اللهم صل على محمد و آل محمد
فاجأني ما قاله الدكتور يوسف القرضاوي عندما حذر في أحد المؤتمرات التي عقدت بالدوحة أخيرا من ' التبشير' الشيعي في بلاد التزمت غالبيتها بالمذهب السني. ولم تكن هذه هي المرة الأولي التي ورد فيها هذا التحذير, بل إن عددا من الكتاب الإسلاميين_ مثل الأستاذ فهمي هويدي- أشاروا إلي التشيع باعتباره واحدا من الأخطار التي يتمني غيابها. ولأول مرة شعرت بهذه الفجوة الهائلة داخل المذاهب الإسلامية, فقد كان تعبير ' التبشير' محفوظا للحديث عن محاولات البعثات المسيحية الغربية خاصة البروتستانتينية التي حاولت جذب المسلمين لديانتها أحيانا وأنصار الكنائس الشرقية- بما فيها المصرية- الأرثوذكسية في معظم الأحيان.
وفي أحيان أخري وعلي سبيل الاستعارة فقد شهدت مصر فترات تم فيها التحذير من' التبشير' الشيوعي حيث اعتبرت' الشيوعية' من المذاهب الهدامة التي لا تؤمن بدين; ووفق ذلك, وربما بسبب ذلك, تؤمن بالصراع بين الطبقات التي ينبغي للعلاقات بينها أن تكون دائما متناغمة وهادئة, وباختصار مثل السمن والعسل!.
والحقيقة أنه يجب أن أعترف بجهلي الشديد بالمذهب الشيعي فقد ولدت سنيا وفقا لمذاهب أهل السنة في مصر وهو ما لم أسمع بهم حتي جاءت لحظة الزواج وقال المأذون إن المغامرة التي أنا بالطريق إلي الولوج فيها سوف تكون علي مذهب أبي حنيفة النعمان.
ولم أدر ساعتها عما إذا كانت المسألة سوف تكون مختلفة لو أنني قررت الزواج علي المذهب الحنبلي أو المالكي أو الشافعي, وعلي أي الأحوال فقد كان ذلك أول وآخر مرة أمارس فيها مذهبي السني; فحتي عندما ذهبت إلي العراق لأول مرة عام1986 زرت_ مع آخرين- مسجد الكاظمية الشيعي في بغداد وكان ما لفت نظري معماره الهندي, والمقام الذي كان باهرا بالكريستال والذهب وربما الألماس أيضا.
ولكن بدا عاديا للغاية ساعتها أنني والصحبة معي قمنا بصلاة تحية المسجد كما نفعل دائما في مصر, ولم يبد ساعتها أننا لفتنا أنظار أحد.
وتكرر الأمر بعد ذلك عدة مرات عندما زرنا طهران وأصفهان في عهد محمد خاتمي عندما كانت العلاقات بين مصر وإيران أقل اكفهرارا مما هي عليه الآن في عهد أحمدي نجاد. وحتي عندما ذهبنا إلي قم لزيارة واحدة من المكتبات المهمة ثم زيارة عدد من المساجد فقد قمنا بالصلاة كما اعتدنا, وعندما وصلنا في النهاية إلي قبر الإمام الخميني أثناء رحلة العودة إلي العاصمة كانت الصلاة واجبة أيضا, فقمنا بها علي مقربة من الرجل الذي غير تاريخ الشيعة والمسلمين.
وبشكل ما فقد بدت مسألة الشيعة والسنة دائما نوعا من الانشقاق التاريخي أكثر منه انشقاقا مذهبيا, وبالنسبة لرواية الفتنة الكبري ذاتها فإنها في معظم الأحيان في صيغتها المصرية كانت تنم دوما عن انحياز للإمام علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ وامتعاض مما فعله معاوية برفع المصـاحف علي الرمـاح, واستـنكـار للخديعـة التي فعـلها عمرو بن العاص ساعة التحكيم, والغفلة التي مارسها أبو موسي الأشعري عندما خلع الإمام عن الخلافة.
وفي مؤتمرات دولية كثيرة كان معظم المسلمين_ شيعة وسنة- يقولون بفخر إن الانقسام بينهما لا يماثل تلك الانقسامات في المسيحية بين الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذوكس وهي التي أدت إلي عدد من الحروب التاريخية.
وبالنسبة للمصريين فإنهم يفخرون دائما بأنهم أمسكوا بجوهر الدين- الإسلام هذه المرة- حتي أنهم انتقلوا بسهولة ويسر بين المذهب السني والشيعي عندما أتي جوهر الصقلي إلي مصر قادما من المغرب فاتحا ومؤسسا للدولة الفاطمية; ومن المذهب الشيعي إلي المذهب السني مرة أخري عندما جاءها صلاح الدين الأيوبي من المشرق هذه المرة فاتحا ومؤسسا للدولة الأيوبية.
وصحيح أن مصر بقيت سنية بعد ذلك حتي الآن, وصحيح أنه قد تناوب عليها أشكال متنوعة من الحكام السنة حتي وصلنا إلي الدولة العثمانية, إلا أن حب آل البيت ومقاماتهم في مصر, والتقاليد الفاطمية في الاحتفالات الدينية, ظلت علي حالها.
وبالنسبة للمصري العادي أو حتي المثقف ثقافة عادية فإن كلمة' شيعي' لا تعني الحديث عن دين مختلف بقدر ما تعني الحديث عن مجموعة من التقاليد المختلفة. وفي واحدة من روايات نجيب محفوظ الشهيرة_ أظنها' السكرية'- تعجبت أمينة زوجة السيد أحمد عبد الجواد الشهيرة من القبض علي واحد من أحفادها بتهمة' الشيوعية' لأنها لا تعتقد أن هناك تهمة أو جريمة في أن يكون المرء من' شيعة' الإمام علي كرم الله وجهه!.
فهل يمكن بعد ذلك أن يكون الإنسان شيعيا في مصر دون أن يعد من الفئة' الرافضة' أو من المرتدين, أو علي الأقل المصدقين للتبشير الجديد أو التابعين لدولة إيران أو ممثلين لعملية استكمال' الهلال الشيعي' الذي يزحف علي المنطقة من حيث لا يعرف أحد ولا يحتسب؟.
وللحق فإنه لا توجد إجابة جاهزة عن هذا السؤال, فنحن- أهل السنة والجماعة- لا نعرف الكثير عن المذهب الشيعي, كما نعرف القليل للغاية عن كل الأديان والمذاهب الأخري.
وفي الدستور المصري فإنه لا يوجد نص واضح يحدد مذهب الدولة, وحتي بالنسبة للمادة الثانية من الدستور فقد قالت إن الإسلام هو دين الدولة واللغة العربية لغتها, ومبادئ_ أكرر مبادئ- الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
وفي هذا النص لا يوجد ما يقول لنا إن المذهب السني هو مذهب الدولة, وبالتأكيد فإنه لا يوجد فيه تحديد لأي من المذاهب الأربعة المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية هي التي ينبغي لها أن تكون موجهة للتشريع.
وعلي أي الأحوال, فطالما أننا نتحدث عن' المبادئ' فإن أهل السنة وجماعة الشيعة يصرون علي أنه لا خلاف بينهما حول الأسس التي قام عليها الدين الإسلامي وفي الأزهر الشريف فإن تدريس المذهب الشيعي يتم علي أساس أنه واحد من المذاهب الإسلامية المعتبرة.
مرة أخري فإنني لا أعرف الكثير عن المذهب الشيعي, ولكن القضية ليست المعرفة بالمذاهب قدر المعرفة بالسياسة وفي هذه الأخيرة فإنني أعرف ما هو أكثر.
وخلال السنوات الأخيرة هبت رياح خبيثة علي مجتمعات المنطقة يمكن التأريخ لها بقدر من التبسيط مع قيام الثورة الإيرانية' الإسلامية' ومن ساعتها أصبحت إيران جزءا من حركة السياسة في المنطقة من جانبها الثوري هذه المرة.
وبشكل ما, ومع نهاية السبعينيات, تبادل العالم العربي, ومصر تحديدا, الأدوار, فبعد أن كانت القاهرة هي قلب الثورة العربية النابض خلال الخمسينيات والستينيات, بينما كانت طهران عاصمة المحافظة والموالاة للغرب خلال نفس الفترة, فقد انقلب الحال مع نهاية السبعينيات وأصبحت إيران زعيمة للثورة بينما أصبحت مصر زعيمة للمحافظة بعد أن خاضت تجربتها الثورية وعلمت ما فيها من كوارث وحصلت علي نتائجها المرة.
وخلال الثمانينيات جري ما جري في المنطقة ولكن الصراع لم يكن خلال الحرب العراقية الإيرانية بين السنة والشيعة, بل كان كما كان طوال التاريخ بين الثورة والمحافظة, وبين الفوضي والاستقرار. وببساطة لم يكن الدين أكثر من واحدة من أدوات السياسة
التي تم استخدامها كما استخدمت كل الأفكار النبيلة من قبل.
وفي ذروة الحرب العراقية_ الإيرانية فإن صدام حسين لم يجرؤ علي اتهام إيران باتباع المذهب الشيعي, ولكنه لم يترك الفرصة دون أن يتهم إيران بالمجوسية ووصف الإيرانيين بعبدة النار.
وكانت القضية من أولها إلي آخرها دعاية وسياسة يحاول فيها كل طرف كسب الحرب وتحقيق مصالحه.
اليوم عادت اللعبة السياسية مرة أخري ولكنها دلفت هذه المرة إلي العلاقة بين السنة والشيعة عندما جري الفرز داخل العراق حول الموقف من الغزو الأمريكي فأيده السنة الأكراد وغالبية الشيعة العرب ورفضه السنة العرب وأقلية من الشيعة العرب. وكان هذا الفرز طبيعيا بسبب تاريخ العلاقة مع نظام صدام حسين والقوي المعارضة له, ولكن القوي الخارجية_ ويا لسخرية القدر- سواء كانت الولايات المتحدة أو جماعة الزرقاوي, لعبت دورها في تصوير الصراع الداخلي علي أنه حرب مذهبية بين الشيعة والسنة.
ولكن ما جري في العراق ما لبث أن تردد صداه في لبنان وسوريا والأردن ومنطقة الخليج كلها, وأصبح المذهب الشيعي فجأة ليس جزءا من الدين الإسلامي وواحدا من مذاهبه المعتبرة, وإنما دين آخر يخشي منه ومن التبشير به.
وهنا نصل إلي عقدة القضية كلها وهي اختلاط الدين بالسياسة حينما يتم تجاوز التفاعلات الاجتماعية علي أساس من البحث عن أمور الدنيا والمصالح المشتركة إلي البحث في أصولها الفقهية, وساعتها تصبح المسألة بحثا في المذاهب والروافد والأصول والفروع. وفي السياسة يكون الانقسام بين بشر يخطئون ويصيبون, أما في الدين فإن المسألة تصير تحكيما في كلمات منزلات هي الحق وما عداه باطل. ولذا كان التحذير من التبشير قادما من الأصولية السنية, فعندما يوجد مطلق فإنه واحد لا يعرف القسمة أو الانقسام أو السلام مع مطلقات أخرى.
,.,
فاجأني ما قاله الدكتور يوسف القرضاوي عندما حذر في أحد المؤتمرات التي عقدت بالدوحة أخيرا من ' التبشير' الشيعي في بلاد التزمت غالبيتها بالمذهب السني. ولم تكن هذه هي المرة الأولي التي ورد فيها هذا التحذير, بل إن عددا من الكتاب الإسلاميين_ مثل الأستاذ فهمي هويدي- أشاروا إلي التشيع باعتباره واحدا من الأخطار التي يتمني غيابها. ولأول مرة شعرت بهذه الفجوة الهائلة داخل المذاهب الإسلامية, فقد كان تعبير ' التبشير' محفوظا للحديث عن محاولات البعثات المسيحية الغربية خاصة البروتستانتينية التي حاولت جذب المسلمين لديانتها أحيانا وأنصار الكنائس الشرقية- بما فيها المصرية- الأرثوذكسية في معظم الأحيان.
وفي أحيان أخري وعلي سبيل الاستعارة فقد شهدت مصر فترات تم فيها التحذير من' التبشير' الشيوعي حيث اعتبرت' الشيوعية' من المذاهب الهدامة التي لا تؤمن بدين; ووفق ذلك, وربما بسبب ذلك, تؤمن بالصراع بين الطبقات التي ينبغي للعلاقات بينها أن تكون دائما متناغمة وهادئة, وباختصار مثل السمن والعسل!.
والحقيقة أنه يجب أن أعترف بجهلي الشديد بالمذهب الشيعي فقد ولدت سنيا وفقا لمذاهب أهل السنة في مصر وهو ما لم أسمع بهم حتي جاءت لحظة الزواج وقال المأذون إن المغامرة التي أنا بالطريق إلي الولوج فيها سوف تكون علي مذهب أبي حنيفة النعمان.
ولم أدر ساعتها عما إذا كانت المسألة سوف تكون مختلفة لو أنني قررت الزواج علي المذهب الحنبلي أو المالكي أو الشافعي, وعلي أي الأحوال فقد كان ذلك أول وآخر مرة أمارس فيها مذهبي السني; فحتي عندما ذهبت إلي العراق لأول مرة عام1986 زرت_ مع آخرين- مسجد الكاظمية الشيعي في بغداد وكان ما لفت نظري معماره الهندي, والمقام الذي كان باهرا بالكريستال والذهب وربما الألماس أيضا.
ولكن بدا عاديا للغاية ساعتها أنني والصحبة معي قمنا بصلاة تحية المسجد كما نفعل دائما في مصر, ولم يبد ساعتها أننا لفتنا أنظار أحد.
وتكرر الأمر بعد ذلك عدة مرات عندما زرنا طهران وأصفهان في عهد محمد خاتمي عندما كانت العلاقات بين مصر وإيران أقل اكفهرارا مما هي عليه الآن في عهد أحمدي نجاد. وحتي عندما ذهبنا إلي قم لزيارة واحدة من المكتبات المهمة ثم زيارة عدد من المساجد فقد قمنا بالصلاة كما اعتدنا, وعندما وصلنا في النهاية إلي قبر الإمام الخميني أثناء رحلة العودة إلي العاصمة كانت الصلاة واجبة أيضا, فقمنا بها علي مقربة من الرجل الذي غير تاريخ الشيعة والمسلمين.
وبشكل ما فقد بدت مسألة الشيعة والسنة دائما نوعا من الانشقاق التاريخي أكثر منه انشقاقا مذهبيا, وبالنسبة لرواية الفتنة الكبري ذاتها فإنها في معظم الأحيان في صيغتها المصرية كانت تنم دوما عن انحياز للإمام علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ وامتعاض مما فعله معاوية برفع المصـاحف علي الرمـاح, واستـنكـار للخديعـة التي فعـلها عمرو بن العاص ساعة التحكيم, والغفلة التي مارسها أبو موسي الأشعري عندما خلع الإمام عن الخلافة.
وفي مؤتمرات دولية كثيرة كان معظم المسلمين_ شيعة وسنة- يقولون بفخر إن الانقسام بينهما لا يماثل تلك الانقسامات في المسيحية بين الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذوكس وهي التي أدت إلي عدد من الحروب التاريخية.
وبالنسبة للمصريين فإنهم يفخرون دائما بأنهم أمسكوا بجوهر الدين- الإسلام هذه المرة- حتي أنهم انتقلوا بسهولة ويسر بين المذهب السني والشيعي عندما أتي جوهر الصقلي إلي مصر قادما من المغرب فاتحا ومؤسسا للدولة الفاطمية; ومن المذهب الشيعي إلي المذهب السني مرة أخري عندما جاءها صلاح الدين الأيوبي من المشرق هذه المرة فاتحا ومؤسسا للدولة الأيوبية.
وصحيح أن مصر بقيت سنية بعد ذلك حتي الآن, وصحيح أنه قد تناوب عليها أشكال متنوعة من الحكام السنة حتي وصلنا إلي الدولة العثمانية, إلا أن حب آل البيت ومقاماتهم في مصر, والتقاليد الفاطمية في الاحتفالات الدينية, ظلت علي حالها.
وبالنسبة للمصري العادي أو حتي المثقف ثقافة عادية فإن كلمة' شيعي' لا تعني الحديث عن دين مختلف بقدر ما تعني الحديث عن مجموعة من التقاليد المختلفة. وفي واحدة من روايات نجيب محفوظ الشهيرة_ أظنها' السكرية'- تعجبت أمينة زوجة السيد أحمد عبد الجواد الشهيرة من القبض علي واحد من أحفادها بتهمة' الشيوعية' لأنها لا تعتقد أن هناك تهمة أو جريمة في أن يكون المرء من' شيعة' الإمام علي كرم الله وجهه!.
فهل يمكن بعد ذلك أن يكون الإنسان شيعيا في مصر دون أن يعد من الفئة' الرافضة' أو من المرتدين, أو علي الأقل المصدقين للتبشير الجديد أو التابعين لدولة إيران أو ممثلين لعملية استكمال' الهلال الشيعي' الذي يزحف علي المنطقة من حيث لا يعرف أحد ولا يحتسب؟.
وللحق فإنه لا توجد إجابة جاهزة عن هذا السؤال, فنحن- أهل السنة والجماعة- لا نعرف الكثير عن المذهب الشيعي, كما نعرف القليل للغاية عن كل الأديان والمذاهب الأخري.
وفي الدستور المصري فإنه لا يوجد نص واضح يحدد مذهب الدولة, وحتي بالنسبة للمادة الثانية من الدستور فقد قالت إن الإسلام هو دين الدولة واللغة العربية لغتها, ومبادئ_ أكرر مبادئ- الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
وفي هذا النص لا يوجد ما يقول لنا إن المذهب السني هو مذهب الدولة, وبالتأكيد فإنه لا يوجد فيه تحديد لأي من المذاهب الأربعة المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية هي التي ينبغي لها أن تكون موجهة للتشريع.
وعلي أي الأحوال, فطالما أننا نتحدث عن' المبادئ' فإن أهل السنة وجماعة الشيعة يصرون علي أنه لا خلاف بينهما حول الأسس التي قام عليها الدين الإسلامي وفي الأزهر الشريف فإن تدريس المذهب الشيعي يتم علي أساس أنه واحد من المذاهب الإسلامية المعتبرة.
مرة أخري فإنني لا أعرف الكثير عن المذهب الشيعي, ولكن القضية ليست المعرفة بالمذاهب قدر المعرفة بالسياسة وفي هذه الأخيرة فإنني أعرف ما هو أكثر.
وخلال السنوات الأخيرة هبت رياح خبيثة علي مجتمعات المنطقة يمكن التأريخ لها بقدر من التبسيط مع قيام الثورة الإيرانية' الإسلامية' ومن ساعتها أصبحت إيران جزءا من حركة السياسة في المنطقة من جانبها الثوري هذه المرة.
وبشكل ما, ومع نهاية السبعينيات, تبادل العالم العربي, ومصر تحديدا, الأدوار, فبعد أن كانت القاهرة هي قلب الثورة العربية النابض خلال الخمسينيات والستينيات, بينما كانت طهران عاصمة المحافظة والموالاة للغرب خلال نفس الفترة, فقد انقلب الحال مع نهاية السبعينيات وأصبحت إيران زعيمة للثورة بينما أصبحت مصر زعيمة للمحافظة بعد أن خاضت تجربتها الثورية وعلمت ما فيها من كوارث وحصلت علي نتائجها المرة.
وخلال الثمانينيات جري ما جري في المنطقة ولكن الصراع لم يكن خلال الحرب العراقية الإيرانية بين السنة والشيعة, بل كان كما كان طوال التاريخ بين الثورة والمحافظة, وبين الفوضي والاستقرار. وببساطة لم يكن الدين أكثر من واحدة من أدوات السياسة
التي تم استخدامها كما استخدمت كل الأفكار النبيلة من قبل.
وفي ذروة الحرب العراقية_ الإيرانية فإن صدام حسين لم يجرؤ علي اتهام إيران باتباع المذهب الشيعي, ولكنه لم يترك الفرصة دون أن يتهم إيران بالمجوسية ووصف الإيرانيين بعبدة النار.
وكانت القضية من أولها إلي آخرها دعاية وسياسة يحاول فيها كل طرف كسب الحرب وتحقيق مصالحه.
اليوم عادت اللعبة السياسية مرة أخري ولكنها دلفت هذه المرة إلي العلاقة بين السنة والشيعة عندما جري الفرز داخل العراق حول الموقف من الغزو الأمريكي فأيده السنة الأكراد وغالبية الشيعة العرب ورفضه السنة العرب وأقلية من الشيعة العرب. وكان هذا الفرز طبيعيا بسبب تاريخ العلاقة مع نظام صدام حسين والقوي المعارضة له, ولكن القوي الخارجية_ ويا لسخرية القدر- سواء كانت الولايات المتحدة أو جماعة الزرقاوي, لعبت دورها في تصوير الصراع الداخلي علي أنه حرب مذهبية بين الشيعة والسنة.
ولكن ما جري في العراق ما لبث أن تردد صداه في لبنان وسوريا والأردن ومنطقة الخليج كلها, وأصبح المذهب الشيعي فجأة ليس جزءا من الدين الإسلامي وواحدا من مذاهبه المعتبرة, وإنما دين آخر يخشي منه ومن التبشير به.
وهنا نصل إلي عقدة القضية كلها وهي اختلاط الدين بالسياسة حينما يتم تجاوز التفاعلات الاجتماعية علي أساس من البحث عن أمور الدنيا والمصالح المشتركة إلي البحث في أصولها الفقهية, وساعتها تصبح المسألة بحثا في المذاهب والروافد والأصول والفروع. وفي السياسة يكون الانقسام بين بشر يخطئون ويصيبون, أما في الدين فإن المسألة تصير تحكيما في كلمات منزلات هي الحق وما عداه باطل. ولذا كان التحذير من التبشير قادما من الأصولية السنية, فعندما يوجد مطلق فإنه واحد لا يعرف القسمة أو الانقسام أو السلام مع مطلقات أخرى.
,.,
تعليق