منهج الدعوة يقوم على الرفق
إن منهج الدعوة الإسلامية: يقوم على الرفق واللين، والرقة والرحمة، ولا يقوم على العنف والشدة، والغلظة والنقمة.
ولقد رسم القرآن منهج الدعوة، بقوله تعالى:
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (سورة النحل، الآية: 125)
والدعوة بالحكمة تعني: الخطاب الذي يقنع العقول بالحجة والبرهان.
والموعظة الحسنة تعني: الخطاب الذي يستميل العواطف، ويؤثر في القلوب رغباً ورهباً.
والجدال بالتي هي أحسن، يعني: الحوار مع المخالفين بأحسن الطرق، وأرق الأساليب التي تقربهم ولا تبعدهم.
وقد رأينا القرآن الكريم وهو يعرض لنا قصص الرسل عليهم السلام وكيف خاطبوا أقوامهم بالحسنى، كما في سورة الشعراء:
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ "105" إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ "106" إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ "107" فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ "108" وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } (سورة الشعراء، الآيات: 105 ـ 109)
وفي سورة نوح يقول لهم:
{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ "2" أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ "3" يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } (سورة نوح 2 ـ 4)
فانظر كيف بدأ خطابهم بقوله: (يا قوم) يذكرهم: أنه واحد منهم، وليس غريباً عنهم. وانظر خطاب إبراهيم لقومه وكيف تدرج معهم حين رأى في الليل كوكبا، قال هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب الأفلين، ثم القمر، ثم الشمس، حتى قال:
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ "76" فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ "77" فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ "78" إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (سورة الأنعام 76 ـ 79)
وانظر خطابه لأبيه وترفقه به:
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا "42" يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا "43" يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا "44" يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا } (سورة مريم 42 ـ 45)
إلى أن رد أبوه بقوله:
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا "46" قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } (سورة مريم 46، 47)
وانظر إلى موسى وأخيه هارون حين بعثهما الله إلى فرعون، وأوصاهما بتليين القول له:
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى "43" فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (سورة طه 43، 44)
ولذا وجدنا موسى عليه السلام حين ذهب إلى فرعون، قال له:
{فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى "18" وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (سورة النازعات 18، 19)
بهذه الصيغة المأنوسة الرقيقة.
ودخل رجل على المأمون يعظه، فقال له: اتق الله أيها الظالم الفاجر، فقال له المأمون وكان على علم وفقه: يا هذا!! إن الله بعث من هو خير منك، إلى من هو شر مني، وأمره بالرفق. بعث موسى وهارون وهما خير منك، إلى فرعون، وهو شر مني، وقال:
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى "43" فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (سورة طه 43، 44)
الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو إلى الرفق وينكر العنف:
ومن قرأ سنة الرسول الكريم القولية ممثلة في أحاديثه عليه الصلاة والسلام أو قرأ سنته العملية ممثلة في سيرته صلى الله عليه وسلم يجد أسلوب الرفق واللين واللطف في الدعوة والمعاملة شديدة الوضوح والعمق في أخلاقه عليه الصلاة والسلام.
وحسبنا أن ننقل من كتاب مثل (الترغيب والترهيب) للحافظ المنذري فيما أورده من أحاديث صحاح وحسان، في الترغيب في الرفق والحلم.
وأولها: حديث عائشة: "إن الله رفيق، يحب الرفق في الأمر كله".
وينبغي لنا أن نذكر هنا سبب ورود هذا الحديث، كما رأته وروته أم المؤمنين عائشة، فهي شاهد عيان، وكما رواه البخاري في صحيحه، قالت: استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا (أي للنبي): السام عليك. فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: يا عائشة: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله. قلت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: قلت: وعليكم"
فهؤلاء اليهود من سوء أدبهم وسوء طويتهم لووا ألسنتهم، وحرفوا الكلم، فبدل أن يقولوا: السلام عليك، قالوا: السام ـ أي الموت والهلاك ـ ولكن الرسول الكريم من حسن أدبه، وعظمة خلقه، لم يرد أن يجعل من ذلك معركة، بل رد بهذه الكلمة النبيلة قائلاً: "وعليكم". أي أن الموت مكتوب على كل البشر، علينا وعليكم. ثم علم عائشة هذا الأدب الرفيع أدب الرفق في التعامل، حين قال لها:
"يا عائشة! إن الله رفيق، يحب الرفق في الأمر كله"
ونسوق بقية الأحاديث ـ التي انتقيناها هنا ـ من كتابنا (المنتقي من الترغيب والترهيب):
منها: ما رواه مسلم عن عائشة: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه". رواه مسلم عن عائشة برقم 2593
وعنها أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" رواه مسلم برقم 2594
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير" رواه مسلم برقم 2592 والطبراني ورواته ثقات، وأبو داود مختصراً.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من أعطى حظه من الرفق؛ فقد أعطى حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق؛ فقد حرم حظه من الخير" رواه الترمذي برقم 2014 وقال حسن صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"دعوه، وأريقوا على بوله سجلاً من ماء ـ أو ذنوباً من ماء ـ فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين" رواه البخاري برقم 220، والسجل بفتح السين المهملة، وسكون الجيم: هو الدلو الممتلئة ماء. والذنوب بفتح الذال المعجمة مثل السجل، وقيل: هي الدلو مطلقاً سواء كان فيها ماء أو لم يكن، وقيل: دون الملأي.
وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان برقم 1131 .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله تعالى". متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان برقم 1502 .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"التأني من الله، والعجلة من الشيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله، وما من شيء أحب إلى الله من الحمد" رواه أبو يعلي، وقال الهيثمي: رواته رواة الصحيح. انظر المجمع 8/19. ونسبه في "الجامع الصغير" إلى البيهقي في "الشعب"، وسنده عنده ضعيف كما في "الفيض".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج:
"إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة" رواه مسلم برقم 17.
وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثر بها حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء". متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان برقم 629.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:
"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"! متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان برقم 1107.
الإسلام دين الرحمة:
وكما دعا الإسلام إلى الرفق، وحذر من العنف، في الدعوة والتعامل نجده كذلك دعا إلى الرحمة، واعتبرها جوهر أخلاقه، ونهى عن القسوة وذمها، وذم من اتصف بها أشد الذم.
فقد قص القرآن علينا قصة البقرة، التي حدثت في بني إسرائيل، ثم عقب عليها بتوجيه الخطاب لهم بقوله:
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (سورة البقرة: 74)
بل ذكر القرآن أن قسوة القلوب عند بني إسرائيل، كانت عقوبة إلهية لهم على عصيانهم، ونقضهم مواثيقهم وعهودهم مع الله تعالى، كما قال سبحانه بعد أن ذكر ما أخذ عليهم من ميثاق:
{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (سورة المائدة: 13)
والتوراة نفسها تصفهم بأنهم الشعب الغليظ الرقبة.
أما أمة الإسلام فإنها مأمورة بالرحمة، موصوفة بها، بل إن رسالتها نفسها قائمة على الرحمة، بل هي الرحمة ذاتها، كما جاء في القرآن الكريم، فقد خاطب الله رسوله بقوله:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (سورة الأنبياء: 107)
فهو عليه السلام ليس رحمة لجنس العرب أو الشرقيين، أو حتى المسلمين وحدهم، بل هو رحمة للعالمين؛ لأن رسالته رسالة عالمية، كما قال تعالى:
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (سورة الأعراف: 158)
ومادامت دعوته ورسالته للناس جميعاً فإن الرحمة المقترنة بها للناس جميعاً، وإن كان أكثر الناس انتفاعاً بهذه الرحمة هم الذين آمنوا به واتبعوه واهتدوا بهديه، فهم يعيشون في جو هذه الرحمة؛ إيماناً، وتعبداً وفكراً، وخلقاً وسلوكاً، وتعاملاً.
ذلك أن أكثر الناس استفادة من علم الطبيب النطاسي وتجربته هو من يؤمن بطبه ويلجأ إليه، ويأخذ منه، ويعالج على يديه. وهذا هو سر قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (سورة يونس: 57)
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } (سورة الإسراء: 82)
وقال لرسوله:
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (سورة النحل: 89)
ولقد عبر محمد صلى الله عليه وسلم عن نفسه ودعوته بعبارة موجزة، فقال:
"إنما أنا رحمة مهداة" رواه الحاكم 1/35 وصححه، ووافقته الذهبي.
فهو رحمة مهداة من الله للعالمين عامة، وللمؤمنين خاصة، كما قال تعالى:
{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (سورة التوبة: 128)
وقال تعالى:
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (سورة التوبة: 61)
ولا أجد في تعاليم نبي من الأنبياء من الدعوة إلى الرحمة، والحث عليها، والترغيب في التخلق بها، ومعاملة الناس جميعاً، بل الحيوانات على أساسها ما أجد في تعاليم محمد عليه الصلاة والسلام.
وأكتفي بأن انقل جملة أحاديث، من بعض ما انتقيته من كتاب الإمام المنذري في (الترغيب والترهيب) في فصل (الترغيب في الشفقة على خلق الله تعالى من الرعية والأولاد، والعبيد، وغيرهم، ورحمتهم، والرفق بهم والترهيب من ضد ذلك، ومن تعذيب العبد، والدابة، وغيرهما بغير سبب شرعي، وما جاء في النهي عن وسم الدواب في وجوهها) وقد سرد هنا جملة وافرة من الأحاديث، ننتقي منها ما يأتي:
"عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان رقم 1498.
وفي رواية لأحمد: "ومن لا يغفر لا يغفر له" وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. انظر: المجمع (10/193).
وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لن تؤمنوا حتى تراحموا" قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم! قال: "إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة" رواه الطبراني، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. انظر: المجمع 8/78.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" رواه أبو داود برقم 4941 والترمذي برقم 1925 وقال: حسن صحيح.
"وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القوم، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون" رواه أحمد برقم 6541 وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، ورواه البخاري في الأدب المفرد. والأقماع: جمع قمع بكسر القاف وفتح الميم وهو: الإناء الذي يوضع في رءوس الظروف لتملأ بالمائعات. شبه الذين يستمعون القول ولا يعونه ولا يعملون به بالأقماع التي لا تمسك شيئاً مما يفرغ فيها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت الصادق المصدوق صاحب هذه الحجرة أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُنزع الرحمة إلا من شقي" رواه أبو داود برقم 4942 والترمذي برقم 1924 وقال: حسن. ورواه ابن حبان برقم 2065 وقال الشيخ شعيب: إسناده حسن.
وعنه رضي الله عنه قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن أو الحسين بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً قط، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "من لا يرحم لا يُرحم" متفق عليه؛ اللؤلؤ والمرجان برقم 1497.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تقبلون الصبيان وما نقبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك" متفق عليه؛ اللؤلؤ والمرجان برقم 1496.
وعن معاوية بن قرة، عن أبيه رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إني لأرحم الشاة أن أذبحها، فقال: "إن رحمتها رحمك الله" رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي 4/231.
وقد تقدم حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أضجع شاة، وهو يحد شفرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا أحددت شفرتك، قبل أن تضجعها؟!" رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" والحاكم واللفظ له وقال: صحيح على شرط البخاري. وقال المنذري: رجال الطبراني رجال الصحيح، ونحوه قال الهيثمي 4/33.
وعن ابن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من إنسان يقتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها؛ إلا يسأله الله عنها يوم القيامة" قيل: يا رسول الله! وما حقها؟ قال: "حقها أن تذبحها فتأكلها، ولا تقطع رأسها فترمي به" رواه النسائي، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي 4/233 ورواه أحمد في المسند برقم 6551 وصححه الشيخ شاكر.
وعن ابن سيرين أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال له: ويلك "قُدها إلى الموت قوداً جميلاً" رواه عبد الرازق موقوفاً في المصنف برقم 8605.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً أو دجاجة يترامونها، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً ـ فيه الروح ـ غرضاً" متفق عليه؛ اللؤلؤ والمرجان برقم 1279. و"الغرض" بفتح الغين المعجمة والراء: هو ما ينصبه الرماة، يقصدون إصابته، من قرطاس وغيره.
وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من فجع هذه بولديها؟ ردوا ولديها إليها". ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: "من حرق هذه؟" قلنا: نحن، قال: "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار" رواه أبو داود في (كتاب الجهاد) برقم 2675 وهو من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه. وقد رجح البخاري وابن أبي حاتم سماعه منه. وصحح الترمذي حديثاً عنه. والرواية فيه "تفرش" بدل "تعرش" والتفريش مأخوذ من فرش الجناح وبسطه، والتعريش: أن يرتفع فوقهما ويظلل عليهما. "قرية نمل": هي موضع النمل مع النمل.
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فأسر إلى حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس، وكان أحب ما استتر به النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً، أو حائش نخل، فدخل حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن، وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فكست فقال: "من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: "أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكا إلي أنك تجيعه، وتدئبه" ذفراه: مخؤرة رأسه، وهو الموضع الذي يعرق من قفاه. تدئبه: تكده وتتعبه بالعمل المتواصل دون إعطائه حقه من الراحة. والحديث رواه أحمد من مسند عبد الله بن جعفر 1745 وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، وهو عند أبي داود برقم 2549.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض"
وفي رواية:
عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها ـ إذ هي حبستها ـ ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" فكيف بمن يسجن ألوف المؤمنين بغير جرم جنون؟! رواه البخاري برقم 3482 وغيره.
ورواه احمد: من حديث جابر، فزاد في آخره: "فوجبت لها النار بذلك".
وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: مر الرسول صلى الله عليه وسلم ببعير قد لصق ظهره ببطنه، فقال: "اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة" رواه أبو داود، وابن خزيمة في "صحيحه" إلا أنه قال: "قد لحق ظهره". ورقمه عند أبي داود 2458 ورواه أيضاً احمد 4/181، 180، وابن حبان برقم 545 قال الشيخ شعيب: إسناده صحيح، وصححه النووي في "الرياض".
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف، فقال: "دنت مني النار حتى قلت: أي رب! وأنا معهم؟! فإذا امرأة حسبت أنه قال: تخدشها هرة قال: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعاً" رواه البخاري برقم 2364.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من شدة العطش، قال: لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى، فسقى الكلب! فشكر الله له، فغفر له" قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر" رواه البخاري برقم 2466 ومسلم برقم 2244 وانظر اللؤلؤ والمرجان برقم 1447.
وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: "اعلم أبا مسعود!" فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: "اعلم يا أبا مسعود أن الله عز وجل أقدر عليك منك على هذا الغلام" فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً"
وفي رواية: فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله تعالى، فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار" رواه مسلم برقم 1659 وأبو داود برقم 5159 والترمذي برقم 1949 وقال: حسن صحيح.
وعن زاذان وهو الكندي مولاهم، والكوفي قال: أتيت ابن عمر، وقد أعتق مملوكاً له، فأخذ من الأرض عوداً أو شيئاً، فقال: مالي فيه من الأجر ما يساوي هذا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لطم مملوكاً له أو ضربه، فكفارته: أن يعتقه" رواه أبو داود واللفظ له، ورواه مسلم؛ ولفظه قال: "من ضرب غلاماً فه حداً لم يأته، أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه". ورقمه عند أبي داود 5168 وأخرجه مسلم برقم 1657. وكلام ابن عمر يعني: أنه أعتقه كفارة عن ضربه له.
وعن عمار بن ياسر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضرب مملوكه ظلماً أقيد (أي اقتص) منه يوم القيامة"رواه الطبراني، وقال الهيثمي: رواته ثقات. انظر المجمع 4/238.
وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم نبي التوبة: "من قذف مملوكه وهو برئ مما قال أقيم عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال" رواه البخاري برقم 6858 ومسلم برقم 1660.
وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للملوك طعامه وشرابه وكسوته، ولا يكلف إلا ما يطيق، فإن كلفتموهم فأعينوهم، ولا تعذبوا عباد الله خلقاً أمثالكم" رواه ابن حبان برقم1205 وقال الهيثمي في الموارد: قلت: في الصحيح بعض أوله.
وعن عمرو بن حريث رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما خففت على خادمك من عمله كان لك أجراً في موازينك" رواه ابن حبان برقم 4314 وقال الشيخ شعيب: إسناده صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من ضرب سوطاً ظلماً اقتص منه يوم القيامة" رواه البزار، والطبراني، وقال الهيثمي: إسناده حسن. انظر المجمع 10/353.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وكان بيده سواك، فدعا وصيفة له ـ أو لها ـ حتى استبان الغضب في وجهه، وخرجت أم سلمة إلى الحجرات، فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهمة، فقالت: ألا أراك تلعبين بهذه البهمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك؟ فقالت: لا، والذي بعثك بالحق ما سمعتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك" رواه أحمد، وأبو يعلي، والطبراني، وقال الهيثمي: إسناده جيد. انظر المجمع 10/353.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه حمار قد وسم في وجهه، فقال: "لعن الله الذي وسمه" رواه مسلم برقم 2117
وفي رواية له: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه. ورواه الطبراني بإسناد جيد مختصرا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من يسم في الوجه. في نسخة: "من يسم الوجه" والوسم: الكي. لقد حرص الإسلام على صيانة وجه الحمار، فكيف بالإنسان؟!
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: مر حمار برسول الله صلى الله عليه وسلم قد كوي في وجهه، يفور منخراه من دم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من فعل هذا" ثم "نهى عن الكي في الوجه، والضرب في الوجه" رواه ابن حبان في "صحيحه" وهو في "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" برقم 2003. قال الشيخ شعيب: إسناده صحيح، والإحسان برقم 5626.
والأحاديث في النهي عن الكي في الوجه كثيرة.
وهذا الحشد الجم من الأحاديث النبوية الصحاح في فضل الرحمة والترغيب فيها، وشمولها للإنسان، ولاسيما الضعفاء من الخلق، وكذلك للحيوانات العجماوات التي تؤكل أو تركب، والتي لا تؤكل ولا تركب مثل الهر والكلب، ولا أحسب ديناً من الأديان يشتمل على هذه الوصايا المكررة والمؤكدة ترغيباً في الرحمة والشفقة على خلق الله وترهيباً من الشدة والقسوة على عباد الله.
الرحمة في حالة الحرب:
وأظهر ما تكون الرحمة التي أمر بها الإسلام في حالة الحرب التي كثيراً ما تحكمها عواطف الغضب على العدو، وتبرر عوامل الغلظة عليه، والانتقام منه، فيقتل من لا يستحق القتل، أو يقتل بطريقة لا تليق بالإنسان، فيها تعذيب له، أو تمثيل بجثته، أو إظهار التشفي منه.
ومثل ذلك: قطع الأشجار المثمرة، وهدم المباني والمنشآت المدنية، وتحريق كل ما تناله يد الإنسان، وفقاً للنظرية التي يعبرون عنها بـ(سياسة الأرض المحروقة).
وهذا ما سار عليه الغرب ـ للأسف ـ في عامة حروبه، ولاسيما في الحرب العالمية الثانية، التي قتل فيها عشرات الملايين، حتى استحلت أمريكا لنفسها ضرب مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين بالقنابل الذرية، حتى بعد استسلام اليابان!
والغرب هو الذي اخترع أسلحة الدمار الشامل وامتلكها، ويطالب العالم اليوم بالتخلص منها، ليظل هو وحده الذي يمتلكها.
وسر ذلك أن الحرب عنده كالسياسة والاقتصاد، منفصلة عن الدين والقيم والأخلاق. أما الإسلام فالحرب كالسياسة والاقتصاد لا تنفصل عن قيمه الدينية والأخلاقية لهذا تتجلى فيها آثار العدل والرحمة، في جوانب شتى.
من ذلك: أنه لا يقتل في الحرب إلا من يقاتل. ولهذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة في بعض الغزوات، فأنكر قتل النساء والصبيان. رواه البخاري عن ابن عمر في الجهاد 4/74 كما رواه مسلم في الجهاد، باب تحريم قتل النساء والصبيان، عن ابن مسعود وابن عمر برقم 1744.
وفي موقف آخر؛ قال عن المرأة المقتولة: "ما كانت هذه لتقاتل"! رواه أبو داود في الجهاد عن رباح بن ربيع، رقم 2669 وابن ماجه برقم 2882 ونسبه المنذري للنسائي أيضاً.
وكان من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم لأمرائه، وقادة سراياه: "لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً" رواه أحمد 1/493 وأبو يعلي برقم 2549 والطبراني في "الكبير" 11/179 والبيهقي في "السنن" 13/385 عن ابن عباس رضي الله عنهما وحسن إسناده محققو المسند، حديث رقم 2728.
فهو هنا ينهى عن الغلول ـ وهو الخيانة في الغنيمة ـ وعن الغدر ـ وهو نقض العهد ـ وعن التمثيل ـ وهو تشويه القتلى بقطع الأنوف أو الآذان، أو بقر البطون ـ ونحو ذلك.
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدرك خالد بن الوليد في إحدى المعارك ليبلغه هذا التوجيه النبوي:
"قل لخالد: لا تقتلن امرأة ولا عسيفاً" وهو جزء من الحديث الذي رواه أبو داود برقم 2669.
والعسيف: هو الأجير والتابع. ولا غرو أن قال الرسول الكريم:
"أعف الناس قتلة: أهل الإيمان" رواه أبو داود عن ابن مسعود في الجهاد، باب النهي عن المثلة، برقم 2666 وابن ماجه في الديات، رقم 2681 وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح.
وكذلك كان خلفاؤه الراشدون من بعده، على نهجه في العفة والرحمة. وأوصى أبو بكر قائده "يزيد بن أبي سفيان" حين وجهه إلى الشام، فقال: لا تقتل صبياً، ولا امرأة، ولا هرماً.
وعن عمر أن أوصى "سلمة بن قيس" فقال: لا تقتلوا امرأة، ولا صبياً، ولا شيخاً هرماً. (الهرم: الكبير الفاني). قال في المغني 13/178: رواهما (أي أثر أبي بكر وأثر عمر) سعيد في سننه.
وروى عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } (سورة البقرة: 190)
قال: لا تقتلوا النساء، والصبيان، والشيخ الكبير.
نهى أبو بكر عن قتل الرهبان في صوامعهم؛ لأنهم لا يقاتلون تديناً.
وكذلك جاء عن عمر: اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب. البيهقي في سنن الكبرى 9/1 وسعيد بن منصور في سننه 2/239.
وخلاصة هذا كله: أن الحرب في الإسلام لا يقصد بالقتل فيها إلا من قاتل المسلمين بالفعل، وحمل السلام في وجوههم.
وعند قتل من يقاتل: لا يشوه ولا يمثل، ولا يحمل رأسه إلى مكان آخر، ليراه القائد الأعلى أو الخليفة، لأنه نوع من المثلة المنهي عنها.
وقد حمل إلى أبي بكر رضي الله عنه رأس أحد القواد في صرة، فلما كشف عنها رأى الرأس، وعرف أنه لأحد قوادهم، ولما سألهم عن ذلك، قالوا: إنهم يفعلون ذلك برءوس قادتنا! فقال: أستنان (أي اقتداء) بفارس والروم؟! والله! لا يحمل إلي رأس بعد اليوم!
ومن التوجيهات القرآنية: أنه أمر المسلمين بعد (الإثخان) في الأعداء، أي إضعافهم في القتال أن يكفوا عن القتل ويكتفوا بالأسر، ثم خيرهم في الأسرى بين إطلاق سراحهم مناً عليهم بلا مقابل، أو فدائهم بمال أو أسرى، قال تعالى:
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } (سورة محمد: 4)
فهل عرف التاريخ أمة عندها مثل هذه التعاليم التي تغرس العفة والرحمة حتى في حالات الحروب التي يتعدى الناس فيها عادة الحدود!
فقه جماعات العنف:
وإذا كان هذا من موقف الإسلام في دعوته إلى الرفق واللين، وإلى الرحمة والرأفة، وذمه للعنف والقسوة، فلماذا ظهرت جماعات العنف في بلادنا الإسلامية؟ وما الأساس الشرعي الذي تستند إليه، ولاسيما أنها تنتسب إلى الإسلام؟
ونقول هنا: إن العنف الذي تمارسه بعض الجماعات التي تنسب للإسلام إنما هو إفراز لفلسفة معينة، تتبناها هذه الجماعات، وثمرة لفقه خاص له وجهته ومفاهيمه وأدلته التي تستند إليها هذه الفئة من الناس.
ومن نظر إلى جماعات العنف القائمة اليوم في عالمنا العربي مثلاً وجد لها فلسفتها ووجهة نظرها، وفقهها الذي تدعيه لنفسها، وتسنده بالأدلة من القرآن والسنة، ومن أقوال بعض العلماء.
صحيح أنها تعتمد على المتشابهات وتدع المحكمات، وتستند إلى الجزئيات وتهمل الكليات، وتتمسك بالظواهر وتغفل المقاصد، كما تغفل ما يعارض هذه الظواهر من نصوص وقواعد، وكثيراً ما تضع الأدلة في غير موضعها، وتخرجها عن سياقها وإطارها، ولكن على أي حال لها فقه مزعوم يبرر العنف، ويروج لدى بعض الأغرار من الشباب والسطحيين من الناس، الذين يقفون عند السطوح ولا يغوصون في الأعماق، أساسه فقه الخوارج قديماً، الذي كانوا يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، كما صحت بذلك الأحاديث.
العنف الداخلي:
بدأت هذه الجماعات بالعنف في داخل أوطانها أنفسها، أي العنف ضد الأنظمة الحاكمة. فعلى أي أساس بررت ذلك وأجازته من الوجه الشرعية، في نظرها على الأقل؟
مبررات جماعات العنف ومدى اعتبارها:
إن فقه جماعات العنف يقوم على أن الحكومات المعاصرة حكومات كافرة؛ لأنها لم تحكم بما أنزل الله واستبدلت بشريعته المنزلة من الخالق القوانين التي وضعها المخلوق، وبهذا وجب الحكم عليهم بالكفر والردة، والخروج من الملة، ووجب قتالها حتى تدع السلطة لغيرها إذ كفرت كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان.
ويؤكد فقه هذه الجماعات كفر هذه الأنظمة الحاكمة بأمر آخر، وهو: أنها توالي أعداء الله من الكفار الذين يكيدون للمسلمين، وتعادي أولياء الله من دعاة الإسلام، الذين ينادون بتحكيم شرع الله تعالى، وتضطهدهم وتؤذيهم. والله تعالى يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (سورة المائدة: 51)
والحكومات المعاصرة تعارض هذه التهم بدعاوى مختلفة، منها: أنها تعلن أن دينها الرسمي هو الإسلام، وأنهم ينشئون المساجد لإقامة الصلاة، ويعينون الأئمة والخطباء والمؤذنين، ويؤسسون المعاهد الدينية، والكليات الشرعية، ويوظفون الوعاظ ومدرسي الدين في المدارس وغيرها، ويحتفلون برمضان وعيدي الفطر والأضحى، ويذيعون تلاوة القرآن في الإذاعات والتلفازات، إلى غير ذلك من المظاهر الدينية، التي تثبت إسلامية الدولة بوجه من الوجوه.
كما أن بعض دساتير هذه البلاد يعلن أن الشريعة مصدر أو المصدر الرئيسي للتقنين، وبعضها يعتذر بضعفه أمام قوى الضغط الغربي، وبعضها وبعضها ..
فتوى ابن تيمية:
كما تعتمد جماعات العنف على فتوى الإمام ابن تيمية ـ في قتال كل فئة تمتنع عن أداء شريعة ظاهرة متواترة من شرائع الإسلام ـ كالصلاة أو الزكاة، أو الحكم بما أنزل الله في الدماء والأموال والأعراض، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى آخره ـ وهو ما اعتمد عليه كتاب (الفريضة الغائبة) لجماعة الجهاد، وجعل هذه الفتوى الأساس النظري لقيام جماعته، وتسويغ أعمالها كلها.
ويستدلون هنا بقتال أبي بكر ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم لمانعي الزكاة.
فكيف بمن يمتنعون عن تطبيق أكثر أحكام الشريعة، برغم مطالبة جماهير الناس بها، وخصوصاً العلماء والدعاة، بل هم أشد الناس خصومة لهؤلاء، وتضييقاً عليهم، ومعاداة لهم؟!
ونسى هؤلاء أن الذي يقاتل هذه الفئة الممتنعة ولي الأمر، وليس عموم الناس، وإلا أصبح الأمر فوضى!
وتعتمد جماعات العنف أيضاً على أن هذه الأنظمة غير شرعية، لأنها لم تقم على أساس شرعي من اختيار جماهير الناس لها، أو اختيار أهل الحل والعقد، وبيعة عموم الناس، فهي تفتقد الرضا العام، الذي هو أساس الشرعية، وإنما قامت على أسنة الرماح بالتغلب والسيف والعنف، وما قام بقوة السيف يجب أن يقاوم بسيف القوة، ولا يمكن أن يقاوم بسيف القلم!
ونسى هؤلاء ما قاله فقهاؤنا من قديم أن التغلب هو إحدى طرائق الوصول إلى السلطة، إذا استقر له الوضع، ودان له الناس.
وهذا ما فعله عبد الملك بن مروان، بعد انتصاره على ابن الزبير رضي الله عنه وقد أقره الناس، ومنهم بعض الصحابة مثل: ابن عمر وأنس وغيرهما حقناً للدماء، ومنعاً للفتنة، وقد قيل: سلطان غشوم، خير من فتنة تدوم.
وهذا من واقعية الفقه الإسلامي، ورعايته لتغير الظروف.
وترى جماعات العنف كذلك أن هذه المنكرات الظاهرة السافرة ـ التي تبيحها هذه الحكومات ـ من الخمر، والميسر، والزنى، والخلاعة والمجون، والربا، وسائر المحظورات الشرعية: يجب أن تغير بالقوة لمن يملك القوة، وهي ترى أنها تملكها، فلا يسقط الوجوب عنها إلى التغيير باللسان بدل اليد، كما في الحديث الشهير:
"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فليغيره بقلبه" رواه مسلم.
ويغفل هؤلاء الضوابط والشروط اللازمة لتغيير المنكر بالقوة التي قررها العلماء.
وبعض هذه الجماعات تنظر إلى المجتمع كله أنه يأخذ حكم هذه الأنظمة التي والاها ورضى بها، وسكت عنها، ولم يحكم بكفرها، والقاعدة التي يزعمونها أن من لم يكفر الكافر فهو كافر!
وبهذا توسعوا وغلوا في (التكفير) وكفروا الناس بالجملة.
وعلى هذا لا يبالون من يقتل من هؤلاء المدنيين، الذين لا ناقة لهم في الحكومة ولا جمل؛ لأنهم كفروا فحلت دماؤهم وأموالهم.
كما يرون بالنظر إلى الأقليات غير المسلمة أنهم نقضوا العهد، بعدم أدائهم للجزية، وبتأييدهم لأولئك الحكام المرتدين، وأنظمتهم الوضعية، ولرفضهم للشريعة الإسلامية. وبهذا لم يعد لهم في أعناق المسلمين عهد ولا ذمة، وحل دمهم ومالهم. وبهذا استحلوا سرقة محلات الذهب من الأقباط في مصر، كما استحلوا سرقة بعض المسلمين أيضاً.
وهم يرون أن السياح وأمثالهم، الذين يدخلون بلاد المسلمين بتأشيرات رسمية، وترخيصات قانونية، والذين يعدهم الفقهاء (مستأمنين) ولو كانت دولهم محاربة للمسلمين، يرون هؤلاء مستباحي الدم؛ لأنهم يأخذوا الإذن من دولة شرعية، ولأن بلادهم نفسها محاربة للإسلام، فلا عهد بينهم وبين المسلمين. والواجب أن يقاتل هؤلاء ويقتلوا، فلا عصمة لدمائهم وأموالهم!!
وكذلك يقول هؤلاء عن الدور الغربية ـ التي يقيم بعض هؤلاء فيها ـ وقد أعطتهم حق الأمان أو حق اللجوء السياسي لمن طردوا من بلادهم الأصلية، فآوتهم هذه الدول من تشرد، وأطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف.
يقول هؤلاء بكل جرأة وتبجح: إن هذه الدول كلها كافرة، محاربة للإسلام وأمته، ويجب أن نقاتلهم جميعاً حتى يسلموا فيسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. ولما سئل بعضهم عن إقامته في هذه البلاد، قال: إنها كدورة المياه، نستخدمها للضرورة رغم نجاستها.
وهؤلاء الكفار: دماؤهم حلال للمسلمين، بنصوص الدين.
ويذكرون هنا آيات وأحاديث يضعونها في غير موضعها، فإذا واجهتهم بغيرها من الآيات والأحاديث التي هي أكثر منها وأظهر وأصرح، قالوا لك: هذه نسختها آية السيف!
هذا هو فقه جماعات العنف باختصار، الذي على أساسه ارتكبوا ما ارتكبوا من مجازر تشيب لهولها الولدان، وتقشعر من بشاعتها الأبدان: ضد مواطنيهم من مسلمين وغير مسلمين، وضد السياح وغيرهم من الأجانب المسالمين.
وهو ـ بلا ريب ـ فقه أعوج، وفهم أعرج، يعتوره الخلل والخطل من كل جانب. ويحتاج من فقهاء الأمة إلى وقفة علمية متأنية لمناقشتهم في أفكارهم هذه، والرد عليهم فيما أخطأوا فيه في ضوء الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وإجماع الأمة.
ظاهرة العنف إسلامية أم عالمية؟
وهنا يحق لنا أن نسأل عن العنف: هل هو ظاهرة إسلامية؟ أو هو ظاهرة عالمية؟ فبعض أبواق الإعلام الغربي ـ ومن يدور في فلكها في ديارنا ـ تريد أن يبرز الإرهاب، وكأنه مقصور على المسلمين أو كأن جنسيته إسلامية، وخصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر، وهذا خطأ فاحش، بل ظلم مبين.
لقد وجدنا العنف في أقطار ودول شتى في أنحاء العالم، لقد وجدناه في كل القارات في أيرلندا، وفي اليابان، وفي أمريكا نفسها، وفي الهند، وفي إسرائيل. فلماذا ألصق بالمسلمين وحدهم دون غيرهم؟ إنه الإعلام الغربي والأمريكي والصهيوني، الذي يكتم الحق، ويشيع الباطل، ويقولون على الناس الكذب وهم يعلمون.
أسباب العنف في العالم الإسلامي:
صحيح أن هناك عنفاً في العالم الإسلامي، ولكنه عنف له أسبابه ودوافعه، فما هي؟
أسبابه:
أما أسباب هذا العنف، فيمكن تلخيصها فيما يلي:
1. المظالم الواقعة على المسلمين من الخارج: فلسطين ـ البوسنة ـ كوسوفو ـ الشيشان ـ كشمير ـ السودان.
2. طغيان بعض الحكام، واضطهادهم لدعاة الإسلام، ومصادرة حرياتهم، وإغلاق الأبواب كلها دونهم، وعدم تمكينهم من حرية الدعوة مثل غيرهم، واستجابتهم لوساوس القوى المعادية للإسلام من صليبيين وغيرهم.
3. التضييق على الفكر الوسطي المعتدل، مما أتاح لفكر العنف أن يعمل في السراديب تحت الأرض، حيث لا يحاكم ولا يناقش. ولو عمل تحت سمع القانون وبصره لكان أقل وأهدى.
4. الخلل الفكري والفقهي لدى بعض الفصائل الداعية للإسلام، التي وقفت عند بعض الظواهر من النصوص، ولم تغص في مقاصدها، ولم تضم بعضها إلى بعض.
وهذه أهم الأسباب في ـ رأيي ـ وينبغي أن نلقي الضوء على السبب الأخير لخطورته، وشدة تأثيره.
حقيقة فصائل العنف:
هذه الفصائل الداعية للعنف إما:
1. عملاء للقوى الصهيونية والصليبية والمادية المعادية للإسلام، اخترقوا الجماعات الإسلامية، وحركوها من حيث لا تدري.
2. أو جهلاء مخلصون، يعملون مجاناً لحساب هذه القوى المعادية من حيث لا يشعرون، وهذا هو الأغلب. ولو أن القوى المعادية استأجرت أناساً ودفعت لهم مئات الملايين ما خدموها بأفضل مما يخدمهم به هؤلاء في تشويه صورة الإسلام. جهل هؤلاء جهل مركب (جهل من لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري) كما قال تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } (سورة البقرة: 11)
آفة هؤلاء ـ في الأغلب ـ في عقولهم، وليست في ضمائرهم، فأكثرهم مخلصون، ونياتهم صالحة، وهم متعبدون لربهم، شأنهم شأن أسلافهم من الخوارج الذين كفروا عامة المسلمين، وكفروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، واستحلوا دمه، ودماء المسلمين معه، وصحت الأحاديث في ذمهم من عشرة أوجه.
قالت الأحاديث في الصحيحين:
"يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، وقراءته إلى قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" ابن ماجه رقم 169 ـ الحاكم 2/147.
فهم صوام قوام، قراء عباد، ولكن قراءتهم للقرآن لا تتجاوز حناجرهم، أي لم تدخل إلى أعماق قلوبهم وعقولهم ليفقهوه حق الفقه، ويتعرفوا على أسراره ومقاصده، دون أن يجعلوا همهم الوقوف عند ألفاظه وظواهره.
وقد أدى بهم هذا الفقه الأعوج إلى استباحة دماء المسلمين الآخرين وأموالهم، حتى استباحوا فارس الإسلام وابنه البكر ـ علي بن أبي طالب وقال شاعرهم يمدح قاتله:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إني لأذكره يوماً فأحسبه إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً أوفى البرية عند الله ميزانا
حسن النية لا يبرر الأعمال الطائشة:
ولقد حذر رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم من الأعمال الطائشة، والتصرفات الرعناء، التي قد يقوم بها بعض الناس الطيبين، بنوايا حسنة، وبواعث نبيلة، دون أن ينظروا في مآلاتها، ويفكروا في وخيم عواقبها، وذلك لقصر نظرهم، وضيق أفقهم، فإذا لم يتنبه المجتمع لهم، ويأخذ على أيديهم، ويمنعهم من الاستمرار في تفكيرهم الأخرق، فإنهم سيودون بالمجتمع كله، وينتهي بهم طيشهم ـ مع حسن نيتهم ـ إلى هلاكهم وهلاك الجماعة كلها معهم.
ولذا حذر الرسول الكريم الجماعة ـ ممثلة في أهل البصيرة وأولي العلم والحكمة ـ أن تتيقظ لهم، وتأخذ على أيديهم، تمنعهم من تنفيذ ما فكروا فيه وعقدوا عليه العزم؛ حفظاً لوجود الجماعة كلها، وحرصاً على حياتها وحياتهم معها.
وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك مثلاً حياً رائعاً ناطقاً، وهو مثل ركاب السفينة الواحدة التي تتكون من طابقين أو أكثر، وبعض الناس في أعلاها، وبعضهم في أسفلها. فلو أراد ركاب الطابق الأسفل أن يخرقوا في نصيبهم خرقاً، ليستقوا منه الماء مباشرة من النهر أو البحر، بدعوة أنهم يخرقون في نصيبهم وهم أحرار فيه، وأنهم لا يريدون أن يؤذوا من فوقهم بكثرة المرور عليهم بين حين وآخر.
وليس أفضل من أن نقرأ هذا الحديث النبوي الرائع بصيغته كاملاً، كما جاء في صحيح البخاري:
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً". رواه البخاري برقم 2493.
إن الحديث يبين لنا المسئولية التضامنية المشتركة للأمة، وأنها لا يجوز لها أن تدع بعض أبنائها يتسببون في غرقها بجهلهم وسوء تصرفهم، وإ كانوا مخلصين، فالإخلاص لا يكفي وحده، ولكن لابد من تحري الصواب مع الإخلاص.
فقه هؤلاء الخوارج المحدثين فقه أعرج أعوج يقوم على ما يأتي:
1. خلل في فقه الجهاد.
2. خلل في فقه تغيير المنكر بالقوة.
3. خلل في فقه الخروج على الحكام.
4. خلل في فقه التكفير.
وسنتحدث عن كل واحدة من هذه الألوان من الخلل بما يوضحه، ويزيل عنه اللبس والغموض.
1. الخلل في فقه الجهاد:
يبدأ الخلل في فقه الجهاد عندهم أنهم يرون قتال كل الكفار واجباً، وإن كانوا مسالمين للمسلمين.
ونريد أن نسألهم هنا سؤالاً صريحاً: لماذا نقاتل الكفار؟ لكفرهم؟ أو لعدوانهم؟
لو كان القتال لمجرد الكفر لوجب أن نقتل الشيوخ، والنساء، والرهبان، والحراثين، والتجار، ومن في حكمهم ممن لا يحارب ولا يقاتل، ولكن هذا محظور، ولهذا نهتنا الأحاديث النبوية، والوصايا الراشدية من أبي بكر وعمر، عن قتلهم.
وجاء عن ابن عباس، في تفسير قوله تعالى: (ولا تعتدوا) قال: الاعتداء: قتل النساء والصبيان.
وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (قاعدة في قتال الكفار) على أن من زعم أن قوله تعالى:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } (سورة البقرة: 190)
وأضيف إلى ذلك: أنه معلل بعلة لا تقبل النسخ، وهي قوله: (إن الله لا يحب المعتدين) ومثل هذا لا ينسخ أبداً.
من أحكام القتال في القرآن:
وينبغي لمن أراد أن يعرف أحكام القتال أن يرجع أول ما يرجع إلى المصدر الأول للإسلام، وهو القرآن وما يبينه من صحيح السنة. ومن أبرز هذه السبيل.
إن منهج الدعوة الإسلامية: يقوم على الرفق واللين، والرقة والرحمة، ولا يقوم على العنف والشدة، والغلظة والنقمة.
ولقد رسم القرآن منهج الدعوة، بقوله تعالى:
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (سورة النحل، الآية: 125)
والدعوة بالحكمة تعني: الخطاب الذي يقنع العقول بالحجة والبرهان.
والموعظة الحسنة تعني: الخطاب الذي يستميل العواطف، ويؤثر في القلوب رغباً ورهباً.
والجدال بالتي هي أحسن، يعني: الحوار مع المخالفين بأحسن الطرق، وأرق الأساليب التي تقربهم ولا تبعدهم.
وقد رأينا القرآن الكريم وهو يعرض لنا قصص الرسل عليهم السلام وكيف خاطبوا أقوامهم بالحسنى، كما في سورة الشعراء:
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ "105" إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ "106" إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ "107" فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ "108" وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } (سورة الشعراء، الآيات: 105 ـ 109)
وفي سورة نوح يقول لهم:
{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ "2" أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ "3" يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } (سورة نوح 2 ـ 4)
فانظر كيف بدأ خطابهم بقوله: (يا قوم) يذكرهم: أنه واحد منهم، وليس غريباً عنهم. وانظر خطاب إبراهيم لقومه وكيف تدرج معهم حين رأى في الليل كوكبا، قال هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب الأفلين، ثم القمر، ثم الشمس، حتى قال:
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ "76" فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ "77" فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ "78" إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (سورة الأنعام 76 ـ 79)
وانظر خطابه لأبيه وترفقه به:
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا "42" يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا "43" يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا "44" يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا } (سورة مريم 42 ـ 45)
إلى أن رد أبوه بقوله:
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا "46" قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } (سورة مريم 46، 47)
وانظر إلى موسى وأخيه هارون حين بعثهما الله إلى فرعون، وأوصاهما بتليين القول له:
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى "43" فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (سورة طه 43، 44)
ولذا وجدنا موسى عليه السلام حين ذهب إلى فرعون، قال له:
{فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى "18" وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (سورة النازعات 18، 19)
بهذه الصيغة المأنوسة الرقيقة.
ودخل رجل على المأمون يعظه، فقال له: اتق الله أيها الظالم الفاجر، فقال له المأمون وكان على علم وفقه: يا هذا!! إن الله بعث من هو خير منك، إلى من هو شر مني، وأمره بالرفق. بعث موسى وهارون وهما خير منك، إلى فرعون، وهو شر مني، وقال:
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى "43" فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (سورة طه 43، 44)
الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو إلى الرفق وينكر العنف:
ومن قرأ سنة الرسول الكريم القولية ممثلة في أحاديثه عليه الصلاة والسلام أو قرأ سنته العملية ممثلة في سيرته صلى الله عليه وسلم يجد أسلوب الرفق واللين واللطف في الدعوة والمعاملة شديدة الوضوح والعمق في أخلاقه عليه الصلاة والسلام.
وحسبنا أن ننقل من كتاب مثل (الترغيب والترهيب) للحافظ المنذري فيما أورده من أحاديث صحاح وحسان، في الترغيب في الرفق والحلم.
وأولها: حديث عائشة: "إن الله رفيق، يحب الرفق في الأمر كله".
وينبغي لنا أن نذكر هنا سبب ورود هذا الحديث، كما رأته وروته أم المؤمنين عائشة، فهي شاهد عيان، وكما رواه البخاري في صحيحه، قالت: استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا (أي للنبي): السام عليك. فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: يا عائشة: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله. قلت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: قلت: وعليكم"
فهؤلاء اليهود من سوء أدبهم وسوء طويتهم لووا ألسنتهم، وحرفوا الكلم، فبدل أن يقولوا: السلام عليك، قالوا: السام ـ أي الموت والهلاك ـ ولكن الرسول الكريم من حسن أدبه، وعظمة خلقه، لم يرد أن يجعل من ذلك معركة، بل رد بهذه الكلمة النبيلة قائلاً: "وعليكم". أي أن الموت مكتوب على كل البشر، علينا وعليكم. ثم علم عائشة هذا الأدب الرفيع أدب الرفق في التعامل، حين قال لها:
"يا عائشة! إن الله رفيق، يحب الرفق في الأمر كله"
ونسوق بقية الأحاديث ـ التي انتقيناها هنا ـ من كتابنا (المنتقي من الترغيب والترهيب):
منها: ما رواه مسلم عن عائشة: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه". رواه مسلم عن عائشة برقم 2593
وعنها أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" رواه مسلم برقم 2594
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير" رواه مسلم برقم 2592 والطبراني ورواته ثقات، وأبو داود مختصراً.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من أعطى حظه من الرفق؛ فقد أعطى حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق؛ فقد حرم حظه من الخير" رواه الترمذي برقم 2014 وقال حسن صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"دعوه، وأريقوا على بوله سجلاً من ماء ـ أو ذنوباً من ماء ـ فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين" رواه البخاري برقم 220، والسجل بفتح السين المهملة، وسكون الجيم: هو الدلو الممتلئة ماء. والذنوب بفتح الذال المعجمة مثل السجل، وقيل: هي الدلو مطلقاً سواء كان فيها ماء أو لم يكن، وقيل: دون الملأي.
وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان برقم 1131 .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله تعالى". متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان برقم 1502 .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"التأني من الله، والعجلة من الشيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله، وما من شيء أحب إلى الله من الحمد" رواه أبو يعلي، وقال الهيثمي: رواته رواة الصحيح. انظر المجمع 8/19. ونسبه في "الجامع الصغير" إلى البيهقي في "الشعب"، وسنده عنده ضعيف كما في "الفيض".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج:
"إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة" رواه مسلم برقم 17.
وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثر بها حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء". متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان برقم 629.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:
"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"! متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان برقم 1107.
الإسلام دين الرحمة:
وكما دعا الإسلام إلى الرفق، وحذر من العنف، في الدعوة والتعامل نجده كذلك دعا إلى الرحمة، واعتبرها جوهر أخلاقه، ونهى عن القسوة وذمها، وذم من اتصف بها أشد الذم.
فقد قص القرآن علينا قصة البقرة، التي حدثت في بني إسرائيل، ثم عقب عليها بتوجيه الخطاب لهم بقوله:
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (سورة البقرة: 74)
بل ذكر القرآن أن قسوة القلوب عند بني إسرائيل، كانت عقوبة إلهية لهم على عصيانهم، ونقضهم مواثيقهم وعهودهم مع الله تعالى، كما قال سبحانه بعد أن ذكر ما أخذ عليهم من ميثاق:
{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (سورة المائدة: 13)
والتوراة نفسها تصفهم بأنهم الشعب الغليظ الرقبة.
أما أمة الإسلام فإنها مأمورة بالرحمة، موصوفة بها، بل إن رسالتها نفسها قائمة على الرحمة، بل هي الرحمة ذاتها، كما جاء في القرآن الكريم، فقد خاطب الله رسوله بقوله:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (سورة الأنبياء: 107)
فهو عليه السلام ليس رحمة لجنس العرب أو الشرقيين، أو حتى المسلمين وحدهم، بل هو رحمة للعالمين؛ لأن رسالته رسالة عالمية، كما قال تعالى:
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (سورة الأعراف: 158)
ومادامت دعوته ورسالته للناس جميعاً فإن الرحمة المقترنة بها للناس جميعاً، وإن كان أكثر الناس انتفاعاً بهذه الرحمة هم الذين آمنوا به واتبعوه واهتدوا بهديه، فهم يعيشون في جو هذه الرحمة؛ إيماناً، وتعبداً وفكراً، وخلقاً وسلوكاً، وتعاملاً.
ذلك أن أكثر الناس استفادة من علم الطبيب النطاسي وتجربته هو من يؤمن بطبه ويلجأ إليه، ويأخذ منه، ويعالج على يديه. وهذا هو سر قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (سورة يونس: 57)
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } (سورة الإسراء: 82)
وقال لرسوله:
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (سورة النحل: 89)
ولقد عبر محمد صلى الله عليه وسلم عن نفسه ودعوته بعبارة موجزة، فقال:
"إنما أنا رحمة مهداة" رواه الحاكم 1/35 وصححه، ووافقته الذهبي.
فهو رحمة مهداة من الله للعالمين عامة، وللمؤمنين خاصة، كما قال تعالى:
{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (سورة التوبة: 128)
وقال تعالى:
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (سورة التوبة: 61)
ولا أجد في تعاليم نبي من الأنبياء من الدعوة إلى الرحمة، والحث عليها، والترغيب في التخلق بها، ومعاملة الناس جميعاً، بل الحيوانات على أساسها ما أجد في تعاليم محمد عليه الصلاة والسلام.
وأكتفي بأن انقل جملة أحاديث، من بعض ما انتقيته من كتاب الإمام المنذري في (الترغيب والترهيب) في فصل (الترغيب في الشفقة على خلق الله تعالى من الرعية والأولاد، والعبيد، وغيرهم، ورحمتهم، والرفق بهم والترهيب من ضد ذلك، ومن تعذيب العبد، والدابة، وغيرهما بغير سبب شرعي، وما جاء في النهي عن وسم الدواب في وجوهها) وقد سرد هنا جملة وافرة من الأحاديث، ننتقي منها ما يأتي:
"عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان رقم 1498.
وفي رواية لأحمد: "ومن لا يغفر لا يغفر له" وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. انظر: المجمع (10/193).
وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لن تؤمنوا حتى تراحموا" قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم! قال: "إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة" رواه الطبراني، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. انظر: المجمع 8/78.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" رواه أبو داود برقم 4941 والترمذي برقم 1925 وقال: حسن صحيح.
"وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القوم، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون" رواه أحمد برقم 6541 وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، ورواه البخاري في الأدب المفرد. والأقماع: جمع قمع بكسر القاف وفتح الميم وهو: الإناء الذي يوضع في رءوس الظروف لتملأ بالمائعات. شبه الذين يستمعون القول ولا يعونه ولا يعملون به بالأقماع التي لا تمسك شيئاً مما يفرغ فيها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت الصادق المصدوق صاحب هذه الحجرة أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُنزع الرحمة إلا من شقي" رواه أبو داود برقم 4942 والترمذي برقم 1924 وقال: حسن. ورواه ابن حبان برقم 2065 وقال الشيخ شعيب: إسناده حسن.
وعنه رضي الله عنه قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن أو الحسين بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً قط، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "من لا يرحم لا يُرحم" متفق عليه؛ اللؤلؤ والمرجان برقم 1497.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تقبلون الصبيان وما نقبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك" متفق عليه؛ اللؤلؤ والمرجان برقم 1496.
وعن معاوية بن قرة، عن أبيه رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إني لأرحم الشاة أن أذبحها، فقال: "إن رحمتها رحمك الله" رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي 4/231.
وقد تقدم حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أضجع شاة، وهو يحد شفرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا أحددت شفرتك، قبل أن تضجعها؟!" رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" والحاكم واللفظ له وقال: صحيح على شرط البخاري. وقال المنذري: رجال الطبراني رجال الصحيح، ونحوه قال الهيثمي 4/33.
وعن ابن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من إنسان يقتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها؛ إلا يسأله الله عنها يوم القيامة" قيل: يا رسول الله! وما حقها؟ قال: "حقها أن تذبحها فتأكلها، ولا تقطع رأسها فترمي به" رواه النسائي، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي 4/233 ورواه أحمد في المسند برقم 6551 وصححه الشيخ شاكر.
وعن ابن سيرين أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال له: ويلك "قُدها إلى الموت قوداً جميلاً" رواه عبد الرازق موقوفاً في المصنف برقم 8605.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً أو دجاجة يترامونها، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً ـ فيه الروح ـ غرضاً" متفق عليه؛ اللؤلؤ والمرجان برقم 1279. و"الغرض" بفتح الغين المعجمة والراء: هو ما ينصبه الرماة، يقصدون إصابته، من قرطاس وغيره.
وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من فجع هذه بولديها؟ ردوا ولديها إليها". ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: "من حرق هذه؟" قلنا: نحن، قال: "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار" رواه أبو داود في (كتاب الجهاد) برقم 2675 وهو من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه. وقد رجح البخاري وابن أبي حاتم سماعه منه. وصحح الترمذي حديثاً عنه. والرواية فيه "تفرش" بدل "تعرش" والتفريش مأخوذ من فرش الجناح وبسطه، والتعريش: أن يرتفع فوقهما ويظلل عليهما. "قرية نمل": هي موضع النمل مع النمل.
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فأسر إلى حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس، وكان أحب ما استتر به النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً، أو حائش نخل، فدخل حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن، وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فكست فقال: "من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: "أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكا إلي أنك تجيعه، وتدئبه" ذفراه: مخؤرة رأسه، وهو الموضع الذي يعرق من قفاه. تدئبه: تكده وتتعبه بالعمل المتواصل دون إعطائه حقه من الراحة. والحديث رواه أحمد من مسند عبد الله بن جعفر 1745 وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، وهو عند أبي داود برقم 2549.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض"
وفي رواية:
عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها ـ إذ هي حبستها ـ ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" فكيف بمن يسجن ألوف المؤمنين بغير جرم جنون؟! رواه البخاري برقم 3482 وغيره.
ورواه احمد: من حديث جابر، فزاد في آخره: "فوجبت لها النار بذلك".
وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: مر الرسول صلى الله عليه وسلم ببعير قد لصق ظهره ببطنه، فقال: "اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة" رواه أبو داود، وابن خزيمة في "صحيحه" إلا أنه قال: "قد لحق ظهره". ورقمه عند أبي داود 2458 ورواه أيضاً احمد 4/181، 180، وابن حبان برقم 545 قال الشيخ شعيب: إسناده صحيح، وصححه النووي في "الرياض".
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف، فقال: "دنت مني النار حتى قلت: أي رب! وأنا معهم؟! فإذا امرأة حسبت أنه قال: تخدشها هرة قال: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعاً" رواه البخاري برقم 2364.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من شدة العطش، قال: لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى، فسقى الكلب! فشكر الله له، فغفر له" قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر" رواه البخاري برقم 2466 ومسلم برقم 2244 وانظر اللؤلؤ والمرجان برقم 1447.
وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: "اعلم أبا مسعود!" فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: "اعلم يا أبا مسعود أن الله عز وجل أقدر عليك منك على هذا الغلام" فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً"
وفي رواية: فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله تعالى، فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار" رواه مسلم برقم 1659 وأبو داود برقم 5159 والترمذي برقم 1949 وقال: حسن صحيح.
وعن زاذان وهو الكندي مولاهم، والكوفي قال: أتيت ابن عمر، وقد أعتق مملوكاً له، فأخذ من الأرض عوداً أو شيئاً، فقال: مالي فيه من الأجر ما يساوي هذا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لطم مملوكاً له أو ضربه، فكفارته: أن يعتقه" رواه أبو داود واللفظ له، ورواه مسلم؛ ولفظه قال: "من ضرب غلاماً فه حداً لم يأته، أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه". ورقمه عند أبي داود 5168 وأخرجه مسلم برقم 1657. وكلام ابن عمر يعني: أنه أعتقه كفارة عن ضربه له.
وعن عمار بن ياسر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضرب مملوكه ظلماً أقيد (أي اقتص) منه يوم القيامة"رواه الطبراني، وقال الهيثمي: رواته ثقات. انظر المجمع 4/238.
وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم نبي التوبة: "من قذف مملوكه وهو برئ مما قال أقيم عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال" رواه البخاري برقم 6858 ومسلم برقم 1660.
وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للملوك طعامه وشرابه وكسوته، ولا يكلف إلا ما يطيق، فإن كلفتموهم فأعينوهم، ولا تعذبوا عباد الله خلقاً أمثالكم" رواه ابن حبان برقم1205 وقال الهيثمي في الموارد: قلت: في الصحيح بعض أوله.
وعن عمرو بن حريث رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما خففت على خادمك من عمله كان لك أجراً في موازينك" رواه ابن حبان برقم 4314 وقال الشيخ شعيب: إسناده صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من ضرب سوطاً ظلماً اقتص منه يوم القيامة" رواه البزار، والطبراني، وقال الهيثمي: إسناده حسن. انظر المجمع 10/353.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وكان بيده سواك، فدعا وصيفة له ـ أو لها ـ حتى استبان الغضب في وجهه، وخرجت أم سلمة إلى الحجرات، فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهمة، فقالت: ألا أراك تلعبين بهذه البهمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك؟ فقالت: لا، والذي بعثك بالحق ما سمعتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك" رواه أحمد، وأبو يعلي، والطبراني، وقال الهيثمي: إسناده جيد. انظر المجمع 10/353.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه حمار قد وسم في وجهه، فقال: "لعن الله الذي وسمه" رواه مسلم برقم 2117
وفي رواية له: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه. ورواه الطبراني بإسناد جيد مختصرا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من يسم في الوجه. في نسخة: "من يسم الوجه" والوسم: الكي. لقد حرص الإسلام على صيانة وجه الحمار، فكيف بالإنسان؟!
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: مر حمار برسول الله صلى الله عليه وسلم قد كوي في وجهه، يفور منخراه من دم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من فعل هذا" ثم "نهى عن الكي في الوجه، والضرب في الوجه" رواه ابن حبان في "صحيحه" وهو في "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" برقم 2003. قال الشيخ شعيب: إسناده صحيح، والإحسان برقم 5626.
والأحاديث في النهي عن الكي في الوجه كثيرة.
وهذا الحشد الجم من الأحاديث النبوية الصحاح في فضل الرحمة والترغيب فيها، وشمولها للإنسان، ولاسيما الضعفاء من الخلق، وكذلك للحيوانات العجماوات التي تؤكل أو تركب، والتي لا تؤكل ولا تركب مثل الهر والكلب، ولا أحسب ديناً من الأديان يشتمل على هذه الوصايا المكررة والمؤكدة ترغيباً في الرحمة والشفقة على خلق الله وترهيباً من الشدة والقسوة على عباد الله.
الرحمة في حالة الحرب:
وأظهر ما تكون الرحمة التي أمر بها الإسلام في حالة الحرب التي كثيراً ما تحكمها عواطف الغضب على العدو، وتبرر عوامل الغلظة عليه، والانتقام منه، فيقتل من لا يستحق القتل، أو يقتل بطريقة لا تليق بالإنسان، فيها تعذيب له، أو تمثيل بجثته، أو إظهار التشفي منه.
ومثل ذلك: قطع الأشجار المثمرة، وهدم المباني والمنشآت المدنية، وتحريق كل ما تناله يد الإنسان، وفقاً للنظرية التي يعبرون عنها بـ(سياسة الأرض المحروقة).
وهذا ما سار عليه الغرب ـ للأسف ـ في عامة حروبه، ولاسيما في الحرب العالمية الثانية، التي قتل فيها عشرات الملايين، حتى استحلت أمريكا لنفسها ضرب مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين بالقنابل الذرية، حتى بعد استسلام اليابان!
والغرب هو الذي اخترع أسلحة الدمار الشامل وامتلكها، ويطالب العالم اليوم بالتخلص منها، ليظل هو وحده الذي يمتلكها.
وسر ذلك أن الحرب عنده كالسياسة والاقتصاد، منفصلة عن الدين والقيم والأخلاق. أما الإسلام فالحرب كالسياسة والاقتصاد لا تنفصل عن قيمه الدينية والأخلاقية لهذا تتجلى فيها آثار العدل والرحمة، في جوانب شتى.
من ذلك: أنه لا يقتل في الحرب إلا من يقاتل. ولهذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة في بعض الغزوات، فأنكر قتل النساء والصبيان. رواه البخاري عن ابن عمر في الجهاد 4/74 كما رواه مسلم في الجهاد، باب تحريم قتل النساء والصبيان، عن ابن مسعود وابن عمر برقم 1744.
وفي موقف آخر؛ قال عن المرأة المقتولة: "ما كانت هذه لتقاتل"! رواه أبو داود في الجهاد عن رباح بن ربيع، رقم 2669 وابن ماجه برقم 2882 ونسبه المنذري للنسائي أيضاً.
وكان من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم لأمرائه، وقادة سراياه: "لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً" رواه أحمد 1/493 وأبو يعلي برقم 2549 والطبراني في "الكبير" 11/179 والبيهقي في "السنن" 13/385 عن ابن عباس رضي الله عنهما وحسن إسناده محققو المسند، حديث رقم 2728.
فهو هنا ينهى عن الغلول ـ وهو الخيانة في الغنيمة ـ وعن الغدر ـ وهو نقض العهد ـ وعن التمثيل ـ وهو تشويه القتلى بقطع الأنوف أو الآذان، أو بقر البطون ـ ونحو ذلك.
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدرك خالد بن الوليد في إحدى المعارك ليبلغه هذا التوجيه النبوي:
"قل لخالد: لا تقتلن امرأة ولا عسيفاً" وهو جزء من الحديث الذي رواه أبو داود برقم 2669.
والعسيف: هو الأجير والتابع. ولا غرو أن قال الرسول الكريم:
"أعف الناس قتلة: أهل الإيمان" رواه أبو داود عن ابن مسعود في الجهاد، باب النهي عن المثلة، برقم 2666 وابن ماجه في الديات، رقم 2681 وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح.
وكذلك كان خلفاؤه الراشدون من بعده، على نهجه في العفة والرحمة. وأوصى أبو بكر قائده "يزيد بن أبي سفيان" حين وجهه إلى الشام، فقال: لا تقتل صبياً، ولا امرأة، ولا هرماً.
وعن عمر أن أوصى "سلمة بن قيس" فقال: لا تقتلوا امرأة، ولا صبياً، ولا شيخاً هرماً. (الهرم: الكبير الفاني). قال في المغني 13/178: رواهما (أي أثر أبي بكر وأثر عمر) سعيد في سننه.
وروى عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } (سورة البقرة: 190)
قال: لا تقتلوا النساء، والصبيان، والشيخ الكبير.
نهى أبو بكر عن قتل الرهبان في صوامعهم؛ لأنهم لا يقاتلون تديناً.
وكذلك جاء عن عمر: اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب. البيهقي في سنن الكبرى 9/1 وسعيد بن منصور في سننه 2/239.
وخلاصة هذا كله: أن الحرب في الإسلام لا يقصد بالقتل فيها إلا من قاتل المسلمين بالفعل، وحمل السلام في وجوههم.
وعند قتل من يقاتل: لا يشوه ولا يمثل، ولا يحمل رأسه إلى مكان آخر، ليراه القائد الأعلى أو الخليفة، لأنه نوع من المثلة المنهي عنها.
وقد حمل إلى أبي بكر رضي الله عنه رأس أحد القواد في صرة، فلما كشف عنها رأى الرأس، وعرف أنه لأحد قوادهم، ولما سألهم عن ذلك، قالوا: إنهم يفعلون ذلك برءوس قادتنا! فقال: أستنان (أي اقتداء) بفارس والروم؟! والله! لا يحمل إلي رأس بعد اليوم!
ومن التوجيهات القرآنية: أنه أمر المسلمين بعد (الإثخان) في الأعداء، أي إضعافهم في القتال أن يكفوا عن القتل ويكتفوا بالأسر، ثم خيرهم في الأسرى بين إطلاق سراحهم مناً عليهم بلا مقابل، أو فدائهم بمال أو أسرى، قال تعالى:
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } (سورة محمد: 4)
فهل عرف التاريخ أمة عندها مثل هذه التعاليم التي تغرس العفة والرحمة حتى في حالات الحروب التي يتعدى الناس فيها عادة الحدود!
فقه جماعات العنف:
وإذا كان هذا من موقف الإسلام في دعوته إلى الرفق واللين، وإلى الرحمة والرأفة، وذمه للعنف والقسوة، فلماذا ظهرت جماعات العنف في بلادنا الإسلامية؟ وما الأساس الشرعي الذي تستند إليه، ولاسيما أنها تنتسب إلى الإسلام؟
ونقول هنا: إن العنف الذي تمارسه بعض الجماعات التي تنسب للإسلام إنما هو إفراز لفلسفة معينة، تتبناها هذه الجماعات، وثمرة لفقه خاص له وجهته ومفاهيمه وأدلته التي تستند إليها هذه الفئة من الناس.
ومن نظر إلى جماعات العنف القائمة اليوم في عالمنا العربي مثلاً وجد لها فلسفتها ووجهة نظرها، وفقهها الذي تدعيه لنفسها، وتسنده بالأدلة من القرآن والسنة، ومن أقوال بعض العلماء.
صحيح أنها تعتمد على المتشابهات وتدع المحكمات، وتستند إلى الجزئيات وتهمل الكليات، وتتمسك بالظواهر وتغفل المقاصد، كما تغفل ما يعارض هذه الظواهر من نصوص وقواعد، وكثيراً ما تضع الأدلة في غير موضعها، وتخرجها عن سياقها وإطارها، ولكن على أي حال لها فقه مزعوم يبرر العنف، ويروج لدى بعض الأغرار من الشباب والسطحيين من الناس، الذين يقفون عند السطوح ولا يغوصون في الأعماق، أساسه فقه الخوارج قديماً، الذي كانوا يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، كما صحت بذلك الأحاديث.
العنف الداخلي:
بدأت هذه الجماعات بالعنف في داخل أوطانها أنفسها، أي العنف ضد الأنظمة الحاكمة. فعلى أي أساس بررت ذلك وأجازته من الوجه الشرعية، في نظرها على الأقل؟
مبررات جماعات العنف ومدى اعتبارها:
إن فقه جماعات العنف يقوم على أن الحكومات المعاصرة حكومات كافرة؛ لأنها لم تحكم بما أنزل الله واستبدلت بشريعته المنزلة من الخالق القوانين التي وضعها المخلوق، وبهذا وجب الحكم عليهم بالكفر والردة، والخروج من الملة، ووجب قتالها حتى تدع السلطة لغيرها إذ كفرت كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان.
ويؤكد فقه هذه الجماعات كفر هذه الأنظمة الحاكمة بأمر آخر، وهو: أنها توالي أعداء الله من الكفار الذين يكيدون للمسلمين، وتعادي أولياء الله من دعاة الإسلام، الذين ينادون بتحكيم شرع الله تعالى، وتضطهدهم وتؤذيهم. والله تعالى يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (سورة المائدة: 51)
والحكومات المعاصرة تعارض هذه التهم بدعاوى مختلفة، منها: أنها تعلن أن دينها الرسمي هو الإسلام، وأنهم ينشئون المساجد لإقامة الصلاة، ويعينون الأئمة والخطباء والمؤذنين، ويؤسسون المعاهد الدينية، والكليات الشرعية، ويوظفون الوعاظ ومدرسي الدين في المدارس وغيرها، ويحتفلون برمضان وعيدي الفطر والأضحى، ويذيعون تلاوة القرآن في الإذاعات والتلفازات، إلى غير ذلك من المظاهر الدينية، التي تثبت إسلامية الدولة بوجه من الوجوه.
كما أن بعض دساتير هذه البلاد يعلن أن الشريعة مصدر أو المصدر الرئيسي للتقنين، وبعضها يعتذر بضعفه أمام قوى الضغط الغربي، وبعضها وبعضها ..
فتوى ابن تيمية:
كما تعتمد جماعات العنف على فتوى الإمام ابن تيمية ـ في قتال كل فئة تمتنع عن أداء شريعة ظاهرة متواترة من شرائع الإسلام ـ كالصلاة أو الزكاة، أو الحكم بما أنزل الله في الدماء والأموال والأعراض، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى آخره ـ وهو ما اعتمد عليه كتاب (الفريضة الغائبة) لجماعة الجهاد، وجعل هذه الفتوى الأساس النظري لقيام جماعته، وتسويغ أعمالها كلها.
ويستدلون هنا بقتال أبي بكر ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم لمانعي الزكاة.
فكيف بمن يمتنعون عن تطبيق أكثر أحكام الشريعة، برغم مطالبة جماهير الناس بها، وخصوصاً العلماء والدعاة، بل هم أشد الناس خصومة لهؤلاء، وتضييقاً عليهم، ومعاداة لهم؟!
ونسى هؤلاء أن الذي يقاتل هذه الفئة الممتنعة ولي الأمر، وليس عموم الناس، وإلا أصبح الأمر فوضى!
وتعتمد جماعات العنف أيضاً على أن هذه الأنظمة غير شرعية، لأنها لم تقم على أساس شرعي من اختيار جماهير الناس لها، أو اختيار أهل الحل والعقد، وبيعة عموم الناس، فهي تفتقد الرضا العام، الذي هو أساس الشرعية، وإنما قامت على أسنة الرماح بالتغلب والسيف والعنف، وما قام بقوة السيف يجب أن يقاوم بسيف القوة، ولا يمكن أن يقاوم بسيف القلم!
ونسى هؤلاء ما قاله فقهاؤنا من قديم أن التغلب هو إحدى طرائق الوصول إلى السلطة، إذا استقر له الوضع، ودان له الناس.
وهذا ما فعله عبد الملك بن مروان، بعد انتصاره على ابن الزبير رضي الله عنه وقد أقره الناس، ومنهم بعض الصحابة مثل: ابن عمر وأنس وغيرهما حقناً للدماء، ومنعاً للفتنة، وقد قيل: سلطان غشوم، خير من فتنة تدوم.
وهذا من واقعية الفقه الإسلامي، ورعايته لتغير الظروف.
وترى جماعات العنف كذلك أن هذه المنكرات الظاهرة السافرة ـ التي تبيحها هذه الحكومات ـ من الخمر، والميسر، والزنى، والخلاعة والمجون، والربا، وسائر المحظورات الشرعية: يجب أن تغير بالقوة لمن يملك القوة، وهي ترى أنها تملكها، فلا يسقط الوجوب عنها إلى التغيير باللسان بدل اليد، كما في الحديث الشهير:
"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فليغيره بقلبه" رواه مسلم.
ويغفل هؤلاء الضوابط والشروط اللازمة لتغيير المنكر بالقوة التي قررها العلماء.
وبعض هذه الجماعات تنظر إلى المجتمع كله أنه يأخذ حكم هذه الأنظمة التي والاها ورضى بها، وسكت عنها، ولم يحكم بكفرها، والقاعدة التي يزعمونها أن من لم يكفر الكافر فهو كافر!
وبهذا توسعوا وغلوا في (التكفير) وكفروا الناس بالجملة.
وعلى هذا لا يبالون من يقتل من هؤلاء المدنيين، الذين لا ناقة لهم في الحكومة ولا جمل؛ لأنهم كفروا فحلت دماؤهم وأموالهم.
كما يرون بالنظر إلى الأقليات غير المسلمة أنهم نقضوا العهد، بعدم أدائهم للجزية، وبتأييدهم لأولئك الحكام المرتدين، وأنظمتهم الوضعية، ولرفضهم للشريعة الإسلامية. وبهذا لم يعد لهم في أعناق المسلمين عهد ولا ذمة، وحل دمهم ومالهم. وبهذا استحلوا سرقة محلات الذهب من الأقباط في مصر، كما استحلوا سرقة بعض المسلمين أيضاً.
وهم يرون أن السياح وأمثالهم، الذين يدخلون بلاد المسلمين بتأشيرات رسمية، وترخيصات قانونية، والذين يعدهم الفقهاء (مستأمنين) ولو كانت دولهم محاربة للمسلمين، يرون هؤلاء مستباحي الدم؛ لأنهم يأخذوا الإذن من دولة شرعية، ولأن بلادهم نفسها محاربة للإسلام، فلا عهد بينهم وبين المسلمين. والواجب أن يقاتل هؤلاء ويقتلوا، فلا عصمة لدمائهم وأموالهم!!
وكذلك يقول هؤلاء عن الدور الغربية ـ التي يقيم بعض هؤلاء فيها ـ وقد أعطتهم حق الأمان أو حق اللجوء السياسي لمن طردوا من بلادهم الأصلية، فآوتهم هذه الدول من تشرد، وأطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف.
يقول هؤلاء بكل جرأة وتبجح: إن هذه الدول كلها كافرة، محاربة للإسلام وأمته، ويجب أن نقاتلهم جميعاً حتى يسلموا فيسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. ولما سئل بعضهم عن إقامته في هذه البلاد، قال: إنها كدورة المياه، نستخدمها للضرورة رغم نجاستها.
وهؤلاء الكفار: دماؤهم حلال للمسلمين، بنصوص الدين.
ويذكرون هنا آيات وأحاديث يضعونها في غير موضعها، فإذا واجهتهم بغيرها من الآيات والأحاديث التي هي أكثر منها وأظهر وأصرح، قالوا لك: هذه نسختها آية السيف!
هذا هو فقه جماعات العنف باختصار، الذي على أساسه ارتكبوا ما ارتكبوا من مجازر تشيب لهولها الولدان، وتقشعر من بشاعتها الأبدان: ضد مواطنيهم من مسلمين وغير مسلمين، وضد السياح وغيرهم من الأجانب المسالمين.
وهو ـ بلا ريب ـ فقه أعوج، وفهم أعرج، يعتوره الخلل والخطل من كل جانب. ويحتاج من فقهاء الأمة إلى وقفة علمية متأنية لمناقشتهم في أفكارهم هذه، والرد عليهم فيما أخطأوا فيه في ضوء الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وإجماع الأمة.
ظاهرة العنف إسلامية أم عالمية؟
وهنا يحق لنا أن نسأل عن العنف: هل هو ظاهرة إسلامية؟ أو هو ظاهرة عالمية؟ فبعض أبواق الإعلام الغربي ـ ومن يدور في فلكها في ديارنا ـ تريد أن يبرز الإرهاب، وكأنه مقصور على المسلمين أو كأن جنسيته إسلامية، وخصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر، وهذا خطأ فاحش، بل ظلم مبين.
لقد وجدنا العنف في أقطار ودول شتى في أنحاء العالم، لقد وجدناه في كل القارات في أيرلندا، وفي اليابان، وفي أمريكا نفسها، وفي الهند، وفي إسرائيل. فلماذا ألصق بالمسلمين وحدهم دون غيرهم؟ إنه الإعلام الغربي والأمريكي والصهيوني، الذي يكتم الحق، ويشيع الباطل، ويقولون على الناس الكذب وهم يعلمون.
أسباب العنف في العالم الإسلامي:
صحيح أن هناك عنفاً في العالم الإسلامي، ولكنه عنف له أسبابه ودوافعه، فما هي؟
أسبابه:
أما أسباب هذا العنف، فيمكن تلخيصها فيما يلي:
1. المظالم الواقعة على المسلمين من الخارج: فلسطين ـ البوسنة ـ كوسوفو ـ الشيشان ـ كشمير ـ السودان.
2. طغيان بعض الحكام، واضطهادهم لدعاة الإسلام، ومصادرة حرياتهم، وإغلاق الأبواب كلها دونهم، وعدم تمكينهم من حرية الدعوة مثل غيرهم، واستجابتهم لوساوس القوى المعادية للإسلام من صليبيين وغيرهم.
3. التضييق على الفكر الوسطي المعتدل، مما أتاح لفكر العنف أن يعمل في السراديب تحت الأرض، حيث لا يحاكم ولا يناقش. ولو عمل تحت سمع القانون وبصره لكان أقل وأهدى.
4. الخلل الفكري والفقهي لدى بعض الفصائل الداعية للإسلام، التي وقفت عند بعض الظواهر من النصوص، ولم تغص في مقاصدها، ولم تضم بعضها إلى بعض.
وهذه أهم الأسباب في ـ رأيي ـ وينبغي أن نلقي الضوء على السبب الأخير لخطورته، وشدة تأثيره.
حقيقة فصائل العنف:
هذه الفصائل الداعية للعنف إما:
1. عملاء للقوى الصهيونية والصليبية والمادية المعادية للإسلام، اخترقوا الجماعات الإسلامية، وحركوها من حيث لا تدري.
2. أو جهلاء مخلصون، يعملون مجاناً لحساب هذه القوى المعادية من حيث لا يشعرون، وهذا هو الأغلب. ولو أن القوى المعادية استأجرت أناساً ودفعت لهم مئات الملايين ما خدموها بأفضل مما يخدمهم به هؤلاء في تشويه صورة الإسلام. جهل هؤلاء جهل مركب (جهل من لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري) كما قال تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } (سورة البقرة: 11)
آفة هؤلاء ـ في الأغلب ـ في عقولهم، وليست في ضمائرهم، فأكثرهم مخلصون، ونياتهم صالحة، وهم متعبدون لربهم، شأنهم شأن أسلافهم من الخوارج الذين كفروا عامة المسلمين، وكفروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، واستحلوا دمه، ودماء المسلمين معه، وصحت الأحاديث في ذمهم من عشرة أوجه.
قالت الأحاديث في الصحيحين:
"يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، وقراءته إلى قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" ابن ماجه رقم 169 ـ الحاكم 2/147.
فهم صوام قوام، قراء عباد، ولكن قراءتهم للقرآن لا تتجاوز حناجرهم، أي لم تدخل إلى أعماق قلوبهم وعقولهم ليفقهوه حق الفقه، ويتعرفوا على أسراره ومقاصده، دون أن يجعلوا همهم الوقوف عند ألفاظه وظواهره.
وقد أدى بهم هذا الفقه الأعوج إلى استباحة دماء المسلمين الآخرين وأموالهم، حتى استباحوا فارس الإسلام وابنه البكر ـ علي بن أبي طالب وقال شاعرهم يمدح قاتله:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إني لأذكره يوماً فأحسبه إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً أوفى البرية عند الله ميزانا
حسن النية لا يبرر الأعمال الطائشة:
ولقد حذر رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم من الأعمال الطائشة، والتصرفات الرعناء، التي قد يقوم بها بعض الناس الطيبين، بنوايا حسنة، وبواعث نبيلة، دون أن ينظروا في مآلاتها، ويفكروا في وخيم عواقبها، وذلك لقصر نظرهم، وضيق أفقهم، فإذا لم يتنبه المجتمع لهم، ويأخذ على أيديهم، ويمنعهم من الاستمرار في تفكيرهم الأخرق، فإنهم سيودون بالمجتمع كله، وينتهي بهم طيشهم ـ مع حسن نيتهم ـ إلى هلاكهم وهلاك الجماعة كلها معهم.
ولذا حذر الرسول الكريم الجماعة ـ ممثلة في أهل البصيرة وأولي العلم والحكمة ـ أن تتيقظ لهم، وتأخذ على أيديهم، تمنعهم من تنفيذ ما فكروا فيه وعقدوا عليه العزم؛ حفظاً لوجود الجماعة كلها، وحرصاً على حياتها وحياتهم معها.
وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك مثلاً حياً رائعاً ناطقاً، وهو مثل ركاب السفينة الواحدة التي تتكون من طابقين أو أكثر، وبعض الناس في أعلاها، وبعضهم في أسفلها. فلو أراد ركاب الطابق الأسفل أن يخرقوا في نصيبهم خرقاً، ليستقوا منه الماء مباشرة من النهر أو البحر، بدعوة أنهم يخرقون في نصيبهم وهم أحرار فيه، وأنهم لا يريدون أن يؤذوا من فوقهم بكثرة المرور عليهم بين حين وآخر.
وليس أفضل من أن نقرأ هذا الحديث النبوي الرائع بصيغته كاملاً، كما جاء في صحيح البخاري:
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً". رواه البخاري برقم 2493.
إن الحديث يبين لنا المسئولية التضامنية المشتركة للأمة، وأنها لا يجوز لها أن تدع بعض أبنائها يتسببون في غرقها بجهلهم وسوء تصرفهم، وإ كانوا مخلصين، فالإخلاص لا يكفي وحده، ولكن لابد من تحري الصواب مع الإخلاص.
فقه هؤلاء الخوارج المحدثين فقه أعرج أعوج يقوم على ما يأتي:
1. خلل في فقه الجهاد.
2. خلل في فقه تغيير المنكر بالقوة.
3. خلل في فقه الخروج على الحكام.
4. خلل في فقه التكفير.
وسنتحدث عن كل واحدة من هذه الألوان من الخلل بما يوضحه، ويزيل عنه اللبس والغموض.
1. الخلل في فقه الجهاد:
يبدأ الخلل في فقه الجهاد عندهم أنهم يرون قتال كل الكفار واجباً، وإن كانوا مسالمين للمسلمين.
ونريد أن نسألهم هنا سؤالاً صريحاً: لماذا نقاتل الكفار؟ لكفرهم؟ أو لعدوانهم؟
لو كان القتال لمجرد الكفر لوجب أن نقتل الشيوخ، والنساء، والرهبان، والحراثين، والتجار، ومن في حكمهم ممن لا يحارب ولا يقاتل، ولكن هذا محظور، ولهذا نهتنا الأحاديث النبوية، والوصايا الراشدية من أبي بكر وعمر، عن قتلهم.
وجاء عن ابن عباس، في تفسير قوله تعالى: (ولا تعتدوا) قال: الاعتداء: قتل النساء والصبيان.
وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (قاعدة في قتال الكفار) على أن من زعم أن قوله تعالى:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } (سورة البقرة: 190)
وأضيف إلى ذلك: أنه معلل بعلة لا تقبل النسخ، وهي قوله: (إن الله لا يحب المعتدين) ومثل هذا لا ينسخ أبداً.
من أحكام القتال في القرآن:
وينبغي لمن أراد أن يعرف أحكام القتال أن يرجع أول ما يرجع إلى المصدر الأول للإسلام، وهو القرآن وما يبينه من صحيح السنة. ومن أبرز هذه السبيل.
تعليق