تلقى (الأمير) أحمد بن عبد العزيز مساء 28 / 11 / 1979، الموافق لليلة العاشر من محرم / 1400هـ، اتصالاً هاتفياً عاجلاً من قيادة الحرس الوطني في "المنطقة الشرقية" حمل بلاغاً عن خروج تظاهرات احتجاجية صاخبة في منطقة "الأحساء". بعد أن تم قمع التمرد في المدن الأخرى التي انتفضت خلال ايام عاشوراء، وطلب التشاور حول طبيعة الردع الأمني المناسب والسريع، لكن هذا الأمير، الذي يشغل مناصب عديدة أهمها موقعه كنائب لوزير الداخلية (السعودية)، لم يتمالك نفسه فراح يصيح "ماذا تقول، لا يمكن ذلك، هل انت مجنون لتتكلم بهذه الطريقة".
هكذا يكون حال الطواغيت دائماً، يتوقعون الخنوع الكامل من ضحاياهم ويعولون كل التعويل على نتائج الإرهاب والقمع الممارس ضد أبناء البلاد، إضافة إلى انهم لم يتوفروا على جرأة تدفعهم إلى قراءة التأريخ ووعي فلسفته، لأن ذلك يقودهم إلى رؤية مشاهد لا تروق لتشبثهم المستميت بالسلطة والنفوذ.
ظاهرة الرفض والتمرد ثم (العنف) المضاد، في منطق الرؤية الإجتماعية والنفسية، رد فعل طبيعي من قبل الذات على أزماتها الخانقة التي تستفز رغبة المرء في البقاء، وتوقه الى توفير ظروفه وعوامل ديمومته. كالحفاظ على الهوية وصيانة الشرف وتأمين العيش الكريم. وحين لا يصدر رد الفعل هذا فأنه يدلل، دون ترديد على ذات اجتماعية مريضة ومشوهة، في حال عدم توفر ما يوحي بأن ثمة "تكتيكاً" اجتماعياً معيناً يعتمد هدنة معقولة مع الخصوم الأقوياء.
"المنطقة الشرقية" نظير مناطق الجزيرة العربية الأخرى ومعظم بلدان المنطقة، تحتفظ بدواع كثيرة للتمرد والرفض لنمط الحكم السعودي المستبد، ولخصوصيتها الإسلامية فأنها راحت تتعرض لقمع فكري وعقائدي متزايد من قبل النظام المتعجرف، تمثل بألوان التمييز الطائفي والممارسات القمعية وانماط التنكيل المختلقة، كما ان خصوصيتها الجغرافية، وكونها تمتلك، 24% من احتياطي العالم النفطي، عمق في شعورها الأحساس بالحرمان واستلاب الحقوق، عبر سياسات بني سعود المجحفة التي تنتهج بحق سكان هذه المنطقة، وبعد طول صبر وحين ادرك الجميع ان هذه الأزمات لن يعقبها انفراج يذكر، وفي أجواء محرم وذكرى عاشوراء، خرج أبناء الشرقية في مناطق متعددة، من بين أكواخ الصفيح الفقيرة ليطلقوا صرخات التمرد والرفض لمجمل الأوضاع القائمة في بلادهم.
هناك قضية تفرض مضامينها على اجواء الحديث، وهي طريقة تعامل الإعلام العالمي (المؤسسات الغربية خاصة) مع ما يصدر عن المجتمع من رفض وثورة ضد أنظمة الحكم التقليدية، فتلك المؤسسات التي تتولى الدعاية والترويج وتتنافس من أجل تغطية أحداث تبدو تافهة ضئيلة الحجم، تحجم عن ان تولي ولو شيئاً من اهتماماتها إلى أنشطة ثورية تبادر اليها شعوب منطقتنا العربية هذه، محاولة الأبقاء على صورة الإستقرار الكاذب التي تمنحها لأنظمة الحكم تلك، وفي هذا الصدد يقول الكاتب الفرنسي "كلود فوبيه" في دراسته الصادرة في باريس عام 1983 "النظام السعودي":
((ان ما يهدد النظام السعودي.. ليس العدوان الخارجي وإنما الإنفجار فسيكون خطأنا الأكبر هو أن نتصور الإستقرار الداخلي حقيقة ملموسة وهو ليس إلاّ واجهة، يتردد لها صدى كبير في الخارج لا بحكم الرقابة الشديدة للسلطة فحسب، وإنما لاتهم صحفنا قدرما تهمها حصيلة ليلة في الكازينو لولي العهد حين يخسر مليارا ونصف مليار، كما فعل فهد في موناكو عام 1974م، وعلى كل حال فأننا نخطيء اذا لم نضع إلى علامات السخط الصادرة من الجزيرة العربية، حتى اذا كانت تصلنا مكتوم للغاية)).. هذه الشادة القادمة من باريس تلقي الضوء على حجم المظلومية التي تتعرض لها حركة الثورة في منطقتنا، والتآمر السافر الذي يستهدف تطويق إرادة الجماهير وتغييب صوتها، غير أنها رغم ذلك تعيد تحديد شعار الحرية يوماً بعد آخر وتقدم صياغاته الحمراء، وتتخذ من لغة الدم، في ابلاغ صوتها، بديلاً عن عجلة الدعاية العالمية التي خذلتها.
ان انتفاضة المنطقة الشرقية كغيرها من مفردات الرفض والتضحية في الجزيرة وفي بلدان المنطقة الأخرى لم تحض بالتغطية المناسبة، ولم تتوفر لها القنوات الكافية التي تعكس هويتها الأصيلة وحجمها الحقيقي بشكل منصف وموضوعي، وحتى المطبوعات القليلة التي تناقلت الخبر بعد فوات الأوان وقمع الإنتفاضة، كانت لمعظها أغراض غير نزيهة، وقامت بعضها بتجيير الحدث وتوظيفه في إدارة معركتها السياسية مع بني سعود، او اثر روح طائفية واسباغها على الإنتفاضة.
ومع كل ذلك فقد وفرت الإنتفاضة لجهاد الشعب رصيداً تأريخياً بلور مواقفة ورسم أمامه قدر المواجهة ورسخ الرابطة المبدئية بينه وبين قيمه، وصحح من معلومات النظام السعودي حول طبيعة الأمة وحجم رفضها وتحديها، الى غير ذلك من النتائج الإيجابية المهمة.
وعدا تلك الدواعي، كانت المنطقة الشرقية بالذات تتمتع بخصوصيات تؤهلها للعب ادوار متميزة في البلاد، حيث يمكن اعتبارها مع الحجاز اقليمين متميزين من حيث الوعي السياسي الناشيء عن الانفتاح الثقافي على المحيط العالمي والإسلامي، وبالنسبة إلى المنطقة الشرقية فقد كان هناك تواصل ثقافي مكثف مع البلاد العربية المجاورة خاصة العراق بما فيه من زخم ثقافي وتيارات سياسية وفكرية متبانية، وفي مجمل المراحل التأريخية كان هناك العديد من أبناء المنطقة يتلقون تعليمهم في مدينة النجف الأشرف بالعراق العاصمة العلمية العريقة، والتي تعتبر من المنابع الرئيسية للتأثيرات الثقافية في العالم الإسلامي، ان هذا الإنفتاح كان له اثره في تغذية الوعي الإجتماعي في مختلف الأتجاهات، لذلك احتضنت المنطقة عدداً كبيراً من العلماء والفقهاء ممن بلغوا مراتب عالية وبينهم مجتهدون في الشريعة، كما شهدت تجربة أدبية ناضجة، رغم انها تقلصت الى حد كبير في أواخر عهد فيصل بن عبد العزيز المشؤوم، وفي مقابل الوعي الذي ساد مجتمع هذه المنطقة، راح النظام السعودي يكرس اكثر بأكثر الاوضاع المتردية في البلاد.
على الصعيد السياسي لم يكن النظام الحاكم متوفراً على أي قدر من الشرعية الدينية او القانونية، فهو الملك العضوض وحكم العائلة، الذي ورث طقوساً اموية وعباسية وتترية..، فأضحى عصارة لتجارب الظلم والإستبداد التي شهدها تاريخ المنطقة، وكان الإرهاب هو المنهج الرسمي الثابت للسلطة السعودية. فعلاوة على انعدام أي قناة قانونية للتعبير عن الرأي وانعدام امكانيات الحوار مع السلطة حول المشاكل الإجتماعية والوطنية كان سيف الاعتقال مشهوراً على كل من يجاهر برأي معارض للسلطة. أو يغذي في السر تحركاً سياسياً او ثقافياً لا يصفق للنظام مع ان جماهير الشعب ونخبه لطالما طالبت بتغيير طبيعة العلقة بينها وبين نظام الحكم، لكن السلطة ظلت تتجاهل كل ذلك وتمارس سلطتها دون أي حق معترف به للشعب، علاوة على ان النظام السعودي حرص على دعم ورعاية التيار الخياني في المنطقة، فيما يتعلق بالملفات السياسية الحساسة سواء منها قضية الصراع مع الكيان الصهيوني او العلاقة مع الغرب والولايات المتحدة والموقف من حركات التحرر العربية والإسلامية، واخيراً طبيعة ردود الفعل المعادية لصحوة الأمة الإسلامية في العالم سيما ثورة الشعب الإيراني المسلم التي انضم بني سعود إلى جوقة مناوئيها مبكراً، ومما لاحظه الشعب في هذا المجال وصول مجموعات من الكوماندوز الإميركي الى قاعدة الظهران في نوفمبر 1979، لتكون قريبة من إيران عند الحاجة إليها في اي تدخل عسكري يرونه مناسباً وهو مما زاد في إثارة حفائظ الجماهير وذكروه في بعض بياناتهم المهمة كأحد اسباب الإنتفاضة.
ان عناد الأنظمة المستبدة وإصرارها على تجاهل الأنذارات الجلية الواضحة التي يطلقها الإلحاح الشعبي المتزايد، لابد أن يدفع المجتمع بكل فصائله إلى العمل الجهادي فيتبلور ذلك في الدور التوجيهي الذي يؤديه العلماء والمؤمنون مما سينعكس على حركة الرفض الجماهيري ويوفر لها آليات الإستنهاض والتفعيل والدفع نحو مستويات متعددة من المواجهة.
على الصعيد الفكري والثقافي، أحاط النظام السعودي الجزيرة العربية بطوق منيع فارضاً الحصار الثقافي الذي تلجأ اليه أنظمة الإستبداد من أجل حماية سلطانها عبر المحافظة على مستوى واطيء من الوعي عند السكان المحكومين، فبقيت أجهزة الإعلام السعودية قناة التوعية المشروعة الوحيدة، وهي لا تتقن الا التسبيح بحمد السلطان وتقديس رموزه العتاة، وقد بلغ الأمر بالسياسات الإعلامية العامة، التي تتولى السلطات العليا تحديدها، ان بادرت الى تعميم قوائم بالنصوص ممنوعة التداول اعلامياً، وهي تتضمن كلمات نظير، الثورة الحرية، الجماهير، وآيات قرآنية كذلك مما يقع في سياق قوله تعالى: "ان الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها اذلة.."!.
كما ان قائمة الكتب والنتاجات الثقافية والفكرية الممنوعة طويلة لا نهاية لها وتضم نتاج خيرة الأقلام الخليجية والعربية والإسلامية، نظير كتب الشهيد السيد محمد باقر الصدر، الشيخ المطهري، د. عبد الله النفيسي.، د. محمد الرميحي، ود. خلدون حسن النقيب، وتمنع الأبحاث التي تصدرها مراكز الدراسات في العالم العربي مثل كتاب "السياسة الخارجية السعودية"، لـ د. غسان سلامة. و"تطور بنى الأسرة العربية" لزهير حطب الصادر عن معهد والانماء العربي، و"هدر الأمكانية" ـ د. سعد الدين ابراهيم، تجربة دولة الامارات العربية من اصدارات مركز دراسات الوحدة العربية، وتستمر القائمة لتشمل اصدارات المراكز الاستراتيجية للدراسات كالأهرام ومؤسسة الابحاث الفلسطينية وكتب د. أسامة عبد الرحمن (من أبناء الجزيرة العربية )، والروائي (عبد الرحمن منيف)، وتطال قائمة المنع مطبوعات عربية مثل، السفير، الكفاح العربي، الأهالي، النداء، الأزمنة العربية، المحرر، القدس، العرب، وحتى الصحف والمجلات الغربية راحت تحظر فترات تتجاوز أحياناً السنة مثل التخصصية البريطانية "الأيكو نوميست" والاندبندنت والفايشال تايمز، والصاند أي تايمز، نيوزويك وغيرها، أما الصحفيين والكتاب فطالتهم الاعتقالات الوحشية كما حصل مع محمد العلي (رئيس تحرير صحيفة اليوم)، وصالح العزاز، وعلي الدميني. وعبد الله الدبيسي. وفوزية البكر, ويوسف الزهير، والشاعرة فاطمة كامل المعروفة بـ "ندى اليوسف ـ التي اصيبت بالشلل نتيجة للتعذيب ولا يغيب عنا ذكر الكاتب المناضل ناصر السعيد، ابرز الاقلام المناوئة للاضطهاد السعودي الذي اختطف واختفى في بيروت في ديسمبر 1979، بواسطة عملاء السفارة السعودية. ويظل الإعلام السعودي أحد اكثر دواعي السخرية والتهكم في نظام الحكم، اذ هو على حد التوصيف المعبّر لنجيب الريس في "رياح السموم" يعتبر، اكثر من غيره بين الاعلام العربي، ان للإعلام وجهاً واحداً، هو أن كل شيء على ما يرام في المملكة!، ويواصل نجيب الريس، لعل من المفروض ان يكون الإعلام السعودي، خلال ثلث قرن..، قد دجن كل الاقلام العربية (وهذا ما يخلق مشكلة كبيرة للكتابة عن السعودية) فإنك اذا كتبت مادحاً فأنت من دائرة النفاق الوصولية وطامح للوصول إلى بيت المال و اذ كتبت منتقداً فأنت متهم بالأبتزاز طمعاً بالوصول ايضاً إلى بيت المال، وبالطبع يقول الريس ـ فأن هذا المأزق يناسب الإعلام السعودي لأن الكاتب العربي مدان في كلتا الحالتين!. حرصت السلطات السعودية كذلك على اشاعة اجواء ثقافية هجينة وغريبة بما يوفر لها المناخ الفكري والسياسي الذي يحقق "أمن السلطة وأمن العرش" إلى الحد الذي أثار استغراب شخصية للمفكر المعروف أبي الحسن الندوي، حيث عبر عن امتعاضه الشديد من الوضع العام في مقال بمجلة الدعوة (غرة محرم / 1400) قائلاً: "هل هي مجرد مفاجآت او تصرفات من غير المسؤولين، او هي سياسة مخططة من قادة البلاد، أم انها سياسة مفروضة موحى اليها من الخارج ومن القوى الكبرى، مقابل ما تقدمه من معونات وتتكفل به من حماية للمملكة..".
وعلى المستوى الإقتصادي كانت الأوضاع ـ في رؤية كلية تقويمية ـ مريعة جداً، فبالرغم من الثروة النفطية الهائلة وعائدات تجارة البترول الخيالية، يظل الكثير من المواطنين يسكنون (بيوت الصفيح) في قرى الأحساء والقطيف ومدنهما البائسة، كما تنتشر أحزمة الفقر في معظم المدن الصاخبة والثرية، علاوة على التضخم المتزايد في الأسعار وتدني نوعية المشاريع، والإفتقاد إلى تخطيط للتنمية الحقيقية، مع التبذير في الانفاق وفساد اجهزة الدولة، وكما يقول كلود فوبيه في كتابه "النظام السعودي.." المومى اليه آنفاً: "السبب الرئيسي لهذا الرفض (الشعبي لحكومة آل سعود) هو ترف محدثي الثراء الذي تكشف عنه طبقة جديدة يأتي مصدر مواردها الرئيسية من نهب الموارد الطبيعية للبلاد، فأسلوب حياة هؤلاء العاطلين المسرفين الفاسدين، حتى لو أبقوا على أقل التقاليد الدينية أو القومية الزاماً، يصدم بشدة مواطنيهم الذين لا تتاح لهم أي وسيلة للتعبير او التنظيم الإجتماعي والسياسي والثقافي… من الواضح ان سلوك هؤلاء تجاه شعبهم هو أشبه بسلوك القاهر الأجنبي الذي تبنى أسلوب حياته وأدوات سلطته. منه بسلوك المحررين..".
الملاحظ ان السياسات الإقتصادية للنظام كانت تهدف الى تمييع شخصية المواطن وإضعافها، وعلى حد تعبير عبد الرحمن منيف في رواتيه "مدن الملح" فإن التغيير الذي حدث في مجتمع النفط شمل القشرة الخارجية فقط اما في الداخل فقد انكسر الأصيل قبل توفر البديل.. ومعنى ان تنكسر حياة شعب دون أن يحصل على شخصية جديدة او بديل حقيقي فهي ذروة المأساة، فالحضارة التي تبنى في مدن البترول وتتصاغر وتنكمش إلى حدود استهلاك البضائع الأجنبية المغلفة بالورق الصقول وتقليد كل ما هو أجنبي..، الى غير ذلك مما يتم في سياق السياسة التي تهدف الى استلاب شخصية المواطن وتشويه مجمل منظومة القيم الإجتماعية في البلاد".
كل الوان التردي في الأوضاع السياسة والثقافية والإقتصادية هذه، كانت توفر الداعي الكبير للثورة، بعد ان وعاها شعب الجزيرة وأدرك المخاطر العميقة والتهديدات الحقيقة التي تتمثل باستمرارها.
الثورة الإسلامية التي جاءت كثمرة لكفاح الشعب الإيراني بقيادة الإمام الخميني "مثلت آلية تحفيز واستنهاض وساهمت في إعادة الأمل بإمكانية رفع الحيف واستنقاذ الحقوق ومقارعة الظلمة والطواغيت، مما فعَّل دواعي التمرد والإنتفاضة، وسرّع من مبادرة أبناء الشعب والقطاعات الجماهيرية اليها.
لا يسع المراقب إلاّ أن يحاول استيعاب الإرتباط الموضوعي بين انتفاضة الشرقية وتداعيات قريبة أخرى للوضع المتفجر، ابرزها اعتصام جماعة "الدعوة المحتسبة" بالحرم المكي الشريف في 1 / 1 / 1400هـ اذ ان هذه الحادثة التأريخية لا بد وأن تكون قد تركت أثرها المهم على انتفاضة المنطقة، حيث كان الأجتماع في ذروته بينما تتناهى إلى المنتفضين أنباء المواجهات الضارية في الحرم بين اتباع جهيمان العتيبي، والقوات التي حشدتها السلطة السعودية لإنهاء حركة الأخوان او الدعوة المحتسبة هذه، لكن بعض المراقبين مثل وليم كوانت، عضو مجلس الأمن القومي الأميركي في إدارة كارتر، في كتابه "السعودية في الثمانينات"، يعتقدون "أن ما يخيف النظام السعودي اكثر من احداث مكة وحركة جهيمان، هي اضطرابات الشيعة في القطيف اواخر 1979، حيث يتركز الشيعة في المنطقة الشرقية وهم يعاملون عادة كمواطنين من الدرجة الثانية من قبل الحكام..".
هذه النواحي التي تدعو إلى الثورة أوجزها الثوار في بيان وزعوه في 8 / محرم 1400 الموافق 27 / 11 / 1979، مما سنتطرق اليه فيما يأتي.
بدأ موسم العزاء التأبيني المهيب الذي يقيمه أبناء المنطقة في عاشوراء، ليتمثلوا الحسين بن علي ورجالات ثورته الخالدة، وكانت مدن المنطقة الشرقية كعادتها من الاقاليم الإسلامية الرئيسية التي تبدي اهتماماً متزايداً بمراسم التأبين هذه، وانعكست ظروف عام 1400هـ، الاستثنائية على كل شيء، وبدا واضحاً ان الجماهير والقطاعات الشعبية تريد خرق طابع الرقابة التقليدي الذي اعتاد عليه العزاء الحسيني، ففي مطلع محرم من تلك السنة، اواخر نوفمبر 1979، كانت الكثير من المنازل قد تحولت إلى غرف عمليات، تعد المنشورات وعلب الأصباغ لاستعمالها في كتابة الشعارات الجدارية، وسرعان ما وزعت المنشورات الثورية وامتلأت الجدران بشعارات الأستنهاض، كلمات علي والحسين: (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا افر فرار العبيد)، (هيهات من الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله..)، (كونوا أحراراً في دنياكم..). (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)، وكانت هذه الأجواء إيذاناً بنزال عنيف يحمل طابعه الملحمي القاني الذي صنعه أبناء الشرقية مما سنتابعه تحت العناوين التالية، التي سنستعرض فيها كيف بدأت الإنتفاضة وحقيقة هويتها التي عبرت عنها البينات والشعارات ثم المظاهرات الإحتجاجية التي تحول معظمها إلى صدامات عنيفة من 6 / محرم ـ وحتى 10 محرم، وسيطرة الأهالي على المدن وحرب المولوتوف محلي الصنع، وقمع السلطة والشهداء والمعتقلين إثر تلك الأحداث.
كانت المجموعات الثورية تدرك ضرورة استخدام الأساليب الثورية الحديثة من اجل بلورة رؤى الجماهير وأحاسيسها، بغية إيضاح البعد السياس والثوري في حركة الجماهيرن وفي نفس الوقت لغرض الوقوف بوجه القوى النفعية المثبطة التي تحاول إشاعة اجواء الرعب والهزيمة بين صفوف أبناء الشعب، فصدر منشور مهم مطلع محرم1400 هـ / 20 ـ 11 ـ 1979، كان يهدف بوضوح الى تصعيد الموقف المتحدي للسلطة، حيث، دعا الجماهير الى توفير الجو الثوري في (موسم الثورة الحسينية). من خلال المشاركة في مواكب العزاء، ووضح البيان المنشور عدة أهداف وغايات لدعوته هذه، كتخليد ذكر الأمام الحسين(ع) وتكريس الحق في ممارسة الحرية الدينية، واستنكار مواقف الامبريالية الأميركية تجاوباً مع دعوة الإمام الخميني إلى ذلك والتي وجهها إلى كل المسلمين، كما حث المنشور (المؤمنين الأبطال) على عدم الخوف من (الأمن والشرطة)، وعلى عدم الانصياع إلى أوامر (الشخصيات والعمد لأنهم ليسوا إلا مجموعة من الجبناء والعملاء الهلعين على مصالحهم الشخصية). وتلاحق بعد ذلك صدور عدة بيانات، حيث صدر يوم السادس من المحرم / 25 نوفمبر، منشور حول استقطاب فئات الشعب الأخرى وإشعارها بمسؤوليتها مؤكداً على دورها المهم في الموقف الأجتماعي العام، فدعا العناصر النسوية إلى المشاركة في التظاهرة الدينية ـ السياسية. كتعبير عن الرفض والتمرد، مفتتحاً البيان بقوله تعالى "فلولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات..)، ومذكراً بأسهامات المرأة في صنع الأحداث الإسلامية الكبرى مؤكداً ان الشعب "بدأ يتمرد على الأوامر الحكومية ويمارس حرياته الدينية ويخرج في مواكب العزاء ومسيرات التظاهر واستنكاراً للتهديدات الأمريكية العدوانية" كما اعلن البيان "إن اشتراك العنصر النسوي سيربك أجهزة القمع التي تتصدى لحركة الجماهيرية" ونلاحظ ان المنشورات الثورية تتابعت لتواكب مسيرة الرفض ففي خضم المواجهات بين الشعب والسلطة صدر منشور مهم ليلة الثامن من محرم ـ 27 نوفمبر، حث المتظاهرين على مواصلة التحدي ووضح الأهداف التي ينبغي تحقيقها من الإنتفاضة، وكان الموقف الجماهيري المستند إلى وعي دقيق للمعادلة قد تبلور بشكل واضح يدعو إلى الإعجاب في بيان مهم صدر على شكل منشور موجه إلى السلطة إثر مجيء أحمد بن عبد العزيز (نائب وزير الداخلية) إلى الدمام ليلة التاسع في محرم ـ 27 / نوفمبر، ليلتقي مع شخصيات المنطقة الذين استدعوا مسبقاً من اجل ان يحاول توظيف نفوذهم في إخماد نيران الرفض الشعبي، فجاء البيان ليؤكد للسلطات "ان هذه الشخصيات لا تمثل سوى نفسها ولا تحمل آلام الشعب وآماله بل تبالغ في التملق والتزلف خوفاً على مصالحها" وتولى البيان ايضاح الموقف الشعبي وأسبابه والمطالب العادلة التي ينادي بها كما أكد على أن القمع والعنف لن يجدي وعلى الحكومة ان تبادر الى الحلول الجذرية عبر:
1 ـ إطلاق سراح المعتقلين خلال الأحداث الذي تجاوز حينها (9 / محرم) الخمسمائة معتقل.
2 ـ الأعتراف بحريات الشعب الدينية في المنطقة على مستوى القضاء، المحاكم، والفكر والثقافة وحركة الكتاب، والمراسم الدينية ومواكب العزاء الحسيني والفعاليات الإسلامية الأخرى.
3 ـ انهاء سياسية التمييز الطائفي المتخذة حيال المذاهب الإسلامية، تلك السياسة "التي من شأنها تمزيق وحدة الشعب وزرع الأحقاد في نفوس أبنائه".
4 ـ الكف عن التعاون المفضوح مع رأس الكفر في العالم أمريكا، ضد الإسلام وقضايا المسلمين ومنها الثورة الإسلامية في إيران، على حد تعبير البيان، مشيراً إلى ان مجيء الكوماندوز الأميركي إلى قاعدة الظهران المريب يفجر نقمة الشعب ويثير غضبه.
وهذا المطلب تبلور فيما بعد ابان ازمة الخليج / 1990، ليحدد موقف الشعب العام بكل قطاعاته ومذاهبه حيال التواجد العسكري الغربي في الجزيرة والخليج كان مهيئاً لطروء تغيرات سياسية واجتماعية كبيرة افرزت بروز المعارضة السلفية السنية التي انبثقت من داخل المؤسسة الدينية الرسمية في البلاد لتشكل تيارات متعددة فاقمت من أزمة النظام الشرعية.
5 ـ ان تضع السلطة حداً للإهمال والتلاعب بمصالح المواطنين، فإن الشعب يعيش وضعاً سيئاً وأزمات متلاحقة بدءً من أزمة السكن والخدمات وانتهاء بالتعليم، فإلى متى تبقى منطقة النفط بهذا الوضع التعيس.
واكد البيان على "إن الشعب اثبت استعداده للتضحية والمقاومة وفتح صدره للرصاص الحاقد، ويمكن للحكومة التعسفية اما تجرب حظها مرة أخرى في قمعه، فكل حادث من هذا النوع سيكون في صالح الشعب يزوده بالتجارب والخبرات". ان مجموع هذه البيانات يعكس بجلاء حجم الوعي وقدر الحنكة التي استندت اليها الإنتفاضة كما يصرح بهوية التحركات، إسلامية، وطنية، تعتبر عن تطلعات الشعب وهمومه وآلامه.
مساهمت هذه المنشورات بتوعية المنتفضين بجوهر حركتهم ورفدهم بالحماس والتمسك بالقيم الجهادية التي تمنح المواجهة قوة دافعة وتحافظ عليها من تسرب الإنحراف والانتكاسة.
في حسينية" "السنان" بالقطيف ما ان انتهت المحاضرة الدينية حتى قام أحد الشباب وهو يرفع صوته بالتكبير، وكان هذا كافياً ليعج المجلس بأصوات التكبير ويخرج الجمهور في مظاهرة صاخبة تردد شعارات الثورة الإسلامية كاشفة قناع الزيف عن السلطة السعودية الظالمة.
وفي حسينية (السنان) ذاتها ليلة السابع من المحرم (25 / نوفمبر)، تحدث الخطيب بألم عمّن وصفهم بالمنافقين الذي طلبوا منه تغيير خطابه واستبداله بالخطاب التقليدي ليتجنب تحريض الناس على الثورة والرفض ثم بدأ محاضرته التي عالجت الأدوار البطولية للعنصر الشبابي في نهضة الحسين(ع) الذي اختتم بشهادتهم في سبيل المبدء، وكان المجلس قد احتشد بالحضور وافترشت الجماهير الشوارع القريبة، حتى وصلت جموعها إلى ساحة الخزان (التي سميت فيما بعد بساحة الشهداء)، وتعرض الحاضرون إلى مضايقات الشرطة التي لم تمنع من انطلاق تظاهرة كبيرة بعد انتهاء المحاضرة الدينية سارت في شوارع القطيف ساعات عدة وهي تهتف بشعارات الثورة حتى انتهت بصدامات عنيفة مع رجال السلطة سقط فيها العديد من الجرحى من الجانبين.
لذلك فقد مارست السلطة مختلف الضغوط على الخطباء لمنعهم عن ارتقاء المنابر اساساً كما حصل ليلة الثامن من محرم (26 / نوفمبر)، حيث اختفى خطيب حسينية (السنان) في القطيف وجاء بديلاً عنه خطيب آخر لا يتبنى الموقف الثوري ليبدأ محاضرة تقليدية جداً اثارت استياء الحاضرين الذين راحوا بدلاً من الأنصات اليه، يتساء لون حول مصير خطيب الثورة هناك، ثم عبروا عن امتعاضهم حين تركوا الحسنية لتنظيم مظاهرة ثورية حاشدة جابت شوارع القطيف مصطدمة بالقمع السلطوي المعتاد.
استمرت اعتقالات الخطباء واختفى بعضهم ليلة التاسع من محرم. وفي مدينة صفوى كان هناك تجمع ديني حاشد حضره ما يقارب الخمسة عشر الف مستمع في احد المساجد حيث قام احد خطباء الثورة يستلهم مفاهيم نهضة الإمام الحسين(ع) ومواقفه ليحلل على ضوئها طبيعة المواجهة المتصاعدة بين الشعب والنظام السعودي متطرقاً إلى فلسفة الموت بمناسبة شهادة بعض المؤمنين في المواجهات مركزاً على أن الإنسان الذي قدر له الموت في هذه الحياة كأمر محتوم عليه اختيار لون الموت التي ينهي حياته وما اعظم من يموت شهيداً دون قيمة وكرامته وكان هذا بمثابة إشارة للإنطلاق. خرج بعدها المجتمون في مظاهرة اعتبرت من اكبر التظاهرات حجماً وثورية، وتميزت بحدة الشعارات وتركيزها على المطالبة بالحريات الدينية والسياسية.
التظاهرات:
بقدر ما شكلت مآتم الثورة الحسينية، وما يجري فيها من مراسم العزاء التأبيني المهيب لشهداء ثورة الحسين (ع) ومواكب العزاء التي تجوب الطرقات الرئيسية رافعة شعارات الثورة تلك، واجباً دينياً مهماً عند المسلمين فقد مثلت مصدر قلق للسلطات الظالمة التي تعاقبت على الحكم في العراق وإيران والجزيرة العربية وسائر الأماكن الأخرى التي تتواجد فيها هذه المراسم، حيث كانت تظاهرة دينية موسمية تغذي روح الثورة وتهيئ مناخات التمرد، وكان النظام السعودي حريصاً على مضايقة تلك الشعائر لتقليص دورها فبينما سمحت بها في حدود معينة بالقطيف راحت تمنعها تماماً او تكاد في مدن مهمة كالمدينة المنورة والدمام والاحساء، وتعتبر خروج التظاهرات الحسينية خرقاً للقانون (السعودي).
برغم ذلك فقد زاد تمسك المؤمنين بهذا النسك الدني لوعيهم بأهميته ولأنهم وجدوا فيه تخليداً لصوت الثوار على مر التأريخ.
في محرم، 1400هـ، (نوفمبر 1979) اتخذت تلك التظاهرات الحسينية طابعاً خاصاً تناغم مع مجمل المناخ السياسي في المنطقة وراحت الشعارات الحسينينة تندد بالظلم السعودي وتطالب باطلاق الحريات، المختلفة التي صادرتها حكومة بني سعود. تحركت جموع المؤمنين في مختلف المدن كمدينة القطيف وصفوى وسيهات لتنتشر بعد ذلك ليلة الثاني من محرم بقوة في كل قرى المنطقة، لتتصاعد ليلة السادس من محرم (25 نوفمبر) فتشمل بلدة العوامية وتتجدد في مدينة سيهات وصفوى، تلك المناطق التي استمرت فيها التظاهرات الحاشدة والساخنة في ليالي 7 و 8 و 9 محرم، لتضاف اليها قرى عديدة نظير تاروت وسنابس ـ على بعد خمسة كيلومترات من مدينة القطيف ـ وكذلك في قرية الأوجام التي لم ينجح بعض الخطباء من إخماد ثورتها بعد أن راح يحاول التضليل عن طريق طرح وعي خاطئ لمفهوم التقية، كما تكررت مظاهرة كبيرة خرج فيها اكثر من (4000) شخص ليلة الثامن من محرم اشترك فيها مجموعة كبيرة من النساء، إلى غير ذلك من التظاهرات الصاخبة التي راحت تعدد كل يوم في مختلف مناطق القطيف وقراها وجزرها مما تطور أحياناً إلى مواجهات عنيفة سنتعرض اليها لاحقاً.
شعارات الإنتفاضة
لكل ثورة ومشروع رفض شعاراته الخاصة التي تكشف عن فلسفته وهويته وحقيقة مطالبه وأهدافه وهكذا كانت أحداث المنطقة الشرقية تتصدرها الشعارات المشرقة التي تظهر ماهية الثورة ومضمونها الأصيل مستلهمة مفردات الخطاب الحسيني التي وظفتها في تحليل ما تتعرض له البلاد من أزمات دعت إلى التمرد والرفض على المستويات السياسية والثقافية والإجتماعية فكان ضمن ما يردده المتظاهرون، وما انتشر على جدران المباني وواجهات الشوارع الرئيسية من فقرات جزئية وصريحة نظير ما يأتي:
ثم تأتي الشعارات الأكثر تحليلاً للموقف:
ثم تأتي مجموعة أخرى من الشعارات لتبين الهوية الإسلامية للانتفاضة الخالية عن الطابع الفؤي او الطائفي الضيق مما يحاول بنو سعود تكريسه لاضعاف الصف الإسلامي فجاءت الشعارات لتقول:
هكذا يكون حال الطواغيت دائماً، يتوقعون الخنوع الكامل من ضحاياهم ويعولون كل التعويل على نتائج الإرهاب والقمع الممارس ضد أبناء البلاد، إضافة إلى انهم لم يتوفروا على جرأة تدفعهم إلى قراءة التأريخ ووعي فلسفته، لأن ذلك يقودهم إلى رؤية مشاهد لا تروق لتشبثهم المستميت بالسلطة والنفوذ.
ظاهرة الرفض والتمرد ثم (العنف) المضاد، في منطق الرؤية الإجتماعية والنفسية، رد فعل طبيعي من قبل الذات على أزماتها الخانقة التي تستفز رغبة المرء في البقاء، وتوقه الى توفير ظروفه وعوامل ديمومته. كالحفاظ على الهوية وصيانة الشرف وتأمين العيش الكريم. وحين لا يصدر رد الفعل هذا فأنه يدلل، دون ترديد على ذات اجتماعية مريضة ومشوهة، في حال عدم توفر ما يوحي بأن ثمة "تكتيكاً" اجتماعياً معيناً يعتمد هدنة معقولة مع الخصوم الأقوياء.
"المنطقة الشرقية" نظير مناطق الجزيرة العربية الأخرى ومعظم بلدان المنطقة، تحتفظ بدواع كثيرة للتمرد والرفض لنمط الحكم السعودي المستبد، ولخصوصيتها الإسلامية فأنها راحت تتعرض لقمع فكري وعقائدي متزايد من قبل النظام المتعجرف، تمثل بألوان التمييز الطائفي والممارسات القمعية وانماط التنكيل المختلقة، كما ان خصوصيتها الجغرافية، وكونها تمتلك، 24% من احتياطي العالم النفطي، عمق في شعورها الأحساس بالحرمان واستلاب الحقوق، عبر سياسات بني سعود المجحفة التي تنتهج بحق سكان هذه المنطقة، وبعد طول صبر وحين ادرك الجميع ان هذه الأزمات لن يعقبها انفراج يذكر، وفي أجواء محرم وذكرى عاشوراء، خرج أبناء الشرقية في مناطق متعددة، من بين أكواخ الصفيح الفقيرة ليطلقوا صرخات التمرد والرفض لمجمل الأوضاع القائمة في بلادهم.
هناك قضية تفرض مضامينها على اجواء الحديث، وهي طريقة تعامل الإعلام العالمي (المؤسسات الغربية خاصة) مع ما يصدر عن المجتمع من رفض وثورة ضد أنظمة الحكم التقليدية، فتلك المؤسسات التي تتولى الدعاية والترويج وتتنافس من أجل تغطية أحداث تبدو تافهة ضئيلة الحجم، تحجم عن ان تولي ولو شيئاً من اهتماماتها إلى أنشطة ثورية تبادر اليها شعوب منطقتنا العربية هذه، محاولة الأبقاء على صورة الإستقرار الكاذب التي تمنحها لأنظمة الحكم تلك، وفي هذا الصدد يقول الكاتب الفرنسي "كلود فوبيه" في دراسته الصادرة في باريس عام 1983 "النظام السعودي":
((ان ما يهدد النظام السعودي.. ليس العدوان الخارجي وإنما الإنفجار فسيكون خطأنا الأكبر هو أن نتصور الإستقرار الداخلي حقيقة ملموسة وهو ليس إلاّ واجهة، يتردد لها صدى كبير في الخارج لا بحكم الرقابة الشديدة للسلطة فحسب، وإنما لاتهم صحفنا قدرما تهمها حصيلة ليلة في الكازينو لولي العهد حين يخسر مليارا ونصف مليار، كما فعل فهد في موناكو عام 1974م، وعلى كل حال فأننا نخطيء اذا لم نضع إلى علامات السخط الصادرة من الجزيرة العربية، حتى اذا كانت تصلنا مكتوم للغاية)).. هذه الشادة القادمة من باريس تلقي الضوء على حجم المظلومية التي تتعرض لها حركة الثورة في منطقتنا، والتآمر السافر الذي يستهدف تطويق إرادة الجماهير وتغييب صوتها، غير أنها رغم ذلك تعيد تحديد شعار الحرية يوماً بعد آخر وتقدم صياغاته الحمراء، وتتخذ من لغة الدم، في ابلاغ صوتها، بديلاً عن عجلة الدعاية العالمية التي خذلتها.
ان انتفاضة المنطقة الشرقية كغيرها من مفردات الرفض والتضحية في الجزيرة وفي بلدان المنطقة الأخرى لم تحض بالتغطية المناسبة، ولم تتوفر لها القنوات الكافية التي تعكس هويتها الأصيلة وحجمها الحقيقي بشكل منصف وموضوعي، وحتى المطبوعات القليلة التي تناقلت الخبر بعد فوات الأوان وقمع الإنتفاضة، كانت لمعظها أغراض غير نزيهة، وقامت بعضها بتجيير الحدث وتوظيفه في إدارة معركتها السياسية مع بني سعود، او اثر روح طائفية واسباغها على الإنتفاضة.
ومع كل ذلك فقد وفرت الإنتفاضة لجهاد الشعب رصيداً تأريخياً بلور مواقفة ورسم أمامه قدر المواجهة ورسخ الرابطة المبدئية بينه وبين قيمه، وصحح من معلومات النظام السعودي حول طبيعة الأمة وحجم رفضها وتحديها، الى غير ذلك من النتائج الإيجابية المهمة.
عامل الرفض ثقافي، سياسي، اقتصادي
ثمة الكثير من دواعي الرفض الشعبي لنظام بني سعود، الذي بسط سلطته في الجزيرة العربية عبر سياساته القمعية والدموية.وعدا تلك الدواعي، كانت المنطقة الشرقية بالذات تتمتع بخصوصيات تؤهلها للعب ادوار متميزة في البلاد، حيث يمكن اعتبارها مع الحجاز اقليمين متميزين من حيث الوعي السياسي الناشيء عن الانفتاح الثقافي على المحيط العالمي والإسلامي، وبالنسبة إلى المنطقة الشرقية فقد كان هناك تواصل ثقافي مكثف مع البلاد العربية المجاورة خاصة العراق بما فيه من زخم ثقافي وتيارات سياسية وفكرية متبانية، وفي مجمل المراحل التأريخية كان هناك العديد من أبناء المنطقة يتلقون تعليمهم في مدينة النجف الأشرف بالعراق العاصمة العلمية العريقة، والتي تعتبر من المنابع الرئيسية للتأثيرات الثقافية في العالم الإسلامي، ان هذا الإنفتاح كان له اثره في تغذية الوعي الإجتماعي في مختلف الأتجاهات، لذلك احتضنت المنطقة عدداً كبيراً من العلماء والفقهاء ممن بلغوا مراتب عالية وبينهم مجتهدون في الشريعة، كما شهدت تجربة أدبية ناضجة، رغم انها تقلصت الى حد كبير في أواخر عهد فيصل بن عبد العزيز المشؤوم، وفي مقابل الوعي الذي ساد مجتمع هذه المنطقة، راح النظام السعودي يكرس اكثر بأكثر الاوضاع المتردية في البلاد.
على الصعيد السياسي لم يكن النظام الحاكم متوفراً على أي قدر من الشرعية الدينية او القانونية، فهو الملك العضوض وحكم العائلة، الذي ورث طقوساً اموية وعباسية وتترية..، فأضحى عصارة لتجارب الظلم والإستبداد التي شهدها تاريخ المنطقة، وكان الإرهاب هو المنهج الرسمي الثابت للسلطة السعودية. فعلاوة على انعدام أي قناة قانونية للتعبير عن الرأي وانعدام امكانيات الحوار مع السلطة حول المشاكل الإجتماعية والوطنية كان سيف الاعتقال مشهوراً على كل من يجاهر برأي معارض للسلطة. أو يغذي في السر تحركاً سياسياً او ثقافياً لا يصفق للنظام مع ان جماهير الشعب ونخبه لطالما طالبت بتغيير طبيعة العلقة بينها وبين نظام الحكم، لكن السلطة ظلت تتجاهل كل ذلك وتمارس سلطتها دون أي حق معترف به للشعب، علاوة على ان النظام السعودي حرص على دعم ورعاية التيار الخياني في المنطقة، فيما يتعلق بالملفات السياسية الحساسة سواء منها قضية الصراع مع الكيان الصهيوني او العلاقة مع الغرب والولايات المتحدة والموقف من حركات التحرر العربية والإسلامية، واخيراً طبيعة ردود الفعل المعادية لصحوة الأمة الإسلامية في العالم سيما ثورة الشعب الإيراني المسلم التي انضم بني سعود إلى جوقة مناوئيها مبكراً، ومما لاحظه الشعب في هذا المجال وصول مجموعات من الكوماندوز الإميركي الى قاعدة الظهران في نوفمبر 1979، لتكون قريبة من إيران عند الحاجة إليها في اي تدخل عسكري يرونه مناسباً وهو مما زاد في إثارة حفائظ الجماهير وذكروه في بعض بياناتهم المهمة كأحد اسباب الإنتفاضة.
ان عناد الأنظمة المستبدة وإصرارها على تجاهل الأنذارات الجلية الواضحة التي يطلقها الإلحاح الشعبي المتزايد، لابد أن يدفع المجتمع بكل فصائله إلى العمل الجهادي فيتبلور ذلك في الدور التوجيهي الذي يؤديه العلماء والمؤمنون مما سينعكس على حركة الرفض الجماهيري ويوفر لها آليات الإستنهاض والتفعيل والدفع نحو مستويات متعددة من المواجهة.
على الصعيد الفكري والثقافي، أحاط النظام السعودي الجزيرة العربية بطوق منيع فارضاً الحصار الثقافي الذي تلجأ اليه أنظمة الإستبداد من أجل حماية سلطانها عبر المحافظة على مستوى واطيء من الوعي عند السكان المحكومين، فبقيت أجهزة الإعلام السعودية قناة التوعية المشروعة الوحيدة، وهي لا تتقن الا التسبيح بحمد السلطان وتقديس رموزه العتاة، وقد بلغ الأمر بالسياسات الإعلامية العامة، التي تتولى السلطات العليا تحديدها، ان بادرت الى تعميم قوائم بالنصوص ممنوعة التداول اعلامياً، وهي تتضمن كلمات نظير، الثورة الحرية، الجماهير، وآيات قرآنية كذلك مما يقع في سياق قوله تعالى: "ان الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها اذلة.."!.
كما ان قائمة الكتب والنتاجات الثقافية والفكرية الممنوعة طويلة لا نهاية لها وتضم نتاج خيرة الأقلام الخليجية والعربية والإسلامية، نظير كتب الشهيد السيد محمد باقر الصدر، الشيخ المطهري، د. عبد الله النفيسي.، د. محمد الرميحي، ود. خلدون حسن النقيب، وتمنع الأبحاث التي تصدرها مراكز الدراسات في العالم العربي مثل كتاب "السياسة الخارجية السعودية"، لـ د. غسان سلامة. و"تطور بنى الأسرة العربية" لزهير حطب الصادر عن معهد والانماء العربي، و"هدر الأمكانية" ـ د. سعد الدين ابراهيم، تجربة دولة الامارات العربية من اصدارات مركز دراسات الوحدة العربية، وتستمر القائمة لتشمل اصدارات المراكز الاستراتيجية للدراسات كالأهرام ومؤسسة الابحاث الفلسطينية وكتب د. أسامة عبد الرحمن (من أبناء الجزيرة العربية )، والروائي (عبد الرحمن منيف)، وتطال قائمة المنع مطبوعات عربية مثل، السفير، الكفاح العربي، الأهالي، النداء، الأزمنة العربية، المحرر، القدس، العرب، وحتى الصحف والمجلات الغربية راحت تحظر فترات تتجاوز أحياناً السنة مثل التخصصية البريطانية "الأيكو نوميست" والاندبندنت والفايشال تايمز، والصاند أي تايمز، نيوزويك وغيرها، أما الصحفيين والكتاب فطالتهم الاعتقالات الوحشية كما حصل مع محمد العلي (رئيس تحرير صحيفة اليوم)، وصالح العزاز، وعلي الدميني. وعبد الله الدبيسي. وفوزية البكر, ويوسف الزهير، والشاعرة فاطمة كامل المعروفة بـ "ندى اليوسف ـ التي اصيبت بالشلل نتيجة للتعذيب ولا يغيب عنا ذكر الكاتب المناضل ناصر السعيد، ابرز الاقلام المناوئة للاضطهاد السعودي الذي اختطف واختفى في بيروت في ديسمبر 1979، بواسطة عملاء السفارة السعودية. ويظل الإعلام السعودي أحد اكثر دواعي السخرية والتهكم في نظام الحكم، اذ هو على حد التوصيف المعبّر لنجيب الريس في "رياح السموم" يعتبر، اكثر من غيره بين الاعلام العربي، ان للإعلام وجهاً واحداً، هو أن كل شيء على ما يرام في المملكة!، ويواصل نجيب الريس، لعل من المفروض ان يكون الإعلام السعودي، خلال ثلث قرن..، قد دجن كل الاقلام العربية (وهذا ما يخلق مشكلة كبيرة للكتابة عن السعودية) فإنك اذا كتبت مادحاً فأنت من دائرة النفاق الوصولية وطامح للوصول إلى بيت المال و اذ كتبت منتقداً فأنت متهم بالأبتزاز طمعاً بالوصول ايضاً إلى بيت المال، وبالطبع يقول الريس ـ فأن هذا المأزق يناسب الإعلام السعودي لأن الكاتب العربي مدان في كلتا الحالتين!. حرصت السلطات السعودية كذلك على اشاعة اجواء ثقافية هجينة وغريبة بما يوفر لها المناخ الفكري والسياسي الذي يحقق "أمن السلطة وأمن العرش" إلى الحد الذي أثار استغراب شخصية للمفكر المعروف أبي الحسن الندوي، حيث عبر عن امتعاضه الشديد من الوضع العام في مقال بمجلة الدعوة (غرة محرم / 1400) قائلاً: "هل هي مجرد مفاجآت او تصرفات من غير المسؤولين، او هي سياسة مخططة من قادة البلاد، أم انها سياسة مفروضة موحى اليها من الخارج ومن القوى الكبرى، مقابل ما تقدمه من معونات وتتكفل به من حماية للمملكة..".
وعلى المستوى الإقتصادي كانت الأوضاع ـ في رؤية كلية تقويمية ـ مريعة جداً، فبالرغم من الثروة النفطية الهائلة وعائدات تجارة البترول الخيالية، يظل الكثير من المواطنين يسكنون (بيوت الصفيح) في قرى الأحساء والقطيف ومدنهما البائسة، كما تنتشر أحزمة الفقر في معظم المدن الصاخبة والثرية، علاوة على التضخم المتزايد في الأسعار وتدني نوعية المشاريع، والإفتقاد إلى تخطيط للتنمية الحقيقية، مع التبذير في الانفاق وفساد اجهزة الدولة، وكما يقول كلود فوبيه في كتابه "النظام السعودي.." المومى اليه آنفاً: "السبب الرئيسي لهذا الرفض (الشعبي لحكومة آل سعود) هو ترف محدثي الثراء الذي تكشف عنه طبقة جديدة يأتي مصدر مواردها الرئيسية من نهب الموارد الطبيعية للبلاد، فأسلوب حياة هؤلاء العاطلين المسرفين الفاسدين، حتى لو أبقوا على أقل التقاليد الدينية أو القومية الزاماً، يصدم بشدة مواطنيهم الذين لا تتاح لهم أي وسيلة للتعبير او التنظيم الإجتماعي والسياسي والثقافي… من الواضح ان سلوك هؤلاء تجاه شعبهم هو أشبه بسلوك القاهر الأجنبي الذي تبنى أسلوب حياته وأدوات سلطته. منه بسلوك المحررين..".
الملاحظ ان السياسات الإقتصادية للنظام كانت تهدف الى تمييع شخصية المواطن وإضعافها، وعلى حد تعبير عبد الرحمن منيف في رواتيه "مدن الملح" فإن التغيير الذي حدث في مجتمع النفط شمل القشرة الخارجية فقط اما في الداخل فقد انكسر الأصيل قبل توفر البديل.. ومعنى ان تنكسر حياة شعب دون أن يحصل على شخصية جديدة او بديل حقيقي فهي ذروة المأساة، فالحضارة التي تبنى في مدن البترول وتتصاغر وتنكمش إلى حدود استهلاك البضائع الأجنبية المغلفة بالورق الصقول وتقليد كل ما هو أجنبي..، الى غير ذلك مما يتم في سياق السياسة التي تهدف الى استلاب شخصية المواطن وتشويه مجمل منظومة القيم الإجتماعية في البلاد".
كل الوان التردي في الأوضاع السياسة والثقافية والإقتصادية هذه، كانت توفر الداعي الكبير للثورة، بعد ان وعاها شعب الجزيرة وأدرك المخاطر العميقة والتهديدات الحقيقة التي تتمثل باستمرارها.
الثورة الإسلامية التي جاءت كثمرة لكفاح الشعب الإيراني بقيادة الإمام الخميني "مثلت آلية تحفيز واستنهاض وساهمت في إعادة الأمل بإمكانية رفع الحيف واستنقاذ الحقوق ومقارعة الظلمة والطواغيت، مما فعَّل دواعي التمرد والإنتفاضة، وسرّع من مبادرة أبناء الشعب والقطاعات الجماهيرية اليها.
لا يسع المراقب إلاّ أن يحاول استيعاب الإرتباط الموضوعي بين انتفاضة الشرقية وتداعيات قريبة أخرى للوضع المتفجر، ابرزها اعتصام جماعة "الدعوة المحتسبة" بالحرم المكي الشريف في 1 / 1 / 1400هـ اذ ان هذه الحادثة التأريخية لا بد وأن تكون قد تركت أثرها المهم على انتفاضة المنطقة، حيث كان الأجتماع في ذروته بينما تتناهى إلى المنتفضين أنباء المواجهات الضارية في الحرم بين اتباع جهيمان العتيبي، والقوات التي حشدتها السلطة السعودية لإنهاء حركة الأخوان او الدعوة المحتسبة هذه، لكن بعض المراقبين مثل وليم كوانت، عضو مجلس الأمن القومي الأميركي في إدارة كارتر، في كتابه "السعودية في الثمانينات"، يعتقدون "أن ما يخيف النظام السعودي اكثر من احداث مكة وحركة جهيمان، هي اضطرابات الشيعة في القطيف اواخر 1979، حيث يتركز الشيعة في المنطقة الشرقية وهم يعاملون عادة كمواطنين من الدرجة الثانية من قبل الحكام..".
هذه النواحي التي تدعو إلى الثورة أوجزها الثوار في بيان وزعوه في 8 / محرم 1400 الموافق 27 / 11 / 1979، مما سنتطرق اليه فيما يأتي.
الأنتفاضة بداية منعطف تأريخي
في خضم تلك الأجواء المشحونة بالغضب للحق، ومع توفر عوامل الأثارة والإستنهاض الكافية وبلوغ الوعي بالقضية مستوى يؤهل للفعل الميداني، كان لا بد من الإنتفاضة ليعرف النظام السعودي حجم الرفض الذي يكنّه الشعب لسياساته وممارساته، ولتعود للشعب الثقة بذاته وبقدراته التي يملكها فتتحول المفاهيم الثورية التي آمن بها إلى واقع ميداني وممارسة فعلية ولينتقل بذلك إلى مرحلة تأريخية جديدة من مراحل الجهاد والنضال في سبيل التحرر من هيمنة الأجنبي، كل ذلك تحت راية الإسلام ومداليل نهضة عاشوراء الحمراء التي تمنح بكل قوة المشروعية للجوء الى الخيار الأصيل والنابض بالحياة في مفهومها الحسيني الخاص بمسحاته القدسية الرافضة للتعايش مع الظلم والأستهتار بمقدارات الأمة الوسط الشاهدة.بدأ موسم العزاء التأبيني المهيب الذي يقيمه أبناء المنطقة في عاشوراء، ليتمثلوا الحسين بن علي ورجالات ثورته الخالدة، وكانت مدن المنطقة الشرقية كعادتها من الاقاليم الإسلامية الرئيسية التي تبدي اهتماماً متزايداً بمراسم التأبين هذه، وانعكست ظروف عام 1400هـ، الاستثنائية على كل شيء، وبدا واضحاً ان الجماهير والقطاعات الشعبية تريد خرق طابع الرقابة التقليدي الذي اعتاد عليه العزاء الحسيني، ففي مطلع محرم من تلك السنة، اواخر نوفمبر 1979، كانت الكثير من المنازل قد تحولت إلى غرف عمليات، تعد المنشورات وعلب الأصباغ لاستعمالها في كتابة الشعارات الجدارية، وسرعان ما وزعت المنشورات الثورية وامتلأت الجدران بشعارات الأستنهاض، كلمات علي والحسين: (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا افر فرار العبيد)، (هيهات من الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله..)، (كونوا أحراراً في دنياكم..). (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)، وكانت هذه الأجواء إيذاناً بنزال عنيف يحمل طابعه الملحمي القاني الذي صنعه أبناء الشرقية مما سنتابعه تحت العناوين التالية، التي سنستعرض فيها كيف بدأت الإنتفاضة وحقيقة هويتها التي عبرت عنها البينات والشعارات ثم المظاهرات الإحتجاجية التي تحول معظمها إلى صدامات عنيفة من 6 / محرم ـ وحتى 10 محرم، وسيطرة الأهالي على المدن وحرب المولوتوف محلي الصنع، وقمع السلطة والشهداء والمعتقلين إثر تلك الأحداث.
الإنتفاضة
الإنطلاقة، المواجهات، قمع السلطة
المنشورات والبيانات الثورية:الإنطلاقة، المواجهات، قمع السلطة
كانت المجموعات الثورية تدرك ضرورة استخدام الأساليب الثورية الحديثة من اجل بلورة رؤى الجماهير وأحاسيسها، بغية إيضاح البعد السياس والثوري في حركة الجماهيرن وفي نفس الوقت لغرض الوقوف بوجه القوى النفعية المثبطة التي تحاول إشاعة اجواء الرعب والهزيمة بين صفوف أبناء الشعب، فصدر منشور مهم مطلع محرم1400 هـ / 20 ـ 11 ـ 1979، كان يهدف بوضوح الى تصعيد الموقف المتحدي للسلطة، حيث، دعا الجماهير الى توفير الجو الثوري في (موسم الثورة الحسينية). من خلال المشاركة في مواكب العزاء، ووضح البيان المنشور عدة أهداف وغايات لدعوته هذه، كتخليد ذكر الأمام الحسين(ع) وتكريس الحق في ممارسة الحرية الدينية، واستنكار مواقف الامبريالية الأميركية تجاوباً مع دعوة الإمام الخميني إلى ذلك والتي وجهها إلى كل المسلمين، كما حث المنشور (المؤمنين الأبطال) على عدم الخوف من (الأمن والشرطة)، وعلى عدم الانصياع إلى أوامر (الشخصيات والعمد لأنهم ليسوا إلا مجموعة من الجبناء والعملاء الهلعين على مصالحهم الشخصية). وتلاحق بعد ذلك صدور عدة بيانات، حيث صدر يوم السادس من المحرم / 25 نوفمبر، منشور حول استقطاب فئات الشعب الأخرى وإشعارها بمسؤوليتها مؤكداً على دورها المهم في الموقف الأجتماعي العام، فدعا العناصر النسوية إلى المشاركة في التظاهرة الدينية ـ السياسية. كتعبير عن الرفض والتمرد، مفتتحاً البيان بقوله تعالى "فلولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات..)، ومذكراً بأسهامات المرأة في صنع الأحداث الإسلامية الكبرى مؤكداً ان الشعب "بدأ يتمرد على الأوامر الحكومية ويمارس حرياته الدينية ويخرج في مواكب العزاء ومسيرات التظاهر واستنكاراً للتهديدات الأمريكية العدوانية" كما اعلن البيان "إن اشتراك العنصر النسوي سيربك أجهزة القمع التي تتصدى لحركة الجماهيرية" ونلاحظ ان المنشورات الثورية تتابعت لتواكب مسيرة الرفض ففي خضم المواجهات بين الشعب والسلطة صدر منشور مهم ليلة الثامن من محرم ـ 27 نوفمبر، حث المتظاهرين على مواصلة التحدي ووضح الأهداف التي ينبغي تحقيقها من الإنتفاضة، وكان الموقف الجماهيري المستند إلى وعي دقيق للمعادلة قد تبلور بشكل واضح يدعو إلى الإعجاب في بيان مهم صدر على شكل منشور موجه إلى السلطة إثر مجيء أحمد بن عبد العزيز (نائب وزير الداخلية) إلى الدمام ليلة التاسع في محرم ـ 27 / نوفمبر، ليلتقي مع شخصيات المنطقة الذين استدعوا مسبقاً من اجل ان يحاول توظيف نفوذهم في إخماد نيران الرفض الشعبي، فجاء البيان ليؤكد للسلطات "ان هذه الشخصيات لا تمثل سوى نفسها ولا تحمل آلام الشعب وآماله بل تبالغ في التملق والتزلف خوفاً على مصالحها" وتولى البيان ايضاح الموقف الشعبي وأسبابه والمطالب العادلة التي ينادي بها كما أكد على أن القمع والعنف لن يجدي وعلى الحكومة ان تبادر الى الحلول الجذرية عبر:
1 ـ إطلاق سراح المعتقلين خلال الأحداث الذي تجاوز حينها (9 / محرم) الخمسمائة معتقل.
2 ـ الأعتراف بحريات الشعب الدينية في المنطقة على مستوى القضاء، المحاكم، والفكر والثقافة وحركة الكتاب، والمراسم الدينية ومواكب العزاء الحسيني والفعاليات الإسلامية الأخرى.
3 ـ انهاء سياسية التمييز الطائفي المتخذة حيال المذاهب الإسلامية، تلك السياسة "التي من شأنها تمزيق وحدة الشعب وزرع الأحقاد في نفوس أبنائه".
4 ـ الكف عن التعاون المفضوح مع رأس الكفر في العالم أمريكا، ضد الإسلام وقضايا المسلمين ومنها الثورة الإسلامية في إيران، على حد تعبير البيان، مشيراً إلى ان مجيء الكوماندوز الأميركي إلى قاعدة الظهران المريب يفجر نقمة الشعب ويثير غضبه.
وهذا المطلب تبلور فيما بعد ابان ازمة الخليج / 1990، ليحدد موقف الشعب العام بكل قطاعاته ومذاهبه حيال التواجد العسكري الغربي في الجزيرة والخليج كان مهيئاً لطروء تغيرات سياسية واجتماعية كبيرة افرزت بروز المعارضة السلفية السنية التي انبثقت من داخل المؤسسة الدينية الرسمية في البلاد لتشكل تيارات متعددة فاقمت من أزمة النظام الشرعية.
5 ـ ان تضع السلطة حداً للإهمال والتلاعب بمصالح المواطنين، فإن الشعب يعيش وضعاً سيئاً وأزمات متلاحقة بدءً من أزمة السكن والخدمات وانتهاء بالتعليم، فإلى متى تبقى منطقة النفط بهذا الوضع التعيس.
واكد البيان على "إن الشعب اثبت استعداده للتضحية والمقاومة وفتح صدره للرصاص الحاقد، ويمكن للحكومة التعسفية اما تجرب حظها مرة أخرى في قمعه، فكل حادث من هذا النوع سيكون في صالح الشعب يزوده بالتجارب والخبرات". ان مجموع هذه البيانات يعكس بجلاء حجم الوعي وقدر الحنكة التي استندت اليها الإنتفاضة كما يصرح بهوية التحركات، إسلامية، وطنية، تعتبر عن تطلعات الشعب وهمومه وآلامه.
مساهمت هذه المنشورات بتوعية المنتفضين بجوهر حركتهم ورفدهم بالحماس والتمسك بالقيم الجهادية التي تمنح المواجهة قوة دافعة وتحافظ عليها من تسرب الإنحراف والانتكاسة.
المنبر الحسيني قناة استلهام ومركز مقاومة
أدى المنبر الحسيني دوراً هاماً في تأجيج الإنتفاضة والتواصل مع تطوراتها، فمع تصاعد النقمة الشعبية ـ سيما في منتصف أيام عاشوراء أي الخامس من المحرم فما بعد بادر الخطباء إلى توظيف المفهوم الثوري الذي تنطوي عليه ملحمة كربلاء وتفصيلاتها المثيرة المؤطرة بالوعي الإسلامي، والقيام بعملية ربط واستلهام ممتازة أوضحت موقف الجماهير عبر حركة الإمام الحسين(ع) للإصلاح، وطبيعة الخط المنحرف الذي تصدى للقيادات الإسلامية الراشدة وعمد إلى تصفيتها، وهو سناريو يتكرر في كل حقب الظلم والأستبداد، فارتفع مؤشر الرفض الشعبي والحرارة الإيمانية الثورية في مجالس الخطابة والمحاضرات ومواكب العزاء، وزادها نمط الخطاب الثوري الذي رددته المحاضرات الحسينية التي ركزت على المفهوم القرآني للجهاد "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم.." وكانت أحاديث الشهادة وفضل الشهيد ومنزلته في الدنيا حيث يعطى بموته الحياة للأمة، وفي الآخرة، حيث يكون مع البنيين والصديقيين.. بمثابة البدء.في حسينية" "السنان" بالقطيف ما ان انتهت المحاضرة الدينية حتى قام أحد الشباب وهو يرفع صوته بالتكبير، وكان هذا كافياً ليعج المجلس بأصوات التكبير ويخرج الجمهور في مظاهرة صاخبة تردد شعارات الثورة الإسلامية كاشفة قناع الزيف عن السلطة السعودية الظالمة.
وفي حسينية (السنان) ذاتها ليلة السابع من المحرم (25 / نوفمبر)، تحدث الخطيب بألم عمّن وصفهم بالمنافقين الذي طلبوا منه تغيير خطابه واستبداله بالخطاب التقليدي ليتجنب تحريض الناس على الثورة والرفض ثم بدأ محاضرته التي عالجت الأدوار البطولية للعنصر الشبابي في نهضة الحسين(ع) الذي اختتم بشهادتهم في سبيل المبدء، وكان المجلس قد احتشد بالحضور وافترشت الجماهير الشوارع القريبة، حتى وصلت جموعها إلى ساحة الخزان (التي سميت فيما بعد بساحة الشهداء)، وتعرض الحاضرون إلى مضايقات الشرطة التي لم تمنع من انطلاق تظاهرة كبيرة بعد انتهاء المحاضرة الدينية سارت في شوارع القطيف ساعات عدة وهي تهتف بشعارات الثورة حتى انتهت بصدامات عنيفة مع رجال السلطة سقط فيها العديد من الجرحى من الجانبين.
لذلك فقد مارست السلطة مختلف الضغوط على الخطباء لمنعهم عن ارتقاء المنابر اساساً كما حصل ليلة الثامن من محرم (26 / نوفمبر)، حيث اختفى خطيب حسينية (السنان) في القطيف وجاء بديلاً عنه خطيب آخر لا يتبنى الموقف الثوري ليبدأ محاضرة تقليدية جداً اثارت استياء الحاضرين الذين راحوا بدلاً من الأنصات اليه، يتساء لون حول مصير خطيب الثورة هناك، ثم عبروا عن امتعاضهم حين تركوا الحسنية لتنظيم مظاهرة ثورية حاشدة جابت شوارع القطيف مصطدمة بالقمع السلطوي المعتاد.
استمرت اعتقالات الخطباء واختفى بعضهم ليلة التاسع من محرم. وفي مدينة صفوى كان هناك تجمع ديني حاشد حضره ما يقارب الخمسة عشر الف مستمع في احد المساجد حيث قام احد خطباء الثورة يستلهم مفاهيم نهضة الإمام الحسين(ع) ومواقفه ليحلل على ضوئها طبيعة المواجهة المتصاعدة بين الشعب والنظام السعودي متطرقاً إلى فلسفة الموت بمناسبة شهادة بعض المؤمنين في المواجهات مركزاً على أن الإنسان الذي قدر له الموت في هذه الحياة كأمر محتوم عليه اختيار لون الموت التي ينهي حياته وما اعظم من يموت شهيداً دون قيمة وكرامته وكان هذا بمثابة إشارة للإنطلاق. خرج بعدها المجتمون في مظاهرة اعتبرت من اكبر التظاهرات حجماً وثورية، وتميزت بحدة الشعارات وتركيزها على المطالبة بالحريات الدينية والسياسية.
التظاهرات:
بقدر ما شكلت مآتم الثورة الحسينية، وما يجري فيها من مراسم العزاء التأبيني المهيب لشهداء ثورة الحسين (ع) ومواكب العزاء التي تجوب الطرقات الرئيسية رافعة شعارات الثورة تلك، واجباً دينياً مهماً عند المسلمين فقد مثلت مصدر قلق للسلطات الظالمة التي تعاقبت على الحكم في العراق وإيران والجزيرة العربية وسائر الأماكن الأخرى التي تتواجد فيها هذه المراسم، حيث كانت تظاهرة دينية موسمية تغذي روح الثورة وتهيئ مناخات التمرد، وكان النظام السعودي حريصاً على مضايقة تلك الشعائر لتقليص دورها فبينما سمحت بها في حدود معينة بالقطيف راحت تمنعها تماماً او تكاد في مدن مهمة كالمدينة المنورة والدمام والاحساء، وتعتبر خروج التظاهرات الحسينية خرقاً للقانون (السعودي).
برغم ذلك فقد زاد تمسك المؤمنين بهذا النسك الدني لوعيهم بأهميته ولأنهم وجدوا فيه تخليداً لصوت الثوار على مر التأريخ.
في محرم، 1400هـ، (نوفمبر 1979) اتخذت تلك التظاهرات الحسينية طابعاً خاصاً تناغم مع مجمل المناخ السياسي في المنطقة وراحت الشعارات الحسينينة تندد بالظلم السعودي وتطالب باطلاق الحريات، المختلفة التي صادرتها حكومة بني سعود. تحركت جموع المؤمنين في مختلف المدن كمدينة القطيف وصفوى وسيهات لتنتشر بعد ذلك ليلة الثاني من محرم بقوة في كل قرى المنطقة، لتتصاعد ليلة السادس من محرم (25 نوفمبر) فتشمل بلدة العوامية وتتجدد في مدينة سيهات وصفوى، تلك المناطق التي استمرت فيها التظاهرات الحاشدة والساخنة في ليالي 7 و 8 و 9 محرم، لتضاف اليها قرى عديدة نظير تاروت وسنابس ـ على بعد خمسة كيلومترات من مدينة القطيف ـ وكذلك في قرية الأوجام التي لم ينجح بعض الخطباء من إخماد ثورتها بعد أن راح يحاول التضليل عن طريق طرح وعي خاطئ لمفهوم التقية، كما تكررت مظاهرة كبيرة خرج فيها اكثر من (4000) شخص ليلة الثامن من محرم اشترك فيها مجموعة كبيرة من النساء، إلى غير ذلك من التظاهرات الصاخبة التي راحت تعدد كل يوم في مختلف مناطق القطيف وقراها وجزرها مما تطور أحياناً إلى مواجهات عنيفة سنتعرض اليها لاحقاً.
شعارات الإنتفاضة
لكل ثورة ومشروع رفض شعاراته الخاصة التي تكشف عن فلسفته وهويته وحقيقة مطالبه وأهدافه وهكذا كانت أحداث المنطقة الشرقية تتصدرها الشعارات المشرقة التي تظهر ماهية الثورة ومضمونها الأصيل مستلهمة مفردات الخطاب الحسيني التي وظفتها في تحليل ما تتعرض له البلاد من أزمات دعت إلى التمرد والرفض على المستويات السياسية والثقافية والإجتماعية فكان ضمن ما يردده المتظاهرون، وما انتشر على جدران المباني وواجهات الشوارع الرئيسية من فقرات جزئية وصريحة نظير ما يأتي:
ايها الناس افيقوا واسلكوا درب الحسين ~~ حاربوا الطغيان والظلم وكونوا ثائرين
لا نخاف السجن والقتل ولا غلّ اليدين ~~ كلنا ضد امريكا على خط الحسين
ثورتك يا حسين للعالم هداية ~~ والظلم والجور لا بد له نهاية
يابن سعود شيل ايدك ~~ كل الشعب ما يريدك
يسقط السادات يسقط صدام
جاءت هذه الشعارات لترسيخ الإرتباط بين حركة الشعب وحركة الإصلاح التي قام بها الأمام الحسين(ع) فتعلن عن هويتها، كما حرصت على رجم رموز الإستعمار الغربي فهد ـ السادات ـ صدام، جاعلة اياهم في موقع (يزيد بن معاوية) كمثال للقيادة المنحرفة.لا نخاف السجن والقتل ولا غلّ اليدين ~~ كلنا ضد امريكا على خط الحسين
ثورتك يا حسين للعالم هداية ~~ والظلم والجور لا بد له نهاية
يابن سعود شيل ايدك ~~ كل الشعب ما يريدك
يسقط السادات يسقط صدام
ثم تأتي الشعارات الأكثر تحليلاً للموقف:
اقطعوا النفط عن أمريكا ـ فليسقط العملاء
يا أمريكا شيلي ايدك كل الشعب ما يريدك
فترضخ معارضتها الأكيدة للتسلط الأميركي على النفط كسلاح استراتيجي للعرب والمسلمين ادراكاً من "الأنتفاضة" لطبيعة المرحلة التي بدأت تشهد ارهاصات أزمة شديدة في سوق النفط ربما يؤدي ما يعقبها من ارباك الى تدني حاد في مستوى الأسعار يعود بمردوداته السلبية على معركة المصير مع القوى الاستكبارية .يا أمريكا شيلي ايدك كل الشعب ما يريدك
ثم تأتي مجموعة أخرى من الشعارات لتبين الهوية الإسلامية للانتفاضة الخالية عن الطابع الفؤي او الطائفي الضيق مما يحاول بنو سعود تكريسه لاضعاف الصف الإسلامي فجاءت الشعارات لتقول:
لا سنية ولا شيعية.. ثورة ثورة إسلامية
دين النبي وأحد ما فيه تفرقة ~~ انظر الى القرآن شوف الموعظة
الى غير ذلك من المضامين التي انطوت عليها شعارات الثورة ويظل يلاحق الذاكرة شعار آخر كان يعكس مدى ثقة الجماهير بالاسلام وبأنه سيبقى يسجل نجاحاته مهما كلف الأمر:دين النبي وأحد ما فيه تفرقة ~~ انظر الى القرآن شوف الموعظة
ثورة التوحيد تمشي للأمام ~~ ثورة الإسلام تخطو بانتظام
تعليق