اللهم صلي على محمد وال محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
وروى النعماني في غيبته (2) ان الحسين لما راى مصارع فتيانه وأحبّته عزم على لقاء القوم بمهجته ونادى : « هل من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله ؟ [ هل من موحّد يخاف الله فينا ؟ ] (3) هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا ؟ هل من معين يرجو ما عند الله بإعانتنا » ؟
فارتفعت أصوات النساء بالعويل ، فتقدم الى باب الخيمة وقال لزينب : « ناوليني ولدي الصغير حتى أودّعه » . فأخذه فأومأ إليه ليقبّله ، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه ، فقال الحسين عليه السلام لزينب : « خذيه » ، ثم تلقّى الدم بكفيه ، فلما امتلأتا رمى بالدم إلى نحو السماء ثم قال : « هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله »
قال الباقر عليه السلام : « فلم يسقط من ذلك الدم قطرة واحدة » (4) .
ثم إنه دنى من الخيمة ونادى : « يا سكينة ، يا فاطمة ، يا زينب ، يا أم كلثوم ، عليكنّ مني السلام » .
فنادته سكينة : استسلمت للموت يا أبت ؟
قال : « كيف لا يستسلم من لا ناصر له ولا معين » .
فقالت : يا أبت ، ردّنا إلى حرم جدّنا رسول الله .
____________
=
ثم قاتل حتى قتل .
فقال : « هيهات ، لو ترك القطا لنام » .
فتصارخن النساء ، فسكتهنّ (1) ، ثم خرج ونادى : « قرّبن إليّ فرسي واسردنّ عليّ سلاحي » . فقرّبن إليه فرسه فركب ووقف قبالة القوم وسيفه مصلت في يده آيسا من الحياة عازما على الموت وهو يقول :
أنا ابن عليّ الطهر من آل هاشــم * كفانــي بهذا مفخـرا حين أفخر
وجدّي رسول الله أكـرم من مشـى * ونحن سراج الله في الأرض نزهر
وفاطم أمـي مـن سلالــة أحمـد * وعمّي يدعـى ذو الجناحيـن جعفر
وفنيا كتــاب الله أنـزل صادقـا * وفينا الهدى والوحي بالخيـر يذكر
ونحـن أمـان الله للخلــق كلهم * نسـرّ بهذا فـي الأنـام ونجهــر
ونحن ولاة الحوض نسقي محبنـا * بكأس رسـول الله ما ليس ينكــر
وشيعتنـا في النـاس أكـرم شيعة * ومبغضنـا يوم القيــامة يخسـر
قال : ثم إنه عليه السلام دعا الناس الى البراز ، فلم يزل يقتل كل من دنا منه من عيون الرجال حتى قتل منهم مقتلة عظيمة ، ثم حمل على الميمنة وهو يقول :
الموت خير من ركوب العـار * والعار أولى (2) من دخول النار
فقتل منهم ما شاء الله ، ثم حمل على الميسرة وهو ينشد ويقول :
أنــا الحسيــن بن علي * آليــت أن لا أنــثنــي
أحمـي عيــالات أبــي * أمضي على دين النبــي (3)
قال الراوي : واشتدّ العطش بالحسين ، فركب المسناة (4) يريد الفرات وأخوه
(1) إلى هنا رواه المجلسي في البحار : 45 : 47 عن بعض الكتب ولم يذكر اسمه .
(2) في الهامش عن نسخة : « خير » .
(3) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 32 و 33 ، والإربلي في كشف الغمة : 2 : 231 مع اختلافات لفظية ، والمجلسي في البحار : 45 : 48 ـ 49 بدون اسناد إلى كتاب معين مع اختلافات في الألفاظ .
(4) المسناه : تراب عال يحجز بين النهر والأرض الزراعية . ( تاج العروس : 10 : 185 « سنى »
العباس معه ، فاعترضه خيل ابن سعد لعنه الله واقتطعوا عنه أخاه العباس ، فكمن له زيد بن ورقاء وحكيم بن الطفيل فقتلاه ، فلما قتل العباس بكى الحسين بكاءا شديدا ونادى : « الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي »
قال حميد بن مسلم : فوالله ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده وأنصاره وأصحابه أربط جأشا منه ، وإنه كانت الرجال تشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، ولقد كان صلوات الله عليه يحمل فيهم فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر ، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول : « لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم »(1)
رواه ابن طاوس في الملهوف : ص 170 .
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 109 .
(2) رواه ابن طاوس في الملهوف : ص 170 .
ثم إنه لم يزل يقاتلهم حتى حالوا بينه وبين رحله ، فصاح بهم : « ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحرارا في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون » .
قال : فناداه الشمر لعنه الله : ما تقول يا ابن فاطمة ؟
فقال عليه السلام : « أقول أنا الذي أقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيّا » .
فقال له الشمر : لك ذلك يا ابن فاطمة . ثم صاح شمر : اليكم عن حرم الرجل واقصدوه في نفسه ، فلعمري لهو كفؤ كريم
النار !
فقال له رجل منهم : ألا ترى يا حسين إلى ماء الفرات يلوح كأنه بطون الحيّات ، والله لا تذوق منه قطرة أو تموت عطشا !
فقال الحسين عليه السلام : « اللهم أمته عطشا » .
قال : والله لقد كان ذلك الرجل يقول : اسقوني ماء فيؤتى له بعسّ من الماء لو شرب منه خمسة لكفاهم ، فيشرب حتى يثغر (1) ثم يقول : اسقوني قتلني العطش ! فلم يزل كذلك حتى مات لا رحمه الله (2) .
قال : ثم رماه حرملة بن كاهل فوقع السهم في جبهته ، فسالت الدماء على وجهه ولحيته ، فانتزع السهم وهو يقول : « اللهم إنك ترى ما يصنع بي هؤلاء العصاة ، اللهم فاحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحدا ، ولا تغفر لهم أبدا » .
ثم حمل عليهم في أمرّ ساعة من ساعات الدنيا فجعل لا يلحق بأحد منهم إلا اختطف رأسه بسيفه عن جسده ، والسهام تأخذه من كل مكان ، وهو يلتقيها بصدره ونحره ويقول : « يا أمّة السوء ، بئسما خلفتم محمدا في عترته ، أما إنكم لن تقتلوا بعدي عبدا من عباد الله فتهابوا قتله بل يهون عليكم قتلكم إياي ذلك ، وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة » .
قال : ثم إنه لم يزل يقاتل حتى أصابه ـ كما نقل ـ ألف وتسع مئة جراحة ، وكانت السهام في جلده كالشوك في جلد القنفذ ، وروي أنها كانت كلها في مقدمه ، فوقف يستريح إذ أتاه حجر فوقع في جبهته ، فأخذ الثوب ليمسح عن وجهه فأتاه سهم محدود مسموم له ثلاث شعب فوقع السهم في صدره ، وقيل : في قلبه ، فقال عليه السلام : « بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله » . ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : « إلهي ، إنك تعلم أنهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن بنت نبيّ
____________(1) الثغرة : الثلمة . وفي مقاتل الطالبيين : « حتى خرج من فيه » .
(2) ورواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص 117 مع اختلاف
غيره » .
ثم أخذ السهم فأخرجه من قفاه ، فانبعث الدم كأنه ميزاب ، فوضع يده على الجرح ، فلما امتلأت رمى به إلى السماء فما رجع من ذلك الدم قطرة ، وما عرفت الحمرة في السماء حتى رمى الحسين عليه السلام بدمه ، ثم وضع يده ثانية فلما امتلأت لطخ بها رأسه ولحيته وقال : « هكذا ألقى الله وأنا مخضب بدمي مغصوب عليّ حقي وأقول : يا جداه ، قتلني فلان وفلان » .
ثم ضعف عن القتال ، وكلما أتاه رجل انصرف عنه كراهية أن يلقى الله بدمه حتى أتاه رجل من كنده يقال له « مالك بن النسر » لعنه الله ، فشتم الحسين عليه السلام وضربه بالسيف على رأسه الشريف فقطع البرنس ووصل السيف إلى فرقه فامتلأ البرنس دما ، فقال له الحسين عليه السلام : « لا أكلت بها ولا شربت ، وحشرك الله مع الظالمين » . ثم رمى البرنس عن رأسه واستدعا بخرقة وشد بها رأسه ، ولبس قلنسوة واعتمّ عليها (1) .
قال : ثم انهم لبثوا هنيئة ثم داروا عليه وأحاطوا به ، فخرج عبدالله بن الحسن عليه السلام وهو غلام لم يراهق ، فخرج من عند النساء يشتدّ حتى وقف إلى جنب الحسين عليه السلام ، فلحقته زينب لتحبسه ، فقال الحسين عليه السلام لها : « احبسيه يا أختاه » . فأبى وامتنع امتناعا شديدا وقال : لا والله لا أفارق عمي الحسين . فأهوى أبجر بن كعب ـ وقيل : حرملة الأسدي ـ إلى الحسين بالسيف فاتقاها الغلام وقال : ويلك يا ابن الخبيثة ، أتقتل عمي ؟ وتلقّى السيف بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلقة ، فنادى الغلام : يا عماه . فأخذه الحسين عليه السلام وضمه إلى صدره وقال : « يا ابن أخي ، اصبر على ما نزل بك ، فإنه بعين عناية الله ، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين » .
____________(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 34 ـ 35 مع اختلاف في بعض الألفاظ .
وروى قسما منه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 172 .
قيل : ورماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه في حجر عمه (1) .
ثم إن الشمر لعنه الله حمل على فسطاط الحسين عليه السلام فطعنه بالرمح ثم قال : عليَّ بالنار لأحرقه على من فيه .
فقال له الحسين عليه السلام : « أنت الداعي بالنار لتحرق بيتي على أهلي ، أحرقك الله بالنار » . فجاء شبث بن ربعي فوبّخه ، فاستحيى وانصرف (2) .
قال : فنادى الحسين عليه السلام وقال : « ابعثوا لي ثوبا لا يرغب فيه أحد أجعله تحت ثيابي لئلا أجرّد منه » . فأتي له بثوب فردها وقال : « ذلك لباس من ضربت عليه الذلة » . ثم إنه أخذ ثوبا خلقا فجعله تحت ثيابه ، فلما قتل جردوه منه .
ثم استدعى بسراويل من حبرة فمزّقها لئلا يسلبونها ، فلما قتل جردوه منها (3) .
قال : فأعيا عن القتال وكف عن الجدال ، فنادى شمر لعنه الله : ما وقوفكم ؟ وما تنتظرون بالرجل ؟ احملوا عليه ثكلتكم امهاتكم .
فرماه الحصين بن تميم في فيه ، وأبو أيوب الغنوي في حلقه ، وطعنه صالح بن وهب المزنى في خاصرته طعنة سقط بها عن فرسه على خده الأيمن ، ثم قام صلوات الله عليه (4) .
قال الراوي : فلما سقط الحسين عليه السلام خرجت زينب بنت علي عليه السلام من الفسطاط وهي تنادي : « وا أخاه ، وا سيداه ، ليت الموت أعدمني الحياة ، وليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل ، يا عمر بن سعد ، أيقتل أبو عبدالله وأنت تنظر إليه » ؟!
____________(1)
ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 173 .
(2) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : 3 : 173 .
(3) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 174 .
(4) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 35 ، والسيد ابن طاوس في الملهوف : ص 174 ـ 175
بسم الله الرحمن الرحيم
وروى النعماني في غيبته (2) ان الحسين لما راى مصارع فتيانه وأحبّته عزم على لقاء القوم بمهجته ونادى : « هل من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله ؟ [ هل من موحّد يخاف الله فينا ؟ ] (3) هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا ؟ هل من معين يرجو ما عند الله بإعانتنا » ؟
فارتفعت أصوات النساء بالعويل ، فتقدم الى باب الخيمة وقال لزينب : « ناوليني ولدي الصغير حتى أودّعه » . فأخذه فأومأ إليه ليقبّله ، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه ، فقال الحسين عليه السلام لزينب : « خذيه » ، ثم تلقّى الدم بكفيه ، فلما امتلأتا رمى بالدم إلى نحو السماء ثم قال : « هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله »
قال الباقر عليه السلام : « فلم يسقط من ذلك الدم قطرة واحدة » (4) .
ثم إنه دنى من الخيمة ونادى : « يا سكينة ، يا فاطمة ، يا زينب ، يا أم كلثوم ، عليكنّ مني السلام » .
فنادته سكينة : استسلمت للموت يا أبت ؟
قال : « كيف لا يستسلم من لا ناصر له ولا معين » .
فقالت : يا أبت ، ردّنا إلى حرم جدّنا رسول الله .
____________
=
ثم قاتل حتى قتل .
فقال : « هيهات ، لو ترك القطا لنام » .
فتصارخن النساء ، فسكتهنّ (1) ، ثم خرج ونادى : « قرّبن إليّ فرسي واسردنّ عليّ سلاحي » . فقرّبن إليه فرسه فركب ووقف قبالة القوم وسيفه مصلت في يده آيسا من الحياة عازما على الموت وهو يقول :
أنا ابن عليّ الطهر من آل هاشــم * كفانــي بهذا مفخـرا حين أفخر
وجدّي رسول الله أكـرم من مشـى * ونحن سراج الله في الأرض نزهر
وفاطم أمـي مـن سلالــة أحمـد * وعمّي يدعـى ذو الجناحيـن جعفر
وفنيا كتــاب الله أنـزل صادقـا * وفينا الهدى والوحي بالخيـر يذكر
ونحـن أمـان الله للخلــق كلهم * نسـرّ بهذا فـي الأنـام ونجهــر
ونحن ولاة الحوض نسقي محبنـا * بكأس رسـول الله ما ليس ينكــر
وشيعتنـا في النـاس أكـرم شيعة * ومبغضنـا يوم القيــامة يخسـر
قال : ثم إنه عليه السلام دعا الناس الى البراز ، فلم يزل يقتل كل من دنا منه من عيون الرجال حتى قتل منهم مقتلة عظيمة ، ثم حمل على الميمنة وهو يقول :
الموت خير من ركوب العـار * والعار أولى (2) من دخول النار
فقتل منهم ما شاء الله ، ثم حمل على الميسرة وهو ينشد ويقول :
أنــا الحسيــن بن علي * آليــت أن لا أنــثنــي
أحمـي عيــالات أبــي * أمضي على دين النبــي (3)
قال الراوي : واشتدّ العطش بالحسين ، فركب المسناة (4) يريد الفرات وأخوه
(1) إلى هنا رواه المجلسي في البحار : 45 : 47 عن بعض الكتب ولم يذكر اسمه .
(2) في الهامش عن نسخة : « خير » .
(3) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 32 و 33 ، والإربلي في كشف الغمة : 2 : 231 مع اختلافات لفظية ، والمجلسي في البحار : 45 : 48 ـ 49 بدون اسناد إلى كتاب معين مع اختلافات في الألفاظ .
(4) المسناه : تراب عال يحجز بين النهر والأرض الزراعية . ( تاج العروس : 10 : 185 « سنى »
العباس معه ، فاعترضه خيل ابن سعد لعنه الله واقتطعوا عنه أخاه العباس ، فكمن له زيد بن ورقاء وحكيم بن الطفيل فقتلاه ، فلما قتل العباس بكى الحسين بكاءا شديدا ونادى : « الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي »
قال حميد بن مسلم : فوالله ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده وأنصاره وأصحابه أربط جأشا منه ، وإنه كانت الرجال تشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، ولقد كان صلوات الله عليه يحمل فيهم فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر ، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول : « لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم »(1)
رواه ابن طاوس في الملهوف : ص 170 .
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 109 .
(2) رواه ابن طاوس في الملهوف : ص 170 .
ثم إنه لم يزل يقاتلهم حتى حالوا بينه وبين رحله ، فصاح بهم : « ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحرارا في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون » .
قال : فناداه الشمر لعنه الله : ما تقول يا ابن فاطمة ؟
فقال عليه السلام : « أقول أنا الذي أقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيّا » .
فقال له الشمر : لك ذلك يا ابن فاطمة . ثم صاح شمر : اليكم عن حرم الرجل واقصدوه في نفسه ، فلعمري لهو كفؤ كريم
النار !
فقال له رجل منهم : ألا ترى يا حسين إلى ماء الفرات يلوح كأنه بطون الحيّات ، والله لا تذوق منه قطرة أو تموت عطشا !
فقال الحسين عليه السلام : « اللهم أمته عطشا » .
قال : والله لقد كان ذلك الرجل يقول : اسقوني ماء فيؤتى له بعسّ من الماء لو شرب منه خمسة لكفاهم ، فيشرب حتى يثغر (1) ثم يقول : اسقوني قتلني العطش ! فلم يزل كذلك حتى مات لا رحمه الله (2) .
قال : ثم رماه حرملة بن كاهل فوقع السهم في جبهته ، فسالت الدماء على وجهه ولحيته ، فانتزع السهم وهو يقول : « اللهم إنك ترى ما يصنع بي هؤلاء العصاة ، اللهم فاحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحدا ، ولا تغفر لهم أبدا » .
ثم حمل عليهم في أمرّ ساعة من ساعات الدنيا فجعل لا يلحق بأحد منهم إلا اختطف رأسه بسيفه عن جسده ، والسهام تأخذه من كل مكان ، وهو يلتقيها بصدره ونحره ويقول : « يا أمّة السوء ، بئسما خلفتم محمدا في عترته ، أما إنكم لن تقتلوا بعدي عبدا من عباد الله فتهابوا قتله بل يهون عليكم قتلكم إياي ذلك ، وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة » .
قال : ثم إنه لم يزل يقاتل حتى أصابه ـ كما نقل ـ ألف وتسع مئة جراحة ، وكانت السهام في جلده كالشوك في جلد القنفذ ، وروي أنها كانت كلها في مقدمه ، فوقف يستريح إذ أتاه حجر فوقع في جبهته ، فأخذ الثوب ليمسح عن وجهه فأتاه سهم محدود مسموم له ثلاث شعب فوقع السهم في صدره ، وقيل : في قلبه ، فقال عليه السلام : « بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله » . ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : « إلهي ، إنك تعلم أنهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن بنت نبيّ
____________(1) الثغرة : الثلمة . وفي مقاتل الطالبيين : « حتى خرج من فيه » .
(2) ورواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص 117 مع اختلاف
غيره » .
ثم أخذ السهم فأخرجه من قفاه ، فانبعث الدم كأنه ميزاب ، فوضع يده على الجرح ، فلما امتلأت رمى به إلى السماء فما رجع من ذلك الدم قطرة ، وما عرفت الحمرة في السماء حتى رمى الحسين عليه السلام بدمه ، ثم وضع يده ثانية فلما امتلأت لطخ بها رأسه ولحيته وقال : « هكذا ألقى الله وأنا مخضب بدمي مغصوب عليّ حقي وأقول : يا جداه ، قتلني فلان وفلان » .
ثم ضعف عن القتال ، وكلما أتاه رجل انصرف عنه كراهية أن يلقى الله بدمه حتى أتاه رجل من كنده يقال له « مالك بن النسر » لعنه الله ، فشتم الحسين عليه السلام وضربه بالسيف على رأسه الشريف فقطع البرنس ووصل السيف إلى فرقه فامتلأ البرنس دما ، فقال له الحسين عليه السلام : « لا أكلت بها ولا شربت ، وحشرك الله مع الظالمين » . ثم رمى البرنس عن رأسه واستدعا بخرقة وشد بها رأسه ، ولبس قلنسوة واعتمّ عليها (1) .
قال : ثم انهم لبثوا هنيئة ثم داروا عليه وأحاطوا به ، فخرج عبدالله بن الحسن عليه السلام وهو غلام لم يراهق ، فخرج من عند النساء يشتدّ حتى وقف إلى جنب الحسين عليه السلام ، فلحقته زينب لتحبسه ، فقال الحسين عليه السلام لها : « احبسيه يا أختاه » . فأبى وامتنع امتناعا شديدا وقال : لا والله لا أفارق عمي الحسين . فأهوى أبجر بن كعب ـ وقيل : حرملة الأسدي ـ إلى الحسين بالسيف فاتقاها الغلام وقال : ويلك يا ابن الخبيثة ، أتقتل عمي ؟ وتلقّى السيف بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلقة ، فنادى الغلام : يا عماه . فأخذه الحسين عليه السلام وضمه إلى صدره وقال : « يا ابن أخي ، اصبر على ما نزل بك ، فإنه بعين عناية الله ، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين » .
____________(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 34 ـ 35 مع اختلاف في بعض الألفاظ .
وروى قسما منه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 172 .
قيل : ورماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه في حجر عمه (1) .
ثم إن الشمر لعنه الله حمل على فسطاط الحسين عليه السلام فطعنه بالرمح ثم قال : عليَّ بالنار لأحرقه على من فيه .
فقال له الحسين عليه السلام : « أنت الداعي بالنار لتحرق بيتي على أهلي ، أحرقك الله بالنار » . فجاء شبث بن ربعي فوبّخه ، فاستحيى وانصرف (2) .
قال : فنادى الحسين عليه السلام وقال : « ابعثوا لي ثوبا لا يرغب فيه أحد أجعله تحت ثيابي لئلا أجرّد منه » . فأتي له بثوب فردها وقال : « ذلك لباس من ضربت عليه الذلة » . ثم إنه أخذ ثوبا خلقا فجعله تحت ثيابه ، فلما قتل جردوه منه .
ثم استدعى بسراويل من حبرة فمزّقها لئلا يسلبونها ، فلما قتل جردوه منها (3) .
قال : فأعيا عن القتال وكف عن الجدال ، فنادى شمر لعنه الله : ما وقوفكم ؟ وما تنتظرون بالرجل ؟ احملوا عليه ثكلتكم امهاتكم .
فرماه الحصين بن تميم في فيه ، وأبو أيوب الغنوي في حلقه ، وطعنه صالح بن وهب المزنى في خاصرته طعنة سقط بها عن فرسه على خده الأيمن ، ثم قام صلوات الله عليه (4) .
قال الراوي : فلما سقط الحسين عليه السلام خرجت زينب بنت علي عليه السلام من الفسطاط وهي تنادي : « وا أخاه ، وا سيداه ، ليت الموت أعدمني الحياة ، وليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل ، يا عمر بن سعد ، أيقتل أبو عبدالله وأنت تنظر إليه » ؟!
____________(1)
ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 173 .
(2) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : 3 : 173 .
(3) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 174 .
(4) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 35 ، والسيد ابن طاوس في الملهوف : ص 174 ـ 175
تعليق