إن المتأمل في كون الله الخالق يجد أن كل شيء يتم عن تنظيم و تدريج مسبق و متقن من بديع السماوات والأرض حتى بدا كل شيء لا يتم فجأة دون تدريج أو مقدمات ، فالمطر يسبقه سحاب ، والعاصفة تسبقها الرياح ، كما أن الليل لا يدخل فجأة على عالم البشر ، أما النهار فبرغم حب الناس له فإنه لم و لن يأتي فجأة حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . و إن يوم القيامة برغم أنه يوم حسم لا مثيل له فإن الله وضع له علامات كبرى تسبقها علامات صغرى . فقط لا يأتي شيء فجأة سوى الموت وحده دون دافع أو منازع و لله في كل ذلك شئون .
و إن المتأمل في شرع الله تعالى يجد نفس التدريج في كل شيء حتى في العبادات والفروض والأركان ؛ فالصلاة يسبقها الأذان ، والصلاة تسبقها سنن و رواتب مع أن كليهما صلاة !! والزكاة يرافقها صدقة التطوع بكل أنواعها ، و حج الفريضة يقابله العمرة ، و صوم الفريضة ونعني به رمضان يسبقه ألوان و ألوان من أنواع صوم التطوع كصوم الإثنين والخميس و صوم يوم عرفة و يوم عاشوراء و صوم يوم 13، 14، 15 من كل شهر قمري ، إضافة لصيام ستة أيام من شوال و بعض ألوان التطوع التي تقدمها النفس إلى خالقها رغبة و رهبة .
إن من فضل الله عز و جل أن جعل لنا طريقًا إلى رمضان عبر بوابة رجب و شعبان ؛ فلا يمكن الدخول إلى رمضان إلا عبرها ، و من الصعب أن تحقق كل شيء في رمضان دون الاستعداد له ؛ لأن من أراد السفر فلا بد أن يأذن بالرحيل و إلا ظل مكانه دون سفر أو رحيل .
و إن المتأمل في أحوال كثير من الناس يجد نوعًا من التعامل الغريب مع رمضان ؛ فبرغم أن الأغلب الأعم من الناس يتمنى رمضان كضيف عظيم يسعد به لدرجة يبكي فيها عند مفارقته فإن ثمة تناقضًا في الاستعداد لهذا الضيف ! فبرغم أن كل الناس ترى رمضان و هو يقترب رويدًا رويدًا بدءاً من رجب و مرورًا بشعبان فإن الواقع العملي يؤكد أن أكثرنا يجد نفسه أمام رمضان و كأنه ظهر فجأة دون أن يظهر له شيء من الاستعداد .
أما عندما تتفقد فهم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لطبيعة المرحلة التي قبل رمضان ؛ فمن المؤكد أن الوضع سيختلف مع رجل في مثل تفكيره و منطقه ، و هذا تميز يضاف إلى شخصه صلى الله عليه و آله و سلم في كون أعماله دائمًا تتلمس فيها حسن التخطيط والتدبير ، إضافة لنوع من التوازن الرائع بين متطلبات الروح والجسد دون أدنى إفراط أو تفريط .
عن عائشة ، قالت : " كان رسول الله يصوم حتى نقول لا يفطر و يفطر حتى نقول لا يصوم ، و ما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان ، و ما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان " ، و في رواية أخری : " كان يصوم شعبان كله ، كان يصوم شعبان إلا قليلا " ، و قد رجح طائفة من العلماء منهم ابن المبارك و غيره أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يستكمل صيام شعبان ، و إنما كان يصوم أكثره .
و عن أسامة بن زيد قال : قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان ، فقال : " ذاك شهر يغفل الناس فيه عنه ، بين رجب و رمضان ، و هو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين ، و أحب أن يرفع عملي و أنا صائم " .
و يشير ذكاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى كون شعبان بين شهرين عظيمين ـ الشهر الحرام و شهر الصيام ـ و أن الناس قد اشتغلت بهما عنه ، فصار مغفولا عنه !! و هذا ما يتميز به الأذكياء عادة أن يفكروا كما يفكر الناس ، لكن لا يغفلون و لا ينسون عندما ينسى الناس.
و في كلامه صلى الله عليه و آله و سلم إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه.
و في كلامه أيضًا دليل على استحباب عِمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة ، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة و يقولون هي ساعة غفلة ، و مثل هذا استحباب ذكر الله تعالى في السوق ؛ لأنه ذكْر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة . فلماذا رأى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إحياء الوقت المغفول عنه في شعبان بالطاعة ؟؟
1. حتى يكون أخفى للعمل ؛ لأن إخفاء النوافل و إسرارها أفضل ، لا سيما الصيام فإنه سرّ بين العبد و ربه ؛ و لهذا قيل إنه ليس فيه رياء ، فعن ابن مسعود عنه أنه قال : " إذا أصبحتم صيامًا فأصبِحوا مدْهنين " .
2. لأن العمل الصالح في أوقات الغفلة أشق على النفوس ، و من أسباب أفضلية الأعمال مشقتها على النفوس ؛ لأن العمل إذا كثر المشاركون فيه سهُل ، و إذا كثرت الغفلات شق ذلك على المتيقظين لقوله صلى الله عليه و آله و سلم : " العبادة في الهرْج كالهجرة إلي".
سر صيام النبي صلى الله عليه و آله و سلم في شعبان :
رأى بعض العلماء في سر كثرة صيامه ـ صلى الله عليه و آله و سلم ـ في شعبان بعض الحكم والأسباب ، منها :
1 ـ أنه كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان ، و كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا عمل بنافلة أثبتها و إذا فاتته قضاها .
2 ـ و قيل إن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان فكان يصوم لذلك . و كان إذا دخل شعبان و عليه بقية من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شعبان حتى يستكمل نوافله بالصوم قبل دخول رمضان ـ كما كان إذا فاته سنن الصلاة أو قيام الليل قضاه ـ فكانت عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض رمضان .
3 ـ و قيل " لأنه شهر يغفل الناس عنه " ، و هذا هو الأرجح لحديث أسامة السالف الذكر والذي فيه : " ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب و رمضان " .
4 ـ لأن صيام شعبان كالتمرين على صيام رمضان ؛ لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة و كلفة ، بل يكون قد تمرّن على الصيام واعتاده فيدخل رمضان بقوة و نشاط . و لما كان شعبان كالمقدّمة لرمضان فإنه يكون فيه شيء مما يكون في رمضان من الصيام و قراءة القرآن والصدقة ، كما قال سلمة بن سهيل : كان يقال : شهر شعبان شهر القراء ، و كان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال : هذا شهر القراء، و كان عمرو بن قيس المُلائي إذا دخل شعبان أغلق تجارته و تفرغ لقراءة القرآن ، و كان يقول : طوبى لمن أصلح نفسه قبل رمضان !!
يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله : صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم ، و أفضل التطوع ما كان قريبًا من رمضان قبله و بعده ، و تكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها و بعدها و هي تكملة لنقص الفرائض ، و كذلك صيام ما قبل رمضان و بعده ، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بَعُد عنه .
* محمود إسماعيل