إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

الأمريكيون يدخلون السعودية !

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأمريكيون يدخلون السعودية !

    الأمريكيون يدخلون السعودية !
    محمود جابر *
    الأمريكيون يدخلون السعودية



    (الآثار السلبية على المقدسات واستخدامها لإضفاء الشرعية على آل سعود)


    بدأ اهتمام الأميركيين بمنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي منذ القرن التاسع عشر كما تقدم واتخذ ذلك أساليب وسبلاً متعددة كالتبشير(المسيحي) ، والتجارة ، والاهتمامات التربوية والأثرية(الأماكن المقدسة) ، وأخيرا النفط الذي حظي باهتمامهم منذ مطلع القرن العشرين ، وهم بذلك لم يكونوا يهدفون إلى تثبيت مصالحهم الاقتصادية في المنطقة فحسب ، وإنما للتمهيد لنفوذهم على المدى البعيد والذي يمكن تبريره من خلال تلك المصالح .


    وبالرغم من سياسة العزلة التي أقرتها الحكومة الأميركية في أعقاب الحرب العالمية الأولى فإن ملامح التغلغل الأميركي في الخليج العربي أخذت بالظهور ، وتمثلت في نشاط بعض رسلها إلى المنطقة الذين أصبحوا فيما بعد من المقربين لابن سعود ، أمثال الرحالة العربي الأصل أمين الريحاني والمستر كرين Crane بالإضافة إلى فلبي (1) ، فقد كانت للأول جولات في منطقة الجزيرة العربية والخليج العربي عام 1922 ، وكان يحظى باحترام وزارة الخارجية الأميركية كمصدر في الشؤون العربية وقد كرس نفسه للربط بين مصالح الوطن الذي تبناه وموطنه الأصلي ، لاعتقاده بأهمية المنافع المترتبة على إدخال الرأسمال الأميركي للبلاد العربية ، وللدلالة على هذا فإنه وقف إلى جانب "هولمز" في مؤتمر العقير حينما طالب بامتياز الإحساء ، فقد كتب في 27 تشرين الأول/أكتوبر 1923 إلى وزارة الخارجية قائلا : " إن كاتب هذه السطور ضد احتكار عبادان وقد نجح في إقناع السلطان -أي ابن سعود- بأن من مصلحته منح الامتياز إلى شركة مستقلة لا علاقة لها بالحكومة البريطانية " (2) .


    وجاء بعد الريحاني "كرين" بدعوى القيام ببعض الأعمال الخيرية للسكان العرب في الجزيرة العربية فزار المنطقة عام 1926 ، وكانت مدينة جدة من المناطق التي نزل فيها حيث طلب مقابلة ابن سعود الذي كان في المدينة المنورة آنذاك إلا انه لم يحظ بالمقابلة فتركها متوجها إلى اليمن لاستكمال زيارته (3) . . غير أن هذه الرغبة لم تمت بل تجددت في سنة 1931 حينما كان "كرين" في إحدى جولاته "الخيرية" في المنطقة في وقت كانت فيه السعودية أحوج من أي وقت مضى للدعم الاقتصادي والمشورة الخارجية (4) . إذ كانت البلاد تعاني من أزمة اقتصادية حادة جراء تضعضع المورد المالي المترتب على موسم الحج ، بسبب الحرب التي انتهت باحتلال الحجاز سنة 1925 ، إضافة إلى تمردات الإخوان التي كلفت الدولة الكثير من الأموال لإخمادها (5) . كما أن العالم كان يواجه خلال هذه الفترة أزمة اقتصادية عامة انعكست آثارها على شبه الجزيرة العربية كغيرها من البلدان ، وكانت سببا في تخفيض عدد الحجاج الوافدين إلى الحجاز (6) .


    لم يجد ابن سعود -وللاعتبارات المتقدمة- مانعا من دخول الاستثمارات الأجنبية إلى بلاده والسعي إلى تطوير أوضاعها الاقتصادية ، وتلبية متطلبات دولته الجديدة، فأبدى موافقته للقاء المستر "كرين" بعد انتهاء موسم الحج أواخر شهر نيسان/أبريل 1931 (7) وقد جاء هذا الترتيب على يد "فلبي" مستشار ابن سعود الذي تطوع لخدمة المصالح الأميركية كما سيتضح . فقد نصح فلبي العاهل السعودي بمقابلة كرين لما في ذلك من فرصة ثمينة لتغيير الأوضاع الاقتصادية في بلاده ، وجاء هذا الاقتراح ردا على الشكوى التي كان يبثها له ابن سعود من سوء تلك الأوضاع (8) .


    كان مجمل ما دار في الاجتماع حول رغبة ابن سعود لتطوير إمكانيات بلاده الاقتصادية ، والكشف عن كميات كافية من الماء وبالأخص الآبار الارتوازية في كل من نجد والحجاز(9). وقد استجاب كرين لهذه الدعوة واقترح استقدام أحد المهندسين وتكليفه بمهمة مسح بعض مناطق المملكة والكشف عن احتمالات وجود المعادن فيها ، إضافة إلى إمكانية التطوير في المجالات الأخرى (10) .


    أوكلت هذه المهمة للمهندس "تويتشل Twichlle " الذي كان يعمل لحساب كرين في اليمن ، وقد قام هذا بتنفيذ مهمته وبدلا من أن تظهر تنقيباته وجود الماء ، أظهرت احتمالات وجود المعادن كالذهب والنفط (11) .


    إن نتائج تنقيبات "تويتشل" هذه أمر كان له أهمية لدى المسئولين السعوديين ولم يكن من الصعوبة تصديقه بعد أن أصبحت إمكانية اكتشافه في البحرين أمرا مقنعا ، فأخذت فكرة استثمار النفط تسير باتجاه واحد مع الوضع الاقتصادي المتدهور في المملكة ، الأمر الذي دفع المسئولين السعوديين -وعلى رأسهم ابن سعود- إلى مفاتحة "تويتشل" بالموضوع ، فقد طلب من الأخير في 10 كانون الثاني / يناير حقوق الامتياز لهذا النفط .


    لقد تمخض عن هذا الامتياز فيما بعد دخول الرأسمال الأميركي والخبرة الفنية الأميركية وتغيُّر مجرى التاريخ العربي وفتح باب الشرق الأوسط بشكل واسع أمام الولايات المتحدة الأميركية التي تمكنت من أن تمد قدمها إلى البر الرئيس المقابل (الإحساء) ، بعد أن ثبتت قدمها الأولى في جزر البحرين . وعلى أية حال فإن مثل هذا التوغل ، وإن لم يتم في الحال ، فانه كان بداية النهاية للسيطرة البريطانية في الخليج العربي ، إذ إن بريطانيا لم تترك الأميركيين يدخلون منطقة نفوذهم فحسب بل تركت لهم أيضا أكبر حقل نفطي في الشرق الأوسط .


    أسباب تفوق المصالح الأميركية في مفاوضات مايو/أيار 1933 :


    استأثرت شركة نفط الكاليفورنيا بامتياز الإحساء دون البريطانيين ، وبدون شك هناك أسباب تقف وراء هذه الحقيقة ، منها ما يتعلق بالشركتين المتنافستين وما تتعلق بالدور الذي لعبه فلبي ، وما يعود إلى موقف ابن سعود نفسه .


    1- موقف الشركتين


    كان "لونكريك" واحدا من أهم الاختصاصيين في مجال النفط في الشرق الأوسط ، أي كان بمستوى المسؤولية الموكلة إليه ، غير أن مدراء شركة نفط العراق -كما جاء على لسانه- "كانوا بطيئين وحذرين في تقديم عروضهم وكانوا يتكلمون عن الروبيات عندما كان السعوديون يطلبون الذهب فلم تكن شركة نفط العراق تمتلك الجرأة التي تحلت بها الشركة المنافسة وكان جل ما دفعته مبلغا قدره 10 آلاف جنيه وبعملة الروبية لا بالذهب كما رغب السعوديون ، في حين أبدى الأميركيون سخاء عروضهم المالية ، فقد اتفقوا مع السعوديين على تقديم قرض بـ 50 آلف جنيه ذهبي تدفع 30 ألفا منها في الحال ، وتدفع البقية بعد فترة 18 شهر ، بالإضافة إلى 5 آلاف جنيه ذهب كإيجار سنوي ، لذا كان العرض الأميركي هو الأفضل في الحصول على الامتياز .


    أشار البعض إلى أن شركة نفط العراق قدمت عرضها ذهبا لولا موقف حكومة العمال البريطانية والذي انتقد فيما بعد ، والقاضي بخروج إنكلترا من قاعدة الذهب ، إذ إن هذا القرار حال دون حصول الشركة على نفط السعودية ، بيد أن هذا الرأي يبدو ضعيفا للفرق الواضح بين العرضين المتنافسين حتى وان استبدل الجانب البريطاني عرضه بالعملة الذهبية .


    ولعل هناك ما يكمن وراء تردد المصالح البريطانية في زيادة عرضها المالي ومزاحمة المنافسين الأميركيين ، إذ لم تكن شركة نفط العراق مهتمة فعلا بنفط السعودية اهتماما كبيرا ، وكان جل ما يهمها هو منع وقوع الامتياز بيد الشركات الأميركية كما لم يكن في نيتها أيضا استثمار امتيازات النفط التي ستحصل عليها في المنطقة ، وهذا ما يفسر فشل هولمز حينها في إثارة الشركات البريطانية وإقناعها بامتياز البحرين والإحساء.


    والواقع أن المصالح البريطانية كانت تبرر موقفها الأخير بوفرة كميات النفط في العالم تلك الفترة، إذ هبط سعر البرميل الواحد من النفط إلى 10 سنتات في السوق العالمية ، وكان هناك توقف أو ضعف في النشاط التجاري في كل مكان ، ثم إن الشركة كانت تمتلك كل النفط الذي يمكن استخراجه من آبارها في العراق وإيران، هذا فضلاً عن الأسباب الأساسية التي تقف وراء التنافس البريطاني - الأميركي في الخليج عموماً والتي سنتطرق لها في حينها.


    2- دور فلبي في المفاوضات

  • #2
    2- دور فلبي في المفاوضات


    لعب فلبي دوراً مؤثراً في سير مفاوضات نفط الإحساء . وفي رجحان كفة المفاوض الأميركي أو على الأقل إسناده . غير أن "فلبي" كما يبدو لم يكن يظهر هذا بوضوح أمام المسئولين البريطانيين حينذاك ولعل ذلك يتضح من خلال الإجابات التي كان ينقلها الوزير البريطاني في جدة إلى وزارة الخارجية والتي كانت بمثابة الرد على استفسارات الوزارة المذكورة حول موقف فلبي، ويبدو أن الوزير البريطاني لم يكن دقيقاً جداً في تحديده لهذا الموقف إذ يقول "ليس لدي شك كبير في مدى التزام فلبي بشكل محدد إزاء شخص ما ، إلا إنه يبدي ملاحظته لهاملتون وتويتشل وربما يصبح ميالا لهذا الاتجاه" (12) . وفي مذكرة أخرى أبدى الوزير ثقته بـ "فلبي" أكثر من أي وقت مضى ، وبأنه "ليس مع أي من المتنافسين الآن" ، وأوضح أن فلبي -الذي اعتمد كمستشار بشأن امتياز الإحساء- كان يأمل من وراء مساعدته للسعوديين مكافأته بامتياز لشركة (الشرقية) (13) شمال الحجاز ، رغم انشغاله حينذاك بمشروعه الخاص لاحتكار استيراد السيارات .


    لكن الصورة التي رسمتها دوائر المخابرات البريطانية هناك ، لم تكن تدرك الوجه الآخر لشخصية عميلها " فلبي" رغم أنها أصابت حقيقة هذا الرجل العامة لا تفاصيلها ، ونعني بها سعيه وراء مصالحه بالدرجة الرئيسية ، إذ كان هذا يسعى إلى تنمية مصالحه في السعودية ولا ضير لديه أن يخدم المصالح الأميركية إذا ما دفعت مبلغا أكثر من غيرها وهذا ما سيتضح في الصفحات اللاحقة .


    لقد بدأت أولى خطوات نشاطه بهذا الاتجاه في محاولته ترتيب اللقاء بين المصالح السعودية والأمريكية ، ووجه ابن سعود في اتجاه تطوير أوضاع بلاده المتردية اقتصادياً، ونبهه على الأخص إلى وجود ثروة معدنية في بلاده تنتظر الاستغلال . فتمت هذه الخطوة التي تعد أولى اللقاءات التي بدأت بين المصالح الأميركية والسعودية .


    وقد يستنتج من هذه الخطوة أن "فلبي" الذي خدم أغراض الإمبراطورية ذلك الزمن الطويل ، اتسعت اتصالاته في الفترة التي قضاها في السعودية بعيدا عن خدمة الحكومة البريطانية فأصبح أداة نشيطة بأيدي الشركات الاحتكارية الكبرى التي تشرف على استغلال النفط والمعادن الأخرى في أكثر من جزء من أجزاء العالم ، وأنه كان دائم الاتصال بها . ولو لم يكن له هذا الاتصال الواسع لما عرف السيد "كرين" خلال وجوده في القاهرة وعنوانه كي يستطيع الاتصال به، وقرر لابن سعود ما يريده الرجل بكل دقة وضبط وذلك في حديث عارض لم تسبقه مقدمات (14) .


    وكانت الخطوة الثانية -كما توضحت- اتصال الشركة بـ " فلبي " وجس نبضه للتفاوض باسمها مع "ابن سعود" حول امتياز الإحساء وإقناعه لصالحها ، وقد تبين ذلك في برقية "لوميس" التي بعثها إليه ، وشرع "فلبي" بالفعل في مشاورة الملك وبعث بشروط الامتياز إلى الشركة التي بعثت بدورها "هاملتون" و "تويتشل" للتفاوض مع الحكومة السعودية .


    كان "فلبي" محط ثقة "ابن سعود" (!!) فأراد الاعتماد عليه في مفاوضاته مع الشركتين المتنافستين ، وقد أعرب الملك عن هذه الثقة في الرسالة التي بعثها إليه بتاريخ 23 شباط 1933 والتي جاء فيها "أنا واثق من أنك ستحمي مصالحنا الاقتصادية والسياسية مثلما تحمي مصالحك الشخصية، لذا فإني أتوقع مساعدتك في هذا الأمر ، كما أتوقع منك إسداء نصائحك النافعة وسوف ينظر لها بكل ثقة واحترام" .


    فشرع فلبي استناداً لهذه الثقة ، بالتحرك وفق ما ترتئيه مصالحه ، وكان أول ما قدم عليه هو تأكيده على شركة الانكلو - فارسية لإرسال من يمثل شركة نفط العراق للتفاوض بشأن امتياز النفط السعودي ، وكان يهدف من وراء ذلك ضمان العرض المرتفع جراء التنافس على الامتياز الذي سيدور بين شركتي نفط الكاليفورنيا ونفط العراق (15) ، لا كما فسره البعض بعدم ارتياح "فلبي" لحصول شركة أميركية على الامتياز وأن تحرم منه شركات بلاده .


    وإذا كانت الالتزامات بين "فلبي" وشركة نفط الكاليفورنيا لم تكتمل حينئذ فإن هاملتون كان بعيدا في نظرته لمعالجة هذا الاحتمال ، إذ اعتقد بأن"فلبي" شأنه شأن الملك يعاني من مصاعب مالية لدفع نفقات ابنه في جامعة كمبردج وبناته الثلاث في المدارس فاقترح عليه منحة بـ 1000 جنيه شهريا مدة ستة أشهر على الأقل إضافة إلى علاوة أخرى عند توقيع الامتياز وعند استخراج النفط ، إذ ما عمل على مساعدة الشركة ودعم موقفها لدى الملك ووزرائه للحصول على الامتياز ، وقد قبل هذا "فلبي" هذا العرض دون أدنى تردد لكنه اشترط عدم إخبار أي شخص بشأن هذا الاتفاق ، وبالفعل لم يبلغ هاملتون أي شخص حتى زوجته وتويتشل ، واتخذ" فلبي" الموقف ذاته ، أما" لونكريك" فكان يجهل كل شيء عند مجيئه للتفاوض، ومع أنه قدر أهمية "فلبي" في هذه المفاوضات حتى طلب منه مفاوضة الملك نيابة عن شركة نفط العراق فإن "فلبي" تظاهر بالحيادية ورفض عرض لونكريك .


    وبالرغم من حقيقة "فلبي" في كونه عميلا إنجليزيا لوزارة المستعمرات فإنه أدى دورا لصالح الأميركيين ، ولهذا كان لابد أن يعمد لإبقاء لونكريك في اللعبة ، لولا أن الأخير قرر في أحد الاجتماعات أن يمنح زميله الإنكليزي ثقته خصوصا أنهما عملا سوية في خدمة وزارة المستعمرات ، فلم يكن هناك ما يدعو إلى عدم الثقة بفلبي بل شعر أن فلبي سيعمل كل ما بوسعه من اجله ومن أجل بريطانيا في المفاوضات . غير أن الأخير حتى وإن أراد رغبة لونكريك ما كان ليستطيع للأسباب المشار إليها سلفا .


    وقد نصح فلبي لونكريك بالعودة والعمل على رفع المبلغ المعروض، وان تكون هذه الأموال المعروضة بالعملة الذهبية ، غير أن شركة نفط العراق لم ترفع المبلغ السابق إلى حد مقنع حيث وافقت على مبلغ قدره 6000 باون فقط دون اشتراط الدفع بالذهب وعلى الملك قبول الجنيهات الإسترلينية أو ما يعادلها بالروبيات .


    لقد أوضحنا في بداية حديثنا عن فلبي بأنه كان يبحث عن مصالحه الخاصة ، ولا غرابة أن يعمل لأجل المصالح الأميركية في السعودية تحقيقا لهذا الغرض ، لذا عمد إلى أبعاد لونكريك أو استثنائه بعد أن أصبح وجوده في جدة غير مجدِ نظرا لعدم تغير موقف مسؤوليه ، وأصبح هدف فلبي إتمام الاتفاق بين عبد الله سليمان وهاملتون . وقد اتضح هذا الدور بعد سنوات من إتمام الاتفاقية ، حينما واجهه الوزير السعودي قائلا "لو كنت اعلم في ذلك الحين بأنك تؤيد شركة نفط الكاليفورنيا في المفاوضات فعلا فإنني كنت سأبذل كل ما في وسعي لإيقاف إتمام هذه الصفقة" .


    لقد أدرك فلبي أن شركة نفط العراق غير جديرة بالامتياز ، وبذل جهده للحصول على مبلغ كبير من شركة نفط الكاليفورنيا فأمضى الكثير من وقته بين الفندق الذي يسكنه هاملتون وبين قصر الملك خلف أسوار مدينة جدة ، وقد تمكن من التوفيق بين شروط الحكومة السعودية وعرض الأميركيين وانتهى الأمر بالاتفاق في 20 نيسان/أبريل حين قدم هاملتون عرضه النهائي للحصول على الامتياز ، والواقع أن موافقة السعوديين جاءت بعد أن أبلغهم فلبي بأن ألـ 50 ألف باون التي تقدم بها هاملتون هي بمثابة آخر عرض للأميركيين ، وقد وقع الامتياز في 29 مايو / أيار 1933 ، بعد أن تمت مطالعته وقراءته أمام ابن سعود لإبداء رأيه فيه ، وقد وافق الملك عليه بعد أن استشار فلبي . والحقيقة أن الأخير -الذي كان حاضراً الاجتماع- لم يبخل في وصف الاتفاق بأنه أفضل ما تستطيع الحكومة السعودية الحصول عليه (16) .


    حصل فلبي لدوره في هذه المفاوضات على ثناء الملك وعلى منزل يعرف بـ "القصر الأخضر" كهدية له ، فاستعاض به عن منزله القديم الذي باعه إلى هاملتون ليستخدم كمقر وقتي للشركة ، كما كافأته الشركة بمختلف الهدايا وبمبالغ مالية قدرها البعض بعشرة آلاف جنيه. إلى جانب الأموال التي أخذها يتقاضاها منذ بدء المفاوضات كما تقدم .


    موقف ابن سعود :

    تعليق


    • #3
      موقف ابن سعود :


      منح ابن سعود الامتياز إلى شركة نفط الكاليفورنيا وفسر موقفه هذا بما يلي :


      1 ـ الباعث المالي : وقد أوضح بالتفصيل .


      2 ـ موقف السياسة البريطانية المتعاطف مع الهاشميين عند تسويتها لمشاكل الحدود بينهم وبين السعوديين (17) .


      3 ـ شكوك ابن سعود بنوايا السياسة البريطانية في المشرق العربي وتفضيله للسياسة الأميركية المجردة من المطامع في ظنه (18) .


      4 ـ استقلال شركة نفط الكاليفورنيا وعدم ارتباطها بالحكومة الأميركية أو خضوعها لنفوذها كما هو الحال بالنسبة لشركة نفط العراق (19) .


      5 ـ اعتقاد الحكومة السعودية بقوة الاقتصاد الأميركي قياسا بالاقتصاد البريطاني ، الأمر الذي يعني قدرة الشركات الأميركية على المساهمة في تنمية الاقتصاد السعودي على نحو أحسن مما تستطيعه الشركات البريطانية (20) .


      يتضح أن هذه الدوافع تكاد تشير إلى سببين ساهما في قرار الحاكم السعودي وهما الوضع الاقتصادي في السعودية ، ثم السياسة الخارجية للحاكم المذكور .


      ويبدو من مراجعة الحقائق التي سلفنا ذكرها أن السبب الأول كان الدافع الأساسي وربما الوحيد الذي حدد الموقف السعودي من امتياز نفط الإحساء ، وتكاد تصريحات فلبي وسجلات شركة نفط العراق تلغي الملاحظات التي تعزو موقف ابن سعود إلى شكوكه في نوايا السياسة البريطانية وتفضيله سياسة الولايات المتحدة الأميركية إذ أن مرد انسحاب شركة نفط العراق كان مالياً ، حيث تركت شركة نفط الكاليفورنيا المزايد الوحيد الذي يرغب بدفع مبلغ يزيد عن مبلغ ألـ 10 آلاف باون الذي عرضته شركة نفط العراق لذا فليس من الصحيح الأخذ بما ذكرته جريدة "نيويورك تايمز" في عددها الصادر في 15 تموز/ يوليو 1933 حينما أرجعت موقف ابن سعود إلى خوفه من النفوذ السياسي البريطاني ، فقد كتب المدير العام لشركة نفط العراق في سنة 1935 بأن شركته كانت ستحصل على الامتياز خلال 48 ساعة إذا ما قدمت مبلغ 50 ألف جنيه ذهب كما طلب ابن سعود (21) .


      وقد انفرد أحد الباحثين في رواية له اعتمادا على الوثاق السعودية وأكد الحقيقة المتقدمة ، إذ يشير إلى أن الملك ابن سعود في حديثه مع السير "اندرو ريان" المعتمد البريطاني في جدة في أول ربيع الثاني 1352هـ/1933م أوضح بأن حكومته "عرضت على الحكومة البريطانية قبل أن تتفق مع الأمريكان بشأن الامتيازات لتعرضها على شركائها فردت بواسطة مفوضيتها في جدة في ربيع الثاني 1352هـ/1933م بأن شركة "عابدان" وشركة "شل" لا ترغبان في أخذ الامتياز . ورغم كل ذلك فقد أبلغت الحكومة السعودية بريطانيا حينما أراد مندوب الشركات الأميركية الحضور لتوقيع الاتفاق ، فجاء لونكريك مندوب شركة العراق بالذات وحضر الصفقة وقدم شروطاً كانت دون ما عرضه الأمريكان ، لذا فإن العروض المالية هي التي حددت الموقف السعودي من قضية امتياز نفط الإحساء .


      تميز النفوذ الأمريكي في منطقة الخليج العربي، منذ بداية القرن وحتى الحرب العالمية الثانية في الدفاع عن المصالح التجارية الأمريكية، وكذلك مصالح رعايا الولايات المتحدة، مع الابتعاد عن كل تدخل سياسي في منطقة الخليج العربي التي كانت تعد ساحة نفوذ بريطانيا (22).


      غير أن ملامح التغير في هذه السياسة بدأت في الارتسام مع بداية الحرب العالمية الثانية، حين لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دور القوة المساعدة للقوى العسكرية البريطانية .


      وما لبثت هذه الملامح تتضح وتتعاظم مع إعلان الأمريكان عن دخولهم في الحرب العالمية الثانية بشكل رسمي ، فقد حمل الأمريكان على عاتقهم مساعدة السوفييت عن طريق إيران ، وهو دور استلزم بلا شك تواجداً عسكرياً أمريكياً في الخليج وهو ما سيعرف لاحقاً بقيادة الخليج الفارسي التي بلغ عدد أفرادها ما يقارب الثمانية وعشرين ألفاً (23).


      ومن جهة أخرى، فقد لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دوراً كبيراً في إمدادات الحلفاء بالبترول. وقد كان النفط الأمريكي يمثل ما يقارب 70% من موارد الطاقة المستخدمة في الحرب (24). وإدراكاً من الإدارة الأمريكية لعدم تمكنها من الاستمرار في الإنتاج النفطي بنفس المستوى في فترة ما بعد الحرب فقد وجه الأمريكان أنظارهم نحو الدول الخليجية الغنية بالنفط.


      وقد عاضد هذا التوجه سلسلة من الدراسات المقدمة من الشركات البترولية الأمريكية الكبرى، والتي كانت تشير إلى أن مركز الجاذبية في الإنتاج البترولي العالمي سوف يتركز في منطقة الخليج العربي، إزاء هذه المعطيات كلها، لم تتردد الحكومة الأمريكية في إعطاء القروض للحكومة السعودية في فترة الحرب ، وذلك بطلب من شركة ستاندرد الكاليفورنية (SOCAL) (25) ، إذ واجهت المملكة العربية السعودية حينها أزمة مالية بسبب الانخفاض الذي حدث في الإنتاج البترولي السعودي من ناحية، والنقص في عدد الحجاج من جراء الحرب من ناحية أخرى. وقد أنابت الحكومة الأمريكية بريطانيا في تسليم القروض للعاهل السعودي في عامي 1941، 1942 (26) ، هذه القروض قدرت بـ 5 إلى 10 ملايين دولار على التوالي وكانت جزءاً من المعونات الأساسية التي قدمت للبريطانيين من الحكومة الأمريكية ولعل في ذلك ما يدلل على أن الولايات المتحدة الأمريكية برغم مصالحها الاقتصادية في المنطقة فإنها كانت وما تزال تعترف بأولوية السيطرة السياسية والعسكرية البريطانية في منطقة الخليج العربي.


      وقد أدت هذه المساعدات المالية التي تأتي عن طريق لندن إلى إثارة القلق ومخاوف الشركات البترولية الأمريكية، وكان مرجع هذا الخوف يعزى إلى تزايد النفوذ البريطاني في المملكة، تزايداً من شأنه أن يدفع البريطانيين في المستقبل المنظور إلى المطالبة بحصص من البترول السعودي. وقد نجح هذا التخوف في إقناع إدارة روزفلت إلى تبني إستراتيجية تقوم على الارتباط المباشر بالعربية السعودية. وما لبثت مؤشرات هذه السياسة في التبدي عبر مفردات الخطاب السياسي الأمريكي حين أعلن الرئيس روزفلت في الثامن عشر من شهر شباط/فبراير 1943 : " أن الدفاع عن المملكة العربية السعودية مهم جداً للدفاع عن الولايات الأمريكية" (27) .


      وبالرغم من أن هذا الإعلان لم يكن يحمل مضموناً عسكرياً، فإنه كان يهدف إلى وضع العربية السعودية في خانة تتيح لها -بحسب القوانين الأمريكية- الحصول على المساعدات من الخزانة الأمريكية دون الحاجة إلى وساطة لندن.


      على هذا المنوال دشنت الإدارة الأمريكية سياسة لتقوية نفوذها في المملكة العربية السعودية أثناء الحرب العالمية الثانية متخذة إجراءات كثيرة نذكر ثلاثة منها :


      1- مساعدة المملكة العربية السعودية في نطاق قانون الإعارة والتأجير.


      2- إرسال البعثات العسكرية للقيام بتدريب القوات السعودية ، وباستثناء الفترة القصيرة الواقعة بين 1951 - 1954، والتي قامت فيها مصر بإرسال بعثة عسكرية للعربية السعودية، فإن النشاطات العسكرية كان مسيطراً عليها من قبل الأمريكان، الذين كانوا يمدون المملكة السعودية بكل ما تحتاجه من معدات عسكرية تقريباً.


      3- إنشاء قاعدة عسكرية (39) للقوات الجوية الأمريكية بالقرب من آبار النفط في الظهران. وقد نص الاتفاق على تأجير القاعدة العسكرية للأمريكان لفترة خمس سنوات، تصبح بعدها القاعدة بأكملها ملكاً للسعودية ، ولكن الأمريكان حصلوا على تجديدين الأول عام 1951 والثاني في عام 1957، في أثناء فترة حكم الملك سعود ، وهكذا لم تترك القوات الأمريكية القاعدة إلا في 12 آذار/مارس عام 1962 (28) .


      وفى هذه الفترة ارتكزت الإستراتيجية الأمريكية حتى عام 1970 على ما يسمى بمبدأ "العصا والجزرة" والذي يعني التوفيق بين التدخل العسكري (مبدأ ترومان - إيزنهاور - كنيدي) والمساعدات الاقتصادية (خطة مارشال) . وبالرغم من التغييرات التي أصابت الإدارة الأمريكية وكذلك الأساليب المستعملة خلال هذه الفترة، فإن سياسة التدخل بقيت على ما هي عليه.


      وإبان فترة إدارة إيزنهاور دالاس، كان دالاس محاصراً بفكرة الخطر الشيوعي، ولعل هذا ما دفعه إلى تبني ما يسميه الإستراتيجيون الانتقام المنتشر Massive Retaliation والذي كان يعني التهديد بهجوم نووي مضاد مباشر وعالمي وذلك لثني الاتحاد السوفيتي عن أي نوع من الهجوم على الولايات المتحدة الأمريكية أو أحد حلفائها الرئيسيين.


      في الثامن عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1970 أرسل الرئيس الأمريكي نيكسون رسالة إلى الكونجرس ، تحوي المبادئ الجديدة للسياسة الخارجية الأمريكية على النحو التالي:


      "تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في الدفاع وفي تطور حلفائها وأصدقائها، غير أنها لا تستطيع ولا تريد القيام بإعداد كل الخطط والبرامج، وتنفيذ كل القرارات وأخذ مسؤولية الدفاع عن كل الشعوب الحرة في العالم ، سوف نقوم بتقديم المساعدات إذا ما كانت فعلاً مهمة لإحداث تغيير، وكذلك إذا ما ضمنا بأن هذه المساعدات مهمة لمصالحنا".


      وفي النهاية طالب الرئيس الأمريكي حلفاءه بتحمل مسؤولية أكبر في مجال الدفاع. وأكد أن المطالبة بأن تلعب الأمم الثانية دوراً أكبر، لا يعني أبداً الهروب من تحمل المسؤوليات.


      وقد وجدت هذه السياسة في الخليج أرضاً مناسبة لتطبيقها، خاصة إن بها رجلاً كشاه إيران المتطلع للعب دور الشرطي، إضافة إلى وجود عدد من الدول الراغبة في رؤية الولايات المتحدة وهي تلعب دوراً أكبر في الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة.


      وقد استند مبدأ نيكسون كذلك على المملكة العربية السعودية، والتي تملك مخزوناً نفطياً كبيراً، يوازيه دخل نفطي ضخم إضافة إلى أن العربية السعودية -بحكم عوامل كثيرة- كانت مهيأة للاستفادة منها لمساعدة القوات المناهضة للحركات الشيوعية. وقد عبر جوزف سيسكو Joseph Sisco مساعد سكرتير الدولة، عن وجهة نظره أمام اللجنة الفرعية المنبثقة عن الكونجرس في عام 1973 قائلاً : "نحن نعتقد أن مصلحتنا المشتركة -الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية- تحتم علينا أن تكون اليد العليا للقوى المعتدلة في هذه المنطقة" (29).


      ومن هنا أدركت الولايات المتحدة أن عليها أن تلعب دورا بالغ الأهمية في تغيير مفاهيم الناس في المملكة العربية السعودية سواء عن طريق تقسيم سكان المملكة إلى حلفاء (نجديين) وأعداء مناهضين (حجازيين وأشراف) ، ولأن أهدافها تتجاوز النفط فقد عملت طول الوقت بتحصين نفسها حتى لا تندحر تحت وطأة الثورات الشعبية أو الفتاوى الدينية فتندحر كما اندحرت شركات التنباك في إيران ، فشركات التنباك الإنجليزية اندحرت في إيران بسبب فتاوى رجال الدين، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة الإمبريالية والرأسمالية وضعت نصب عينيها تغيير مفاهيم الناس قبل السيطرة على ثرواتهم.


      ووفقاً لنظرية (بريجنسكي) مهندس السياسة الأمريكية في المنطقة : " يكون الديسكو والجينز والهامبرجر بدلا من القوات المسلحة لأن الناس قد يقاومون العسكر لكنهم لا يقاومون الإمتاع والإسعاد اللذين تصنعهما الرأسمالية لهم ، ليس هذا فحسب بل تحارب الثورة بتبليد حس الناس تجاهها " ، أو كما يقرر مايكل ستون رئيس برنامج المعونة الأمريكية : " الكوكا كولا ثم القوات " ، حيث تكون الأولوية لترويج الاستهلاك الممتع فإن لم يكن هناك فائدة تضطر القوات للتدخل من أجل الاستعمار، أما إذا استجاب الشعب لسياسة الكوكا كولا فلا بد أنه سيكون عاجزاً عن رفض قوات أجنبية في بلاده وأنه لن يكون بمستوى السيادة والكرامة الوطنية التي من المفروض أن تكون متغلغلة في أعماقه .


      وهذه هي سياسة الرأسمالية التي اعتمدتها أمريكا في المملكة السعودية حيث وضعت العرض قبل الطلب في أسواقها لثقتها بأن العقل السعودي قد تحول إلى كتلة باردة معبأة بالمفاهيم الأمريكية، يستجيب لكل ما يعرض عليه وساعد على ذلك حاجة الحكومة السعودية إلى ترويضه من أجل أن تحفظ سيطرتها ونفوذها، وكان ذلك نذيراً بتغيرات كبيرة حديثة للمجتمع السعودي وثقافته واقتصاده وتفاعلت كل هذه المتغيرات ليصل ذلك المجتمع إلى ما هو عليه اليوم.


      وقد كانت الوسائل الثقافية أخطر الوسائل والآثار التي تعاملت بها أمريكا في المجتمع السعودي وأعملتها في نفسية شعبه ، ولذلك صار لزاماً أن نمر على الوسائل والآثار التي أوصلت الشعب السعودي إلى هذا الحال لنعرف حقيقة هذا الاستعمار ومن ثم وضع الأيدي على المسار الصحيح للتغيير .


      في المجال الثقافي :

      تعليق


      • #4
        في المجال الثقافي :


        وهو الطريق للسيطرة على السوق التجارية من خلال التحكم في أذواق الناس وتغييرها حسب رغبة أمريكا التي تحتكر السوق أو كما يقول "ايرنست ويشتر" أحد مهندسي سياسة شركة أكسون التسويقية "الإنثروبولوجيا الثقافية ستكون أداة هامة في التسويق التنافسي" بل يقنع الناس بأن التسويق الإنتاجي هو غير التبعية السياسية والاقتصادية لدولة ما، حيث أخذ على عاتقه إقناع الألمان بضرورة استخدام الورق الصحي في الجامعات بدلاً من ورق الجرائد الذي يصر الألمان على استعماله خوفاً من التبعية الاقتصادية ، ولذلك يحول "ديشتر" اهتمامهم إلى هذه الحالة بصورة غاية في التأثير الثقافي والسيطرة النفسية حيث يقول : "في هذه الحالة يجب على التوجه الإعلاني أن يتعامل أكثر بكثير من مسألة توفير الشعور بالحل من التبعية وبيع الفكرة القائلة بأن نوعية الورق الصحي الجيدة هي جزء من الحياة العصرية" .


        وهذا الاتجاه هو الذي تعاملت به الشركات الأمريكية في المنطقة من أجل السيطرة الاقتصادية والتغيير الاجتماعي حيث كان مهندسو هذه السياسة يضعون على طاولة الموظفين قارورة مليئة بالنفط (سياسة تقديس النفط) من أجل الإيحاء للموظف بعظمته وقدرته على استخراج كنوز الأرض، ولم تكن الغاية تعزيز قدرة الفرد بقدر ما هي محاولة لترسيخ مفهوم جديد يعطي للإنسان ارتباطاً قوياً بالشركة وتعظيم منتجها عن المحتوى الثقافي والديني والبيئي.


        وهذا الأسلوب تتبعه (أرامكو) مع موظفيها، حيث تعطي الحق لأبناء موظفي (أرامكو) بالعمل في الإجازة الصيفية مثلاً أو كما يصف "مايك طيب خان" أحد مستشاري شركة موبيل "إن الفائدة المرجوة من برامج كهذه بالنسبة للمشتركين في المجالين الفني وغير الفني ضمن نطاق (أرامكو) هي زيادة مفاهيمهم فيما يختص بأعمال الشركة، بمدى تأثير أعمالهم بعضها على بعض ومدى أهمية أعمالهم هذه بالنسبة للشركة. إن مثل هذه المعرفة ستؤثر ولا شك على مدى شعورهم بالنسبة لأعمالهم وطريقة إجادتهم في الأداء" (30) وكذلك في الحلقة الدراسية من أجل التعرف على التكنولوجيا في (أرامكو) .


        إذا فالمسألة هي ترسيخه مفهوم يتيح للشركة السيطرة على العقل ومن ثم الفعل ، وقد أوضح رئيس شركة (ناشينال بيسكويت كومباني) طريقة الشركة في التعامل مع الزبائن بقوله -عندما عرضت الشركة علبة بسكويت (ريتز كراكرز)- : "إننا نبيع أكثر من مجرد البسكويت إننا نبيع مفهوما".


        اجل ، هذه هي الطريقة المثلى من أجل السيطرة ، حتى إن (كبرك) الوزير الأمريكي المفوض في السعودية كان يتشدق بقوله : "إن التقدير الذي تحظى به أمريكا والأمريكيون في السعودية يرجع إلى المستوى الحديث لتركيبات الشركة وأعمالها والى الوسائل المستنيرة في التعامل مع الموظفين والأهالي هناك " (31) ، وهذه الوسائل المستنيرة التي يتحدث عنها بدأت مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، حيث كان الناس لا يجيدون حتى العربية فجاءت الشركات الأمريكية لتقلب هذه الحالة إلى أمية إنجليزية حيث احتلت عقول الجيل الأول باللغة الإنجليزية دون العربية ولا يزال هؤلاء يجيدون التحدث بالإنجليزية ويجهلون أبسط المفاهيم في اللغة العربية حيث إن اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية لدى الشركات.


        أما عن برامج التدريب والبعثات للخارج فهي مزيج من الاستعمار والإسلام (الأميركي) الذي تحاول أمريكا أن ترسخه في أذهان الجيل الحالي ، حيث يخضع كل من يقع عليه الاختيار للدراسة في أمريكا لبرنامجين : الأول أمريكي الأصل والصورة ، حيث يشتمل على أصول الاتيكيت والممارسات في المجتمع الأمريكي وطريقة الحديث واللباس، بل ويوجه الطالب إلى الطريقة المثلى للحصول على فتاة وكيفية التعامل معها، أما البرنامج الثاني فهو محاضرات صورية عن الإسلام يقدمها محاضرون ضيقوا الأفق تحث الطالب على الابتعاد عن القضايا الدولية وكل ما من شأنه أن يفتح أفق الطالب ويجعله في صراع مع عصره.


        وقد لعبت الجامعة الأمريكية ببيروت الدور الأساسي والأولي لهذه الخطة ثم أكملت الدور الحالي الجامعات الأمريكية وبعض الجامعات السعودية ، حيث بلغ عدد السعوديين المنتظمين في برنامج الابتعاث لإحدى الشركات الأمريكية (أرامكو) حتى نهاية سنة 1404هـ ما يقارب الألف ومائتين طالب (32) .


        وبطبيعة الحال يسمح للطالب باصطحاب زوجته إذا كان متزوجا يزود هو وعائلته بتذاكر سفر مجانية، وبالإمكان تخيل عدد غير قليل من مجتمع يعيش في أمريكا ثم يعود رجالا ونساء، إنها محاولة لفرض خط ليبرالي أمريكي على العقل والشعور، ويكفي أن يكون هناك 770 موظفا سعوديا عادوا من أمريكا يتدربون في برنامج تطوير الكفاءات المهنية، بل أن أكثر هؤلاء وغيرهم مؤهلين للعمل في الاكسبك (مركز التنقيب وهندسة البترول) أرقى ما وصلت إليه السياسة الاستعمارية الأمريكية.


        ولكون طلبة (أرامكو) في الولايات المتحدة أكثر قدما وعددا فقد سعت الحكومة السعودية للاستفادة من خدمات الملحق التعليمي الخاص بأرامكو في هيوستن، وقد توحد الملحقان جزئيا سنة 1983 بعد أن كانت (أرامكو) تتقدم على كل الملاحق التعليمية والثقافية هناك.


        وفي مجال التعليم العام كانت (أرامكو) عاملا اقتصاديا وثقافيا مساعدا في إنشاء الكثير من المدارس وبالطبع من أجل المخطط الأكبر الذي رسمته الولايات المتحدة الأمريكية للمنطقة ، وها هي اليوم تحصل نتائج بذرتها الأولى ، ففي سنة 1953 بنت (أرامكو) أول مدرسة ابتدائية ثم في سنة 1959 بدأت ببناء المدارس المتوسطة، وكانت سباقة في بناء مدارس البنات سنة 1960 وما إن حل عام 1979 حتى كانت هناك 58 مدرسة تابعة لأرامكو وتحتوي على 25 ألف طالب وطالبة (33) .


        وكل هذه المدارس تخضع لسياسة (أرامكو الأمريكية) أكثر منها لسياسة وزارة المعارف حيث لا تتدخل وزارة المعارف في هذه المدارس إلاّ بالمناهج والشؤون الإدارية أما نفقات الصيانة والإنماء فهي من حق (أرامكو) وحدها وهي التي تقرر كل شيء من ناحيتها فقد كانت هذه المدارس منذ البداية خاصة بأبناء موظفي (أرامكو) وذلك من أجل تكريس الطبقية، ولما رأت (أرامكو) أن الجميع على استعداد لمطاوعة سياستها سمحت بدخول الطلبة الذين لا يعمل آباؤهم في الشركة (من اجل توسيع نطاق أمركتها في المملكة) ، وقد كانت هذه المدارس تزود الطلاب بكل الأدوات المدرسية اللازمة في الوقت الذي لم تكن فيه مدارس الحكومة تحتوي على دورات مياه نظيفة أو حتى مياه للشرب، بل كانت كلها تقريبا منازل فقيرة مستأجرة.


        وقد جنت (أرامكو) من هذه السياسة الكثير فهي تستأثر بالحصاد الجامعي دائما وبالنخبة منه، فقد عقدت اتفاقيات مع الجامعات على استلام دفعة من الخريجين كل عام مقابل دفع تعويضات بسيطة، ليس هذا فحسب بل إنها تشجع من لم يكن لهم نصيب في التعيين لدى (أرامكو) على أن يسجل في الشركة وهي تقوم بإجراء اللازم من إخلاء الطرف ودفع التعويضات، هذا غير الذين يأتون إلى (أرامكو) طوعيا باختيارهم بعد إكمال دراستهم بالنظر لما تقدمه لهم هذه الشركة من عوائد سخية مقارنة ببقية الشركات والمؤسسات.


        إن (أرامكو) وبكل ما تحمله وتحتويه من كوادر تحاول أن تضفي على مهمتها صيغة من الصيغ الحضارية الأمريكية، تماما كمحاولات فرنسا الاستعمارية والتي كانت تحمل شعار (رسالة التمدين) في سبيل فرنسة الجزائر، وفي مدارس (أرامكو) ومراكزها التدريبية في الظهران وأبقيق ورحيمة هناك مدرسات يقمن بتدريس الموظفين وأغلب هؤلاء المدرسات لا تربطهن بالقوانين والأعراف الاجتماعية أي رابطة فهن في حل من كل القوانين، وبالإمكان تخيل مجتع طلابي بهذا الحجم تقوم بتدريسه مدرسات وهو الذي لم يتعود في حياته على رؤية أطراف امرأة، فكيف به أمام كتلة من الإغراء المُسيس. ليس هذا وحسب بل دخلت المرأة السعودية والتي لم يكن يسمح لها بالحديث مع أي غريب عن بيتها (حسب التدين الوهابي الرسمي) دخلت إلى مجال العمل في (أرامكو) وغيرها من الشركات والمؤسسات الأمريكية بفضل السياسة التي اتبعتها السياسة الأمريكية مع الجيل السابق حيث تبين مؤخرا بأن كل الفتيات اللاتي يعملن في (أرامكو) هن أبناء لموظفين أصحاب مراكز في (أرامكو) بعقليات ومشاعر أمريكية.


        وهذه السياسة مستمرة إلى اليوم حيث خصصت أغلب الشركات الأمريكية برامج خاصة للجامعيين من اجل إبراز قوتهم وسيطرتهم على ساحة الممارسة البيروقراطية في المجتمع وبالتالي تهيئة طبقة تنوب عن الجماهير في كل الأوقات وتحقق المصلحة الأمريكية والحكومية العليا، فقد استحدثت برنامج تطوير الكفاءات المهنية والذي يعطي للجامعي فرصة كبرى للاطلاع على مجموع كبير من الممارسات البيروقراطية مع لا مركزية في العمل يشعر من خلالها بأنه هو سيد الشركة التي يعمل بها دون أن يدري بأنه يقدم صك العبودية لها.


        ولعل كل ذلك يبدو في نظر البعض تطورا وتمدنا لكنه في حقيقته ليس أكثر من طرق ذكية تؤدي بطريقة أو بأخرى إلى استبعاد جماهير المنطقة أو كما يقول (مهدي بازرجان) رئيس أول حكومة إسلامية في إيران في كتابه (مدافعات) : "إن كل تغيير يقصد به ظواهر الناس ليس تغييرا، إن الإصلاح الحقيقي هو الذي يقوي من شخصية الأمة ويزيد من قدراتها وإلا فان ركوب العربات والسير في طرق معبدة قد يُيسر أيضاً للخدم في بعض الدول، لكن هذا لم يغير من كونهم خدما .. إن إصلاحات المستبد عندما تكون عظيمة تكون مثل عاصفة على سطح البحر تثير الأمواج لكن الأعماق هادئة وإن كان المستبد مصلحا فأي إصلاح أكثر من احترام الناس وإشراكهم فيما يهمهم من الأمور" .


        وخلاصة القول أن الولايات المتحدة الأمريكية عملت الكثير ثقافيا من أجل أن تحظى بالسيطرة على نفط المنطقة وثرواتها بل لتضمن إستمراريتها ويمكن تلخيص ذلك في الآتي :


        1- حاولت الإيحاء للموظفين في الشركات الأمريكية بأن الشركة لهم أولا وأخيرا بوسائل تقنية عالية.


        2- جعلت من اللغة الإنجليزية لغة رسمية في الوقت الذي لا يعرف فيه الموظفون اللغة العربية.


        3- رسخت مفاهيم تعطي لها صفة التمدين والحضارة.


        4- دربت الموظفين وثقفتهم في المجالات المهنية من أجل ضمان مصلحتها.


        5- جعلت الاهتمام بالجامعيين إحدى أهم وسائلها من أجل خلق طبقة وسيطة.


        6- استفادت من برامج الابتعاث من أجل ترويج الثقافة الأمريكية.


        7- بنت المدارس مساعدة للحكومة من أجل الحصول على حصادها مستقبلا.


        8- أدخلت المرأة في مجال العمل من أجل تغييرات اجتماعية خطيرة.


        9- جلبت الوسائل الترفيهية من إذاعة وتلفزيون وسينما من أجل تغيير ثقافات وصنع أخرى في مجتمع لم يكن يمتلك أدنى المقومات الثقافية والمعرفية.


        في المجال الاجتماعي :

        تعليق


        • #5
          في المجال الاجتماعي :


          ويمكن اختصار هذا المجال فيما يعرف بصناعة التخلف وإلباسه رداءاً حضاريا جذاب المظهر حيث أن المجتمع عبارة عن مجموعة أفراد تؤثر فيهم العوامل الاقتصادية والثقافية والسياسية، ولذلك كانت ممارسات الشركات الأمريكية في المجالين الأولين اكبر ضمان لخلق مجتمع ممزق متهرئ ، وإذا كانت الشركات الكبرى -كما يقول (جون باورز)- هي أدوات التغير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فان هذه الحقيقة تنطبق على (أرامكو) أدق الانطباق، بل تفوق غيرها في إنجاز ذلك التغيير.


          وبالنظر لما كانت تتمتع به (أرامكو) في تلك الفترة من تطور تكنولوجي وتقدم في المجالات العلمية فقد وجدت الفرصة سانحة للدخول في المجتمع حتى أعماقه وبالتالي تغيير تصوراته عن الحياة. ففي 1941 حتى 1947 قامت (أرامكو) بحملة كبرى من أجل القضاء على الملاريا والتي كانت تشكل خطورة على حياة الناس في المنطقة الشرقية، وحتى نهاية الخمسينيات لم تكن الدولة تستطيع أن تقوم بمثل ذلك الشيء ولذلك استعانت بأرامكو مرة أخرى من سنة 1948 وحتى سنة 1955 من أجل القضاء على ذلك الوباء مما مكن لأرامكو الدخول إلى عمق المجتمع واجتذاب أكبر قدر ممكن من الناس للعمل معها وبأجور زهيدة حيث كان معدل دخل الفرد السعودي في السنة 50 دولاراً خلال تلك الفترة.


          وكانت (أرامكو) قد أنشأت مركزاً للعلاج سنة 1942 وهي فترة مبكرة جدا بالنسبة المنطقة، حيث الجهل المطبق والفقر المدقع اللذين كانت تتسم بهما المنطقة ، وهذا ما جعل أجساد الناس حقلا للتجارب العلمية والاستهتار بأرواحهم، وكان أبرز تلك التجارب أبحاث الترخوما التي أجرتها (أرامكو) بالتعاون مع مدرسة (هارفارد) للصحة العامة، وقد تطورت خدمات (أرامكو) الصحية لتصل إلى 13 عيادة بنهاية سنة 1983 إضافة إلى عدد من عيادات الأسنان.


          أما الصيدليات فهي مستودع للتجارب التي تجرى على شعوب العالم الثالث ، فالأدوية التي توزع مجانا بالطبع على الموظفين غالبا تكون تستعمل لأول مرة خارج أمريكا أو محاولة لتجريبها على نطاق واسع ومستمر هكذا، ولأن البلاد لا تمتلك قانونا أو محاكم متطورة فقد تمادت (أرامكو) في هذا الطريق، حتى إن التعويضات لا تصرف لمن يتضرر من جراء عملية جراحية في إحدى مستشفيات (أرامكو).


          أما المستشفيات فحدث ولا حرج حيث يوجد هناك مجموعات كبيرة من الممرضات اللاتي يمارسن الدعارة بشكل مفضوح، ونادرا ما يكون هناك ممرضة محترمة في مستشفيات شركة تعتمد على سياسة استعمارية، وغالبا ما يتحدث الموظفون عن فضائح من هذا النوع حتى وان كانت غير موثقة إذ هي حديث الناس لا أكثر إلاّ أن لها أصلا ومعنى، فما من دخان بغير نار.


          إضافة إلى ذلك يمارس نوع من الاغتصاب النفسي للنساء اللاتي يعالجن في المستشفى حيث لا توجد طبيبات للأمراض النسائية أو حتى الولادة، والمغزى واضح، الأمر الذي يجعل المرأة تعتاد على المثول بين يدي طبيب رجل دون أن ترى في ذلك أي انتهاك لعرضها أو لشرفها. والموظفون بطبيعة الحال يتذكرون دكتور "بابا " كما كانوا يلقبونه والذي كان رائداً للشذوذ الجنسي في مستشفى (أرامكو)، وقد مارس هذا التهتك سنوات بل شجع عليه حتى صار سياسة لدى كبار الرؤساء الذين كانوا يختارون من بين الموظفين من كل له محيا جميل من أجل ترقيته بعد ممارسة الشذوذ معه.


          أما عن الإفساد المنظم والذي تمارسه (الشركات الأمريكية) فهو كثير حيث يتمتع الأمريكيون بقدرة على اجتذاب الموظفين من أجل مشاركتهم الشراب والليالي الماجنة، ويتذرعون بما يسمونه (كبار الموظفين) حيث يجوزون لهؤلاء الاختلاط بالأمريكيين والمداومة على لياليهم الحمراء وهؤلاء الموظفون الكبار عبارة عن طبقة خلقتها هذه الشركات من أجل أن تسهل لها استلاب الثروة وتشويه المجتمع ، وقد بشر الكاتب ميكائيل شايني في كتابه (رجل كبير من السعودية) (34) برجل سعودي يدير شركة (أرامكو) ، وأوصى بضرورة خلقه ، وتحقق هذيانه الاستعماري في شخص (علي النعيمي) رئيس (أرامكو) الحالي والذي توج رئيسا لها في السعودية فقط. وهو واحد من عشرات بل مئات الرجال جرى ويجري إعدادهم ليكونوا سندا قويا لأطماع الشركة ، ولا يرتبط هؤلاء بالأخلاق الإسلامية والإنسانية إلاّ بالاسم فقط ، فهم طبقة متأمركة أكثر منهم مسلمين أو حتى عربا وقد سجلت عيون الناس اليقظة أن هؤلاء الناس هم السباقون إلى توظيف بناتهم في (أرامكو).


          وكلما زاد عدد البنات الموظفات سهل تمرير المخطط الاستعماري ، ففي سنة 1940 لم يكن هناك إلاّ امرأتان في السعودية هما (ماري مارجريت) و(آنا ماري سنايدر)، أما اليوم ففي كل مكتب سكرتيرة وفي كل مرفق إدارية وبعضهن يقمن بوظائف إدارية رئيسية وهؤلاء هن اللاتي يهيئن جوا من المرح والاستئناس للسعوديين حيث يحيين ليالي عيد الميلاد ورأس السنة بصورة أكثر صخبا من تلك التي تجري في أمريكا نفسها.


          وتعاطي الشراب والجنس يكون أسهل الأمور وأتفهها في مثل هذه التكوينات التي قد تؤدي بالبعض إلى الجنون لفرط تعاطيها، ولعل في قصة (توم) صديق المفكر الفلسطيني (هشام شرابي) والتي ذكرها في كتاب (الجمر والرماد) خير دليل.


          وقد تهيأ للأمريكيين العاملين في الظهران استقدام المطرب العنصري الشهير (روجرز) سنة 1977 لإحياء ليلة رأس السنة، وهذا مثال بسيط على الاهتمام الذي توليه الشركة لطرح أمور التغيير الاجتماعي إذ أن المشاركة لا تقتصر على الأمريكيين دون السعوديين.


          ولكون الشركات الأمريكية تصرف الكثير من أجل سلخ المواطنين عن ثقافتهم الذاتية، ابتداء بجعل اللغة الإنجليزية لغة التخاطب والتعامل في داخل الشركة، ووصولا إلى أمركة الشخصية والتفكير، فإنهم أي المواطنين في ذلك الجزء يتحدثون الإنجليزية وبطبيعة الحال من منظور أمريكي وبلسان أمريكي دون أن يعوا خطورة هذا الإجراء، ويندر أن يكون هناك من لا يعرف التحدث بالإنجليزية أو حتى النطق بكلمات بسيطة منها.


          أما في مجال العمالة الوطنية فقد درست هذه الشركات طبيعة المنطقة والاختلافات المذهبية فيها، فبعد أن صنعت مدينتي الدمام والخبر شجعت أبناء الجنوب والحجاز ونجد على القدوم إلى المنطقة الشرقية من أجل الرهان بهم على الشيعة الذين طالما أنهكوا الشركات بإضراباتهم ومشاكلهم السياسية التي لا تنتهي وبالفعل استطاعوا أن يغلبوا فئة على أخرى وتستعمل ورقة ضد أخرى من أجل ضمان مصلحتها، فضمنت بذلك ورقة شديدة الحساسية والخطورة.


          وهذه هي إحدى سياسات الشركات الكبرى التي تسعى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي من خلال نزوعها إلى أن تعشعش أينما استطاعت وان تستقر أينما أتيح لها وان تقيم اتصالات أينما قدرت فهي تخلق التراتبية بدلا من المساواة وتنشر منافعها بشكل غير متكافئ كما يقول (ستيفن هايمر).


          وقد تبنت سياسة الإدهاش التي مارستها ضد المواطنين العزل من علم أو معرفة مما حدا بهم إلى الإعجاب بالنمط الغربي في الحياة وتطوره التكنولوجي ففي بداية وصولها كانت آلة التفريغ تستعرض بها أمام الجماهير مما صنع لديهم عقدة العجز والانبهار بكل ما يأتي به الوافد من أمريكا وهذا هو حال الحضارة الغربية الاستعراضية عموما.


          وكل هذه الأمور أحدثت سلسلة تناقضات وتشوهات رديفة لسابقتها فالطفل مثلا ترعرع في جو الأمجاد الأمريكية واستعباد هذه الشركات للموظفين وبالتالي صار مقلدا لوالده الذي أشعره منذ البداية بأهمية أن يوفر لنفسه الملجأ دون الكرامة ، وهذه سمة في المجتمعات المتخلفة، كما أن الفرد في هذا المجتمع لم يعد قادرا إلاّ على النظر إلى الحياة ببعد واحد هو البعد المادي النفعي الذي تغلغل في أعماقه وترسخ في ذهنه.


          أما على صعيد البُعد الاقتصاد الاجتماعي :

          تعليق


          • #6
            أما على صعيد البُعد الاقتصاد الاجتماعي :


            فقد دخل مرحلة شبيهة بالنمط الأمريكي اللاتيني الذي يتميز بالفروقات الطبقية الفاحشة، والتضخم، والتبعية ، وبرزت مظاهر العنف المضاد داخل المجتمع الذي نعيشه وتعرض مفهوم العمل إلى التشويه حيث تفاقمت المهن ذات الكسب الريعي وتفشت ظاهرة الهامشية المهنية، وبالتالي انتعشت الرشاوي والمحسوبيات والهدايا ذات المغزى التي تروج للارتزاق عوضا عن الإنتاج ، وكل ذلك بفعل سياسة استعمارية أمريكية شجعت جنوح الكبار وزادت المستضعفين ضعفا.


            يقول الدكتور محمد الرميحي : "لقد ساهم البترول في الخليج في خلق مجموعة من المتناقضات السياسية والاجتماعية ، فهو مثلا حينما ساعد على بروز طبقات جديدة في منطقة الخليج (العمالية والتنكوقراطية) ساعد كذلك وبنفس المقدار على أن تحافظ الطبقات القديمة وبخاصة المتنفذة على نفوذها فانتقلت هذه الطبقة من ملكية الأرض بشكلها العام إلى ملكية ما تحت الأرض، فعادت الأموال إلى تلك الطبقة مما ثبتها أكثر فأكثر في قمة السلطة كما أن المتناقضات الاقتصادية واضحة في تملك بعض المجتمعات الخليجية الأساطيل لنقل البترول يديرها ويشغلها ويبحر بها أجانب من حيث لا تملك الكوادر الفينة اللازمة ذات الكفاءة للقيام على إدارة هذه الأساطيل .. أما المتناقضات الاجتماعية فهي كثيرة تبرز أكثر حين نرى الأضرار الناجمة عن استخدام منجزات العصر الحديث التكنولوجية في قالب اجتماعي محافظ" (35) .


            أما الجيل الذي تعرض لهذه التقلبات فلم يكن بمستوى التصدي لها رغم بعض المحاولات وهذا هو الحال في المجتمعات المتخلفة حيث يتحول الفرد إلى قوة فاعلة وصانعة للتخلف دون المقدرة أو حتى المحاولة لتغييرها ، أو كما يقول مصطفى حجازي : "التخلف في الدول المتخلفة يعاش على المستوى الإنساني نمط وجود له دينامياته النفسية والعقلية والعلائقية النوعية المميزة، والإنسان المتخلف منذ أن يترعرع تبعا لبنية اجتماعية معينة يصبح قوة فاعلة ومؤثرة في هذه البنية، فهو يعزز تماسك هذه البنية ويدعم استقرارها" (36) .


            وخلاصة القول إن السياسة الأمريكية المعتمدة على الشركات الكبرى قامت بمجموعة عمليات وبوسائل مختلفة من أجل تغيير الصورة الاجتماعية التي تعيشها المملكة العربية السعودية وخلق مجتمع جديد مبني على الطراز الأمريكي والمفاهيم الأمريكية وكانت وفق الخطوات التالية:


            1- استخدمت الرعاية الطبية من أجل استمالة خواطر الناس واستغلال ظروفهم في الوقت الذي تستخدمهم فيه كحقل تجارب بشري لصالح شركات الأدوية الكبرى في عمل لا أخلاقي في غياب سلطة الدولة التي باعت كل شيء من المواطن حتى المشاعر الحرام.


            2- روجت للفساد الأخلاقي من خلال بث أكبر قدر ممكن من النساء المسيسات في أوساط الرجال في العمل ، ومن خلال الترويج لكافة الأنماط الاجتماعية غير الأخلاقية.


            3- أدخلت الفتيات السعوديات في العمل جنبا إلى جنب مع الرجل مما اضعف التماسك الاجتماعي لمجتمع يواجه الغزو الفكري ويحتاج اشد الحاجة إلى بنية داخلية قوية متراصة.


            4- خلقت طبقة باسم كبار الموظفين هيأت من خلالها وضعا فريدا، للمساندة الخاصة بها.


            5- سعت إلى سياسة كرنفالية الاحتفالات ومشاركة الموظفين السعوديين الأمريكيين في كل الممارسات الشاذة والمنحرفة.


            6- أوهمت الموظفين بقدراتهم الخارقة ولذلك هيأت خلفاء لها يشكلون طبقة ليبرالية أمريكية. كما أوهمت الناس بعظمة اللغة الإنجليزية وضرورة الانجذاب لها دون العربية لمحو الشخصية اللغوية والثقافية.


            7- أججت الصراعات الطائفية بين السنة والشيعة وكذلك التمايز المناطقي التي تكفل لها الاستفادة من كل الأحوال.


            8- كرست عقدة العجز أمام التكنولوجيا الغربية وإيهام المجتمع السعودي بعظمة العقل الغربي وتفوقه.


            9- رسمت مسارا للتخلف يتناوب تكريسه جيل عن جيل.


            10- حطمت كل القيم العملية والمفاهيم الجادة في الحياة من خلال الترويج للاستغلال والوساطات والمحسوبية كسرطان اجتماعي ينمو بسهولة ويصعب علاجه أو استئصاله.


            11- أغلقت كل الطرق أمام الناس للاتصال بالعالم الخارجي إن لم يكن يتناسب مع حقيقة وواقع المجتمع الأمريكي.


            وكل هذه الآثار الاقتصادية والثقافية والاجتماعية هي في حد ذاتها وسائل الاستعمار الحديث للسيطرة على أي مجتمع وعلى أي أمة من الأمم، حيث لا يوجد أي مجال للدبابات طالما كان للثقافة دورها المستخدم بعناية وحرص شديدين، وقد تكون هذه الآثار بكليتها ذات تأثير على المنطقة الشرقية إلاّ أنها ذات أثر غير قليل على بقية أجزاء العربية السعودية بل والعالم في لحظة من اللحظات ، حيث يقول (ولبركرين ايفلاند) السابق الذكر : "لقد كان هناك برنامج إنمائي كبير هندسته الولايات المتحدة (40 بليون دولار) وأدارته لاستغلال واردات النفط لتغيير المملكة العربية الصحراوية من حالتها القديمة لتصبح مجتمعا حديثا صاخبا، وكان مهندسو الحكومة السعودية الشباب الحاصلون على شهاداتهم العالية من الخارج قد أغواهم رؤساء شركات النفط بعروض لبناء وتمويل محطات التكرير ومعامل البتروكيماويات وكل هذا كان يبشر بتغيرات دراماتيكية في الاقتصاد العالمي وأنظمة التسويق ولدعم الدولار الضعيف" ( 37 ) ، وفي هذه العبارات ما يكفي لتبيان حقيقة دور هذه الشركات الأمريكية العملاقة والتي وإن كانت واجهتها المعلنة هي الاستثمار والربح والتجارة فإنها كلها تعمل في خدمة السياسات المستقبلية الأمريكية، وإذا كانت جدران أي مجتمع هي دلالته فإن في العربية السعودية اليوم ما يدهش الإنسان حقيقة لفرط ما يرى من المظاهر الأمريكية في الحياة عامة، في الملبس والمأكل والتسوق وغير ذلك من سلوكيات الحياة.


            لقد حققت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر مما كانت تحلم به فمسخت هويات المجتمع وزورت وجوده الثقافي وأغرت آل سعود بالعبث بالأماكن المقدسة (وأزالت بعضها) والعبث بالتاريخ العريق للإسلام من خلال بيئته الأولى المتأصلة منذ القدم حتى أصبح مجتمع اليوم لا يمت إلى الماضي الأصيل إلاّ بأضعف الصلات.


            ولقد استنزفت كل مقدرات المنطقة النفطية دون أن تستخدمها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة مما خلق وضعا متخلفا كرسته يوما بعد يوم ، وذلك من خلال قدرتها على التعامل مع المواطنين السعوديين في غياب تام للدولة (أسرة آل سعود) مع مراعاة مصالحهم الشخصية ، فاحتكرت الأسواق وصنعت قوانين الامتياز ولم تستغل أي فرصة من أجل تحسين أوضاع المنطقة في أي مجال من المجالات، بل كرست واقع التبعية في الدولة والهزيمة في الفرد والاستسلام في المجتمع، ولم يعد بالإمكان إيقاف هذا المد الاستعماري الشره إلاّ بمحاولة جريئة شاملة تتخذ الثورة وسيلتها والإنسان هدفها ولتعود بلد الحرمين الشريفين قبلة لكل المسلمين وظلا للمؤمنين وليست مستعمرة أو ولاية أمريكية .


            الهوامش


            (*) باحث مصري في شئون الحجاز والأماكن المقدسة .


            1- جارلس كرين أحد الشخصيات الأمريكية وهو أحد عضوي لجنة "كنج – كرين" التي أرسلها الرئيس الأمريكي ولسون بعد انفضاض مؤتمر فرساي في باريس 1919 للنظر في قضية مستقبل سوريا، انظر انطونيوس ، يقظة العرب ، ترجمة ناصر الدين الأسد ، دار العلم للملايين بيروت 1962.


            2- أمين الريحاني، مرجع سابق، ص 360.


            3- حافظ وهبة ، مرجع سابق، ص 217.


            4- خليل على مراد ، تطور السياسة الأمريكية في منطقة الخليج العربي 1941-1947، ص30 وما بعده ، جامعة بغداد كلية الآداب (مؤتمر الكويت).


            5- خليل على مراد ، مرجع سابق ، ص48.


            6- محمد غانم الرميحي ، البترول والتغيير الاجتماعي في الخليج العربي ، ص20، دار البيان للنشر القاهرة 1975.


            7- ك.س. تو تيشل ، المملكة العربية السعودية وتطور مصادرها الطبيعية ترجمة شكيب الآمدي، ص 172 وص174، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر القاهرة 1955.


            8- توتيشل ، المرجع نفسه ، ص211.


            9- بنوا ميشان ، عبد العزيز آل سعود ، ترجمة عبد الفتاح ياسين ، ص326، دار الكتاب العربي ، بيروت 1965.


            10- صلاح العقاد ، المشرق العربي ، ص569، المطبعة الفنية الحديثة ، القاهرة 1970.


            11- صلاح العقاد ، مرجع سابق ، ص437.


            12- سنت جون ، فلبى ، تاريخ نجد، ص 386-387 ، ترجمة عمر الديراوي، منشورات المكتبة الأهلية، دار الشمالي للطباعة بيروت .


            13- توتيشل ، مصدر سابق ، ص 172-173.


            14- توتيشل ، مصدر سابق ، ص 175-176.


            15- فلبى ، مصدر سابق ، ص 186.


            16- صلاح العقاد ، مصدر سابق ، ص20.


            17- محمد جواد العبوسي ، احتكار النفط الدولي ، ص 28-29، القاهرة 1955.


            18- العبوسي ، مصدر سابق ، ص 31-35.


            19- هارفي اوكونور ، الأزمة العالمية في البترول ، ترجمة عمر مكاوي ، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ،ص96، القاهرة 1967.


            20- العبوسي ، مصدر سابق ، ص23.


            21- جريدة أم القرى ، تموز 23/7/1939.


            22- العبوسي ، مصدر سابق ، ص29.


            23- مجلة صوت الطليعة السنة الثانية العدد السابع أيلول /سبتمبر1974، مقال بعنوان : العلاقات الأمريكية السعودية.


            24- مجلة الطليعة ، مصدر سابق .


            25- خيرية قاسمية ، أمريكا والعرب تطور السياسة الأمريكية في الوطن العربي فترة ما بين الحربين نقلا عن مجلة المستقبل العربي العدد التاسع والعشرون يوليو 1981 بيروت ص50.


            26- رؤوف عباس ، أمريكا والعرب تطور السياسة الأمريكية في الوطن العربي ، نقلا عن مجلة المستقبل العربي مصدر سابق ، ص 63-64.


            27- مجلة المستقبل العربي ، مرجع سابق ، ص65.


            28- صلاح العقاد ، التيارات السياسية في الوطن العربي ، ص376، مكتبة الانجلو المصرية القاهرة 1974.


            29- صلاح العقاد ، مرجع سابق، ص366.


            30- أعطت هذه القاعدة للولايات المتحدة موقعا مستقلا بالنسبة للقاعدتين البريطانية في القاهرة وعبادان وأصبحت فيما بعد اكبر قاعدة أمريكية في المنطقة للقوات الأمريكية والتي توجد بين ألمانيا واليابان وهي الأقرب للمنشآت الصناعية السوفيتية (المؤلف) .


            31- انظر خطة الغزو الأمريكي لمنابع النفط العربي (تقرير الكونجرس الأمريكي) ترجمة سليمان الفيومي ، دار القدس القاهرة 1976.


            32- غسان سلامة ، السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية منذ 1945 ، ص242 ، معهد الاتحاد العربي بيروت 1980.


            33- مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية ، العدد 39، بغداد 1962.


            34- جريدة الرياض، العدد 6047، الجمعة 18 جمادى الأول 1405.


            35- الفريد هاليداي ، المجتمع والسياسة في الخليج العربي ، ص47، ترجمة محمد الرميحي ، دار الكاتب للطباعة والنشر بغداد 1978.


            36- الفريد ، مرجع سابق ، ص86.


            37- غسان سلامة ، مرجع سابق ،ص345.


            38- محمد الرميحي ، البترول والتغيير الاجتماعي في الخليج العربي ، ص22-23.


            39- مصطفى حجازي ، التخلف الاجتماعي – مدخل إلي سيكولوجية الإنسان المقهور، ص26.


            40- ولبر كرين افلاند ، حبال من رمل ، قصة أمريكا في الشرق الأوسط.

            تعليق

            المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
            حفظ-تلقائي
            x

            رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

            صورة التسجيل تحديث الصورة

            اقرأ في منتديات يا حسين

            تقليص

            المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
            أنشئ بواسطة مروان1400, 03-04-2018, 09:07 PM
            ردود 13
            2,141 مشاهدات
            0 معجبون
            آخر مشاركة مروان1400
            بواسطة مروان1400
             
            أنشئ بواسطة وهج الإيمان, 31-08-2019, 08:51 AM
            ردود 2
            343 مشاهدات
            0 معجبون
            آخر مشاركة وهج الإيمان
            بواسطة وهج الإيمان
             
            يعمل...
            X