بسم الله الرحمن الرحيم
خُيِّل إليَّ وأنا أُحاور الأحبة في رمضان أن كثيراً من الناس تصوم لمعاني غير معاني الصيام المشروعة، أو: لبعض تلك المعاني حيث تسود العادة ويُعطَّل العقل! وكما يُقال بالعامية: الصيام الحقيقي في وادي، والناس في وادي آخَر!
وليس مردُّ ذلك التيه إلى الجهل الحقيقي أو قلة المعرفة، ولكن إلى قلة التفكُّر!
فلو تفكَّر الإنسانُ بفوائد الصيام النفسية قبل الجسدية، أو ما يُسمَّى "الروحية"، وبالعلة من إشراع الصيام، وبتحديد الوقت في شهر واحد لكل المسلمين.. لأدرك معاني الصيام الحقيقية ولَجنى من صيامه ما أُريد له أن يجني!
ولا أدَّعي الإحاطة بكل مقاصد الصيام وما يُرتجى منه.. ولكن أزعم بأنه بمقدور كل عاقل "متفكِّر" أن يدرك الكثير الكثير من معاني الصيام العظيمة!
وأُحبّ أن أُقدِّم في هذه العجالة بعض أهم الأمور المساعدة على نيل المقصود، والله من وراء القصد!
* معنى الصوم:
{الصوم في اللغة: الإمساكُ عن الشيء والتركُ له. وقيل للصائم صائمٌ لإمساكه عن المَطعَم والمشرَب والمَنكَحِ، وقيل للصامت صائمٌ لإمساكه عن الكلام، وقيل للفرَس صائمٌ لإمساكه عن العَلَف مع قيامه.
وقوله ــ عزَّ وجلَّ ــ: "إني نذرتُ للرحمن صوماً"[1]؛ قيل: معناه صمتاً، ويقويه قولُه تعالى: "فلن أُكلِّم اليومَ إنسياً"[2].
وفي الحديث: قال النبي ــ ص ــ: قال الله تعالى: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصومَ فإنه لي".
وقال سفيان بن عُيَيْنَةَ[3]: الصومُ هو الصبرُ، يَصبِرُ الإنسانُ على الطعام والشراب والنكاح، ثم قرأ: "إنما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب"[4].}[5]
والصيام شرعاً: الإمساكُ بنيَّة التعبُّدِ عن الأكل والشرب وغِشيان النساء وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.[6]
* تاريخ فرضية الصوم:
فرض الله ــ عزَّ وجلَّ ــ على أمة محمد (ص) في يوم الاثنين من شهر شعبان سنة اثنتين من الهجرة المباركة.[7]
* فوائد الصيام:
من الفوائد الروحية للصوم أنه يُعوِّد الصبر ويُقوِّي عليه، ويُعلِّم ضبطَ النفسِ ويُساعد عليه، ويُوجِدُ في النفس ملَكةَ التقوى ويربِّيها..
ومن الفوائد الاجتماعية للصوم أنه يُعوِّد الأمةَ النظامَ والاتحادَ، وحبَّ العدلِ والمساواةِ، ويكوِّن في المؤمنين عاطفةَ الرحمةِ وخُلقَ الإحسانِ، كما يصون المجتمع من الشرور والمفاسد.
ومن الفوائد الصحية للصيام أنه يُطهِّر الأمعاءَ ويُصلحُ المعدةَ، ويُنظِّف البدنَ من الفضلات والرواسبِ، ويُخفف من وطأةِ السِّمنِ وثِقل البطنِ بالشحم[8]. وفي الحديث عنه ــ ص ــ: "صوموا تصحوا[9]".[10]
* فضل رمضان:
قال رسول الله ــ ص ــ:
"مَن صام رمضانَ إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدَّم من ذنبه[11]".[12]
وقال:
"مَن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدَّم من ذنبه".[13]
* سنن الصوم:
1- تعجيل الفطِر، وهو الإفطارُ عقبَ تحقُّق غروب الشمس؛ لقوله ــ ص ــ: "لا يزال الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفطرَ".
2- كونُ الفطر على رطبٍ أو تمرٍ أو ماءٍ، وأفضل هذه الثلاثة أولها.
3- الدعاء عند الإفطار؛ إذ كان ــ ص ــ يقول عند فطره: "اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا، فتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم".
4- السحور، وهو الأكل والشرب في السَّحَر آخرَ الليل بنية الصوم[14]؛ لقوله ــ ص ــ: "تسحَّروا فإنَّ في السحور بركة[15]".
5- تأخير السحور إلى الجزء الأخير من الليل؛ لقوله ــ ص ــ: "لا تزال أمتي بخير ما عجَّلوا الفطرَ وأخَّروا السحورَ". ويُبتدئُ وقت السحور من نصف الليل الآخِر وينتهي قبل الفجر بدقائقَ لقول زيد بن ثابت ــ رض ــ: تسحَّرنا مع رسول الله ــ ص ــ، ثم قام إلى الصلاة فقلتُ: كم كان بين الأذان والسُّحور، قال: قدرُ خمسين آيةً.[16]
خلاصة:
كما ثبت وصحَّ أن شهر رمضان خير الشهور وأبركها وَجَبَ أن يكون إمامها وقدوتها!
فعلينا إذن أن نجعل زادنا طيلة العام أخلاقنا الرمضانية حتى يكون رمضان إمامنا بحق!
فرمضان إمام ومعلِّم! وكما يحضر التلميذُ الدَّرسَ عند المعلِّم ويأخذه معه إلى خارج الدرس ويعمل به ويستفيد منه يجب علينا التأسي والتخلُّق بالأخلاق الرمضانية بعد رمضان الكريم! ولعل خير ما يعيننا على هذا "الخير"، وهذه المنة الرحمانية الرمضانية، هو صيام التطوع أو: "السنة" بين الحين والآخَر من كل شهر، كأنْ يُصام بعض أيام الاثنين والخميس من كل شهر تأسِّياً برسولنا الكريم ــ ص ــ واستحضاراً لمعاني الصوم وشهر رمضان الكريم!
إذن، لا يوجد رمضان بلا صيام!
فربما تعذَّر على بعض الناس الصيام عن الطعام والشراب لعُذر شرعي مقبول، ولكن ما من أحد يتعذَّر عليه الصيام عن كافة ما يُنهى عنه ويُحظر، من أخلاق غير حسنة وأخلاق سيئة، ومحارم..
فيجب اغتنام شهر رمضان "الفضيل" للإقلاع عن العادات السيئة، كالأكل من دون جوع، أو الإسراف، أو التدخين، أو الإدمان على ما يلهي وما لا ينفع..[17] ورَحِمَ اللهُ امرئ أدَّى الأمانة، ولا أمانة للإنسان كبدنه ونفسه وأخيه الإنسان!
* خاتمة:
لعل خير ما يُختم به هذا البحث المتواضع خطبة "حبيب الرحمن" نبينا وشفيعنا محمد ــ ص ــ في هذا الشهر الفضيل!
فعن علي بن أبي طالب ــ كرَّم اللهُ وجهَهُ ــ قال: إنَّ رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ــ خطبنا ذات يوم فقال:
{أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهرُ اللهِ بالبركة والرحمة والمغفرة، شهرٌ هو عند اللهِ أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات؛ وهو شهرٌ دُعيتم فيه إلى ضيافة اللهِ وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله. أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مُستجاب، فاسألوا اللهَ ربَّكم بنيَّاتٍ صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنَّ الشقي مَن حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم.
اذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوعَ يوم القيامة وعطشه، وتصدَّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقِّروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصِلوا أرحامَكم، وأحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصارَكم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعَكم، وتحننوا على أيتام الناس يُتحنن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنها أفضل الساعات. ينظر اللهُ ــ عزَّ وجلَّ ــ فيها بالرحمة إلى عباده، ويجيبهم إذا ناجوه، ويلبِّيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.
أيها الناس، إنَّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكُّوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم؛ واعلموا أن الله ــ عزَّ وجلَّ ذكرُه ــ أقسَمَ بعزَّته أن لا يُعذِّب المصلِّين والساجدين، وأن لا يروِّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
أيها الناس، مَن فطَّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة ومغفرة لما مضى من ذنوبه.
(فقيل: يا رسول الله، وليس كلنا نقدر على ذلك. فقال ــ ص ــ

اتقوا النارَ ولو بشقِّ تمرة، اتقوا النارَ ولو بشربةٍ من ماء.
أيها الناس، مَن حسَّن منكم في هذا الشهر خُلقَه كان له جوازٌ على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام، ومَن خفف منكم في هذا الشهر عما ملكتْ يمينه خفف اللهُ عليه حسابه، ومَن كفَّ فيه شرَّه كفَّ اللهُ عنه غضبه يوم يلقاه.
ومَن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومَن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومَن قطع فيه رحمه قطع اللهُ عنه رحمته يوم يلقاه، ومَن تطوَّع فيه بصلاةٍ كَتَبَ اللهُ له براءة من النار، ومَن أدَّى فيه فرضاً كان له ثواب مَن أدَّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومَن أكثر فيه من الصلاة عليَّ ثقَّل اللهُ ميزانه يوم تخفّ الموازين، ومَن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر مَن ختم القرآن في غيره من الشهور.
أيها الناس، إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتَّحة، فاسألوا ربَّكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلَّقة فاسألوا ربَّكم أن لا يفتحها عليكم؛ والشياطين مغلولة فاسألوا ربَّكم أن لا يسلِّطها عليكم.}[18]
إعداد وتقديم
الفقير لله تعالى
سام محمد الحامد علي
www.safwaweb.com
www.freemoslem.com
www.alaweenonline.com
[1] سورة مريم، 26.
[2] سورة مريم، 26.
[3] مولى محمد بن مُزاحم ــ أخي الضحاك بن مزاحم ــ: الإمام الكبير، حافظ العصر، شيخُ الإسلام؛ أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي. مولده بالكوفة في سنة سبع ومئة؛ عاش إحدى وتسعين سنة.
قال الإمام الشافعي: لولا مالكٌ وسفيانُ بن عيينة لَذهب عِلمُ الحجاز.
من كلام ابن عيينة:
- الزهدُ: الصبرُ وارتقاب الموت.
- الإيمانُ قولٌ وعمل؛ يزيد وينقص.
- إنما كان عيسى ابن مريم لا يُريد النساء لأنه لم يُخلَق من نطفة!
ومن حكمه:
· لا تدخلُ هذه المحابر (كناية عن الكتابة وشدة طلب العلم..) بيتَ رجل إلا أشقى أهلَه وولده.
· وقال مرةً لرجلٍ: ما حِرفتُكَ؟ قال: طلبُ الحديث. قال: بشِّر أهلكَ بالإفلاس.
· مَن زِيد في عقله نقصَ في رزقه. (كناية عن طلب العلم وترك الدنيا والملذات..)
· مَن كانت معصيتُه في الشهوة فارجُ له، ومَن كانت معصيتُه في الكِبْرِ فاخشَ عليه، فإن آدم عصى مشتهياً فغُفِرَ له، وإبليس عصى متكبِّراً فلُعِنَ.
[سير أعلام النبلاء، الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ترجمة: سفيان بن عيينة. انظر: طبعة مؤسسة الرسالة، ط11، مج8، ص454 وما بعد]
[4] سورة الزمر، 10.
[5] لسان العرب، ابن منظور، مادة: صوم. (انظر طبعة دار المعارف، مج4، ص2529-2530)
[6] منهاج المسلم، أبو بكر جابر الجزائري، مكتبة العلوم والحكم ــ المدينة المنورة، ط1، ص232.
[7] منهاج المسلم، الجزائري، ص232.
[8] الفوائد مشروطة بحُسن أداء الصيام والالتزام بآدابه ومراعاة غاياته..
[9] لرُبَّ قائل يقول: يمكن تحصيل كل فوائد الصيام الروحية والجسدية دون الإمساك التام عن الطعام والشراب حسب فرْض رمضان، فنرد عليه بالقول: لا يمكن تحقيق جزءاً مهماً من تلك الفوائد فضلاً عن تمامها دون الصوم عن الطعام والشراب! فلا النفس ترتاض بمعنى الرياضة الحقيقي دون صيام كامل ولا هي تتزكى بمعنى الزكاة الحقيقي دون ذلك! فكيف لأميّ أن يؤلِّف كتاباً؟! وكيف لعاجز عن حمل القليل أن يحمل الكثير؟! إن أول درجات سُلّم الصيام والتزكية والارتقاء هو "الإمساك عن الطعام والشراب".. وخير الكلام ما قلَّ ودلَّ، ولينظر العاقل في هذا الأمر ويتفكَّر.
[10] منهاج المسلم، الجزائري، ص233.
[11] لأن بصيامه على النحو المذكور توبة نصوح عما سلف وتقدم وإرادة خير وإحسان لِما هو آتٍ.. والله أعلم.
[12] منهاج المسلم، الجزائري، ص236.
[13] منهاج المسلم، الجزائري، ص237.
[14] يتحقق السحور بكثير الطعام وقليله، ولو بجرعة ماء. فعن أبي سعيد الخدري ــ رضي الله عنه ــ: السحور بركةٌ، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة ماءٍ، فإن الله وملائكته يُصلُّون على المتسحِّرين. [فقه السنة، الشيخ سيد سابق، دار البشير، مج1، ص338]
[15] في السحور طاعة ونفع! فإذا تسحَّر المرء قوي على الصيام. وللسحور بركات كثيرة، منها أن وقته خير أوقات الاستغفار. قال تعالى: "وبالأسحار هم يستغفرون".. [سورة الذاريات، 18]
[16] منهاج المسلم، الجزائري، ص240-241.
[17] والطباع السيئة أيضاً كسرعة الغضب وسوء الظن بالناس..
[18] مسند الإمام علي بن أبي طالب، تأليف البحاثة المحقق العلامة السيد حسن القبانجي، تحقيق الشيخ طاهر السلامي، مؤسسة الأعلمي، ط1، مج3، ص371 وما بعد.