حتى قدمها فلم يجد بها أحدا..
وكان مالك بن نويرة قد فرقهم ونهاهم عن الاجتماع وقال: يا بني يربوع إنا دعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة، وإذا الأمر لا يسوسه الناس، فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر ، فتفرقوا على ذلك..
ولما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الاسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب، وإن إمتنع أن يقتلوه، وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يأذنوا ويقيموا إذا نزلوا منزلا فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة ثم تقتلوا كل قتلة، الحرق فما سواه، إن أجابوكم إلى داعية الاسلام فسائلوهم فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم وإن أبوها فلا شئ إلا الغارة، ولا كلمة، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع من عاصم وعبيد وعرين وجعفر فاختلفت السيرة فيهم، وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا و صلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شئ وجعلت تزداد بردا، فأمر خالد مناديا فنادى: أدفئوا أسراكم وكانت في لغة كنانة القتل فظن القوم أنه أراد القتل ولم يرد إلا الدفء فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكا وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه، وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك فقال أبو قتادة: هذا عملك ؟ فزبره خالد فغضب ومضى.
وفي تاريخ أبي الفدا: كان عبد الله بن عمرو أبو قتادة الأنصاري حاضرين فكلما خالدا في أمره فكره كلامهما.
فقال مالك: يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا.
فقال خالد: لا أقالني الله إن أقلتك وتقدم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه .
فقال عمر لأبي بكر: إن سيف خالد فيه رهق وأكثر عليه في ذلك فقال: يا عمر ! تأول فأخطأ فارفع لسانك عن خالد فإني لا أشيم سيفا سله الله على الكافرين .
وفي لفظ الطبري وغيره: إن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه أن إذا غشيتم دارا من دور الناس فسمعتم فيها أذانا للصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ما الذي نقموا، وإن لم تسمعوا أذانا فشنوا الغارة فاقتلوا وحرقوا، وكان ممن شهد لمالك بالاسلام أبو قتادة الحارث بن ربعي، وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حربا أبدا بعدها، وكان يحدث أنهم لما غشوا لقوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح، قال: فقلنا: إنا المسلمون.
فقالوا: ونحن المسلمون، قلنا: فما بال السلاح معكم ؟ قالوا لنا: فما بال السلاح معكم ؟ قلنا: فإن كنتم كما تقولون ؟ فضعوا السلاح . قال: فوضعوها ثم صلينا وصلوا، وكان خالد يعتذر في قتله: إنه قال وهو يراجعه : ما أخال صاحبكم إلا وقد كان يقول كذا وكذا. قال: أو ما تعده لك صاحبا. ثم قدمه فضرب عنقه وعنق أصحابه .
فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال: عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته، وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد، معتجرا بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحصلها ثم قال: أرئاء ؟ قتلت امرءا مسلما ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك ولا يكلمه خالد بن وليد ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه، حتى دخل على أبي بكر فلما أن دخل عليه أخبره الخبر واعتذر إليه فعذره أبو بكر وتجاوز عنه ما كان في حربه تلك.
قال فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر، وعمر جالس في المسجد فقال خالد: هلم إلي يا بن أم شملة ؟ قال فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه، فلم يكلمه ودخل بيته .
وقال سويد: كان مالك بن نويرة من أكثر الناس شعرا وإن أهل العسكر اثفوا برؤوسهم القدور فما منهم رأس إلا وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكا فإن القدر نضجت وما نزج رأسه من كثرة شعره، وقى الشعر البشر حرها أن يبلغ منه ذلك .
وقال ابن شهاب: إن مالك بن نويرة كان كثير شعر الرأس، فلما قتل أمر خالد برأسه فنصب اثفية لقدر فنضج ما فيها قبل أن يخلص النار إلى شؤون رأسه .
وقال عروة: قدم أخو مالك متمم بن نويرة ينشد أبا بكر دمه ويطلب إليه في سبيهم فكتب له برد السبي، وألح عليه عمر في خالد أن يعزله، وقال: إن في سيفه رهقا.
فقال: لا يا عمر ! لم أكن لاشيم سيفا سله الله على الكافرين .
وروى ثابت في الدلائل: إن خالدا رأى امرأة مالك وكانت فائقة في الجمال فقال مالك بعد ذلك لامرأته: قتلتيني.
يعني سأقتل من أجلك(1) ، وقال الزمخشري وابن الأثير وأبو الفدا والزبيدي: إن مالك بن نويرة رضي الله عنه قال لامرأته يوم قتله خالد بن وليد: أقتلتني.
أي عرضتني بحسن وجهك للقتل لوجوب الدفع عنك، والمحاماة عليك، وكانت جميلة حسناء تزوجها خالد بعد قتله فأنكر ذلك عبد الله بن عمر. وقيل فيه :
أفـــــي الحـــق أنا لم تجف دماؤنا وهذا عروسا باليمامة خالد ؟(2)
وفي تاريخ ابن شحنة هامش الكامل 7 ص 165: أمر خالد ضرارا بضرب عنق مالك فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد: هذه التي قتلتني.
وكانت في غاية الجمال ، فقال خالد: بل قتلك رجوعك عن الاسلام فقال مالك: أنا مسلم.
فقال خالد: يا ضرار ! إضرب عنقه فضرب عنقه وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي :
ألا قـــــل لحي أوطـؤا بالسنابك تطاول هــذا الليل من بعد مالك
قــــضى خالد بغيا عليه بعرسه وكـــــان له فيها هوى قبل ذلك
فأمضى هواه خالد غير عاطف عـنان الهوى عنها ولا متمالك
وأصبـــح ذا أهل وأصبح مالك إلى غير أهل هالكا في الهوالك
فلما بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر: إن خالدا قد زنى فاجلده. قال أبو بكر: لا، لأنه تأول فأخطأ قال: فإنه قتل مسلما فاقتله. قال: لا، إنه تأول فأخطأ . ثم قال: يا عمر ! ما كنت لأغمد سيفا سله الله عليهم، ورثى مالكا أخوه متمم بقصائد عديدة. وهذا التفصيل ذكره أبو الفدا أيضا في تاريخه 1: 158 .
وفي تاريخ الخميس 2: 233: اشتد في ذلك عمر وقال لأبي بكر: ارجم خالدا فإنه قد استحل ذلك، فقال أبو بكر: والله لا أفعل، إن كان خالد تأول أمرا فأخطأ وفي شرح المواقف: فأشار عمر على أبي بكر بقتل خالد قصاصا، فقال أبو بكر: لا أغمد سيفا شهره الله على الكفار.
وقال عمر لخالد: لئن وليت الأمر لأقيدنك به .
وفي تاريخ ابن عساكر 5: 112: قال عمر: إني ما عتبت على خالد إلا في تقدمه وما كان يصنع في المال.
وكان خالد إذا صار إليه شيئ قسمه في أهل الغنى ولم يرفع إلى أبي بكر حسابه، وكان فيه تقدم على أبي بكر يفعل الأشياء التي لا يراها أبو بكر ، وأقدم على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته، وصالح أهل اليمامة ونكح ابنة مجاعة بن مرارة، فكره ذلك أبو بكر وعرض الدية على متمم بن نويرة وأمر خالدا بطلاق امرأة مالك ولم ير أن يعزله وكان عمر ينكر هذا وشبهه على خالد ] .
قال الأميني:
يحق على الباحث أن يمعن النظرة في القضية من ناحيتين .
الناحية الأولى:
ما ارتكبه خالد بن الوليد من الطامات والجرائم الكبيرة التي تنزه عنها ساحة كل معتنق بالاسلام، وتضاد نداء القرآن الكريم والسنة الشريفة، ويتبرأ منها و ممن اقترفها من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر.
أيحسب الانسان أن يترك سدى ؟ (3) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ؟(4) أم: حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ؟(5) بأي كتاب أم بأية سنة ساغ للرجل سفك تلكم الدماء الزكية من الذين آمنوا بالله ورسوله واتبعوا سبيل الحق وصدقوا بالحسنى، وأذنوا وأقاموا وصلوا وقد علت عقيرتهم: بأنا مسلمون، فما بال السلاح معكم ؟ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم(6).
ما عذر الرجل في قتل مثل مالك الذي عاشر النبي الأعظم، وأحسن صحبته، واستعمله صلى الله عليه وآله على صدقات قومه، وقد عد من أشراف الجاهلية والاسلام، ومن أرداف الملوك.
ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا(7).
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالدا فيها [ النساء: 93 ] .
وما ذا أحل للرجل شن الغارة على أهل أولئك المقتولين وذويهم الأبرياء و إيذائهم وسبيهم بغير ما اكتسبوا إثما، أو اقترفوا سيئة، أو ظهر منهم فساد في الملأ الديني ؟ الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا(8).
ما هذه القسوة والعنف والفظاظة والتزحزح عن طقوس الاسلام، وتعذيب رؤس أمة مسلمة، وجعلها أثفية للقدر وإحراقها بالنار ؟ فويل للقاسية قلوبهم، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم .
ما خالد وما خطره بعد ما اتخذ إلهه هواه، وسولته نفسه، وأضلته شهوته ، وأسكره شبقه ؟ فهتك حرمات الله، وشوه سمعة الاسلام المقدس، ونزى على زوجة مالك قتيل غيه في ليلته(9) إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا، ولم يكن قتل الرجل إلا لذلك السفاح، وكان أمرا مشهودا وسرا غير مستسر، وكان يعلمه نفس مالك ويخبر زوجته بذلك قبل وقوع الواقعة بقوله إياها: أقتلتني.
فقتل الرجل مظلوما غيرة و محاماة على ناموسه.
وفي المتواتر: من قتل دون أهله فهو شهيد(10) وفي الصحيحة من قتل دون مظلمته فهو شهيد(11).
والعذر المفتعل من منع مالك الزكاة لا يبرئ خالدا من تلكم الجنايات، أيصدق جحد الرجل فرض الزكاة ومكابرته عليها وهو مؤمن بالله وكتابه ورسوله ومصدق بما جاء به نبيه الأقدس، يقيم الصلاة ويأتي بالفرائض بأذانها وإقامتها، وينادي بأعلى صوته: نحن المسلمون، وقد استعمله النبي الأعظم على الصدقات ردحا من الزمن ؟ لا ها الله .
أيوجب الردة مجرد امتناع الرجل المسلم الموحد المؤمن بالله وكتابه عن أداء الزكاة لهذا الانسان بخصوصه وهو غير منكر أصل الفريضة ؟ أو يحكم عليه بالقتل عندئذ ؟ وقد صح عن المشرع الأعظم قوله: لا يحل دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله، وإني رسول الله إلا بإحدى ثلاثة: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة(12).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس(13).
وقوله صلى الله عليه وآله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها منعوا مني دماؤهم وأموالهم، وحسابهم على الله(14).
وعهد أبو بكر نفسه لسلمان بقوله: من صلى الصلوات الخمس فإنه يصبح في ذمة الله ويمسي في ذمة الله تعالى فلا تقتلن أحدا من أهل ذمة الله فتخفر الله في ذمته فيكبك الله في النار على وجهك(15).
أيسلب امتناع الرجل المسلم عن أداء الزكاة حرمة الاسلام عن أهله وماله وذويه ويجعلهم أعدال أولئك الكفرة الفجرة الذين حق على النبي الطاهر شن الغارة عليهم ؟ ويحكم عليهم بالسبي والقتل الذريع وغارة ما يملكون، والنزو على تلكم الحرائر المأسورات ؟ وأما ما مر من الاعتذار بأن خالدا قال: أدفئوا أسراكم وأراد الدفء وكانت في لغة كنانة: القتل.
فقتلوهم فخرج خالد وقد فرغوا منهم.
فلا يفوه به إلا معتوه استأسر هواه عقله، وسفه في مقاله، لماذا قتل ضرار مالك بتلك الكلمة وهو لم يكن من كنانة ولا من أهل لغتها ؟ بل هو أسدي من بني ثعلبة، ولم يكن أميره يتكلم قبل ذلك اليوم بلغة كنانة .
وإن صحت المزعمة فلما ذا غضب أبو قتادة الأنصاري على خالد وخالفه وتركه يوم ذاك وهو ينظر إليه من كثب، والحاضر يرى ما لا يراه الغائب ؟ ولماذا اعتذر خالد بأن مالكا قال: ما أخال صاحبكم إلا قال كذا وكذا ؟ وهذا اعتراف منه بأنه قتله غير أنه نحت على الرجل مقالا، وهو من التعريض الذي لا يجوز القتل " بعد تسليم صدوره منه " عند الأمة الإسلامية جمعاء، والحدود تدرأ بالشبهات .
ولماذا رآه عمر عدوا لله، وقذفه بالقتل والزنا ؟ وإن لم يفتل ذلك ذؤابة(16) أبي بكر .
ابن أمين العرب
وكان مالك بن نويرة قد فرقهم ونهاهم عن الاجتماع وقال: يا بني يربوع إنا دعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة، وإذا الأمر لا يسوسه الناس، فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر ، فتفرقوا على ذلك..
ولما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الاسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب، وإن إمتنع أن يقتلوه، وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يأذنوا ويقيموا إذا نزلوا منزلا فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة ثم تقتلوا كل قتلة، الحرق فما سواه، إن أجابوكم إلى داعية الاسلام فسائلوهم فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم وإن أبوها فلا شئ إلا الغارة، ولا كلمة، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع من عاصم وعبيد وعرين وجعفر فاختلفت السيرة فيهم، وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا و صلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شئ وجعلت تزداد بردا، فأمر خالد مناديا فنادى: أدفئوا أسراكم وكانت في لغة كنانة القتل فظن القوم أنه أراد القتل ولم يرد إلا الدفء فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكا وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه، وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك فقال أبو قتادة: هذا عملك ؟ فزبره خالد فغضب ومضى.
وفي تاريخ أبي الفدا: كان عبد الله بن عمرو أبو قتادة الأنصاري حاضرين فكلما خالدا في أمره فكره كلامهما.
فقال مالك: يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا.
فقال خالد: لا أقالني الله إن أقلتك وتقدم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه .
فقال عمر لأبي بكر: إن سيف خالد فيه رهق وأكثر عليه في ذلك فقال: يا عمر ! تأول فأخطأ فارفع لسانك عن خالد فإني لا أشيم سيفا سله الله على الكافرين .
وفي لفظ الطبري وغيره: إن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه أن إذا غشيتم دارا من دور الناس فسمعتم فيها أذانا للصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ما الذي نقموا، وإن لم تسمعوا أذانا فشنوا الغارة فاقتلوا وحرقوا، وكان ممن شهد لمالك بالاسلام أبو قتادة الحارث بن ربعي، وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حربا أبدا بعدها، وكان يحدث أنهم لما غشوا لقوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح، قال: فقلنا: إنا المسلمون.
فقالوا: ونحن المسلمون، قلنا: فما بال السلاح معكم ؟ قالوا لنا: فما بال السلاح معكم ؟ قلنا: فإن كنتم كما تقولون ؟ فضعوا السلاح . قال: فوضعوها ثم صلينا وصلوا، وكان خالد يعتذر في قتله: إنه قال وهو يراجعه : ما أخال صاحبكم إلا وقد كان يقول كذا وكذا. قال: أو ما تعده لك صاحبا. ثم قدمه فضرب عنقه وعنق أصحابه .
فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال: عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته، وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد، معتجرا بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحصلها ثم قال: أرئاء ؟ قتلت امرءا مسلما ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك ولا يكلمه خالد بن وليد ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه، حتى دخل على أبي بكر فلما أن دخل عليه أخبره الخبر واعتذر إليه فعذره أبو بكر وتجاوز عنه ما كان في حربه تلك.
قال فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر، وعمر جالس في المسجد فقال خالد: هلم إلي يا بن أم شملة ؟ قال فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه، فلم يكلمه ودخل بيته .
وقال سويد: كان مالك بن نويرة من أكثر الناس شعرا وإن أهل العسكر اثفوا برؤوسهم القدور فما منهم رأس إلا وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكا فإن القدر نضجت وما نزج رأسه من كثرة شعره، وقى الشعر البشر حرها أن يبلغ منه ذلك .
وقال ابن شهاب: إن مالك بن نويرة كان كثير شعر الرأس، فلما قتل أمر خالد برأسه فنصب اثفية لقدر فنضج ما فيها قبل أن يخلص النار إلى شؤون رأسه .
وقال عروة: قدم أخو مالك متمم بن نويرة ينشد أبا بكر دمه ويطلب إليه في سبيهم فكتب له برد السبي، وألح عليه عمر في خالد أن يعزله، وقال: إن في سيفه رهقا.
فقال: لا يا عمر ! لم أكن لاشيم سيفا سله الله على الكافرين .
وروى ثابت في الدلائل: إن خالدا رأى امرأة مالك وكانت فائقة في الجمال فقال مالك بعد ذلك لامرأته: قتلتيني.
يعني سأقتل من أجلك(1) ، وقال الزمخشري وابن الأثير وأبو الفدا والزبيدي: إن مالك بن نويرة رضي الله عنه قال لامرأته يوم قتله خالد بن وليد: أقتلتني.
أي عرضتني بحسن وجهك للقتل لوجوب الدفع عنك، والمحاماة عليك، وكانت جميلة حسناء تزوجها خالد بعد قتله فأنكر ذلك عبد الله بن عمر. وقيل فيه :
أفـــــي الحـــق أنا لم تجف دماؤنا وهذا عروسا باليمامة خالد ؟(2)
وفي تاريخ ابن شحنة هامش الكامل 7 ص 165: أمر خالد ضرارا بضرب عنق مالك فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد: هذه التي قتلتني.
وكانت في غاية الجمال ، فقال خالد: بل قتلك رجوعك عن الاسلام فقال مالك: أنا مسلم.
فقال خالد: يا ضرار ! إضرب عنقه فضرب عنقه وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي :
ألا قـــــل لحي أوطـؤا بالسنابك تطاول هــذا الليل من بعد مالك
قــــضى خالد بغيا عليه بعرسه وكـــــان له فيها هوى قبل ذلك
فأمضى هواه خالد غير عاطف عـنان الهوى عنها ولا متمالك
وأصبـــح ذا أهل وأصبح مالك إلى غير أهل هالكا في الهوالك
فلما بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر: إن خالدا قد زنى فاجلده. قال أبو بكر: لا، لأنه تأول فأخطأ قال: فإنه قتل مسلما فاقتله. قال: لا، إنه تأول فأخطأ . ثم قال: يا عمر ! ما كنت لأغمد سيفا سله الله عليهم، ورثى مالكا أخوه متمم بقصائد عديدة. وهذا التفصيل ذكره أبو الفدا أيضا في تاريخه 1: 158 .
وفي تاريخ الخميس 2: 233: اشتد في ذلك عمر وقال لأبي بكر: ارجم خالدا فإنه قد استحل ذلك، فقال أبو بكر: والله لا أفعل، إن كان خالد تأول أمرا فأخطأ وفي شرح المواقف: فأشار عمر على أبي بكر بقتل خالد قصاصا، فقال أبو بكر: لا أغمد سيفا شهره الله على الكفار.
وقال عمر لخالد: لئن وليت الأمر لأقيدنك به .
وفي تاريخ ابن عساكر 5: 112: قال عمر: إني ما عتبت على خالد إلا في تقدمه وما كان يصنع في المال.
وكان خالد إذا صار إليه شيئ قسمه في أهل الغنى ولم يرفع إلى أبي بكر حسابه، وكان فيه تقدم على أبي بكر يفعل الأشياء التي لا يراها أبو بكر ، وأقدم على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته، وصالح أهل اليمامة ونكح ابنة مجاعة بن مرارة، فكره ذلك أبو بكر وعرض الدية على متمم بن نويرة وأمر خالدا بطلاق امرأة مالك ولم ير أن يعزله وكان عمر ينكر هذا وشبهه على خالد ] .
قال الأميني:
يحق على الباحث أن يمعن النظرة في القضية من ناحيتين .
الناحية الأولى:
ما ارتكبه خالد بن الوليد من الطامات والجرائم الكبيرة التي تنزه عنها ساحة كل معتنق بالاسلام، وتضاد نداء القرآن الكريم والسنة الشريفة، ويتبرأ منها و ممن اقترفها من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر.
أيحسب الانسان أن يترك سدى ؟ (3) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ؟(4) أم: حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ؟(5) بأي كتاب أم بأية سنة ساغ للرجل سفك تلكم الدماء الزكية من الذين آمنوا بالله ورسوله واتبعوا سبيل الحق وصدقوا بالحسنى، وأذنوا وأقاموا وصلوا وقد علت عقيرتهم: بأنا مسلمون، فما بال السلاح معكم ؟ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم(6).
ما عذر الرجل في قتل مثل مالك الذي عاشر النبي الأعظم، وأحسن صحبته، واستعمله صلى الله عليه وآله على صدقات قومه، وقد عد من أشراف الجاهلية والاسلام، ومن أرداف الملوك.
ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا(7).
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالدا فيها [ النساء: 93 ] .
وما ذا أحل للرجل شن الغارة على أهل أولئك المقتولين وذويهم الأبرياء و إيذائهم وسبيهم بغير ما اكتسبوا إثما، أو اقترفوا سيئة، أو ظهر منهم فساد في الملأ الديني ؟ الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا(8).
ما هذه القسوة والعنف والفظاظة والتزحزح عن طقوس الاسلام، وتعذيب رؤس أمة مسلمة، وجعلها أثفية للقدر وإحراقها بالنار ؟ فويل للقاسية قلوبهم، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم .
ما خالد وما خطره بعد ما اتخذ إلهه هواه، وسولته نفسه، وأضلته شهوته ، وأسكره شبقه ؟ فهتك حرمات الله، وشوه سمعة الاسلام المقدس، ونزى على زوجة مالك قتيل غيه في ليلته(9) إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا، ولم يكن قتل الرجل إلا لذلك السفاح، وكان أمرا مشهودا وسرا غير مستسر، وكان يعلمه نفس مالك ويخبر زوجته بذلك قبل وقوع الواقعة بقوله إياها: أقتلتني.
فقتل الرجل مظلوما غيرة و محاماة على ناموسه.
وفي المتواتر: من قتل دون أهله فهو شهيد(10) وفي الصحيحة من قتل دون مظلمته فهو شهيد(11).
والعذر المفتعل من منع مالك الزكاة لا يبرئ خالدا من تلكم الجنايات، أيصدق جحد الرجل فرض الزكاة ومكابرته عليها وهو مؤمن بالله وكتابه ورسوله ومصدق بما جاء به نبيه الأقدس، يقيم الصلاة ويأتي بالفرائض بأذانها وإقامتها، وينادي بأعلى صوته: نحن المسلمون، وقد استعمله النبي الأعظم على الصدقات ردحا من الزمن ؟ لا ها الله .
أيوجب الردة مجرد امتناع الرجل المسلم الموحد المؤمن بالله وكتابه عن أداء الزكاة لهذا الانسان بخصوصه وهو غير منكر أصل الفريضة ؟ أو يحكم عليه بالقتل عندئذ ؟ وقد صح عن المشرع الأعظم قوله: لا يحل دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله، وإني رسول الله إلا بإحدى ثلاثة: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة(12).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس(13).
وقوله صلى الله عليه وآله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها منعوا مني دماؤهم وأموالهم، وحسابهم على الله(14).
وعهد أبو بكر نفسه لسلمان بقوله: من صلى الصلوات الخمس فإنه يصبح في ذمة الله ويمسي في ذمة الله تعالى فلا تقتلن أحدا من أهل ذمة الله فتخفر الله في ذمته فيكبك الله في النار على وجهك(15).
أيسلب امتناع الرجل المسلم عن أداء الزكاة حرمة الاسلام عن أهله وماله وذويه ويجعلهم أعدال أولئك الكفرة الفجرة الذين حق على النبي الطاهر شن الغارة عليهم ؟ ويحكم عليهم بالسبي والقتل الذريع وغارة ما يملكون، والنزو على تلكم الحرائر المأسورات ؟ وأما ما مر من الاعتذار بأن خالدا قال: أدفئوا أسراكم وأراد الدفء وكانت في لغة كنانة: القتل.
فقتلوهم فخرج خالد وقد فرغوا منهم.
فلا يفوه به إلا معتوه استأسر هواه عقله، وسفه في مقاله، لماذا قتل ضرار مالك بتلك الكلمة وهو لم يكن من كنانة ولا من أهل لغتها ؟ بل هو أسدي من بني ثعلبة، ولم يكن أميره يتكلم قبل ذلك اليوم بلغة كنانة .
وإن صحت المزعمة فلما ذا غضب أبو قتادة الأنصاري على خالد وخالفه وتركه يوم ذاك وهو ينظر إليه من كثب، والحاضر يرى ما لا يراه الغائب ؟ ولماذا اعتذر خالد بأن مالكا قال: ما أخال صاحبكم إلا قال كذا وكذا ؟ وهذا اعتراف منه بأنه قتله غير أنه نحت على الرجل مقالا، وهو من التعريض الذي لا يجوز القتل " بعد تسليم صدوره منه " عند الأمة الإسلامية جمعاء، والحدود تدرأ بالشبهات .
ولماذا رآه عمر عدوا لله، وقذفه بالقتل والزنا ؟ وإن لم يفتل ذلك ذؤابة(16) أبي بكر .
ابن أمين العرب
تعليق