مفهوم التقوى في نهج البلاغة
إنّ كلمة التقوى من أكثركلمات نهج البلاغة استعمالاً ، فليس هناك كتاب يركّز فيه على التقوى أكثر من نهجالبلاغة ، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتنى به أكثر من التقوى ، فماهي التقوى ؟
يفترض الكثيرون أنّ التقوى من الوقاية ، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعدوالاجتناب ، فهي إذن سيرة عملية سلبية ، وكلّما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل ! وعلى هذا التفسير تكون التقوى :
أوّلاً : أمراً منتزعاً عن السيرة العملية .
وثانياً : هي سيرة عملية سلبية لا إيجابية .
وثالثاً : كلّما كانت سلبيتها أكثر كانت التقوى أكمل .
ولهذا نرى أنّ المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخّل في أي عمل ، ويجتنبون كل رطبوجامد وحار وبارد ، حرصاً على سلامة تقواهم !
ولا شك أنّ الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل ، فإنّ الحياةلا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات والفعل والترك والإقداموالإحجام .
بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلاّ عن طريق السلب ، ولا إلى الإثبات إلاّ بعدالنفي ، وليست كلمة التوحيد : لا إله إلاّ الله ، إلاّ كلمة جامعة بين النفيوالإثبات ، ولا يمكن إثبات التوحيد إلاّ بعد نفي ما سوى الله تعالى .
ولذلك نرى أنّ الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان ملتزمان ، أي أنّ كلطاعة تتضمّن معصية ، وكل إيمان يشتمل على كفر : ( فَمَنْ يَكْفُرْبِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) (1) ، ولكن ...
أوّلاً : إنّ البعد والنفي والعصيان والكفر لا تصح إلاّ للعبور إلى أضدادها ،ولا تصح إلاّ أن تكون مقدّمات للارتباط بمقابلاتها ، ولذلك فلابد أن يكون للابتعادالمفيد حدوداً وأهدافاً ، فالسيرة العملية السلبية بلا حدود ولا قيود ولا أهداف ،ليست مقدّسة ولا يحمد عقباها .
وثانياً : إنّ مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر ( حسب المفهومالمنطقي للفظة الترادف ) ، فإنّ التقوى في نهج البلاغة : قوّة روحية تتولّد للإنسانمن التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب .
فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدّمة للحصول على هذه الحالة الروحية ، وهو ـمن ناحية أخرى ـ من لوازم حالة التقوى ونتائجها .
إنّ هذه الحالة تهب للروح قوّة ونشاطاً ، وتصونه من الانحراف والشطط ، ومن لميحظ بهذه الحالة لابدّ له ـ إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية ـ من أن يبعد نفسه عنأسبابها ، وحيث أنّ البيئة الاجتماعية مليئة بأسباب المعاصي فلابد له من أن يختارالانزواء التام !
وعلى هذا فلابد إمّا أن نكون أتقياء ، وحينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئةالاجتماعية بصورة مطلقة ! أو أن نرد المجتمع فنودّع التقوى إطلاقاً ! وعلى هذا : كلّما كان الشخص أكثر انزواءً وعزلة عن المجتمع كان أكمل في التقوى وأجمع !
أمّا إذا حصلت الروح الإنسانية على ملكة التقوى ، فلا يضطر صاحبها إلى تركالمجتمع والاعتزال .
إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع ، فمن كانت تقواه بالمعنىالأوّل كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي ، أمّا من كانت تقواه بالمعنىالصحيح كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضدّه ، فلا يضطر إلى أن يخرج منالبلد أو يجتنب الناس ، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم ممّا هم فيه من الألمالممضّ .
أمّا نهج البلاغة ، فإنّه يصف التقوى ـ كما وصفناها نحن ـ بأنّها قوّة معنويةروحية ، تحصل على أثر التمرين والممارسة ، ولها آثار ونتائج ، منها تيسير الحذر منالذنوب .
( ذمّتي بما أقول رهينة ، وأنا به زعيم ! إن من صرحت له العبر عما بينيديه من المثلات حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات ... ألا وإنّ الخطايا خيل شُمسحمل عليها راكبها وخلعت لجمها ، فتقحمت بهم في النار ... ألا وإنّ التقوى مطاياذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنّة ... ) .
فقد وصف الإمام ( عليه السلام ) التقوى في خطبته هذه بأنّها : حالة روحيةمعنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها ، وأنّ من لوازم اتباع الهوى وتركالتقوى هو انعدام الشخصية وضعف النفس أمام هواها وعند حركة شهواتها ، وأنّ فاقدالتقوى حينئذ يكون كراكب ضعيف لا إرادة له في تسيير مركبه ، بل المركب هو الذي يسيرحيث يشاء ويهوى ، وأنّ من لوازم التقوى قوّة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة ،كراكب ماهر على فرس مدرّب يسير به في الناحية التي يختارها بكل اقتدار وسلطة ،فيطيعه الفرس بكل يسر .
( إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه ، وألزمت قلوبهم مخافته ،حتّى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم ) ،وفي هذه الكلمة يصرّح الإمام ( عليه السلام ) بأنّ التقوى شيء يكون الحذر من الحرام ، والخوف من الله من لوازمهوآثاره .
وعلى هذا ، فليست التقوى هي نفس الحذر ، ولا نفس الخوف من الله ، بل قوّةمقدّسة روحية توحي بهذه الأمور وتستتبعها ،( فإنّ التقوى في اليوم الحرزوالجنّة ، وفي غد الطريق إلى الجنّة ) .
نرى أنّ الإمام ( عليه السلام ) قد عطف نظره في هذه الكلمات إلى الناحيةالروحية والنفسية والمعنوية للتقوى وآثارها في الروح ، بحيث تبعث فيه الإحساس بحبالبر والطهر ، والإحساس بالتذمّر من الذنوب والأرجاس والأنجاس .
وهناك نماذج أخرى في هذا الموضوع ، ولعل في هذا القسم كفاية ، ولا ضرورة فيذكر أكثر من هذه النماذج .
إنّ التقوى في نهج البلاغة : قوّة مقدّسة روحية ينشأ منها أنواع من الإقداموالإحجام ، إقدام على القيم المعنوية ، وإحجام عن الدنايا المادّية ، إنّ التقوى فينهج البلاغة : حالة تهب لروح الإنسان قدرة يتسلّط بها على نفسه ويمتلكها .
ولقد أكد الإمام ( عليه السلام ) في خطبه في نهج البلاغة على أنّ التقوى : وقاية لا قيود ، فهناك كثير من الناس لا يفرقون بين ( الوقاية ) و( القيود ) ،ولذلك فهم يفرّون من التقوى باسم التحرّر من القيود والخروج عن الحدود .
ولا شك أنّ الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنّهما كليهما مانعان ، ولكنالجدار الواقي يمنع عن الخطر ، في حين أنّ السجن يمنع عن التمتّع بالنعم والمواهبالمعدّة للإنسان .
يقول الإمام ( عليه السلام ) : ( اعلموا عباد الله : إنّ التقوى دارحصن عزيز ، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ، ولا يحرز من لجأ إليه ، ألاوبالتقوى تقطع حمة الخطايا ) .
وكأنّه ( عليه السلام ) يشبّه الفجور في كلامه هذا بالحيوان اللاسع كالعقاربوالحيات ، ويقول : اقطعوا عن أنفسكملسعة هذه العقارب بالتقوى ، ويصرّح في بعضكلماته أنّ التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرّر ، بل هي منبع الحرّيات الواقعيةوأساسها ومنشؤها .
( فإنّ تقوى الله مفتاح سداد ، وذخيرة معاد ، وعتق من كل ملكة ، ونجاةمن كل هلكة ) .
واضح أنّ التقوى تهب للإنسان حرّية معنوية ، تحرّره من أسر عبودية الهوى ،وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة ، وهكذا تحرق عروق العبودياتالمادّية ، بين ناس هم عبيد الدنيا والمال والمقام والراحة ، بينما لا يخضع التقيلأعباء هذه العبوديات .
ولقد بحث الإمام ( عليه السلام ) في نهج البلاغة حول آثار التقوى كثيراً ، ولانرى نحن هنا ضرورة للبحث عن جميعها ، وإنّما نقصد هنا أن يتّضح لنا المفهوم الواقعيللتقوى في مدرسة نهج البلاغة ، ليتبيّن لنا معنى هذا التأكيد على هذه الكلمة في نهجالبلاغة .
وإنّ من أهم آثار التقوى الذي أشير إليه في نهج البلاغة أثران خطيران :
أحدهما : البصيرة النيّرة والرؤية الواضحة .
والآخر : القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق والشدائد .
وقد بحثنا حول آثار التقوى في موضع آخر ، وهي ـ بالإضافة إلى ذلك ـ خارجة عمّانهدف إليه من هذا البحث هنا ، وهو : بيان المفهوم الواقعي للتقوى ، ولذلك نكتفي هنامن هذا البحث بهذا المقدار .
ولكن بودي أن نتحدّث هنا عمّا يشير إليه نهج البلاغة من أنّ : التقوى تقيالإنسان ، والإنسان يحافظ عليها ، بل يصر نهج البلاغة على أنّ التقوى وثيقة تضمنللإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن ، وفي نفس الوقت يلفت نظر الإنسان إلى أنّهأيضاً يجب عليه أن لا يغفل لحظة عن حراسة التقوى وحفاظتها ، فإنّ التقوى وإن كانتواقعية للإنسان ، فمع ذلك يجب على الإنسان أيضاً أن يكون واقياً لها .
وليس هذا من ( الدور المُحال الباطل ) ، بلى هو من نوع المحافظة المتقابلة بينالإنسان والثياب ، إذ الإنسان يحافظ عليها من التمزّق والسرقة ، وهي تحافظ علىالإنسان من الحر والبرد والبأس والبؤس ، ولقد عبّر القرآن الكريم أيضاً عن التقوىباللباس فقال : ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) .
وقال الإمام علي ( عليه السلام ) بهذا الصدد : ( أيقظوا بها نومكم ،واقطعوا بها يومكم ، وأشعروها قلوبكم ، وارحضوا بها ذنوبكم .. ألا فصونوها وتصوّنوابها ... ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإنّها حقالله عليكم ، والموجبة على الله حقّكم ، وأن تستعينوا عليها بالله ، وتستعينوا بهاعلى الله ... ) .
عن شبكة نهج البلاغة
http://www.aladwaa.nl/modules.php?name=News&file=article&sid=38
إنّ كلمة التقوى من أكثركلمات نهج البلاغة استعمالاً ، فليس هناك كتاب يركّز فيه على التقوى أكثر من نهجالبلاغة ، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتنى به أكثر من التقوى ، فماهي التقوى ؟
يفترض الكثيرون أنّ التقوى من الوقاية ، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعدوالاجتناب ، فهي إذن سيرة عملية سلبية ، وكلّما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل ! وعلى هذا التفسير تكون التقوى :
أوّلاً : أمراً منتزعاً عن السيرة العملية .
وثانياً : هي سيرة عملية سلبية لا إيجابية .
وثالثاً : كلّما كانت سلبيتها أكثر كانت التقوى أكمل .
ولهذا نرى أنّ المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخّل في أي عمل ، ويجتنبون كل رطبوجامد وحار وبارد ، حرصاً على سلامة تقواهم !
ولا شك أنّ الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل ، فإنّ الحياةلا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات والفعل والترك والإقداموالإحجام .
بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلاّ عن طريق السلب ، ولا إلى الإثبات إلاّ بعدالنفي ، وليست كلمة التوحيد : لا إله إلاّ الله ، إلاّ كلمة جامعة بين النفيوالإثبات ، ولا يمكن إثبات التوحيد إلاّ بعد نفي ما سوى الله تعالى .
ولذلك نرى أنّ الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان ملتزمان ، أي أنّ كلطاعة تتضمّن معصية ، وكل إيمان يشتمل على كفر : ( فَمَنْ يَكْفُرْبِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) (1) ، ولكن ...
أوّلاً : إنّ البعد والنفي والعصيان والكفر لا تصح إلاّ للعبور إلى أضدادها ،ولا تصح إلاّ أن تكون مقدّمات للارتباط بمقابلاتها ، ولذلك فلابد أن يكون للابتعادالمفيد حدوداً وأهدافاً ، فالسيرة العملية السلبية بلا حدود ولا قيود ولا أهداف ،ليست مقدّسة ولا يحمد عقباها .
وثانياً : إنّ مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر ( حسب المفهومالمنطقي للفظة الترادف ) ، فإنّ التقوى في نهج البلاغة : قوّة روحية تتولّد للإنسانمن التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب .
فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدّمة للحصول على هذه الحالة الروحية ، وهو ـمن ناحية أخرى ـ من لوازم حالة التقوى ونتائجها .
إنّ هذه الحالة تهب للروح قوّة ونشاطاً ، وتصونه من الانحراف والشطط ، ومن لميحظ بهذه الحالة لابدّ له ـ إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية ـ من أن يبعد نفسه عنأسبابها ، وحيث أنّ البيئة الاجتماعية مليئة بأسباب المعاصي فلابد له من أن يختارالانزواء التام !
وعلى هذا فلابد إمّا أن نكون أتقياء ، وحينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئةالاجتماعية بصورة مطلقة ! أو أن نرد المجتمع فنودّع التقوى إطلاقاً ! وعلى هذا : كلّما كان الشخص أكثر انزواءً وعزلة عن المجتمع كان أكمل في التقوى وأجمع !
أمّا إذا حصلت الروح الإنسانية على ملكة التقوى ، فلا يضطر صاحبها إلى تركالمجتمع والاعتزال .
إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع ، فمن كانت تقواه بالمعنىالأوّل كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي ، أمّا من كانت تقواه بالمعنىالصحيح كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضدّه ، فلا يضطر إلى أن يخرج منالبلد أو يجتنب الناس ، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم ممّا هم فيه من الألمالممضّ .
أمّا نهج البلاغة ، فإنّه يصف التقوى ـ كما وصفناها نحن ـ بأنّها قوّة معنويةروحية ، تحصل على أثر التمرين والممارسة ، ولها آثار ونتائج ، منها تيسير الحذر منالذنوب .
( ذمّتي بما أقول رهينة ، وأنا به زعيم ! إن من صرحت له العبر عما بينيديه من المثلات حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات ... ألا وإنّ الخطايا خيل شُمسحمل عليها راكبها وخلعت لجمها ، فتقحمت بهم في النار ... ألا وإنّ التقوى مطاياذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنّة ... ) .
فقد وصف الإمام ( عليه السلام ) التقوى في خطبته هذه بأنّها : حالة روحيةمعنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها ، وأنّ من لوازم اتباع الهوى وتركالتقوى هو انعدام الشخصية وضعف النفس أمام هواها وعند حركة شهواتها ، وأنّ فاقدالتقوى حينئذ يكون كراكب ضعيف لا إرادة له في تسيير مركبه ، بل المركب هو الذي يسيرحيث يشاء ويهوى ، وأنّ من لوازم التقوى قوّة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة ،كراكب ماهر على فرس مدرّب يسير به في الناحية التي يختارها بكل اقتدار وسلطة ،فيطيعه الفرس بكل يسر .
( إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه ، وألزمت قلوبهم مخافته ،حتّى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم ) ،وفي هذه الكلمة يصرّح الإمام ( عليه السلام ) بأنّ التقوى شيء يكون الحذر من الحرام ، والخوف من الله من لوازمهوآثاره .
وعلى هذا ، فليست التقوى هي نفس الحذر ، ولا نفس الخوف من الله ، بل قوّةمقدّسة روحية توحي بهذه الأمور وتستتبعها ،( فإنّ التقوى في اليوم الحرزوالجنّة ، وفي غد الطريق إلى الجنّة ) .
نرى أنّ الإمام ( عليه السلام ) قد عطف نظره في هذه الكلمات إلى الناحيةالروحية والنفسية والمعنوية للتقوى وآثارها في الروح ، بحيث تبعث فيه الإحساس بحبالبر والطهر ، والإحساس بالتذمّر من الذنوب والأرجاس والأنجاس .
وهناك نماذج أخرى في هذا الموضوع ، ولعل في هذا القسم كفاية ، ولا ضرورة فيذكر أكثر من هذه النماذج .
إنّ التقوى في نهج البلاغة : قوّة مقدّسة روحية ينشأ منها أنواع من الإقداموالإحجام ، إقدام على القيم المعنوية ، وإحجام عن الدنايا المادّية ، إنّ التقوى فينهج البلاغة : حالة تهب لروح الإنسان قدرة يتسلّط بها على نفسه ويمتلكها .
ولقد أكد الإمام ( عليه السلام ) في خطبه في نهج البلاغة على أنّ التقوى : وقاية لا قيود ، فهناك كثير من الناس لا يفرقون بين ( الوقاية ) و( القيود ) ،ولذلك فهم يفرّون من التقوى باسم التحرّر من القيود والخروج عن الحدود .
ولا شك أنّ الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنّهما كليهما مانعان ، ولكنالجدار الواقي يمنع عن الخطر ، في حين أنّ السجن يمنع عن التمتّع بالنعم والمواهبالمعدّة للإنسان .
يقول الإمام ( عليه السلام ) : ( اعلموا عباد الله : إنّ التقوى دارحصن عزيز ، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ، ولا يحرز من لجأ إليه ، ألاوبالتقوى تقطع حمة الخطايا ) .
وكأنّه ( عليه السلام ) يشبّه الفجور في كلامه هذا بالحيوان اللاسع كالعقاربوالحيات ، ويقول : اقطعوا عن أنفسكملسعة هذه العقارب بالتقوى ، ويصرّح في بعضكلماته أنّ التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرّر ، بل هي منبع الحرّيات الواقعيةوأساسها ومنشؤها .
( فإنّ تقوى الله مفتاح سداد ، وذخيرة معاد ، وعتق من كل ملكة ، ونجاةمن كل هلكة ) .
واضح أنّ التقوى تهب للإنسان حرّية معنوية ، تحرّره من أسر عبودية الهوى ،وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة ، وهكذا تحرق عروق العبودياتالمادّية ، بين ناس هم عبيد الدنيا والمال والمقام والراحة ، بينما لا يخضع التقيلأعباء هذه العبوديات .
ولقد بحث الإمام ( عليه السلام ) في نهج البلاغة حول آثار التقوى كثيراً ، ولانرى نحن هنا ضرورة للبحث عن جميعها ، وإنّما نقصد هنا أن يتّضح لنا المفهوم الواقعيللتقوى في مدرسة نهج البلاغة ، ليتبيّن لنا معنى هذا التأكيد على هذه الكلمة في نهجالبلاغة .
وإنّ من أهم آثار التقوى الذي أشير إليه في نهج البلاغة أثران خطيران :
أحدهما : البصيرة النيّرة والرؤية الواضحة .
والآخر : القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق والشدائد .
وقد بحثنا حول آثار التقوى في موضع آخر ، وهي ـ بالإضافة إلى ذلك ـ خارجة عمّانهدف إليه من هذا البحث هنا ، وهو : بيان المفهوم الواقعي للتقوى ، ولذلك نكتفي هنامن هذا البحث بهذا المقدار .
ولكن بودي أن نتحدّث هنا عمّا يشير إليه نهج البلاغة من أنّ : التقوى تقيالإنسان ، والإنسان يحافظ عليها ، بل يصر نهج البلاغة على أنّ التقوى وثيقة تضمنللإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن ، وفي نفس الوقت يلفت نظر الإنسان إلى أنّهأيضاً يجب عليه أن لا يغفل لحظة عن حراسة التقوى وحفاظتها ، فإنّ التقوى وإن كانتواقعية للإنسان ، فمع ذلك يجب على الإنسان أيضاً أن يكون واقياً لها .
وليس هذا من ( الدور المُحال الباطل ) ، بلى هو من نوع المحافظة المتقابلة بينالإنسان والثياب ، إذ الإنسان يحافظ عليها من التمزّق والسرقة ، وهي تحافظ علىالإنسان من الحر والبرد والبأس والبؤس ، ولقد عبّر القرآن الكريم أيضاً عن التقوىباللباس فقال : ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) .
وقال الإمام علي ( عليه السلام ) بهذا الصدد : ( أيقظوا بها نومكم ،واقطعوا بها يومكم ، وأشعروها قلوبكم ، وارحضوا بها ذنوبكم .. ألا فصونوها وتصوّنوابها ... ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإنّها حقالله عليكم ، والموجبة على الله حقّكم ، وأن تستعينوا عليها بالله ، وتستعينوا بهاعلى الله ... ) .
عن شبكة نهج البلاغة
http://www.aladwaa.nl/modules.php?name=News&file=article&sid=38
تعليق