً في مرحلة الثبوت ، وأمّا الوجوب الشرعي في مرحلة الاثبات فهو وإن كان ظاهر إطلاق الادلّة ، إلاّ أنّ المنصرف منها الطريقية المحضة ، ولا موضوعية فيها بما هي هي ، وأنّ الشخص إذا عمل بدون تقليد ، أو اجتهاد ، أو احتياط ، وحصل منه جميع شرائط المأمور به : من قصد القربة ، وموافقة المأتيّ به للمأمور به ، وغير ذلك كان عمله صحيحاً ولا عقاب على ترك هذه الطرق الثلاث ، والمصلحة السلوكية لا دليل عليها هنا ، وهي خلاف الظاهر المتبادر من الاوامر العرفية ، فلا يصار إليها بدون دليل .
    وعليه : فما في بعض شروح العروة : ـ من تفنيد كون الوجوب التخييري عقليّاً بلحاظ شكر المنعم ، أو فطريّاً ، أو شرعيّاً ، بل إثبات كونه عقليّاً فحسب وبلحاظ دفع الضرر المحتمل فقط ، وكذا إصرار بعض الشرّاح على فطرية الوجوب فحسب ـ ينفيهما ما فصّلناه .



    الجامع بين الطرق الثلاث
    ثم إنّه لا ينبغي الاشكال في أنّ الحكم العقلي ، أو الفطري ، أو الشرعي بالتخيير بين المحتملات الثلاثة إنّما هو الوجود الجامع بينها الّذي هو مورد الحكم ، فيكون التخيير نتيجة الحكم بالجامع ، والجامع هو : لزوم التخلّص بما يصحّ التخلّص به : من الاجتهاد ، أو التقليد ، أو الاحتياط .
    والحاصل : إنّ التخلّص هو اللازم ، وبما أنّه يتحقّق بمصاديق متعدّدة صار التخيير بينها ، فالتخيير بينها نظير التخيير بين أفراد المطلق .
    نعم ، بالنسبة للدليل الشرعي سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ الكلام على أنّ أفراد التخيير وقعت كلّها مورداً لملاحظة الادلّة الشرعية ، فتأمّل .



    هل للعقل والفطرة حكم ؟
    وأمّا مسألة أنّ الحكم العقلي ، كالفطري ، هل هو حكم أم مجرّد رؤية ، نظير المرآة ؟
    وبعبارة أُخرى : هل إنّ للعقل مجرّد الدرك والشعور بضرورة شكر المنعم ، والفطرة تدرك فقط وتشعر فقط بضرورة دفع الضرر المحتمل ـ في محلّهما ـ أم أنّ العقل يحكم بوجوب الشكر ، والفطرة تحكم بدفع الضرر ؟
    فيه خلاف ، والاشكال فلسفي علمي بحت لا أثر عمليّ فيه على الظاهر ، وإن كان الاقرب إلى الفهم هو وجود الحكم للعقل والفطرة ، لا مجرّد الرؤية ، بدليل الوجدان الحاكم في مثل ذلك بالاستقلال .



    خلاصة تقسيمات الوجوب
    ويمكن تصنيف ما تقدّم من التقسيمات للوجوب بما يلي :
    الوجوب بلحاظ الحاكم به : ينقسم إلى الفطري ، والعقلي ، والعقلائي ، والشرعي .
    وبلحاظ المحكوم عليه : ينقسم إلى العيني ، والكفائي .
    وبلحاظ الوجوب نفسه : ينقسم إلى التعييني والتخييري ، والاصلي والتبعي ، والنفسي والمقدّمي، والمولوي، والارشادي، وهكذا والامر سهل .
    ... على كلّ مكلّف في عباداته ومعاملاته ... .



    وجوب الطرق الثلاث مقدّمي أو نفسي
    ثم إنّ المصنّف (قدس سره) صرّح في حاشية « ذخيرة المعاد » للشيخ زين العابدين المازندراني (قدس سره) : بأنّ هذا الوجوب ليس نفسياً ، ولا شرطياً ، بل هو مقدّمي غيري(12).
    أقول : هذا يصحّ على الوجوه الاربعة : العقلي والفطري ، والشرعي والعقلائي ، ولا تنافي بينه وبينها ، إذ الدالّ على الوجوب المقدّمي الغيري قد يكون هو : العقل أو العقلاء أو الفطرة أو الشرع ، فتأمّل .
    ولا يخفى : إنّ تعلّم العلوم لكي يتمكّن من الاجتهاد ، وتعلّم المسائل لكي يتمكّن من التقليد وتطبيق المأتي به على فتوى الحجّة ، وتعلّم كيفية الاحتياط ليطبّق أعماله عليه ، هو غير مسألة وجوب أحد هذه الثلاثة ، وسيأتي تفصيل البحث عن ذلك عند الكلام على وجوب التعلّم إن شاء الله تعالى .



    على مَن تجب الطرق الثلاث ؟
    تعريف الاجتهاد
    يجب على كل مكلّف جمع شرائط صحّة التكليف الشرعية : من البلوغ ، وغيره ، والعقلية : من العقل ، والالتفات ، واحتمال التكليف ، وغير ذلك في عباداته ومعاملاته والمراد ، بالمعاملات الاعم من سائر الاحكام بقرينة المقابلة للعبادات ، خصوصاً بملاحظة ما يقال : من أنّ المعاملات تطلق إصطلاحاً فقهياً على جميع الاحكام سوى العبادات ، وهو مناسب للمعنى اللغوي ، لانّ كلّ ما له حكم ، نوع تعامل ، وإلاّ فلا خصوصية في تخصيص
    ... أن يكون مجتهداً ... .
    العبادات والمعاملات بالوجوب التخييري ، لانّ الوجوب جار في جميع الافعال والتروك ، وسيأتي من المصنّف (قدس سره)التصريح بالتعميم في مسائل قادمة إن شاء الله تعالى .
    فالمكلّف بالنسبة إلى أعماله يجب أن يكون مجتهداً أي : إمّا أن يكون مجتهداً ، والاجتهاد إصطلاحاً وإن عرّف بتعاريف نقض عليها وأبرم ، إلاّ أنّ الّذي يخلو من العديد من الايرادات هو أن نعرّفه بما يلي :



    الاجتهاد ومعناه الاصطلاحي
    الاجتهاد : يعني الملكة التي يقتدر بها على تحصيل الحجّة التفصيلية على المسألة الشرعية .
    هذا معنى الاجتهاد الوصفي ، كالشجاعة ، والسخاء ، والصبر ، ونحوها ، وقولهم : اجتهد فأصاب ، أو اجتهد فأخطأ ، معناه : إنّه أعمل هذه الملكة واستخدمها .
    ثمّ إنّه هل الملكة هي الاجتهاد نفسه باعتبار الشأنية والقابلية ـ كما ذكرها في تفسيره معظم المتأخّرين ـ أم هي سببه الّذي بدونه لا فعلية للاجتهاد ـ كما ذكره بعضهم وتبعه بإصرار بعض تلاميذه ـ والفرق يظهر في صاحب الملكة الّذي لم يُعملها بعد ، فهو مجتهد على التفسير الاوّل ، دون الثاني ؟
    ربما يتراءى أنّه نزاع لفظي في محلّين لا محل واحد ، فتأمّل .



    بين التعريفين : المتداول والجديد
    وإنّما أضربنا عن كلمة : « استفراغ الوسع » في تعريف الاجتهاد ـ مع أنّ العديد من المتأخّرين استخدموها ـ لسببين :
    أحدهما : ما في مادّتها من إيهام الانسداد .
    ثانيهما : إنّه وإن احتاج استنباط المسائل غالباً في عصورنا المتأخّرة بقرون عديدة عن أزمنة المعصومين (عليهم السلام) إلى إفراغ الفقيه وسعه ، لكنّه ليس دائماً كذلك ، فالعديد من المسائل ليست بحاجة ـ في استنباطها ـ إلى إفراغ الوسع بالحمل الشايع ، وإن قيل : بأنّ استفراغ وسع كلِّ مسألة بحسبه ، لكنّه منصرف عنه اللفظ ظاهراً في عديد من الموارد ، فتأمّل .
    وقلنا : « الحجّة » دون الحكم وغيره ، ليعمّ الادلّة ، والطرق ، والامارات ، والاُصول العملية ، بأحكامها ، أو تنجيزاتها واعذاراتها .
    و « التفصيلية » مخرجة للحجّة التي يتمسّك بها المقلّد ، وهي إجمالية وفي كل المسائل واحدة ، وفي نفس الوقت شاملة للانسداد كما لا يخفى .
    و « المسألة » تشمل التكليف والوضع جميعاً .
    و « الشرعية » دون الفرعية ، لتشمل المسائل المتعلّقة بأُصول الدين ممّا يقلّد فيها إمّا مطلقاً إن أوجب العلم على المختار ، أو بعض شؤون أُصول الدين ممّا اتّفق الجميع على جواز التقليد فيها كخصوصيات القيامة .
    وشمول « الشرعية » للادلّة والاُصول التي مدركها الفطرة أو العقل ، أو بناء العقلاء ، كالاشتغال والبراءة العقليين ونحوهما ، إنّما يكون باعتبار قبول الشرع لها في مواردها ، وهذا يغني عن إضافة العقلية وغيرها إلى الشرعية ، فتأمّل .
    وهذا التعريف وإن لم يدّع فيه الكمال ، إلاّ أنّه ربما يكون أقلّ إيراداً ـ على الظاهر ـ من غيره ، والله العاصم .



    من خصائص ملكة الاجتهاد
    تعريف الاجتهاد
    ولا يخفى أنّ ملكة الاجتهاد ليست كسائر الملكات التي تحصل غالباً إمّا بتأمّل منافعها ومضار عدمها ، وترجيح الاُولى على الثانية ، وإمّا بتحميل النفس ما يسانخ آثارها ، كالشجاعة ، والسخاوة ، والعدالة ونحوها .
    وإنّما تحصل ملكة الاجتهاد بمعرفة العلوم التي يتوقّف عليها الاستنباط ، دون تأمّل المنافع والمضار ، ودون نفس الاستنباط ، فإنّ الاوّل لا ينفع ، والثاني غير ممكن ، نعم تزيد هذه الملكة بزيادة الاستنباط وممارسته أكثر فأكثر .
    وما ذكره بعضهم : من إنّ الاجتهاد قوّة قدسية ، أو نور يقذفه الله في قلب من يشاء ، ونحو ذلك ، فالظاهر من تأمّل أمثال ذلك ـ ولو لمناسبة الحكم والموضوع ـ إنّه لا يريد الاجتهاد المصطلح بل يريد الاثار الاُخروية المترتّبة ، أو الاجتهاد الّذي يجوز رجوع العامي إليه وتقليده ، وإلاّ فالاجتهاد الّذي هو محل البحث ممكن الحصول للفاسق والعادل ، والمنافق والمؤمن ، بل والكافر والمسلم ، والمرائي والمخلص ، وغيرهم ، لتسبّبه بإعمال القوّة النظرية المذكورة .
    وعلى أمثال ذلك يحمل ـ إن لم يكن الظاهر ـ ما ورد في الاثر نحو ما روي عن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « ألا أُخبركم بالفقيه حقّاً ؟ من لم يقنّط الناس من رحمة الله ... ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره »(13).
    وما روي عن الامام الصادق (عليه السلام) : « لا يكون الرجل فقيهاً حتى لا يبالي أي ثوبيه ابتذل ، وبما سدّ فورة الجوع »(14). ونحوهما غيرهما .



    المعنى الجديد للاجتهاد وبعض مزاياه
    ثمّ إنّ هذا المعنى للاجتهاد هو المعنى الّذي ليس فيه مسرح لنزاع العامة ولا الاخباريين ، وإن كان الاجتهاد قد فسّر بتفاسير أُخرى أوجب ذلك إنكار العامة والاخباريين له ، مثل : « تحصيل الظنّ على الحكم الشرعي » أو غير ذلك ممّا لم يكن مراد جميع المفسّرين له بهذا المعنى شيئاً أوجب الايراد عليهم ، وإنّما كان مرادهم نفس ما نقوله ، ولكن قصور تعبيرهم ، أو عدم التفاتهم إلى بعض ما يورد على تعبيره والمجتهد بلفظ : الفقه والفقيه والاستنباط والمستنبط ، ممّا ورد في الكتاب والسنّة ، وليس مسرحاً للنزاع اللفظي ، ليتلف الوقت فيما نحن عنه في غنى .



    الدليل على الاجتهاد
    وعلى كل حال : فيدلّ على الاجتهاد بهذا المعنى ـ الّذي هو الفقه والاستنباط ـ وجوباً أو جوازاً ، تكليفاً أو وضعاً ، الادلّة الاربعة ، مضافاً إلى بناء العقلاء .



    الاستدلال بالكتاب الحكيم
    أمّا الكتاب : فطوائف وقد أورد السيّد البروجردي (قدس سره) في كتاب : « جامع أحاديث الشيعة » أكثر من ستّين آية منها وفي أبواب متعدّدة(15).



    القرآن وحجّية الظواهر
    منها : الايات الدالّة على حجّية ظواهر الكتاب ووجوب العمل بها ، وهي تعدّ بالعشرات بين نصّ في ذلك ، وبين ظاهر دالّ عليه بالمطابقة ، أوالتضمّن ، أو الالتزام ، نذكر بعضها ، كقوله تعالى : (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)(16).
    وقوله تعالى : (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ)(17).
    ودلالتهما واضحة بـ « اتّبعوا » و « فاتّبعوه » .
    وقوله تعالى : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)(18).
    وقوله تعالى : (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ)(19).
    وقوله تعالى : (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً)(20).
    ودلالتها بالتلازم ، إذ لا معنى لتلاوة ما حرّم الله عليهم : إلاّ أن يعملوا به ويأخذوا بظاهره ، ولا معنى لعدم إنزال الكتاب إلاّ للبيان : إلاّ العمل به والاخذ بظاهره ، وكذلك لا معنى لكون الايات بصائر : إلاّ أن يؤخذ بظاهرها ، وهل التفقّه والاجتهاد إلاّ الاخذ بظاهر القرآن واستفادة الاحكام منه ؟



    القرآن وحجّية السنّة النبوية
    ومنها : الايات الدالّة على حجيّة سنّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي أيضاً كثيرة نذكر بعضها ، كقوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)(21).
    وقوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ)(22).
    وقوله تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(23).
    وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُْمِّيَّ)(24).
    إلى غير ذلك ، بتقريب أنّ ردّ المتنازع فيه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والانتهاء عمّا نهى عنه ، واتّباعه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس كلّ ذلك ـ عرفاً ـ إلاّ الاخذ بظاهر قوله ، والعمل عليه ، وليس التفقّه والاجتهاد إلاّ هذا .



    القرآن وحجّية كلام أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)
    ومنها الايات الدالّة على حجّية كلام الائمّة المعصومين (عليهم السلام) ، وهي أيضاً عدّة آيات نذكر بعضها كقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ مِنْكُمْ)(25).
    وقوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الاَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(26).
    إلى غير ذلك ، بتقريب أنّ طاعة أُولي الامر ، وهم : الائمّة المعصومون (عليهم السلام)من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والردّ إلى أُولي الامر ليس ـ عرفاً ـ إلاّ الاخذ بظاهر أقوالهم والعمل بها ، وهل التفقّه والاجتهاد إلاّ هذا ؟
    فإذا قال المولى أطيعوا ابني ، وردّوا إليه كلّما شككتم في أمري ، كان معناه : مراجعة الابن في كلّ ما يشكّ فيه ، والعمل بظاهر قول الابن .



    القرآن وأخبار الثقات
    ومنها الايات الدالّة بدلالة الالتزام ، أو الاشارة ونحوهما ، على حجّية أخبار الثقات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الائمّة المعصومين (عليهم السلام) كقوله تعالى : (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا)(27).
    وقوله تعالى : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(28).
    وقوله تعالى : (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(29).
    بتقريب أنّ نتيجة مفهوم الاية الاُولى وهي : صدّق العادل ، وكذا ظاهر السؤال من أهل الذكر ، والحذر عند إنذار المنذرين ، ليس إلاّ لحجّية أقوال العادل ، وأهل الذكر ، والمنذِرين ـ بالكسر ـ وهل التفقّه والاجتهاد ، إلاّ ما يستفاد من قول العادل ، وقول أهل الذكر ، وإنذار المنذِرين ـ بالكسر ـ ؟



    القرآن وحجّية التفقّه والاستنباط
    وهناك طوائف أُخر من الايات فيها إيماءات وإشارات إلى حجيّة التفقّه والاجتهاد والاستنباط، وهي وما ذكرناها، وما لم نذكرها ممّا جمعه كتاب: «جامع أحاديث الشيعة» وإن كان كلِّ واحدة منها قابلة ولو لخدشة ما في دلالتها، ولكنّها بمجموعها، وضمّ بعضها إلى بعض ، وملاحظة سياقها وموارد نزولها ، دليل قاطع لا يعتريه شائبة شكّ على حجّية استنباط الاحكام الشرعية الفرعية ، ووجوب ، أو جواز العمل بما استنبط ، وهذا هو معنى الاجتهاد والتفقّه ، وهو المطلوب.



    الاستدلال بالسنّة الشريفة
    وأمّا السنّة : فهي طوائف ، جمع منها كتاب : « جامع أحاديث الشيعة » قرابة خمسمائة حديث أودعها في خمسة أبواب(30) نذكر بعضها :



    السنّة وحجّية الظواهر
    منها : الاحاديث الدالّة على حجّية ظواهر الكتاب ، كالنبوي الّذي رواه في مجمع البيان : « إنّ هذا القرآن ... عصمة لمن تمسّك به ، ونجاة لمن تبعه »(31).
    وفي الكافي ، بإسناده ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث طويل : « وله ـ أي : للقرآن ـ ظهر وبطن ، فظاهره حُكْم ، وباطنه علم »(32).
    وفي الفقيه ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيتّه لابنه محمّد بن الحنفيّة : « وعليك بقراءة القرآن والعمل بما فيه ، ولزوم فرائضه وشرائعه ، وحلاله وحرامه ، وأمره ونهيه »(33) إلى غير ذلك .



    السنّة الشريفة وحجّيتها
    ومنها الاحاديث الدالّة على حجّية سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ففي الكافي ، بإسناده إلى اسماعيل بن جابر ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث : « عليكم بآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسنّته »(34).
    وفي الكافي أيضاً، بسنده إلى عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام):«حجّة الله على العباد، النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)»(35).
    «أيّها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام إلى يوم القيامة ألا وقد بيّنهما الله عزّوجلّ في الكتاب، وبيّنتهما لكم في سيرتي وسنّتي»(36) وغير ذلك كثير .



    السنّة وكلام أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)
    ومنها : الاحاديث الدالّة على الاخذ بروايات الائمّة المعصومين (عليهم السلام) ، مثل النبوي المتّفق على روايته الفريقان : « إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ، ومن تخلّف عنها غرق »(37).
    ومثل النبوي الاخر كذلك: «إنّي تارك فيكم الثقلين ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتى يردا علىّ الحوض»(38) وغير ذلك.



    السنّة والتفقّه في الدين
    ومنها الاخبار الامرة بالتفقّه ، وهو لغة واصطلاحاً : فهم الاحكام الشرعية عن مصادرها ، وهل الاجتهاد إلاّ ذاك ؟
    كخبر عليّ بن أبي حمزة ، عن الصادق (عليه السلام) : « تفقّهوا في الدين ، فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي »(39).
    وعن أبي بصير ، قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : « تفقّهوا فإنّه من لم يتفقّه منكم فإنّه أعرابي »(40).
    وخبر المفضّل بن عمر ، قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : « عليكم بالتفقّه في دين الله ولا تكونوا أعراباً ، فإنّه من لم يتفقّه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزكّ له عملاً »(41).
    وعن أبان بن تغلب ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « لوددت أنّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتّى يتفقّهوا »(42) ونحوها غيرها أيضاً .



    السنّة وأخبار الثقات
    ومنها الاحاديث الدالّة على حجيّة أخبار الثقات الناقلين عن النبي والائمّة المعصومين (عليهم السلام) مثل ما في رجال الكشي من التوقيع الوارد للقاسم بن العلاء ، وفيه : « لا عذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما يؤدّيه عنّا ثقاتنا »(43).
    والروايات الكثيرة التي أمر فيها الائمّة (عليهم السلام) بعض أصحابهم بأن يجلس في مسجد المدينة ويفتي الناس(44)أو أن يراجع الناس أباناً(45)، أو الثقفي(46)، أو العمري وابنه(47) وغيرهم(48).
    ومنها : الروايات العلاجية ، التي تدلّ على علاج تعارض الروايات وما به الترجيح والجمع وغير ذلك ، ممّا يدلّ بالالتزام على حجيّة الاجتهاد ، والنظر في الاحاديث ، واستنباط الاحكام منها .



    الاستدلال بالاجماع
    وأمّا الاجماع : فمن وجهين : قولي ، وعملي .
    أمّا الاجماع القولي : فمحصّل مسلّم لم يردّه منّا أحد على الظاهر .
    وأمّا العملي ـ وهو المسمّى بسيرة الفقهاء ـ : فهو أيضاً مسلّم لانّ فقهاء الشيعة من زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى زمان الائمّة المعصومين (عليهم السلام) وحتّى زماننا هذا يتمسّكون في كلّ مسألة : بالايات والروايات الواردة فيها ، ويجتهدون فيها ، حتّى أنّ أصحاب الائمّة (عليهم السلام) كانوا لا يعبؤون ببعض الروايات بحجّة أنّها : « من جراب النورة » وهي الروايات الصادرة تقيّة ، وأمّا غير جراب النورة فكانوا يعملون بها.



    الاستدلال بالعقل
    وأمّا العقل : فإنّه يلزم العبد المطيع أن ينظر في كلمات المولى ويميّز الخاص عن العام ، والمطلق عن المقيّد ، والوارد والمورود ، والحاكم والمحكوم ، ويجمع بينها ، ويأخذ بما يستنبطه عرفاً إنّه مراد المولى وأمره ، فيعمل عليه ، لانّ على العبد الطاعة ، والطاعة متوقّفة على فهم كلمات المولى ، وفهم كيفية الجمع العرفي بين متعارضاتها ، واستنباط المراد من بينها ، وليس الاجتهاد ، إلاّ بذل الجهد في فهم الايات والروايات لتحصيل الحكم الشرعي منها ، وهو طريق الاطاعة ، والحاكم فيه العقل .



    الاستدلال ببناء العقلاء
    وأمّا بناء العقلاء : فقد استقرّ على تحصيل أوامر المولى بطريق الاجتهاد والبحث في ألفاظ المولى ، وجمع شتاتها ، وملاحظة عمومها ، وخصوصها ، ومنصرفها ، وجمع بعضها مع بعض ، واتّباع ما يتبادر منها ، وغير ذلك ممّا يستعمله المجتهدون في استنباط التكاليف الشرعيّة ، ودليل حجّية هذا البناء لنا أمران :
    الامر الاوّل : إنّ مسألة الاجتهاد من طرق الاطاعة والمعصية المتسالم عليه بين الفقهاء ـ ظاهراً ـ وأنّ المرجع في باب الاطاعة والمعصية بناء العقلاء ، إلاّ إذا ورد دليل خاص على الخلاف كما في القياس ونحوه .
    الامر الثاني : ظهور اتّصال هذا البناء العقلائي إلى عصور المعصومين (عليهم السلام)ولم يظهر منهم ردع خاص عن ذلك ، ومثله لو كان لبان ، فيدخل ذلك في تقرير المعصومي الّذي هو من مصاديق السنّة الشريفة.



    تتمّة
    الاجتهاد المنهيّ عنه
    إنّ ما ورد في بعض الروايات من تحريم الاجتهاد والردّ عليه والانكار على من اجتهد أشدّ الانكار ـ مثل ما في الوسائل عن رسالة : « المحكم والمتشابه » عن تفسير النعماني بإسناده عن أبي عبدالله (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) في حديث طويل قال (عليه السلام) : « وأمّا الردّ على مَن قال بالاجتهاد فإنّهم يزعمون أنّ كلّ مجتهد مصيب على أنّهم لا يقولون إنّهم مع اجتهادهم أصابوا معنى حقيقة الحقّ عند الله عزّوجلّ لانّهم في حال اجتهادهم ينتقلون عن اجتهاد إلى اجتهاد ...»(49) وغيره ـ .
    إنّما يراد به الردّ على العامّة الذين يجتهدون في الدين عن إستناد إلى القياس ، أو الرأي الشخصي ، أو الاستحسان ، أو الاولوية الظنّيّة ، أو ما شاكل ذلك ممّا هو مألوف لدى علماء العامة ، ونفس هذه الرواية واردة ـ لمن لاحظها بطولها ـ في مقام الردّ على العامّة ، وبقرينة قوله (عليه السلام) : « يزعمون إنّ كل مجتهد مصيب » .
    فهذا هو الردّ على المصوبة وهم العامّة لانّهم كانوا يجتهدون في مقابل النص ، ولا يعبؤون بالائمّة الطاهرين (عليهم السلام) الذين يجب الاخذ عنهم ، ولذا فسّر (عليه السلام)الاجتهاد : بالاجتهاد في البدع واتّباع الاهواء في رواية الكافي باسناده عن اسماعيل بن جابر عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رسالته إلى أصحابه ، وفيها قوله (عليه السلام) : « وقد قال أبونا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): المداومة على العمل في اتّباع الاثار والسنن وان قلّ ، أرضى لله وأنفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتّباع الاهواء »(50).



    الاجتهاد المأمور به
    وأمّا الاجتهاد بالمعنى الّذي عندنا ـ وقد مرّ آنفاً ـ وهو الملكة التي يقتدر بها على تحصيل الحجّة التفصيلية على المسألة الشرعية ، المرادف مصداقاً للتفقّه والاستنباط المأمور بهما في الكتاب والسنّة : فهو مأمور به في كثير من الروايات وهو اتّباع الاثار والسنن ، وهو طاعة الله وطاعة رسوله ، وأُولي الامر ، وقد ورد لفظ الاجتهاد كثيراً في باب الطاعة التي منها الجهد لفهم الحكم الشرعي كقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « ولا يؤدّي حقّه المجتهدون »(51).
    وقوله (عليه السلام) : « فعليكم بالجدّ والاجتهاد »(52).
    وخبر عمرو بن سعيد بن هلال الثقفي ، عن أبي عبدالله في حديث أنّه قال له : « أُوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد »(53).
    وقوله (عليه السلام) : « عليكم بالورع والاجتهاد »(54).
    وخبر أبي أُسامة ، قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : « عليك بتقوى الله والورع والاجتهاد »(55).
    وعن أبي بصير ، عن الصادق (عليه السلام) قال : إنّ أباه قال لجماعة من الشيعة : « والله إنّي لاُحب ريحكم وأرواحكم ، فأعينوا على ذلك بورع واجتهاد ، واعلموا أنّ ولايتنا لا تُنال إلاّ بالعمل والاجتهاد »(56). وغير ذلك فتأمّل.



    تأييد وتأكيد
    تعريف التقليد
    ويؤيّده بل يدلّ عليه : ما دلّ على حجّية رأي المؤمن في آخر الزمان ، مع ورود النهي عن العمل بالرأي ممّا يكشف عن أنّ الرأي المنهيّ عنه هو الخارج عن دائرة الادلّة الشرعية ، مثل صحيحة هشام بن سالم ـ أو حسنة ، بابن هاشم ـ عن الامام الصادق (عليه السلام) : « رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزءاً
    ... أو مقلّداً ... .
    من أجزاء النبوّة »(57).
    ولعلّ قوله (عليه السلام) : « في آخر الزمان » إشارة إلى الحاجة إلى رأي المؤمن آنذاك ، وخروج الرؤيا أو تأويلها لا يسقط حجّية السند .
    ونحوه ما روي في وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه محمّد بن الحنفية قال : « أُضمم آراء الرجال بعضها إلى بعض ثم اختر أقربها من الصواب وأبعدها من الارتياب ـ إلى أن قال (عليه السلام) ـ : ومن استقبل وجوه الاراء عرف مواقع الخطأ »(58) ونحو ذلك كثير منتشر في شتى الابواب.
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
x

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

صورة التسجيل تحديث الصورة

اقرأ في منتديات يا حسين

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

يعمل...
X