أسامة أنور عكاشة يختلف معنا.. ويقول: إنه يسبح ضد التيار فى مسألة صدام حسين
العملاق عبدالناصر خارج المقارنة..
أعرف أننى أسبح ضد التيار الجارف الذى يدفع مياهه أمواجا تغمر العقول وتطمر المنطق وتحيل الساحة إلى شادر عزاء ومحزنة و مناحة منصوبة على تنفيذ حكم الإعدام فى الرئيس العراقى السابق صدام حسين.. وأعرف أن سباحتى هذه ستعرضنى لسهام تطلق على من كل صوب فى كوكتيل الاتهامات المعهودة وأولها التنكر للقومية والعروبة وآخرها العمالة للأمريكان.. وربما الإسرائيليين أيضا.
والأمر لا يهمنى حقيقة لأننى أدرك تماما أن الوعى الوطنى الحقيقى سيزن الأمور بميزان الموضوعية المجرد من الهوى.. وأنا أدرك أيضا أن هيستيريا استشهاد صدام لن تلبث أن تنجلى عن تغليب العقل والكف عن أسلوب الصراخ ولطم الخدود ثم يأتى فى النهاية دور التحليل الهادئ الرصين الذى يضع الأحداث فى سياقها المنطقى والطبيعى..
وكان بإمكانى أن اكتفى بالفرجة.. وألتمس العذر لمن تملكهم الهياج الانفعالى تحت تأثير صدمة المشهد السوقى الجارح لإعدام الرجل صبيحة يوم العيد.. لولا أن انهالت التعليقات والكتابات الصحفية المتشنجة والصيحات والهتافات من حناجر محترفى التهييج والتحريض الغوغائى.. وللأسف كان بعض متصدريها ممن ينتمون تنظيميًا للتيار الناصرى.. أو من عدوا دائما من الفصيل المنضوى تحت لواء الأفكار والأدبيات الناصرية.. وانزلق بعضهم ربما تحت تأثير الحماسة أو الخضوع لمشاعر القطيع إلى درجة تشبيه صدام حسين بجمال عبدالناصر مشايعين للزعم الذى كان صدام نفسه والبعثيون من رفاقه هم أول من روج له.. حين ادعى الناصرية فى بدايات رحلته وتخطيطه للصعود ثم لم يلبث أن عرض نفسه كوريث للزعامة الناصرية التى كانت تقود العالم العربى بأسره متوهما أنه يستطيع ملء الفراغ العملاق بمجرد الادعاء وإطلاق الألقاب الفخيمة من قبيل الزعيم الأوحد والزعيم الضرورة وقائد النشامى.. وكبير الأشاوس.. وحارس البوابة الشرقية وصاحب القادسية الجديدة ونعلم جميعا إلى أى شيء أدت هذه الادعاءات والفرقعات اللفظية بدءا من شن الحرب على إيران.. واحتلال الكويت وجلب الأمريكان وجيوش التحالف فى عاصفة الصحراء.. ثم تجويع أطفال العراق وفى نفس الوقت بناء القصور الرئاسية واستمطار اللعنات من السماء على الأمريكان.. ثم تمهيد الطريق للغزو الأمريكى المباشر والفرار من بغداد وتركها مفتوحة ليدخلها الغزاة دون طلقة مقاومة واحدة.
ويجيء بعد هذا من يزرف دموع عبدالناصر على قبر صدام حسين.. وياللعار!.
أهكذا تحيون ذكرى جمال عبدالناصر بتشبيهه بصدام؟ ثم تدعون بعدها أنكم ناصريون أو أوفياء لنهج عبدالناصر.
والأستاذ الفصيح ذرب اللسان الذى وقف يهتف مساويا ومضاهيا ومدعيا: ما أشبه شهيد العراق بعملاق مصر.. والآخر محترف الهتاف الحنجورى الذى يتقلب كل يوم على فراش أبطاله أرباب السلطة مرة وأعدائها مرة ويوزع خطاه.. خطوة معك وخطوك ضدك.. الذى عبس وعقد حاجبيه واستنفر كل دمائه المنتفخة بها أوداجه ليعلن أن صدام قد أصبح شهيدا ورمزا وتفوق على كل زعامات العرب فى العصر الحديث.. وقد يحلو لنا أن نتناول الكلام من جانبه الفكه فنضحك ونتبادل الهمس عادته ولا حايشتريها؟ ولكن الأمر فى حقيقته يدعو للحزن والكآبة لأن الرجل يصر فى كل مناسبة على ترديد انتمائه لعبدالناصر والناصرية ومصدر الحزن والكآبة ليس صاحبنا هذا وحده ففى تياره يسير معظم الرفاق الذين خلطوا فى سذاجة منقطعة النظير بين عبدالناصر.. وصدام حسين! فكانوا تماما كالدب الذى سحق رأس صاحبه بحجر ليبعد عنه حشرة يخشى أن توقظه من نومه. ولم يحاول أحدهم أن يسأل نفسه: ما هى أوجه الشبه بين الرجلين غير أن كلا منهما حكم شعبه بمفرده.. وإذا كانت الشرعية الثورية قد أباحت لعبدالناصر أن يؤجل البند المتعلق بإقامة الديمقراطية السليمة فى أجندته.. كتاب فلسفة الثورة فما هى الشرعية التى استند إليها صدام حسين؟ ونعلم أنه لم يحكم بعد سقوط الحكم الملكى مباشرة لنبرره بالشرعية الثورية أيضا.. ألسنا بهذه المقارنة العرجاء غير المستقيمة نؤكد أن التشابه المزعوم ليس إلا اتفاقا فى صورة الديكتاتور ومنهجه؟ ألم سمع من كل أعداء عبدالناصر عبارة: الناصريون يبكون صداما لأنه يحاكى النموذج الناصرى؟
ونعود مرة أخرى لنتساءل ما هى أوجه الشبه بين الرجلين؟
هل قاد عبدالناصر حربا ضد جار مسلم؟.. هل احتل ليبيا أو السودان مثلا؟.. هل اضطهد أى مصرى يختلف طائفيا أو دبر مذابح للأقباط أو أهل النوبة؟ هل أطلق عبدالناصر الغازات السامة على مواطنيه؟.. هل هناك فى سجل الحكم الناصرى أسماء مذابح كالتى جرت فى البصرة جنوبا أو فى حلابجة شمالا؟ وكم قصرا بنى عبدالناصر لنفسه؟.
قال أحد الصحفيين العرب الموالين للحكم الصدامى فى العراق وهو صحفى مشهور بالعمالة القابضة إن صدام انتصر على الفرس.. بينما هُزم عبدالناصر أمام الإسرائيليين وقد أورد هذا فى مقال نشره منذ سنوات بادئا حملة لتقزيم دور وحجم عبدالناصر لصالح تأليه وتفخيم صورة صدام.. ومنذ عامين فقط كتبت له ما يشبه رسالة مذكرا إياه بأن عبدالناصر لم يترك القاهرة ويفر ويتركها للإسرائيليين وهم على وشك عبور القناة فى العام السابع والستين من القرن الماضى.. وكنت أعلق على سقوط بغداد بالسهولة التى أذهلت كل من صدقوا زعم النشامى ووزير إعلامه الصحاف.
وأعلم أن عقد المقارنة فى حد ذاته خطأ جسيم فى زمن تردى فيه العرب إلى أعمق هوة يتمناها لهم أعداؤهم، ولكنى أردت فقط أن ألفت أنظار السادة الذين يحترمون جمال عبدالناصر وهم كل المصريين: من أحبه ومن عارضه أن المسافة التى تفصل بين عبدالناصر وبين صدام أبعد كثيرا من المسافة التى تفصل بين الكواكب فى المجموعة الشمسية.. وأنا لا أريد أن ألوم من أحزنه إعدام صدام أو أنكر عليه حقه فى البكاء والعويل.. وأرى أن من حقه أن يتلو قصائد الرثاء المطولة فى مأتمه.. فقد يخضع التاريخ السياسى لأى حاكم للاختلاف عليه.. ولكن أن نسوى بين الثائر والسفاح فهذا نوع من التضليل أو التغرير واستغلال عواطف البسطاء لتزوير وعيهم.. ولا يجمل بنا أن نقع فى هذا الفخ.. وأذكر أخيرا حوارا دار على شاشة إحدى الفضائيات العربية فى برنامج إخبارى قال فيه الضيف، وهو مفكر لبنانى معروف، إن عبدالناصر هو الذى منع عبدالكريم قاسم فى أول الستينيات من احتلال الكويت، وأنه لو كان موجودا فى العام التسعين لما تمكن صدام من اقتراف حماقته فى غزو الكويت.. وإذا بالمحاور الآخر يعقب قائلا: لو كان عبدالناصر موجودا فى التسعين ما كان هناك أصلا من يدعى صدام حسين.
لكننا تعودنا فى تراثنا العربى أن نترحم على الراحلين جميعا.. وليتنا نفعل.. فقط علينا أن نحذر الخلط والوقوع فى خطيئة الدببة!.
تعليقات على مقال الأستاذ أسامة أنور عكاشة ننشرها العدد المقبل.
14 يناير 2007
http://www.al-araby.com/articles/104...1041-inv04.htm
العملاق عبدالناصر خارج المقارنة..
أعرف أننى أسبح ضد التيار الجارف الذى يدفع مياهه أمواجا تغمر العقول وتطمر المنطق وتحيل الساحة إلى شادر عزاء ومحزنة و مناحة منصوبة على تنفيذ حكم الإعدام فى الرئيس العراقى السابق صدام حسين.. وأعرف أن سباحتى هذه ستعرضنى لسهام تطلق على من كل صوب فى كوكتيل الاتهامات المعهودة وأولها التنكر للقومية والعروبة وآخرها العمالة للأمريكان.. وربما الإسرائيليين أيضا.
والأمر لا يهمنى حقيقة لأننى أدرك تماما أن الوعى الوطنى الحقيقى سيزن الأمور بميزان الموضوعية المجرد من الهوى.. وأنا أدرك أيضا أن هيستيريا استشهاد صدام لن تلبث أن تنجلى عن تغليب العقل والكف عن أسلوب الصراخ ولطم الخدود ثم يأتى فى النهاية دور التحليل الهادئ الرصين الذى يضع الأحداث فى سياقها المنطقى والطبيعى..
وكان بإمكانى أن اكتفى بالفرجة.. وألتمس العذر لمن تملكهم الهياج الانفعالى تحت تأثير صدمة المشهد السوقى الجارح لإعدام الرجل صبيحة يوم العيد.. لولا أن انهالت التعليقات والكتابات الصحفية المتشنجة والصيحات والهتافات من حناجر محترفى التهييج والتحريض الغوغائى.. وللأسف كان بعض متصدريها ممن ينتمون تنظيميًا للتيار الناصرى.. أو من عدوا دائما من الفصيل المنضوى تحت لواء الأفكار والأدبيات الناصرية.. وانزلق بعضهم ربما تحت تأثير الحماسة أو الخضوع لمشاعر القطيع إلى درجة تشبيه صدام حسين بجمال عبدالناصر مشايعين للزعم الذى كان صدام نفسه والبعثيون من رفاقه هم أول من روج له.. حين ادعى الناصرية فى بدايات رحلته وتخطيطه للصعود ثم لم يلبث أن عرض نفسه كوريث للزعامة الناصرية التى كانت تقود العالم العربى بأسره متوهما أنه يستطيع ملء الفراغ العملاق بمجرد الادعاء وإطلاق الألقاب الفخيمة من قبيل الزعيم الأوحد والزعيم الضرورة وقائد النشامى.. وكبير الأشاوس.. وحارس البوابة الشرقية وصاحب القادسية الجديدة ونعلم جميعا إلى أى شيء أدت هذه الادعاءات والفرقعات اللفظية بدءا من شن الحرب على إيران.. واحتلال الكويت وجلب الأمريكان وجيوش التحالف فى عاصفة الصحراء.. ثم تجويع أطفال العراق وفى نفس الوقت بناء القصور الرئاسية واستمطار اللعنات من السماء على الأمريكان.. ثم تمهيد الطريق للغزو الأمريكى المباشر والفرار من بغداد وتركها مفتوحة ليدخلها الغزاة دون طلقة مقاومة واحدة.
ويجيء بعد هذا من يزرف دموع عبدالناصر على قبر صدام حسين.. وياللعار!.
أهكذا تحيون ذكرى جمال عبدالناصر بتشبيهه بصدام؟ ثم تدعون بعدها أنكم ناصريون أو أوفياء لنهج عبدالناصر.
والأستاذ الفصيح ذرب اللسان الذى وقف يهتف مساويا ومضاهيا ومدعيا: ما أشبه شهيد العراق بعملاق مصر.. والآخر محترف الهتاف الحنجورى الذى يتقلب كل يوم على فراش أبطاله أرباب السلطة مرة وأعدائها مرة ويوزع خطاه.. خطوة معك وخطوك ضدك.. الذى عبس وعقد حاجبيه واستنفر كل دمائه المنتفخة بها أوداجه ليعلن أن صدام قد أصبح شهيدا ورمزا وتفوق على كل زعامات العرب فى العصر الحديث.. وقد يحلو لنا أن نتناول الكلام من جانبه الفكه فنضحك ونتبادل الهمس عادته ولا حايشتريها؟ ولكن الأمر فى حقيقته يدعو للحزن والكآبة لأن الرجل يصر فى كل مناسبة على ترديد انتمائه لعبدالناصر والناصرية ومصدر الحزن والكآبة ليس صاحبنا هذا وحده ففى تياره يسير معظم الرفاق الذين خلطوا فى سذاجة منقطعة النظير بين عبدالناصر.. وصدام حسين! فكانوا تماما كالدب الذى سحق رأس صاحبه بحجر ليبعد عنه حشرة يخشى أن توقظه من نومه. ولم يحاول أحدهم أن يسأل نفسه: ما هى أوجه الشبه بين الرجلين غير أن كلا منهما حكم شعبه بمفرده.. وإذا كانت الشرعية الثورية قد أباحت لعبدالناصر أن يؤجل البند المتعلق بإقامة الديمقراطية السليمة فى أجندته.. كتاب فلسفة الثورة فما هى الشرعية التى استند إليها صدام حسين؟ ونعلم أنه لم يحكم بعد سقوط الحكم الملكى مباشرة لنبرره بالشرعية الثورية أيضا.. ألسنا بهذه المقارنة العرجاء غير المستقيمة نؤكد أن التشابه المزعوم ليس إلا اتفاقا فى صورة الديكتاتور ومنهجه؟ ألم سمع من كل أعداء عبدالناصر عبارة: الناصريون يبكون صداما لأنه يحاكى النموذج الناصرى؟
ونعود مرة أخرى لنتساءل ما هى أوجه الشبه بين الرجلين؟
هل قاد عبدالناصر حربا ضد جار مسلم؟.. هل احتل ليبيا أو السودان مثلا؟.. هل اضطهد أى مصرى يختلف طائفيا أو دبر مذابح للأقباط أو أهل النوبة؟ هل أطلق عبدالناصر الغازات السامة على مواطنيه؟.. هل هناك فى سجل الحكم الناصرى أسماء مذابح كالتى جرت فى البصرة جنوبا أو فى حلابجة شمالا؟ وكم قصرا بنى عبدالناصر لنفسه؟.
قال أحد الصحفيين العرب الموالين للحكم الصدامى فى العراق وهو صحفى مشهور بالعمالة القابضة إن صدام انتصر على الفرس.. بينما هُزم عبدالناصر أمام الإسرائيليين وقد أورد هذا فى مقال نشره منذ سنوات بادئا حملة لتقزيم دور وحجم عبدالناصر لصالح تأليه وتفخيم صورة صدام.. ومنذ عامين فقط كتبت له ما يشبه رسالة مذكرا إياه بأن عبدالناصر لم يترك القاهرة ويفر ويتركها للإسرائيليين وهم على وشك عبور القناة فى العام السابع والستين من القرن الماضى.. وكنت أعلق على سقوط بغداد بالسهولة التى أذهلت كل من صدقوا زعم النشامى ووزير إعلامه الصحاف.
وأعلم أن عقد المقارنة فى حد ذاته خطأ جسيم فى زمن تردى فيه العرب إلى أعمق هوة يتمناها لهم أعداؤهم، ولكنى أردت فقط أن ألفت أنظار السادة الذين يحترمون جمال عبدالناصر وهم كل المصريين: من أحبه ومن عارضه أن المسافة التى تفصل بين عبدالناصر وبين صدام أبعد كثيرا من المسافة التى تفصل بين الكواكب فى المجموعة الشمسية.. وأنا لا أريد أن ألوم من أحزنه إعدام صدام أو أنكر عليه حقه فى البكاء والعويل.. وأرى أن من حقه أن يتلو قصائد الرثاء المطولة فى مأتمه.. فقد يخضع التاريخ السياسى لأى حاكم للاختلاف عليه.. ولكن أن نسوى بين الثائر والسفاح فهذا نوع من التضليل أو التغرير واستغلال عواطف البسطاء لتزوير وعيهم.. ولا يجمل بنا أن نقع فى هذا الفخ.. وأذكر أخيرا حوارا دار على شاشة إحدى الفضائيات العربية فى برنامج إخبارى قال فيه الضيف، وهو مفكر لبنانى معروف، إن عبدالناصر هو الذى منع عبدالكريم قاسم فى أول الستينيات من احتلال الكويت، وأنه لو كان موجودا فى العام التسعين لما تمكن صدام من اقتراف حماقته فى غزو الكويت.. وإذا بالمحاور الآخر يعقب قائلا: لو كان عبدالناصر موجودا فى التسعين ما كان هناك أصلا من يدعى صدام حسين.
لكننا تعودنا فى تراثنا العربى أن نترحم على الراحلين جميعا.. وليتنا نفعل.. فقط علينا أن نحذر الخلط والوقوع فى خطيئة الدببة!.
تعليقات على مقال الأستاذ أسامة أنور عكاشة ننشرها العدد المقبل.
14 يناير 2007
http://www.al-araby.com/articles/104...1041-inv04.htm
تعليق