تربية النفس والسير في طريق التكامل والرقي:
لتربية النفس الإنسانية وتحفيزها نحو الرقي والكمال والسير الصالح بالصورة المنهجية العملية الصحيحة تحتاج أولاً وبصورة رئيسة إلى الإيمان بالله تعالى والاعتقاد بالمعاد والآخرة ، وبعد إن يتحقق هذا الإيمان تكون النفس مستعدة للتربية والرقي وحينئذ تحتاج إلى الأسباب والمحفزات للسير في طريق التكامل والرقي، وفي هذا المقام نذكر بإيجاز بعض المحفزات :-
المحفز الأول : الهدف الأسمى :
ينبغي على الإنسان المسلم اختيار الهدف المهم والأوسع والأسمى ؛ لأنه كلما كان الهدف ضيقاَ وخفيفاَ كان اقرب إلى التلاشي في ذهن صاحبه، مما يؤدي إلى فتح باب واسع للتكالب والتزاحم للأمور التافهة وبالتالي الدخول في المحرمات الأخلاقية الشرعية .
وكلما كان الهدف أهم واسمى ، قلّت فيه الأخطاء والقبائح بسبب ما يحصل في ذهنه من المقارنة بين هدفه المهم المنشود وبين الشهوات التافهة الرديئة فيلتفت إلى تفاهتها بالقياس إلى ذلك الهدف مما يؤدي إلى نظافة وسعة روحية الإنسان ، فكيف إذا كان هدفه رضا الله سبحانه وتعـالى الذي لا تتناهى عظمته ولا تنقطع قدرته ولا تنتهي نعمه ، وكلما اقترب الإنسان من هذا الهدف اشتدت رغبته إليه وأحس بعمق أغواره وبعد منتهاه ، وكان ذلك منعشاَ لأماله ومؤثرا في اقتراب الإنسان نحو الصلاح والتكامل ، ويكون مثله الأشخاص الذين قال فيهم أمير المؤمنين(u) في وصف المتقين: (( كبر الخالق في أنفسهم ، فصغر ما دونه في أعينهم )) .
وورد عن الإمام علي(u): (( كان لي فيما مضى أخ في الله ، وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه ، وكان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد )) .
المحفز الثاني : الهم الكبير:
لتربية النفس يحتاج الإنسان المسلم إن يحمل هما كبيراَ متمثلا في أمور المسلمين جميعاً ، ومن الواضح إن حمل مثل هذا الهم ينمّي من أخلاقيات الإنسان ويوسع من الأفاق التي يخلق فيها الإنسان ويؤثر في تنمية الروح ، وبخلاف ذلك أي فيما إذا صغرت الأمور التي ينشغل بها فأن مثل هذا يؤدي إلى ضيق أفق الإنسان ووقوعه في التناقضات والنزاعات التافهة وبالتالي الوقوع في المحرمات الشرعية الأخلاقية .
وقد أشار أهل البيت(عليهم السلام) إلى ذلك في موارد عديدة نذكر منها:-
1- ما ورد عن أمير المؤمنين(u): (( من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته )) .
2- وورد عنه(u): ((رأيك لا يتسع لكل شيء ففزعه للمهم من أمورك)) .
3- ما ورد عن الإمام الصادق(u): (( باشر كبار أمورك وكل ما شق منها إلى غيرك )) .
4- ما ورد عن الإمام الصادق(u): (( لا تكونن دواراَ في الأسواق ولا تلي دقائق الأشياء بنفسك فانه لا ينبغي للمرء المسلم ذي الحسب والجود إن يلي شراء دقائق الأشياء بنفسه00)) .
المحفز الثالث: الإيثار والتضحية
من الواضح إن الإنسان الذي يعمل في سبيل الله تعالى ويؤثر ويضحي بمصالحه الشخصية في سبيل راحة الآخرين والمصالح الاجتماعية ، فبقدر ذلك تنمو روحه وتتسع أفاقه حتى يصل إلى التكامل الأخلاقي ، وذلك لأنه من الأسباب الرئيسة في المشاكل الأخلاقية هو التضارب والتزاحم بين المصالح الشخصية والمصالح الاجتماعية ، وان حب ألذات هو الذي يدفع الإنسان إلى إن يقدم مصالحه الشخصية على المصالح الأخرى حتى لو كان ذلك ظلماَ وعدوانا على الآخرين .
وللحصول على السعادتين الدنيوية والأخروية يجب على الإنسان إن يجعل إيثاره وتضحيته للناس والمجتمع في سبيل الله تعالى أي عليه إن يقدم المصالح الإلهية على المصالح الدنيوية الزائلة . واذكر بعض إرشادات أهل البيت(عليهم السلام) في الإيثار والتضحية :-
1- قوله تعالى : ] ...وَيُؤْثِرُون َ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كان َ بِهِمْ خَصاصَةٌ...[ الحشر / آية 9 .
2- قوله تعالى : ] وَيُطْعِمُون َ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً(8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً(9)[الدهر / آية 8-9 .
3- قوله تعالى : ] إِن َََََ اللَّهَ اشْتَرى مِن َ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأََن َ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... [ سورة التوبة / آية 111 .
4- ما ورد عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): ((طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود لم يره )) .
5- ما ورد عن الصادق الأمين(u): (( من عرض له دنيا وآخرة ، فأختار الدنيا لقي الله عز وجل يوم القيامة وليست له حسنة يتقي بها النار ، ومن اختار الآخرة وترك الدنيا رضي الله عنه وغفر له مساوئ عمله ))
6- ما ورد عن الإمام الباقر(u): ((ان لله جنه لا يدخلها إلا ثلاثة: رجل حكم على نفسه بالحق , ورجل زار أخاه المؤمن في الله , ورجل آثر أخاه المؤمن في الله ))
المحفز الرابع :محاسبة النفس ومعاقبتها
ان الإنسان له أهواء وشهوات وغرائز تدفعه الى الانحراف عن الإسلام والأخلاق في جوانب شخصيته دون ان يشعر , وغالبا ما يكون الانحراف قليلا في أول الأمر ثم يزداد ويتسع حتى يصل الى الانحراف الكامل , فعليه ان يتدارك الأمر من البداية ويعالجه ويقضي على الانحراف من أساسه , وبالتأكيد ان ذلك لا يحصل إلا بمحاسبة النفس ,
ويمكن طرح عدة مستويات لمحاسبة النفس :
المستوى الأول : الإيحاء للنفس بالخير وحثها عليه وعلى الاخلاص في النية , وحثها على ترك الشر وتحذيرها منه , ويكون ذلك قبل صدور الخير والشر من النفس , وقد أشار الشارع المقدس الى هذا المستوى من المحاسبة في عدة موارد منها :
1- قوله تعالى :] وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن ْزَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَن ْ دَسَّاها (10) [ سورة الشمس/ آية 7-10.
2- ما ورد عن الإمام الصادق(u): (( ان رجلا أتى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا رسول الله أوصيني.. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فاني أوصيك , إذا انت هممت بأمر فتدبر عاقبته , فأن يك رشدا فأمضه , وان يك غيا فأنته عنه )) .
3- ما ورد عن الإمام الكاظم(u): (( قال أمير المؤمنين(u) ان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية , فلما رجعوا قال(صلى الله عليه وآله وسلم): مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر , وبقي عليهم الجهاد الأكبر .
قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر ؟
قال(صلى الله عليه وآله وسلم): جهاد النفس .
ثم قال(صلى الله عليه وآله وسلم): افضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه )) .
4- ما ورد عن أمير المؤمنين(u): ((ما من يوم يمر على ابن آدم , إلا قـال له ذلك اليوم : انا يوم جديد , وانا عليك شهيد , فقل فيه خيرا , واعمل فيه خيرا , اشهد لك يوم القيامة فانك لن تراني بعد هذا أبدا )) .
المستوى الثاني : يتأمل الإنسان ويدقق بما صدر عنه فيلوم نفسه على أخطائه وزلاته ويحزن ويندم لذلك ويتوب ويعاهد الله على عدم تكرار ذلك , وبخلاف هذا المستوى سيجد نفسه في طغيان وغفلة ساحقة ومهلكة , وقد حث الشارع المقدس على هذا المستوى من المحاسبة كما في :
1- ما ورد عن الإمام الصادق(u): ((...حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها , فأن للقيامة خمسين موقفا , كل موقف مقام ألف سنة . (ثم تلا) (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ))) .
2- ما ورد عن الإمام الكاظم(u): (( ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم , فان عمل حسنة استزاد الله تعالى , وان عمل سيئة استغفر الله تعالى منها وتاب إليه )) .
المستوى الثالث : على الإنسان أن يتناول شخصيته من جميع الجوانب والتفكر في نقاط الضعف والقوة , والمقارنة والموازنة بينما هو واصل اليه فعلا من مستوى الرقي الأخلاقي والمعنوي وبينما كان عليه في مرحلة سابقة كي يعرف درجة تقدمه نحو الرقي للازدياد من ذلك , وقد أشار أهل البيت(عليهم السلام) الى ذلك :
1- عن أمير المؤمنين(u): (( انما الدنيا ثلاثة أيام : يوم مضى بما فيه فليس بعائد , ويوم أنت فيه فحق عليك اغتـنامه , ويوم لا تدري انت من أهله ولعلك راحـل فـيه . أما اليوم الماضي فحكيم مؤدب , وأما اليوم الذي انت فيه فصديق مودع , وأما غد فإنما في يدك منه الأمل )) .
2- عن أمير المؤمنين(u): (( أيها الناس لا خير في دين لا تفقّه فيه ولا خير في دنيا لا تدبّر فيها ولا خير في نسك لا ورع فيه)).
3- عن أمير المؤمنين(u): ((لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل يزداد كل يوم أحساناً , ورجل يتدارك منيته بالتوبة...)) .
المستوى الرابع : أن يتناول الإنسان شخصيته ودرجة إيمانها وأخلاقها ويقارنها مع المثل الأعلى للإيمان والأخلاق كي يعرف الدرجة التي وصل اليها فعلاً ويحث نفسه للوصول الى درجة أعلى وأرقى, ولـكي لا يتخيل لنفسه درجة ومنزلة لم يصلها فيصيبه الغرور والكبر , وقد ارشد الشارع المقدس الى العديد من الدرجات والمستويات الإيمانية والأخلاقية .
ما ورد في خطبة أمير المؤمنين(u) في وصف المتـقـين
(فمن علامة أحدهم انك ترى له قوة في دين , وحزما في لين وأيمانا في يقين وحرصا في علـم وعلما في حلم , وقصدا في غنى , وخشوعا في عبادة , وتجملا في فاقه, وصبرا في شدة , وطلبا في حلال , ونشاطا في هدى , وتحـرجا عـن طمع , يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل , يـمـسي وهمه الشكر , ويصبح وهمه الذكر , يـبـيت حذرا ويصبح حذرا , حذرا من الغفلة , وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة , أن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب , قرة عينه فيما لا يزول , وزهادته فيما لا يبقى , يمزج الحلم بالعلم , والقول بالعمـل , تراه قريبا أمله , قليلا زلـلهُ , خاشعـا قلبه , قانعا نفسه , منذورا أكله , سهلا أمره , حريزا دينه , ميتة شهوته مكظوما غيظه , الخير منه مأمول , الشر منه مأمون )) .
المستوى الخامس: بعد أن يثبت تقصير النفس وتكرره في المستويات السابقة أو بعضها , فلا يقتصر الإنسان على لومها فقط بل عليه أن يتبنى أسلوب العقاب معها وذلك بان يحملها أعمالا شاقة سواء أكانت الأعمال ليست حسنة بذاتها بل تكون حسنة ومرغوبة شرعا لأنها تؤدي الى تهذيب النفس وتنقيتها كتعريض الجسد لحرارة الشمس أو حرارة الأرض أو حرارة النار , أم كانت الأعمال حسنة ومرغوبة شرعاً بذاتها كالصلاة والصيام والتصدق وغيرها وقد أشار أهل البيت (عليهم السلام) الى ذلك في عدة أمور منها :
1- ما ورد عن ليث بن أبي مسلم قال: ((... بينما رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مستظل بظل شجرة في يـوم شديد الحر , إذ جاء رجل فنزع ثيابه, ثم جعل يتمرغ في الرمضاء , يكوي ظهره مرة , وبطنه مرة , وجبهته مرة , ويقول يا نفس ذوقي , فما عند الله أعظم مما صنعت بك , ورسول الله(صلى الله عليه وآله سلم ) ينظر اليه ما يصنع ثم ان الرجل لبس ثيابه ثم أقبل ثم أومأ اليه النبي (صلى الله عليه آله وسلم ) بيده ودعاه فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) له: (( يا عبد الله , رأيتك صنعت شيئا ما رأيت أحدا من الناس صنعه , فما حملك على ما صنعت ؟ ))
فقال الرجل: حملني على ذلك مخافة الله , فقلت لنفسي , يا نفس ذوقي فما عند الله أعظم مما صنعت بك .
فقال النبي( صلى الله عليه آله وسلم ) له: ((لقد خفت ربك حقك مخافته , وأن ربك ليباهي بك آهل السماء )) ثم قال: (( يا معشر من حضر , أدنو من صاحبكم حتى يدعوا لكم)) فدنوا منه , فدعا لهم وقال: اللهم أجمع شملنا على الهدى وأجعل التقوى زادنا والجنة مآبنا )) .
2- مـا ورد في نهج البلاغة , انه في محضر أمير المؤمنين(u) , قال أحد المسلمين: أستغفر الله .
أولها: الندم على ما مضى
والثاني: العزم على ترك العودة إليه أبداً
والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تـلقي الله عز وجل أملس ليس عليك تبعة .
والرابع: أن تعمد الى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها.
والخامس: أن تعمد الى اللحم الذي نبت من السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جـديـد .
والسادس: أن تـذيـق الجسم ألم الطاعة . كما أذقته حلاوة المعصية , فعند ذلك تقول (استغفر الله ) )).
المحفز الخامس: العلم
لا خلاف في أن العلم هو المحفز الرئيسي بل المقوم للعمل لبناء الشخصية وتربيتها والحصول على التكامل الأخلاقي والمعنوي ونيل سعادة الدنيا والآخرة أما الجاهل فبجهله يفقد إنسانيته ويصبح في عداد الأموات فلا كلام في تكامله وسعادته وقد ثبت ذلك عن طريق العديد من الموارد الشرعية نذكر منها :
1- ما ورد عن الإمام الصادق(u): { لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة , ومعرفة إلا بعمل , فمن عرف دلت المعرفة على العمل , ومن لم يعمل فلا معرفة له , ألا إن الإيمان بعضه من بعض }.
2- ما ورد عن صادق آل البيت(عليهم السلام): { من تعلم العلم وعمل به وعلّم لله , دعي في ملكوت السموات عظيما , فقيل: تعلّم لله وعمل لله وعلّم لله }.
3- ما ورد عن أمير المؤمنين(u): { أن هذا العلم والأدب زين نفسك , فأجتهد في تعلمهما , فما يزيد من علمك وأدبك يزيد من ثمنك وقدراتك , فأنك بالعلم تهتدي إلى ربك , وبالأدب تحسن خدمة ربك , وبأدب الخدمة يستوجب العبد ولايته وقربه } .
4- ورد انه عندما سئل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن علامة الجاهل , قال(صلى الله عليه وآله وسلم ):{ إن صحبته عناك , أن اعتزلته شتمك , وأن أعطاك منّ عليك , وأن أعطيته كفّرك , وأن أسررت اليه خانك , وان أسرّ إليك إتهمك , وان إستغنى بطر وكان فظاً غليظاً , وأن أفتقر جحد نعمة الله ولم يتحرج , وإن فرح أسرف وطغى وإن حزن آيس , وإن ضحك نهق , وإن بكى خار , يقع في الأبرار , ولا يحب الله , ولا يراقب الله , ولا يستحي من الله , ولا يذكره , إن أرضيته مدحك وقال فيك من الحسنة ما ليس فيك , وإن سخط عليك ذهبت مدحته ووقع فيك من السوء ما ليس فيك } .
المحفز السادس : التدرج في الرقي والكمال
الإنسان الذي يريد أن يسير في طريق الكمال الروحي والأخلاقي وتربية النفس , عليه أن يجعل لنفسه مستويات متدرجة للرقي حتى الوصول إلى الغاية القصوى والهدف الأسمى , لأنه مع عدم التدرج والاقتصار على الغاية القصوى غالبا ما يؤدي إلى الإحساس بالتعب والشعور باليأس والعجز عن السير والتكامل , ولعلاج هذه الحالة المرضية عليه أن يتخذ لنفسه عدة مستويات وغايات يسعى ويعمل للوصول إلى المستوى الأول القريب وحينما يصل إليه يشحذ همته ويضاعف جهده وسعيه للوصول إلى المستوى الثاني وهكذا حتى الوصول إلى المستوى الأعلى النهائي , فالإنسان العاصي الفاسق إذا عجز عن الوصول إلى مستوى العدالة والتكامل المعنوي والأخلاقي , فلا يترك طريق الحق ويرضخ وينقاد لخط الباطل والرذيلة, بل عليه إن يضع لنفسه مستويات متعددة من الرقي, فمثلا في المستوى الأول عليه إن يهتم ويسعى للتعود على ترك الكبائر فيعمل في سبيل تنمية وتصفية خاطره في سبيل الترقي والوصول إلى مستوى يمتنع فيه عن الكبائر , وبعد ذلك يضاعف جهده وسعيه للوصول إلى المستوى الثاني بأن يترك الصغائر فيعمل إلى إن يعوّد نفسه على ترك الصغائر , وهكذا يضع لنفسه مستويات أخرى إلى آن يتقرب شيئا فشيئا من حالة ملكة العدالة ويزداد ترقيه حتى يصل إلى مستوى امتلاك ملكة العدالة , وهكذا بإمكانه أن يرتقي إلى مستويـات أعلى دون مستوى ومرتبة العصمة .
المحفز السابع : المثل الأعلى
إن الجانب الحسي عند الإنسان دائما أو غالبا يترجح على الجانب العقلي , ولذلك نلاحظ أن القضايا المحسوسة أكثر تأثيرا في نفوس البشر وأسهل عليهم للتفاعل معها , ومما يدل أو يؤيد هذا الطرح إضافة إلى الوجدان , ما نراه من بعثة الرسل من البشر ولم يجعلهم المولى الحق من الملائكة , وقد ورد في كتاب الله العزيز ما يشير إلى هذا , كما في
قوله تعالى :] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَن ْيُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَن ْقالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً [ الإسراء / آية 94.
] قُلْ لَوْ كان َفِي الأَْرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُون َمُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِن َالسَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً [ الإسراء / آية 95.
] وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُون َ (9) [ الأنعام/ آية 9.
وينبغي على الإنسان أن يجعل لنفسه أكثر من مثل أعلى , أحدهما يكمل الأخر في المساهمة في رقي الإنسان وتكامله , على إن يكون أحدهما معصوماً , أي يجعل له مثلين مناسبين والأفضل إن يكونا :
الأول: المثل الأعلى المعصوم: وتمثل بالنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) , وليعلم الإنسان انه لا يستطيع الوصول إلى هذا المثل الأعلى المعصوم , ومثل هذا الإحساس يجب أن لا يسبب عنده اليأس والعجز بل عليه آن يجعل جهده وسعيه من اجل الاقتراب منه قدر الإمكان , وقد أشار أهل البيت(عليهم السلام) إلى هذا المعنى , كما ورد عن أمير المؤمنين(u): { ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك , ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وثبات } . ومما دلّ على جعل المعصوم مثل أعلى :
1- قوله تعالى : ] لَقَدْ كان َلَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن ْ كان َيَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآْخِرَ ...[ الأحزاب / آية 21
2- قوله تعالى : ] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِين َمَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُون َمِن ْدُون اللَّهِ... [ الممتحنة / آية 4
3- عن أمير المؤمنين(u) قال: (...أأقنع من نفسي بأن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش...)
الثاني: المثل الأعلى غير المعصوم : ويفترض في هذا المثل الأعلى أن يكون بدرجات عالية من الكمال والصفاء الروحي من اجل أن يكون مؤثرا وجاذبا في الإنسان المقتدي به , ويمكن القول أن الأفضل والأنسب جعل المجتهد الفقيه مرجع التقليد هو المثل في هذا المستوى . ومن هذا كله أتت فكرة المثل الأعلى القدوة المتمثل بالنبي الأكرم والأئمة المعصومين(صلوات الله عليم أجمعين) حيث ألبسهم الله تعالى ثوب العصمة واتصفوا بالكمالات الروحية والأخلاق الفاضلة , وتحملوا ثقل المسؤولية وأهميتها والتزموا بها فأصبح كل منهم مثل وقدوة وقائد أعلى للمسلمين وللبشرية جمعاء في كل زمان ومكان إلى يوم الدين .
ومن هنا أيضا انتزعت فكرة ولاية الفقيه للحفاظ على المجتمعات والصفات الإنسانية والوصول بالناس إلى الكمالات والسعادة الدنيوية والأخروية لأن الإنسان غالبا يجعل المجتهد الفقيه خاصة مرجع التقليد قدوة وقائد يقتدي به ويمتثل أوامره وهذا ناتج من أمر الشارع المقدس وحثه على إتباع المجتهد والولي الفقيه والإقتداء به وجعله إماما وقائدا للمجتمع ويشترط فيه أن يكون متصفا بالكمالات الروحية والمعنوية والأخلاقية من مخالفة الهوى وإطاعة آمر المولى وغيرها وهذا معناه أن مبدأي الاجتهاد والتقليد ومبدأ الولاية العامة هي من الأساليب والطرق التي سنّها الشارع المقدس لتربية النفس والرقي فيها نحو التكامل المعنوي والأخلاقي إضافة إلى تكامل وتكافل المجتمع ورقيه . ومما دل على هذا المثل والقدوة غير المعصوم .
ما ورد عن أمير المؤمنين(u) قال لمحمد بن أبي بكر: (...وأصلح رعيتك وخض الغمرات إلى الحق ولا تخف في الله لومة لائم وأقم وجهك وأنصح للمرء المسلم إذا استشارك واجعل نفسك أسوة لقريب المسلمين وبعيدهم وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر...) .
وفي نفس الوقت نهى الشارع المقدس عن الإقتداء بأهل الشر والبدع من أهل الدنيا , كما ورد :
1- عن النبي المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يصف ما يصل إليه حال الناس , حيث قال(صلى الله عليه وآله وسلم): (...ورأيت الناس مع من غلب , ورأيت طالب الحلال يذم ويعيّر , وطالب الحرام يمدح ويعظّم ,... ورأيت الناس ينظر بعضهم إلى بعض ويقتدون بأهل الشرور ,... ورأيت مسلك الخير وطريقه خالياً لا يسلكه أحد ,.... ورأيت الخلق والمجالس لا يتابعون إلى الأغنياء...) .
2- عن أمير المؤمنين(u): (من مشى إلى صاحب بدعه فوقّره فقد سعى في هدم الإسلام ) .
3- عن الإمام الباقر(u): (يكون في أخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم يراءون... ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون , بأموالهم وأبدانهم , لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها ) .
لتربية النفس الإنسانية وتحفيزها نحو الرقي والكمال والسير الصالح بالصورة المنهجية العملية الصحيحة تحتاج أولاً وبصورة رئيسة إلى الإيمان بالله تعالى والاعتقاد بالمعاد والآخرة ، وبعد إن يتحقق هذا الإيمان تكون النفس مستعدة للتربية والرقي وحينئذ تحتاج إلى الأسباب والمحفزات للسير في طريق التكامل والرقي، وفي هذا المقام نذكر بإيجاز بعض المحفزات :-
المحفز الأول : الهدف الأسمى :
ينبغي على الإنسان المسلم اختيار الهدف المهم والأوسع والأسمى ؛ لأنه كلما كان الهدف ضيقاَ وخفيفاَ كان اقرب إلى التلاشي في ذهن صاحبه، مما يؤدي إلى فتح باب واسع للتكالب والتزاحم للأمور التافهة وبالتالي الدخول في المحرمات الأخلاقية الشرعية .
وكلما كان الهدف أهم واسمى ، قلّت فيه الأخطاء والقبائح بسبب ما يحصل في ذهنه من المقارنة بين هدفه المهم المنشود وبين الشهوات التافهة الرديئة فيلتفت إلى تفاهتها بالقياس إلى ذلك الهدف مما يؤدي إلى نظافة وسعة روحية الإنسان ، فكيف إذا كان هدفه رضا الله سبحانه وتعـالى الذي لا تتناهى عظمته ولا تنقطع قدرته ولا تنتهي نعمه ، وكلما اقترب الإنسان من هذا الهدف اشتدت رغبته إليه وأحس بعمق أغواره وبعد منتهاه ، وكان ذلك منعشاَ لأماله ومؤثرا في اقتراب الإنسان نحو الصلاح والتكامل ، ويكون مثله الأشخاص الذين قال فيهم أمير المؤمنين(u) في وصف المتقين: (( كبر الخالق في أنفسهم ، فصغر ما دونه في أعينهم )) .
وورد عن الإمام علي(u): (( كان لي فيما مضى أخ في الله ، وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه ، وكان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد )) .
المحفز الثاني : الهم الكبير:
لتربية النفس يحتاج الإنسان المسلم إن يحمل هما كبيراَ متمثلا في أمور المسلمين جميعاً ، ومن الواضح إن حمل مثل هذا الهم ينمّي من أخلاقيات الإنسان ويوسع من الأفاق التي يخلق فيها الإنسان ويؤثر في تنمية الروح ، وبخلاف ذلك أي فيما إذا صغرت الأمور التي ينشغل بها فأن مثل هذا يؤدي إلى ضيق أفق الإنسان ووقوعه في التناقضات والنزاعات التافهة وبالتالي الوقوع في المحرمات الشرعية الأخلاقية .
وقد أشار أهل البيت(عليهم السلام) إلى ذلك في موارد عديدة نذكر منها:-
1- ما ورد عن أمير المؤمنين(u): (( من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته )) .
2- وورد عنه(u): ((رأيك لا يتسع لكل شيء ففزعه للمهم من أمورك)) .
3- ما ورد عن الإمام الصادق(u): (( باشر كبار أمورك وكل ما شق منها إلى غيرك )) .
4- ما ورد عن الإمام الصادق(u): (( لا تكونن دواراَ في الأسواق ولا تلي دقائق الأشياء بنفسك فانه لا ينبغي للمرء المسلم ذي الحسب والجود إن يلي شراء دقائق الأشياء بنفسه00)) .
المحفز الثالث: الإيثار والتضحية
من الواضح إن الإنسان الذي يعمل في سبيل الله تعالى ويؤثر ويضحي بمصالحه الشخصية في سبيل راحة الآخرين والمصالح الاجتماعية ، فبقدر ذلك تنمو روحه وتتسع أفاقه حتى يصل إلى التكامل الأخلاقي ، وذلك لأنه من الأسباب الرئيسة في المشاكل الأخلاقية هو التضارب والتزاحم بين المصالح الشخصية والمصالح الاجتماعية ، وان حب ألذات هو الذي يدفع الإنسان إلى إن يقدم مصالحه الشخصية على المصالح الأخرى حتى لو كان ذلك ظلماَ وعدوانا على الآخرين .
وللحصول على السعادتين الدنيوية والأخروية يجب على الإنسان إن يجعل إيثاره وتضحيته للناس والمجتمع في سبيل الله تعالى أي عليه إن يقدم المصالح الإلهية على المصالح الدنيوية الزائلة . واذكر بعض إرشادات أهل البيت(عليهم السلام) في الإيثار والتضحية :-
1- قوله تعالى : ] ...وَيُؤْثِرُون َ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كان َ بِهِمْ خَصاصَةٌ...[ الحشر / آية 9 .
2- قوله تعالى : ] وَيُطْعِمُون َ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً(8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً(9)[الدهر / آية 8-9 .
3- قوله تعالى : ] إِن َََََ اللَّهَ اشْتَرى مِن َ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأََن َ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... [ سورة التوبة / آية 111 .
4- ما ورد عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): ((طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود لم يره )) .
5- ما ورد عن الصادق الأمين(u): (( من عرض له دنيا وآخرة ، فأختار الدنيا لقي الله عز وجل يوم القيامة وليست له حسنة يتقي بها النار ، ومن اختار الآخرة وترك الدنيا رضي الله عنه وغفر له مساوئ عمله ))
6- ما ورد عن الإمام الباقر(u): ((ان لله جنه لا يدخلها إلا ثلاثة: رجل حكم على نفسه بالحق , ورجل زار أخاه المؤمن في الله , ورجل آثر أخاه المؤمن في الله ))
المحفز الرابع :محاسبة النفس ومعاقبتها
ان الإنسان له أهواء وشهوات وغرائز تدفعه الى الانحراف عن الإسلام والأخلاق في جوانب شخصيته دون ان يشعر , وغالبا ما يكون الانحراف قليلا في أول الأمر ثم يزداد ويتسع حتى يصل الى الانحراف الكامل , فعليه ان يتدارك الأمر من البداية ويعالجه ويقضي على الانحراف من أساسه , وبالتأكيد ان ذلك لا يحصل إلا بمحاسبة النفس ,
ويمكن طرح عدة مستويات لمحاسبة النفس :
المستوى الأول : الإيحاء للنفس بالخير وحثها عليه وعلى الاخلاص في النية , وحثها على ترك الشر وتحذيرها منه , ويكون ذلك قبل صدور الخير والشر من النفس , وقد أشار الشارع المقدس الى هذا المستوى من المحاسبة في عدة موارد منها :
1- قوله تعالى :] وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن ْزَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَن ْ دَسَّاها (10) [ سورة الشمس/ آية 7-10.
2- ما ورد عن الإمام الصادق(u): (( ان رجلا أتى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا رسول الله أوصيني.. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فاني أوصيك , إذا انت هممت بأمر فتدبر عاقبته , فأن يك رشدا فأمضه , وان يك غيا فأنته عنه )) .
3- ما ورد عن الإمام الكاظم(u): (( قال أمير المؤمنين(u) ان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية , فلما رجعوا قال(صلى الله عليه وآله وسلم): مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر , وبقي عليهم الجهاد الأكبر .
قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر ؟
قال(صلى الله عليه وآله وسلم): جهاد النفس .
ثم قال(صلى الله عليه وآله وسلم): افضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه )) .
4- ما ورد عن أمير المؤمنين(u): ((ما من يوم يمر على ابن آدم , إلا قـال له ذلك اليوم : انا يوم جديد , وانا عليك شهيد , فقل فيه خيرا , واعمل فيه خيرا , اشهد لك يوم القيامة فانك لن تراني بعد هذا أبدا )) .
المستوى الثاني : يتأمل الإنسان ويدقق بما صدر عنه فيلوم نفسه على أخطائه وزلاته ويحزن ويندم لذلك ويتوب ويعاهد الله على عدم تكرار ذلك , وبخلاف هذا المستوى سيجد نفسه في طغيان وغفلة ساحقة ومهلكة , وقد حث الشارع المقدس على هذا المستوى من المحاسبة كما في :
1- ما ورد عن الإمام الصادق(u): ((...حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها , فأن للقيامة خمسين موقفا , كل موقف مقام ألف سنة . (ثم تلا) (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ))) .
2- ما ورد عن الإمام الكاظم(u): (( ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم , فان عمل حسنة استزاد الله تعالى , وان عمل سيئة استغفر الله تعالى منها وتاب إليه )) .
المستوى الثالث : على الإنسان أن يتناول شخصيته من جميع الجوانب والتفكر في نقاط الضعف والقوة , والمقارنة والموازنة بينما هو واصل اليه فعلا من مستوى الرقي الأخلاقي والمعنوي وبينما كان عليه في مرحلة سابقة كي يعرف درجة تقدمه نحو الرقي للازدياد من ذلك , وقد أشار أهل البيت(عليهم السلام) الى ذلك :
1- عن أمير المؤمنين(u): (( انما الدنيا ثلاثة أيام : يوم مضى بما فيه فليس بعائد , ويوم أنت فيه فحق عليك اغتـنامه , ويوم لا تدري انت من أهله ولعلك راحـل فـيه . أما اليوم الماضي فحكيم مؤدب , وأما اليوم الذي انت فيه فصديق مودع , وأما غد فإنما في يدك منه الأمل )) .
2- عن أمير المؤمنين(u): (( أيها الناس لا خير في دين لا تفقّه فيه ولا خير في دنيا لا تدبّر فيها ولا خير في نسك لا ورع فيه)).
3- عن أمير المؤمنين(u): ((لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل يزداد كل يوم أحساناً , ورجل يتدارك منيته بالتوبة...)) .
المستوى الرابع : أن يتناول الإنسان شخصيته ودرجة إيمانها وأخلاقها ويقارنها مع المثل الأعلى للإيمان والأخلاق كي يعرف الدرجة التي وصل اليها فعلاً ويحث نفسه للوصول الى درجة أعلى وأرقى, ولـكي لا يتخيل لنفسه درجة ومنزلة لم يصلها فيصيبه الغرور والكبر , وقد ارشد الشارع المقدس الى العديد من الدرجات والمستويات الإيمانية والأخلاقية .
ما ورد في خطبة أمير المؤمنين(u) في وصف المتـقـين

المستوى الخامس: بعد أن يثبت تقصير النفس وتكرره في المستويات السابقة أو بعضها , فلا يقتصر الإنسان على لومها فقط بل عليه أن يتبنى أسلوب العقاب معها وذلك بان يحملها أعمالا شاقة سواء أكانت الأعمال ليست حسنة بذاتها بل تكون حسنة ومرغوبة شرعا لأنها تؤدي الى تهذيب النفس وتنقيتها كتعريض الجسد لحرارة الشمس أو حرارة الأرض أو حرارة النار , أم كانت الأعمال حسنة ومرغوبة شرعاً بذاتها كالصلاة والصيام والتصدق وغيرها وقد أشار أهل البيت (عليهم السلام) الى ذلك في عدة أمور منها :
1- ما ورد عن ليث بن أبي مسلم قال: ((... بينما رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مستظل بظل شجرة في يـوم شديد الحر , إذ جاء رجل فنزع ثيابه, ثم جعل يتمرغ في الرمضاء , يكوي ظهره مرة , وبطنه مرة , وجبهته مرة , ويقول يا نفس ذوقي , فما عند الله أعظم مما صنعت بك , ورسول الله(صلى الله عليه وآله سلم ) ينظر اليه ما يصنع ثم ان الرجل لبس ثيابه ثم أقبل ثم أومأ اليه النبي (صلى الله عليه آله وسلم ) بيده ودعاه فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) له: (( يا عبد الله , رأيتك صنعت شيئا ما رأيت أحدا من الناس صنعه , فما حملك على ما صنعت ؟ ))
فقال الرجل: حملني على ذلك مخافة الله , فقلت لنفسي , يا نفس ذوقي فما عند الله أعظم مما صنعت بك .
فقال النبي( صلى الله عليه آله وسلم ) له: ((لقد خفت ربك حقك مخافته , وأن ربك ليباهي بك آهل السماء )) ثم قال: (( يا معشر من حضر , أدنو من صاحبكم حتى يدعوا لكم)) فدنوا منه , فدعا لهم وقال: اللهم أجمع شملنا على الهدى وأجعل التقوى زادنا والجنة مآبنا )) .
2- مـا ورد في نهج البلاغة , انه في محضر أمير المؤمنين(u) , قال أحد المسلمين: أستغفر الله .
أولها: الندم على ما مضى
والثاني: العزم على ترك العودة إليه أبداً
والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تـلقي الله عز وجل أملس ليس عليك تبعة .
والرابع: أن تعمد الى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها.
والخامس: أن تعمد الى اللحم الذي نبت من السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جـديـد .
والسادس: أن تـذيـق الجسم ألم الطاعة . كما أذقته حلاوة المعصية , فعند ذلك تقول (استغفر الله ) )).
المحفز الخامس: العلم
لا خلاف في أن العلم هو المحفز الرئيسي بل المقوم للعمل لبناء الشخصية وتربيتها والحصول على التكامل الأخلاقي والمعنوي ونيل سعادة الدنيا والآخرة أما الجاهل فبجهله يفقد إنسانيته ويصبح في عداد الأموات فلا كلام في تكامله وسعادته وقد ثبت ذلك عن طريق العديد من الموارد الشرعية نذكر منها :
1- ما ورد عن الإمام الصادق(u): { لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة , ومعرفة إلا بعمل , فمن عرف دلت المعرفة على العمل , ومن لم يعمل فلا معرفة له , ألا إن الإيمان بعضه من بعض }.
2- ما ورد عن صادق آل البيت(عليهم السلام): { من تعلم العلم وعمل به وعلّم لله , دعي في ملكوت السموات عظيما , فقيل: تعلّم لله وعمل لله وعلّم لله }.
3- ما ورد عن أمير المؤمنين(u): { أن هذا العلم والأدب زين نفسك , فأجتهد في تعلمهما , فما يزيد من علمك وأدبك يزيد من ثمنك وقدراتك , فأنك بالعلم تهتدي إلى ربك , وبالأدب تحسن خدمة ربك , وبأدب الخدمة يستوجب العبد ولايته وقربه } .
4- ورد انه عندما سئل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن علامة الجاهل , قال(صلى الله عليه وآله وسلم ):{ إن صحبته عناك , أن اعتزلته شتمك , وأن أعطاك منّ عليك , وأن أعطيته كفّرك , وأن أسررت اليه خانك , وان أسرّ إليك إتهمك , وان إستغنى بطر وكان فظاً غليظاً , وأن أفتقر جحد نعمة الله ولم يتحرج , وإن فرح أسرف وطغى وإن حزن آيس , وإن ضحك نهق , وإن بكى خار , يقع في الأبرار , ولا يحب الله , ولا يراقب الله , ولا يستحي من الله , ولا يذكره , إن أرضيته مدحك وقال فيك من الحسنة ما ليس فيك , وإن سخط عليك ذهبت مدحته ووقع فيك من السوء ما ليس فيك } .
المحفز السادس : التدرج في الرقي والكمال
الإنسان الذي يريد أن يسير في طريق الكمال الروحي والأخلاقي وتربية النفس , عليه أن يجعل لنفسه مستويات متدرجة للرقي حتى الوصول إلى الغاية القصوى والهدف الأسمى , لأنه مع عدم التدرج والاقتصار على الغاية القصوى غالبا ما يؤدي إلى الإحساس بالتعب والشعور باليأس والعجز عن السير والتكامل , ولعلاج هذه الحالة المرضية عليه أن يتخذ لنفسه عدة مستويات وغايات يسعى ويعمل للوصول إلى المستوى الأول القريب وحينما يصل إليه يشحذ همته ويضاعف جهده وسعيه للوصول إلى المستوى الثاني وهكذا حتى الوصول إلى المستوى الأعلى النهائي , فالإنسان العاصي الفاسق إذا عجز عن الوصول إلى مستوى العدالة والتكامل المعنوي والأخلاقي , فلا يترك طريق الحق ويرضخ وينقاد لخط الباطل والرذيلة, بل عليه إن يضع لنفسه مستويات متعددة من الرقي, فمثلا في المستوى الأول عليه إن يهتم ويسعى للتعود على ترك الكبائر فيعمل في سبيل تنمية وتصفية خاطره في سبيل الترقي والوصول إلى مستوى يمتنع فيه عن الكبائر , وبعد ذلك يضاعف جهده وسعيه للوصول إلى المستوى الثاني بأن يترك الصغائر فيعمل إلى إن يعوّد نفسه على ترك الصغائر , وهكذا يضع لنفسه مستويات أخرى إلى آن يتقرب شيئا فشيئا من حالة ملكة العدالة ويزداد ترقيه حتى يصل إلى مستوى امتلاك ملكة العدالة , وهكذا بإمكانه أن يرتقي إلى مستويـات أعلى دون مستوى ومرتبة العصمة .
المحفز السابع : المثل الأعلى
إن الجانب الحسي عند الإنسان دائما أو غالبا يترجح على الجانب العقلي , ولذلك نلاحظ أن القضايا المحسوسة أكثر تأثيرا في نفوس البشر وأسهل عليهم للتفاعل معها , ومما يدل أو يؤيد هذا الطرح إضافة إلى الوجدان , ما نراه من بعثة الرسل من البشر ولم يجعلهم المولى الحق من الملائكة , وقد ورد في كتاب الله العزيز ما يشير إلى هذا , كما في
قوله تعالى :] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَن ْيُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَن ْقالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً [ الإسراء / آية 94.
] قُلْ لَوْ كان َفِي الأَْرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُون َمُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِن َالسَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً [ الإسراء / آية 95.
] وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُون َ (9) [ الأنعام/ آية 9.
وينبغي على الإنسان أن يجعل لنفسه أكثر من مثل أعلى , أحدهما يكمل الأخر في المساهمة في رقي الإنسان وتكامله , على إن يكون أحدهما معصوماً , أي يجعل له مثلين مناسبين والأفضل إن يكونا :
الأول: المثل الأعلى المعصوم: وتمثل بالنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) , وليعلم الإنسان انه لا يستطيع الوصول إلى هذا المثل الأعلى المعصوم , ومثل هذا الإحساس يجب أن لا يسبب عنده اليأس والعجز بل عليه آن يجعل جهده وسعيه من اجل الاقتراب منه قدر الإمكان , وقد أشار أهل البيت(عليهم السلام) إلى هذا المعنى , كما ورد عن أمير المؤمنين(u): { ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك , ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وثبات } . ومما دلّ على جعل المعصوم مثل أعلى :
1- قوله تعالى : ] لَقَدْ كان َلَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن ْ كان َيَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآْخِرَ ...[ الأحزاب / آية 21
2- قوله تعالى : ] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِين َمَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُون َمِن ْدُون اللَّهِ... [ الممتحنة / آية 4
3- عن أمير المؤمنين(u) قال: (...أأقنع من نفسي بأن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش...)
الثاني: المثل الأعلى غير المعصوم : ويفترض في هذا المثل الأعلى أن يكون بدرجات عالية من الكمال والصفاء الروحي من اجل أن يكون مؤثرا وجاذبا في الإنسان المقتدي به , ويمكن القول أن الأفضل والأنسب جعل المجتهد الفقيه مرجع التقليد هو المثل في هذا المستوى . ومن هذا كله أتت فكرة المثل الأعلى القدوة المتمثل بالنبي الأكرم والأئمة المعصومين(صلوات الله عليم أجمعين) حيث ألبسهم الله تعالى ثوب العصمة واتصفوا بالكمالات الروحية والأخلاق الفاضلة , وتحملوا ثقل المسؤولية وأهميتها والتزموا بها فأصبح كل منهم مثل وقدوة وقائد أعلى للمسلمين وللبشرية جمعاء في كل زمان ومكان إلى يوم الدين .
ومن هنا أيضا انتزعت فكرة ولاية الفقيه للحفاظ على المجتمعات والصفات الإنسانية والوصول بالناس إلى الكمالات والسعادة الدنيوية والأخروية لأن الإنسان غالبا يجعل المجتهد الفقيه خاصة مرجع التقليد قدوة وقائد يقتدي به ويمتثل أوامره وهذا ناتج من أمر الشارع المقدس وحثه على إتباع المجتهد والولي الفقيه والإقتداء به وجعله إماما وقائدا للمجتمع ويشترط فيه أن يكون متصفا بالكمالات الروحية والمعنوية والأخلاقية من مخالفة الهوى وإطاعة آمر المولى وغيرها وهذا معناه أن مبدأي الاجتهاد والتقليد ومبدأ الولاية العامة هي من الأساليب والطرق التي سنّها الشارع المقدس لتربية النفس والرقي فيها نحو التكامل المعنوي والأخلاقي إضافة إلى تكامل وتكافل المجتمع ورقيه . ومما دل على هذا المثل والقدوة غير المعصوم .
ما ورد عن أمير المؤمنين(u) قال لمحمد بن أبي بكر: (...وأصلح رعيتك وخض الغمرات إلى الحق ولا تخف في الله لومة لائم وأقم وجهك وأنصح للمرء المسلم إذا استشارك واجعل نفسك أسوة لقريب المسلمين وبعيدهم وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر...) .
وفي نفس الوقت نهى الشارع المقدس عن الإقتداء بأهل الشر والبدع من أهل الدنيا , كما ورد :
1- عن النبي المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يصف ما يصل إليه حال الناس , حيث قال(صلى الله عليه وآله وسلم): (...ورأيت الناس مع من غلب , ورأيت طالب الحلال يذم ويعيّر , وطالب الحرام يمدح ويعظّم ,... ورأيت الناس ينظر بعضهم إلى بعض ويقتدون بأهل الشرور ,... ورأيت مسلك الخير وطريقه خالياً لا يسلكه أحد ,.... ورأيت الخلق والمجالس لا يتابعون إلى الأغنياء...) .
2- عن أمير المؤمنين(u): (من مشى إلى صاحب بدعه فوقّره فقد سعى في هدم الإسلام ) .
3- عن الإمام الباقر(u): (يكون في أخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم يراءون... ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون , بأموالهم وأبدانهم , لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها ) .