إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

امرأتان ورجل بقلم الشهيدة امنة الصدر(بنت الهدى)

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • امرأتان ورجل بقلم الشهيدة امنة الصدر(بنت الهدى)

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الآن وبعد أن انتهى كل شيء حيث تربعت حسنات على عرش السعادة زاعمة لنفسها أنها قد رسمت خطوط المستقبل بشكل منسجم الزوايا والأبعاد.
    الآن وقد انفض الجمع بعد أن حقق لحسنات أمنية العمر وبعد أن صفق لها طويلاً وهي تطوق أصبعها بخاتم خطوبتها لفارس أحلامها الجميل.
    الآن وقد أخلدت حسنات إلى فكرها تنسج منه خيوطاً ذهبية لحياة زوجية سعيدة منتظرة.
    الآن وقد عاد كل إلى بيته وهو يمجد العروس تارة ويمجد خطيبها تارة أخرى.
    الآن وقد حدث هذا وحدث ما هو أقسى من هذا بالنسبة إليّ أعود أنا إلى غرفتي هذه يحطمني السأم ويعذبني الملل ، نعم أعود أنا وحيدة غريبة وهل هناك أقسى من غربة الروح ؟ ومن أجدر مني بالغربة وان كنت بين أهلي

    وأصدقائي ، انهم يتمردون عليّ بدعوى أنني متمردة وهم يبتعدون عني لحجة أنني منحرفة ولكن اليسوا هم المنحرفون ؟ أفلا يسمى انحرافاً هذا التعقيد الذي اختاروه لأنفسهم في الحياة ؟ أليس انحرافاً هذه الأفكار الرجعية العتيقة التي جعلوا منها المحور الذي تدور حولها تحركاتهم في الحياة ؟ نعم أنهم هم المنحرفون حتى حسنات هذه التي تحسب أنها قد اتخذت لنفسها طريقاً صالحاً وتريد أن تجعل من نفسها قديسة حتى حسنات هذه أليست منحرفة وشاذة حينما وافقت على الزواج من انسان لم تره ولم تتعرف عليه من قبل ؟ انسان بعيد لم يكلف نفسه حتى مشقة السفر لحضور العقد وإنما اكتفى أن يوكل أباه بدلاً عنه لماذا ؟ لأنه متدين لأنه يماثلها في الشذوذ وإلا وإذا لم يكن شاذاً فلماذا يترك فتيات أوربا الجميلات ليفتش في الزوايا عن زوجة مثل حسنات وهو لا يعوزه شيء عن التمتع كما يريد بأحلى الحسناوات وأغلاهن فهو شاب جميل. نعم جميل. ومتمكن مادياً فأي شذوذ وتعقيد دفعه أن ينصرف عن حسناوات انكلتره ليفتش عن فتاة مثل حسنات ؟ صحيح أن حسنات جميلة أيضاً وعلى مستوى عال من الثقافة ولكنني أكرهها وما كنت أتصور أنها تحظى بعريس مثل هذا ، ولكنه معقد على كل حال وسوف لا ولن تسعد معه حسنات ...؟
    إلى هنا انتهى حديث رحاب مع نفسها فحاولت أن تشغل نفسها بشيء فأخذت قصة لنجيب محفوظ اسمها ( لاشيء يهم )

    وبدأت تقرأ وهي تحاول أن تصدق مع الكاتب أن لا شيء يهم. فلا الكرامة مهمة ولا الضمير مهم ولا ما بعد الموت مهم ولهذا فقد سهرت مع هذه القصة التي كتبت لها ولمثيلاتها إلى ساعة متأخرة من الليل.


    * * *

    استيقظت رحاب في ساعة متأخرة من الصبح فنهضت من فراشها متثاقلة فسمعت أصوات أمها واخواتها تصلها من الغرفة المجاورة فخرجت اليهم وهي تتكلف الابتسام فطالعها وجه حسنات وهي في غلالة بيضاء وقد شاعت على وجهها اشراقة من الرضا والسعادة الهبت النار في قلبها واججت مشاعر الحسد والغيرة ولكنها تماسكت وحيتهم بشكل طبيعي ثم استدارت نحو حسنات قائلة :
    وانت كيف أنتِ يا عروسة ؟
    فردت حسنات قائلة : بخير والحمد لله يا رحاب وأرجو أن نراك عروسة أيضاً في أقرب وقت...
    وكأن هذه الكلمات قد استفزت رحاب وفجرت لديها بركان الغيرة والحسد فردت قائلة في سخرية :
    لعل هناك رجل من قارة أفريقيا يرسل ليخطبني كما أرسل ليخطبك رجل من قارة أوربا وكأن الرجال قد انعدموا من هنا.

    ويبدو أن حسنات لم تشأ أن تفتح مع أختها حديث الجدل فردت قائلة باقتضاب : أن الله أعرف بالصالح يا اختاه ...
    وهنا ضحكت رحاب بتهكم ثم قالت : أنني أعرف كيف ابني مستقبلي بيدي يا حسنات فأنا لست مثلك ارتبط مع رجل لا أعرف عنه كل شيء...
    وهنا رأت حسنات أن عليها أن تجيب دفاعاً عن الفكرة التي تؤمن بها فقالت : كيف تقولين أنني لا أعرف عنه شيئاً وأنا أعرف عنه كل شيء ويكفي أن يكون انساناً متديناً
    قالت رحاب : وهل أن الدين هو كل شيء يا حسنات أنك ما زلتِ صغيرة وأخشى أن تتعرفي على الواقع بعد فوات الأوان...
    قالت حسنات : أي واقع تقصدين يا رحاب ؟
    قالت : مثلاً أن العروس في مثل هذه الأيام ينبغي لها أن لا تفترق عن خطيبها ساعة لكي تتمكن أن تحول بينه وبين الاتصال بغيرها ، وليس مثلك أنت حيث تجلسين هنا بين جدران أربع ورجلك الذي وهبت له وجودك ينقلب بين أحضان الغانيات...
    قالت حسنات : يؤسفني أن أقول بأنك غلطانة يا أختاه فأنا ما كنت أهب وجودي لرجل يتقلب بين أحضان لغانيات

    إن مصطفى رجل مؤمن مستقيم لا يقلب حتى عينيه في وجوه الغانيات ، وهذا هو ما دفعني إلى قبوله بكل سعادة ورضاء ، فما دمت أعلم أن لديه رادع من نفسه ودينه أكون واثقة منه في قربه وبعده لأن هذه هي الحصانة الوحيدة التي تلازمه في مكة كان أو في باريس.
    وحاولت رحاب أن تجيب ولكن الأم أرادت أن تقطع عليهما طريق الجدل والنقاش فتدخلت بينهما قائلة : كفى كفى فان لديكما الكثير من الأعمال ، ولدينا ضيوف ظهر اليوم.


    * * *

    مرت الأيام ناعمة وسعيدة بالنسبة لحسنات لولا مضايقات رحاب ، وبطيئة وثقيلة بالنسبة لرحاب ، فقد كان مما يغيظها جداً أن تجد حسنات سعيدة وأن تسمع التهاني والتبريكات تنهال عليها دونها ، وبعد أسبوع حيث كانت رحاب عائدة من وظيفتها إلى البيت وجدت ساعي البريد يحاول أن يطرق بابهم وعندما وجدها داخلة سلمها رسالة باسم اختها حسنات ، وكانت الرسالة تحمل طابع المملكة المتحدة الشيء الذي جعلها تعرف أنها من مصطفى فاستلمت الرسالة بيد ترتجف وبشكل لا اختياري اخفتها في حقيبتها ودخلت دون أن تشير إليها ، ثم تعجلت في الذهاب إلى غرفتها بعد الغذاء ، وهناك وبدافع شرير من الغيرة

    إن مصطفى رجل مؤمن مستقيم لا يقلب حتى عينيه في وجوه الغانيات ، وهذا هو ما دفعني إلى قبوله بكل سعادة ورضاء ، فما دمت أعلم أن لديه رادع من نفسه ودينه أكون واثقة منه في قربه وبعده لأن هذه هي الحصانة الوحيدة التي تلازمه في مكة كان أو في باريس.
    وحاولت رحاب أن تجيب ولكن الأم أرادت أن تقطع عليهما طريق الجدل والنقاش فتدخلت بينهما قائلة : كفى كفى فان لديكما الكثير من الأعمال ، ولدينا ضيوف ظهر اليوم.


    * * *

    مرت الأيام ناعمة وسعيدة بالنسبة لحسنات لولا مضايقات رحاب ، وبطيئة وثقيلة بالنسبة لرحاب ، فقد كان مما يغيظها جداً أن تجد حسنات سعيدة وأن تسمع التهاني والتبريكات تنهال عليها دونها ، وبعد أسبوع حيث كانت رحاب عائدة من وظيفتها إلى البيت وجدت ساعي البريد يحاول أن يطرق بابهم وعندما وجدها داخلة سلمها رسالة باسم اختها حسنات ، وكانت الرسالة تحمل طابع المملكة المتحدة الشيء الذي جعلها تعرف أنها من مصطفى فاستلمت الرسالة بيد ترتجف وبشكل لا اختياري اخفتها في حقيبتها ودخلت دون أن تشير إليها ، ثم تعجلت في الذهاب إلى غرفتها بعد الغذاء ، وهناك وبدافع شرير من الغيرة

    إن مصطفى رجل مؤمن مستقيم لا يقلب حتى عينيه في وجوه الغانيات ، وهذا هو ما دفعني إلى قبوله بكل سعادة ورضاء ، فما دمت أعلم أن لديه رادع من نفسه ودينه أكون واثقة منه في قربه وبعده لأن هذه هي الحصانة الوحيدة التي تلازمه في مكة كان أو في باريس.
    وحاولت رحاب أن تجيب ولكن الأم أرادت أن تقطع عليهما طريق الجدل والنقاش فتدخلت بينهما قائلة : كفى كفى فان لديكما الكثير من الأعمال ، ولدينا ضيوف ظهر اليوم.


    * * *

    مرت الأيام ناعمة وسعيدة بالنسبة لحسنات لولا مضايقات رحاب ، وبطيئة وثقيلة بالنسبة لرحاب ، فقد كان مما يغيظها جداً أن تجد حسنات سعيدة وأن تسمع التهاني والتبريكات تنهال عليها دونها ، وبعد أسبوع حيث كانت رحاب عائدة من وظيفتها إلى البيت وجدت ساعي البريد يحاول أن يطرق بابهم وعندما وجدها داخلة سلمها رسالة باسم اختها حسنات ، وكانت الرسالة تحمل طابع المملكة المتحدة الشيء الذي جعلها تعرف أنها من مصطفى فاستلمت الرسالة بيد ترتجف وبشكل لا اختياري اخفتها في حقيبتها ودخلت دون أن تشير إليها ، ثم تعجلت في الذهاب إلى غرفتها بعد الغذاء ، وهناك وبدافع شرير من الغيرة والحسد


    بسم الله الرحمن الرحيم

    عزيزتي حسنات ، يا من اصطفتيك لنفسي على بعد الطريق والمسافات ، ها أنا أكتب اليك لأول مرة وإن كنت قد عشت معك الأيام الماضية بجميع أدوارها ، عشت الأمل فيك ، وعشت الانتظار لك ، وعشت الشوق واللهفة بعد أن طالت فترة تطلعي نحوك يا حسنات ، والآن وقد حقق الله أملي ، حيث وجدت فيك تلك الأمنية الغالية ، وذلك الكنز الثمين ، وجدتني أكتب اليك عسى أن تعوض الكتابة عن بعض مراتب الحرمان من اللقاء ، ثم لكي أحدثك عن نفسي ، التي أصبحت نفسك منذ الآن ، فأنا انسان أحببتك بعمق قبل أن اراك ، لأني عرفت بأنك تحبين ما أحب ، وتؤمنين بما أؤمن ، وأنا انسان أخلصت لك بصدق ، منذ اللحظة التي تمّ فيها ارتباطنا المقدس ، لأن هذا الارتباط لم يكن ليتم لولا

    إخلاصك لدينك ، واقتناعك بي من أجل ذلك ، وأنا انسان أجد في الحياة الزوجية شركة روحية وفكرية متجردة عن المادية وزيفها ولهذا اخترتك أنت دون سواك ، لكي نبني معاً حياة زوجية مثالية ، مفروشة بزهور الايمان ، منارة بأشعة القرآن ، مدعومة بتعاليم الاسلام ، كلها حب ، وكلها وداد ، وكلها اخلاص ووفاء ، فأنا لله أولاً ولك ثانياً بكل وجودي ما دمتِ أنت لله أولاً ولي ثانياً بكل وجودك يا حسنات ، فليبارك الله وحدتنا الروحية ، وليرع حبنا بعين رعايته ، وليسدد خطواتنا للسير على دربه.
    وأخيراً ، فقد كان بودي لو أطيل معك أكثر فأكثر ، لأن حديثي معك طويل وطويل ، ولكنني انتظر منك الجواب لأعرف منه ذوقك بقصر الرسالة وطولها ، فتقبلي تحياتي وحبي واسلمي لايمانك ولي إلى الأبد
    مصطفى

    ملاحظة : ارجو أن تتقبلي صورتي التي تجدينها مع هذه الرسالة مع طلب صورة منك في أسرع وقت.
    أتمت رحاب قراءة الرسالة وهي تشعر المرير من الألم ، وكأن عذوبة كلماتها كانت بالنسبة لها لذعات من نار ، ودفعها حقدها أن تتخذ وبشكل نهائي قرارها بعدم تسليم الرسالة إلى حسنات ، وانقضى يومها ذاك وهي بين الألم والحيرة ، ألمها لوجود الرسالة ، وحيرتها لاختيار الطريقة التي تتخلص بها منها ، فهي لا تفتأ تعيد القراءة بين حين وحين ، وكلما أعادتها تضاعف لديها إحساس الألم ، وتمنت لو كانت هذه الرسالة موجهة اليها دون حسنات ، وفي الليل ، وعندما تقدمت ساعاته وعيناها لم تجد للنوم سبيلاً ، جلست على سريرها لتعيد قراءة الرسالة للمرة العاشرة من جديد ... وحدثت نفسها تقول : الخط جميل ، والصورة أجمل ، والكلمات عذبة ، تحكي عن روح أعذب بكثير ، لشد ما كانت تفرح بها حسنات لو وصلتها ، لا شك أنها كانت تبدو سعيدة بعد استلامها ، وسعادتها لا تريحني أبداً ... وإلى هنا قررت رحاب تمزيق الرسالة لكي لا يمكن لها أن تصل إلى يد حسنات ، وقبل أن تبدأ بالتمزيق خطرت لها فكرة ، فرددت مع نفسها قائلة : كلا أنني لن أمزقها ولكنني سوف أحرقها فان مما يلذ لي أن أتابع النار وهي تلتهم كلماتها الرقيقة

    الدينية ) قالت هذا ثم ذهبت إلى خزانتها تفتش عن شمعة ، فوجدت عدداً من الشموع الملونة الصغار مطوقة بشريط ذهبي كتب عليه : عيد ميلاد سعيد مع تمنياتي لك بالسعادة والايمان ... فضحكت في عصبية ، واستخرجت شمعة منها وهي تقول لطيف أن أحرق رسالة مصطفى إليها بالشموع التي أهدتها هي إليّ ، نعم أن هذه الشمعة الصغيرة النحيلة واحدة من مجموعة الشموع التي أهدتها الي بمناسبة عيد ميلادي الثامن عشر ، وقد بقيت حتى الآن رهينة هذه الخزانة تنتظر أن تكون أداة حرقاً لرسالة مصطفى وبالتالي أداة حرق لراحتها وسعادتها ، وكانت رحاب خلال ذلك توقد الشمعة وتحاول أن تثبتها على حافة المنضدة ثم أخذت الرسالة بيدها لتدنيها من النار ، وهناك خطرت لها فكرة ، فما جدوى أن تحرق هذه الرسالة لأنه سوف يرسل لها رسالة ثانية وثالثة وسوف لن يصدف لها أن تجد ساعي البريد أمام الباب في كل مرة ، إذن فان احراق هذه الرسالة وحده لا يكفي ، ولا يجدي شيئاً ، وفكرت لحظات ، ثم لاحت لها فكرة سرعان ما اقتنعت بصوابها ، فهي سوف تكتب إلى مصطفى بدلاً عن حسنات ، وسوف تحاول بكتابتها أن تحطم في نفسه هذه الثقة بحسنات ، ثم أن عليها أيضاً أن تعطيه عنواناً آخر غير عنوان هذا البيت ، وهذا ليس بالصعب عليها فهي تتمكن أن تعطي عنوان دائرتها ولكن باسم صديقتها هناك ، وفعلاً فقد صممت أن تنفذ هذه الفكرة ، إذن فإن عليها أن تحتفظ

    بالرسالة ، فلعلها سوف تحتاج إلى مراجعتها فيما تكتب ، فجلست لكي تكتب إلى مصطفى قائلة :
    عزيزي مصطفى ،
    استلمت رسالتك مع مزيد الشكر ، فأعجبني فيها أسلوبك المهذب وكلماتك الرقيقة ، وحسناً صنعت باختصار الرسالة لأنني لا حب الاطالة بالكتابة...
    أما ما ذكرت عن أن الكتابة قد تعوض عن اللقاء ، فهو أمر وهمي ، قد يوحيه الانسان الخيالي إلى نفسه من أجل اقناعها ، وإلا فأي جدوى للرسائل ؟ وماذا عساها تغني ؟ ما دمت لا أعرف أين أنت ؟ وكيف أنت ؟ وبأي شكل تعيش ؟ أو مع من تعيش ؟ وأنت في تلك الأرض الزاخرة بجميع ملاذ الحياة ومتعها ، فماذا سوف يتبقى منك لي يا ترى ؟ ثم ألا تجد معي أن حاجتنا لأن نعيش الدين هكذا وبالشكل الذي ذكرته في رسالتك قد انتهت ، فلم تعد هناك متناقضات طبقية أو فئات ظالمة مستغلة ، كما أنه لم تعد

    هناك أيضاً مجموعة ضعيفة مستغلة ، لكن يدعونا ذلك لنفتش بين جانب هذا الظلم عن منفذ ، ونبحث خلال هذه الظلمة عن كوة من نور ، ثم لا نتمكن أن نجد المنفذ لصلابة البناء الغاشم ولا نهتدي إلى النور لحلكة الظلام القاتم فلا يسعنا حيال ذلك إلا أن نوجد لنا ـ مختارين ـ قوة عليا ، هي أعلى من الظلم ، وأقوى من الظلام ، ثم نبدأ نوحي لأنفسنا الأمل بهذه القوة ، وبانتظار حلها لمشاكلنا ورفعها لآلامنا ومحننا ... ان هذا هو السبب الذي طرح على صعيد العالم فكرة الايمان بالله ، وفكرة الدين نتيجة لذلك ، ولهذا أفلا تجد معي أننا لم نعد في حاجة لشيء مما ذكرت بعد أن عرفت البشرية كيف تحقق لها العدالة المتوخاة ؟
    هذا وأنني استمحيك عذراً إذا كنت قد جابهتك بما لا يعجبك من الأفكار ، ولكنني انسانة صريحة واحب أن أتعامل

    مع الآخرين على أساس الصراحة ، ولك مني أخيراً تحياتي وتمنياتي.
    حسنات


    ملاحظة : أرجو إرسال الجواب وكل رسالة أخرى على العنواني الآتي :
    مديرية الري ـ قسم الاحصاء
    الآنسة ميادة ناجي
    بادرت رحاب إلى ابراد الرسالة على العنوان الذي ذكره مصطفى في رسالته ، وقد استشعرت بشيء قليل من تأنيب الضمير لأن رسالتها كانت كفيلة بهدم سعادة أختها ، ولكنها استعادت طاقات الحقد الموجودة لديها وابعدت عنها التفكير بتأنيب الضمير ، وبقيت تنتظر النتائج.

    * * *

    وصلت الرسالة إلى مصطفى ، فاستلمها على لهفة الشوق والحنين ، وأسرع إلى قراءتها بفرحة وسعادة ، ولكنه سرعان ما أحس بالصدمة والخيبة ، ثم بالذهول والحيرة ، وحاول أن يكذب عينيه ، فأعاد القراءة من جديد ، ولكن اعادة القراءة لم تزده إلا يقيناً بما يرى ، انها حسنات ، الفتاة الطيبة المؤمنة


    الطاهرة التي اختارتها له أخته زينب ومدحتها له بشكل جعله يقدم على خطوبتها حتى دون أن يراها ، نعم أنها حسنات ، تلك التي عقد على حياته معها الآمال الكبار ، والأماني العذاب ، فإذا بها تكتب إليه لتقول وبصراحة ، بأنها لا تؤمن حتى بوجود الله !! فما أقسى هذا وأدهاه ؟ ولكن كيف حدث هذا يا ترى ؟ وكيف انخذعت بها زينب على هذا الشكل ، وهي صديقتها المفضلة ، ثم كيف له أن يتصرف حيال هذا الموقف المرير ؟ وحاول مصطفى أن يفكر بموقفه بعد أن تخلص قليلاً من هول الصدمة ، فكان أول ما خطر له أن يرسل إلى زينب رسالة تأنيب ومعها توكيل بالطلاق ، ولكنه عاد فخطر له أن تعجله بالطلاق يعني تهرباً من مسؤوليته تجاهها ، وهي مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلعله الآن قادر على محاولة هدايتها ، وله بعد ذلك وعلى فرض نجاحه أو فشله أن يتصرف تجاهها كما يشاء ، وكان كلما فكر أكثر ترجحت عنده هذه الخطوة فكتب إليها الجواب ، وحرص أن يكون جواباً للشبهة لا أكثر ولا أقل فكان هكذا :



  • #2
    امرأتان ورجل

    بسم الله الرحمن الرحيم


    السلام عليك يا حسنات ورحمة الله وبركاته.
    يؤسفني أن أكون قد أبطأت عنك في الكتابة ولكنني كنت خلال هذه الفترة أحاول أن أتخلص من آثار الصدمة التي صُدمتها بك ، بعد أن استلمت رسالتك الصريحة ( على حد تعبيرك ) وحينما عجزت عن التخلص من الصدمة عدت إلى واجبي الديني تجاهك ، وقد وقفت أمام ما كتبتِ عن عدم الحاجة إلى الدين وقفة الحزين ، أفتراك جادة فيما كتبت ؟ أم أنك كنتِ تهزلين ولا أدري أي وضع مؤسف أملى عليك هذه الأفكار ؟ وبما أنك وكما أرى ضحية من ضحايا الخداع والتضليل فأنني أكتب اليك كما يكتب الأخ لأخته ، مستشعراً بالمسؤولية الدينية والاجتماعية تجاهك ، أما ما ذكرتيه في

    خصوص ارتفاع حاجتنا عن الايمان بالله ، وبالتالي عن الدين ، فاعلمي أن الايمان بالله ـ الذي هو الطريق إلى الدين ـ ليس كما تتوهمين وليد فترة ظلم أو استغلال لأنه وجد قبل أن يوجد الظلم ، وقبل أن يوجد الاختلاف والتباين في الطبقات ، أنه ليس وليد تناقض طبقي كما خيل لك وإلا فأي تناقض طبقي يمكن أن يتصوره الانسان في بداية الخليقة ، حيث كان الغذاء واحد ، والكساء واحد ، وحدود المعرفة واحدة ، والايمان بالله وجد منذ بدء الخليقة ، ومنذ عرف الانسان معنى الوجود ، ولعلك هنا تتساءلين ، كيف يمكن لي أن أدعي هذا وأؤكد عليه ؟ ولكن ألا ترين أن لكل شيء آثاراً وسماتاً ، وآثار الشيء ترسم وجودها على صفحات التاريخ ، والتاريخ يحمل الينا ذلك بوضوح ، وهاك بعض الأمثلة على ذلك ... ففي مصر مثلاً ، كان المصريون من أعرق الأمم التي آمنت بالروح وبالبعث والثواب ، والعقاب ، ولكن على مستوى فهمهم البدائي لكل ذلك ،
    ورمزوا للروح رموزاً عديدة تارة ( كا ) وتارة زهرة وتارة رمزوا إليه بصورة طائر له زي وجه آدمي ، وصور هذه الرموز وآثارها ما زالت واضحة بين الآثار ، وفي صفحات التاريخ ، ثم عبادتهم البدائية لفتاح ، وما كانوا عليه في تلك الفترة من محاولة التقرب إلى المعاني الروحية كما جاء في احدى صلوات فتاح _ الفؤاد واللسان للمعبودات ومنه يبدأ الفهم والمقال ، فلا ينبعث من ذهن ولا لسان فكر أو قول بين الأرباب أو الناس أو الأحياء أو كل ذي وجود إلا وهو من وحي فتاح _ ثم وبعد ذلك ، وحين تولى اخناتون الملك ، وقد كان معروفاً بالتأمل والتفكير ، بدأ يصحح ( وعلى مدى امكانياته وطاقاته الفكرية ) من طبيعة العبادة كما جاء في صلواته التي يحفظها التاريخ قوله _ ما أكثر خلائقك التي نجهلها ، أنت الأله الأحد الذي لا إله غيره ، خلقت الأرض بمشيئتك ، وتفردت فعمرت الكون بالانسان والحيوان والكبار والصغار _ هذا في مصر ، أما في الهند ، فقد اختلف
    المؤرخون المختصون بتدوين تاريخ الهند ، اختلفوا في تحديد العصر الذي تمّ فيه التدين لديهم ، والايمان بفكرة وجود إله معبود ، فمنهم من يرده إلى ألف وخمسمائة سنة قبل الميلاد ، ومنهم من يرده إلى ستة آلاف سنة قبل الميلاد ، كما قال ( ماكس موللر ) الذي يعد حجة في اللغات الأوروبية ، قال : أياً كان العصر الذي تمّ فيه جمع الأناشيد المسطورة في ـ الريفيدا ـ فقبل ذلك العصر كان بين الهنود مؤمنون بالله الأحد الذي لا هو بذكر ولا بأنثى ولا تحده أحوال التشخيص وقيود الطبيعة الانسانية ـ وأيضاً يترجم ( موللر ) نشيد نسّاك الهند الذي تغنى به الهنود قبل الميلاد المسيحي بحوالي خمسة قرون يترجمه فنجد فيه ما يلي ـ لم يكن ثمة نهار ولا ليل ولم يكن إلا ( الأحد ) يتنفس حيث لا أنفاس ولا شيء سواه ـ وكذلك في الصين فقد عبدت لديهم الشمس والقمر والكواكب والرياح وأكبر آله عبدوها هي إله السماء وكان اله السماء بالنسبة لهم هو الأله الذي يصرف
    الأكوان ويدبر الأمور ويرسم لكل انسان مجرى حياته ، وفي فارس كما جاء على لسان زرادشت وهو يسأل هرمز المعبود : ( يا هرمز الرحيم صانع العالم المشهود يا أيها القدس الأقدس أي شيء هو أقوى القوى جميعاً في الملك والملكوت ؟ فيقول هرمز ـ هو اسمي الذي يتجلى في أرواح عليني فهو أقوى القوى في عالم الملكوت ـ كما أنهم كانوا يؤمنون بوجود قنطرة تسمى قنطرة ( شنفادا ) تتوافى إليها أرواح الأبرار والأشرار على السواء بعد خروجها من أجسادها ، فيلقاها هناك ( رشنوه ) ملك العدل و ( ميترا ) رب النور وينصبان لها الميزان ويسألانها عما لديها من الأعذار والشفاعات ثم يفتحان لها باب النعيم أو باب الجحيم ، وفي بابل حيث توجد الحضارة البابلية التي هي أقدم الحضارات تاريخياً ، فان آثار ايمانهم بوجود خالق ما زالت ثابتة عن طريق الآثار ، ومما يذكر منها ( ايا ) اله الماء العذب و ( أنو ) اله السماء و ( مردوخ ) رب الجنود وسيد الحرب ، وفي اليونان حيث الحضارة
    الاغريقية القديمة كان ( اكسبنوفون ) المولود قبل الميلاد بنحو ستة قرون ، أول من نقل إلى الاغريق فكرة الاله الواحد المنزه عن الاشباه ، فكان ينعي على قومه أنهم يعبدون ارباباً على مثال أبناء الفناء... ثم أننا نتمكن أن نستخلص من التاريخ أن الانسان قد آمن بفكرة الاله الواحد قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون...
    هذه يا حسنات نبذ صغيرة ، ولمحات قصيرة ، تدل وبوضوح على أسبقية فكرة الايمان بالله لكل ما ذكرت من أسباب ، وأنني حينما أذكرها لك لا أريد أن أقول أنها وبجميع أدوارها فكر صحيحة متبلورة ، فهي خاضعة كما ترين لمستوى الانحطاط الفكري لكل جيل تمر فيه ، وهو مشوبة كما ترين أيضاً بطبيعة الأفكار المعاشة في ذلك العصر ، ولهذا نجدها في أغلب حالاتها مغايرة للايمان بالوحدانية المطلقة وإن كانت تدل بوضوح على وجود الايمان بالله ، ولكن بشكل يلائم النضوج الفكري المعاش حين ذلك ، أرجو أن لا أكون قد أطلت عليك ولعلك لو قرأت
    كتاب الله للعقاد لازدت معرفة بما ذكرت ، ويقيناً بما كتبت ، والله من وراء القصد ، وأتمنى لك كل خير ...
    مصطفى


    انتهت رحاب من قراءة الرسالة ، وباتت ليلتها تلك مؤرقة تفكر فيما كتب مصطفى ، وتحاول أن تطابق بينه وبين ما تعرف لتجد أي المعرفتين أقوى ، وأيهما تستند إلى قواعد اصلب ، وركائز أعمق ، ولم تتمكن أن تتوصل إلى شيء عن طريق الفكر ، فتوجهت نحو طريق العناد ، نعم العناد الذي سيطر عليها دائماً وأبداً ، فنشطت منذ الصباح إلى الكتابة وقبل أن ترى أختها حسنات ، خشية أن تستشعر شيئاً من العواطف التي تقعد بها عن الكتابة ، سيما أنها كانت تجد حسنات في الفترة الاخيرة طويلة الصمت ، قليلة الضحك ، قد لونت صفاء وجهها مسحة من شحوب ، وكانت تعلم أن ذلك من أجل مصطفى ولسبب عدم تسلمها رسالة منه ، وكانت هي يلذ لها احياناً ، ويؤلمها في فترات قليلة عندما كان تأنيب الضمير يلح عليها بشدة ، ولهذا فقد كتبت الجواب قبل أن تبرح الغرفة وسارعت إلى أبراده نفس اليوم ، وقد كتبت إليه تقول :
    عزيزي مصطفى ، يعز عليّ أن أجدك متألماً لصراحتي وقد
    كنت أنتظر منك كلاماً رقيقاً ناعماً على غرار كلماتك في الرسالة الأولى ، ولكنك اندفعت وراء إثبات أفكارك تاركاً جانباً إثبات عواطفك ، ولعلك وجدتني غير أهل لها فأهملتها ، وعلى أي حال فإن جوابك عن قدم الايمان بالله لطيف ، والأدلة التاريخية واضحة ، ولكنني لا أزال أقول أن الإيمان بالله ليس إلا وسيلة الضعفاء عند شعورهم بالعجز أمام الأقوياء ، ان هذا الضعيف حينما يجد أنه عاجزاً عن صيانة نفسه ودفع الخطر عنها ، يبدأ يفتش عن قوة وهمية ، تحميه وتذود عنه الخطر ، ومن هنا نشأت فكرة الايمان بالله ، وبالتالي فكرة الدين ، هذا ما أعتقده يا مصطفى وحينما كنا لسنا بضعفاء ، أو حينما كنا نتمكن أن ندفع عن أنفسنا الخطر بمختلف أساليب الوقاية والحماية التي هي متوفرة الآن ، لما كنا هكذا ، فلماذا نعود لنرتبط مع مجهول من أجل أن نستمد منه الطاقة التي لم تعد تعوزنا في هذه العصور ، نعم لماذا يا ترى ؟ ليتك
    تجيبني إن استطعت ، هذا ولك من تحياتي وأنا في انتظار الجواب.
    حسنات


    * * *
    بقيت رحاب تنتظر الجواب في لهفة تختلف عن لهفتها السابقة ، فهي الآن تريد أن تسمع الجواب عن سؤالها بعد أن استوعبت الجواب الأول وصدقت فيه ، وكانت قد بدأت تنهش افتضاح أمرها الشيء الذي لم تلتفت إليه من قبل ، فماذا لو عادت أخته من سفرها ؟ وماذا لو كتب لها معاتباً لاختيارها ، وماذا لو استنكرت أخته ذلك ويحثت الموضوع مع حسنات وهي صديقتها المفضلة ، وماذا لو عرف كل شيء ؟ وكانت كلما وصلت في تصوراتها إلى هنا شعرت بالاختناق ، فحاولت أن تبعد عنها هذه التصورات لكي تبقى سائرة في خطواتها إلى آخر الطريق ، ولم تطل بها فترة الانتظار ، فقد استلمت الجواب وتعجلت قراءته في هذه المرة من أجل أن تسمع الجواب عما سألت وقد وجدت فيه ما يلي :

    بسم الله الرحمن الرحيم
    عزيتي حسنات
    ألف سلام والف تحية

    سرني جوابك لما فيه من انسجام ( نسبي ) مع ما كتبت ، أرجو أن تكون هذه بداية الانسجام الفكري الكامل ، ولكنني عجبت لأمرك وأنت تتصورين أن الايمان بالله نتيجة الضعف لدى الانسان ، ولو صح ما تقولين لكان من المفروض أن نجد الانبياء والدعاة إلى الله هم أضعف البشر في كل دور من الأدوار ، مع أننا نجد أن الانبياء الذين دعوا إلى الله ، وإلى الايمان بالله ، كانوا من القوة بمكان ، فهذا نبي الله نوح مثلاً ، استمر يدعو قومه للايمان بالله تسعمائة وخمسين سنة دون أن يتعب أو يمل ، ثم كيف أنه بنى السفينة بنفسه ، وتحمل خلال البناء شتى أساليب التقريح ، والتفنيد ، والتهديد ، والوعيد ، دون أن يتردد أو يتراجع ، ثم وبعد ذلك حينما طغى الماء على أمر قد قدر ركب
    السفينة هو وأهل بيته آمناً مطمئناً لم يرهبه الموج الطامي ، ولم يزعزع عواطفه الابن العاصي ، أوليس في هذا دليل على قوة الارادة وثبات الشخصية يا حسنات ؟ ثم هذا نبي الله إبراهيم ، وموقفه الصامد أمام الاعداء ، ورفضه كل مهادنة ومساومة حتى هددوه بالحرق وهو واقف حيث وضع الله أقدامه لا يريم ، ثم يأتي به يشهد النار التي توقد لاحراقه ، وهم يراجعونه بين حين وحين عساه يضعف أو ينهار دون أن تهن له قوة أو ينهار له بناء ، ثم يرمى به من عل إلى النار دون أن تسمع منه كلمة تظلم أو ترحم فتكون النار عليه برداً وسلماً ، فهل هناك دليل على القوة والصلابة أكثر من هذا ؟ أو هل هناك من يتمكن أن ينسب إلى هذا الانسان الضعيف والخمول يا ترى ؟ ونبي الله موسى عليه السلام ، يدخل على فرعون وهو الطاغية الجبار ، وليس معه سوى أخيه ، وكلمة الحق ، فيدعوه إلى الايمان بالله غير عابىء بكل ما تنتظره من أهوال وأهوال ، أو ليس في هذا دليل على
    القوة والصرامة ؟ ونبي الله عيسى ، وصموده في الدعوة إلى الله ، ونبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) وما لاقاه في سبيل الدعوة إلى الايمان بالله دون أن يتطرق إليه الضعف أو الوهن ، حتى أنه حينما أجمعت قريش على محاربته وطلبت منه أن يترك الدعوة للايمان بالله قال = والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته = وتاريخ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يشرح من بطولاته كل شيء وإذا شئت ، أو أنني أطلب منك أن تقرأي سيرة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فلعلك تجهلين عنه الشيء الكثير لكي تتمكني أن تعرفي بعد ذلك كيف أن الأنبياء كانوا من أقوى الناس جأشاً ، وأكثرهم صلابة ، وأشجعهم روحاً ، ثم ليتك تقرأين كتاب قصة الايمان فإن فيه متعة وفائدة ... هذا واعلمي أنني على استعداد للجواب عن اي سؤال.
    مصطفى

    بينما كانت رحاب تعيش أيام انتظار للجواب ، واعداد

    للرسالة ، وتأنيب ضمير خفي ، تستنكره وتنكر على نفسها الانقياد اليه ، كانت حسنات تطوي ضلوعها على ألم دفين تستنكره وتنكر على نفسها الانقياد إليه أيضاً ، وطالما حدثتها نفسها بالخيبة ، وطالما أوحت إليها تصوراتها أقسى الايحاءات ، فبماذا كانت تتمكن أن تؤول هذا الموقف المنكمش من خطيبها وزوجها الموعود ، ألم يكن من أدنى مستلزمات اللياقة أن يرسل اليها رسالة ولو صغيرة ؟ ألم يكن من التهذيب في شيء أن يرسل اليها صورته بعد أن علم أنها لا تملك له صورة ؟ وكانت هذه التصورات تلح عليها عنيفة بها تارة ورفيقة أخرى وهي بين كل ذلك لا تريد أن تصدق ما تلمسه من واقع فتحاول أن تنتحل لموقفه هذا شتى الاعذار ، وتبرره بمختلف التبريرات ، لعله مشغول ، أو لعله يخجل من الكتابة ، أو لعله يكتب فلا تصل رسائله ، وكان هذا العذر الأخير هو أحب الأعذار إليها فان مما يسعدها أن تتصوره يكتب إليها كما يكتب غيره ، ويهتم بأمرها ويفكر بها كما تهتم بأمره ، وتفكر فيه ، وهي في كل ذلك تنتظر عودة أخته من السفر بعد انتهاء السنة الدراسية لعلها تعرف منها شيئا عن أخيها ، وكانت تحاول أن تصرف نفسها عن التفكير بكثرة المطالعة والكتابة ، وفي مرة ، وكانت تجلس في غرفتها تقرأ ، دخلت عليها رحاب ، فاستغربت قدومها ولم تعودها ذلك من قبل ، ولهذا فقد رحبت بها واستقبلتها بحفاوة ، فجلست رحاب على طرف السرير ، وكان الارتباك يظهر عليها
    بوضوح ، وكأنها لا تعرف ماذا يجب أن تفعل ، فابتدرتها حسنات قائلة : أراك لم تذهبي إلى وظيفتك اليوم يا رحاب أرجو أن لا تكوني مريضة ؟ فهزت رحاب رأسها في حيرة ثم قالت : الواقع أنني كنت أشعر بصداع شديد ولهذا فقد اتصلت بصديقتي هناك وطلبت منها تقديم إجازة بدلاً عني ، ولكنني الآن أشعر بالسأم فهل عندك كتاب أقرأ فيه ؟.
    فاستغربت حسنات من أختها هذا الطلب ، وأختها تعلم أنها لا تملك الكتب التي تعجبها هي ولكنها لم تشأ أن تصدمها في الجواب فقالت : أمامك كتبي فتشي بينها عما يعجبك يا رحاب...
    فنهضت رحاب وأخذت تفتش بين الكتب وحسنات تتطلع اليها لتعرف أي كتاب سوف تختاره ، وفوجئت عندما وجدتها تخار كتاب قصة الايمان ، وكتاب موكب النور في سيرة الرسول ، وكأن رحاب لم تعرف كيف تتصرف أمام أختها وبماذا تفسر لها رغبتها في مطالعة هذه الكتب ، ولهذا فقد أسرعت بالذهاب إلى غرفتها قبل أن تسأل وتجيب ، أما حسنات فقد شعرت بالفرحة ، فما أحلى أن تعود رحاب أختها إلى حضيرة الايمان لقد أسعدها أن تجد أختها الضائعة السادرة في التيه وقد بدأت تفتش عن معالم الطريق ، أسعدها ذلك وأشغلها عن مشاعر الألم لديها إلى فترة . فقد أخذت تتصور رحاب وقد آمنت والتزمت بتعاليم الاسلام ثم يتقدم

    إليها خاطب مؤمن صالح مثل مصطفى ... وهنا وقف بها التفكير عند هذا ... مصطفى وكيف هو مصطفى يا ترى ؟ وعادت افكارها القاتمة تلح عليها من جديد فعادت إلى الكتاب الذي بين يديها تستجمع أفكارها بين سطوره من جديد أيضاً.


    * * *

    اندمجت رحاب مع مطالعة الكتابين ، ولكنها لم تغفل عن الكتابة إلى مصطفى فقد أصبحت تشعر بالحاجة إلى المزيد فكتبت إليه تقول :
    عزيزي مصطفى
    لعلني أبطأت عليك في رسالتي ، ولكن مطالعة الكتابين الذين طلبت مني مطالعتهما قد شغلني إلى حين .. والآن دعني أقول لك بأنك تتحدث بأسلوب لطيف ، ومقنع ( إلى حد ما ) وقد قرأت سيرة الرسول التي أرشدتني اليها ، وعشت معها أياماً حلوة ، وعرفت منها ما لم أكن أعرف عن محمد بن عبدالله ، كما أنني بدأت أقرأ قصة الايمان ، وقد وجدتها تجيبني عن أكثر من سؤال ، كما يراودني ويلح علي ، فقد كنت مثلاً ولا أزال لا
    افهم كيف يمكن لي أن أعبد رباً لم أره ، ولم تدركه الحواس الخمس التي هي مصدر كل ادراك ! أو ليس في هذه العبادة شيء من التقليد القائم على الوهم ؟ يؤسفني أن أزعك بهذه التساؤلات ، ولكنني أصبحت أشعر بالحاجة لردك عليها ، وهذه الحاجة أخذت تسلمني إلى الكثير من القلق ، فلعل في رسائلك أو في قصة الايمان ما يهبني الاستقرار ، هذا وأرجو لك كل خير وأطلب منك العذر.
    حسنات
    * * *


    وصلت رسالة رحاب إلى مصطفى وكان ينتظرها ليحدد موقفه منها على مدى ما تحمله أو تشير إليه من تجاوب ، فلو وجدها سلبية بالمرة لسقط عنه الواجب الشرعي تجاهها لعدم احتمال الفائدة ، ولو وجدها تحمل بعض مراتب التجاوب فسوف يستمر واجبه الشرعي تجاهها كانسانة ضالة ، وليس كزوجة ، فهو لم يعد يفكر بها كزوجة وشريكة حياة مع ما هي عليه من وضع منحرف ضال ، ولكنه عندما وجدها قد اقتنعت بما كتب ، وقرأت ما اقترح ، وها هي تسأله من جديد ، وجد أن عليه أن يكتب فكتب إليها ما يلي :

    بسم الله الرحمن الرحيم

    السلام عليك يا حسنات ورحمة الله وبركاته ...
    الحمد لله الذي جعلني أكتب اليك بروح تفاؤلية جديدة ، فقد استبشرت بما كتبتِ ، وقد رحبت بالسؤال الذي وجهتيه إلي ، فهو دليل على رغبتك بالمعرفة ، ولكن جوابي لك في هذه المرة قصير ، بل أنه ليس بجواب ولكنه سؤال ، ولهذا أرجو أن تجيبني عن هذه النقاط :
    1ـ بماذا يختلف الانسان عن الحيوان في الادراك ما دام يتساوى معه في أفعال الحواس ؟
    2ـ هل تؤمنين بالوجود والعدم ؟
    3ـ هل اتفق لك أن قلت عن شيء أنه محال أو مستحيل ؟
    هذه أسئلة قصيرة أرجو أن تجيبي عنها مشكورة هذا ولك مني أصدق الأماني.
    مصطفى

    استلمت رحاب رسالة مصطفى وهي على لهفة الشوق لمعرفة ما تحمل اليها من جواب ، فوقفت أمام أسئلته حائرة وعز عليها أن لا يتاح لها فهم ما يريد من هذه الأسئلة ، ولهذا فقد لاحظت وجود حسنات في غرفتها فذهبت إليها وهي أكثر ارتباكاً من المرة السابقة لأنها كانت كلما ازدادت وعياً بوجود الله ازدادت إحساساً بتأنيب الضمير والجناية بالنسبة لحسنات ، ولكنها لم تجد طريقاً إلى معرفة أجوبة ما يريده من السؤال إلا بالاستعانة بحسنات ؛ ولهذا فقد ذهبت إليها متجاهلة عوامل الارتباك الموجودة لديها ، فرحبت بها حسنات ، وكانت خلال الفترة الاخيرة قد بدأت تنفتح لرحاب وتتقرب نحوها بعد أن رأتها تهتم بمطالعة الكتب الدينية ، فجلست رحاب وهي في هذه المرة لا تعرف إسماً لكتاب معين ، ولهذا فقد كان عليها أن تطلب من حسنات إرشادها إلى الكتاب المطلوب ، ولم تعرف كيف تبدأ فجلست ساكتة ، فابتدرتها حسنات قائلة : أرجو أن تكوني قد أكملت مطالعة الكتابين يا رحاب ؟ فردت رحاب باقتضاب : نعم. قالت حسنات : وهل أعجبك ما قرأت ياأختاه ؟ فردت رحاب وبنفس الاسلوب المقتضب : نعم. وهنا أحست حسنات أن رحاب تعاني ارتباكاً تريد أن تغطيه بالسكوت ، وأحست أن لديها حاجة ، ولا شك أن حاجتها كتاب فليس لديها مما تحتاجه رحاب سوى الكتب ، ودفعتها العاطفة الأخوية والمسؤولية الدينية إلى مداراة مشاعر رحاب وعدم

    محاسبتها على تقليص الجواب ، ولهذا فقد أردفت تقول بنغمة رقيقة مفعمة بالعواطف : إن جميع كتبي أمامك وأنت مختارة أن تقرأي فيها متى رغبت حتى لو لم أكن موجودة ، والآن ألا تريدين كتاباً يا رحاب ؟ قالت رحاب بصوت متذبذب : نعم أنني أريد ولكنني لا أدري ماذا أريد ! فلم تظهر حسنات أي استغراب ولكنها أجابت بنفس الأسلوب الهادىء الرقيق : كتب تاريخ ؟ كتب علوم ؟ كتب أخلاق ؟ كتب عن الايمان بالله ؟ قولي أي نوع من هذه الكتب تريدين ؟ قالت رحاب : أريد عن الايمان بالله . فحبذت حسنات اختيارها ثم أعطتها كتاب الايمان والعقل ، وكتاب الآخرة والعقل ، من تأليف محمد جواد مغنية ، وأعطتها أيضاً كتاب العلم يدعو إلى الايمان ... فأخذت رحاب الكتب وذهبت إلى غرفتها واستلقت على سريرها تستعيد كلمات حسنات الرقيقة ، وانعطافها نحوها خلال الفترة الأخيرة ، ومساعدتها لها في تنظيم غرفتها وخياطة فستانها ووضع جميع كتبها تحت تصرفها ، ولم يسعها بعد ذلك إلا أن تقول : يا لي من مجرمة ؟ ثم حدثت نفسها قائلة : لماذا لا أترك هذه اللعبة الخطرة ؟ لماذا لا أنسحب عن حياة هذه الفتاة المسكينة ؟ ولكن كلا فلا تسعني العودة قبل أن أبلغ نهاية الشوط ، لأنني أحس بحاجتي لأن أسمع من مصطفى ما يوضح لي هذه الصور الغامضة ، ولو حدث واعترفت بالحقيقة فسوف لن أحمل منه ومن الجميع

    بعد ذلك سوى المزيد من التحقير والتنكيل ... كلا لم يعد يمكنني التراجع...
    وبعد أيام كتبت إلى مصطفى تقول :
    عزيزي مصطفى
    لقد أردت أن أعرف ما تريده من الأسئلة قبل الجواب ، ولهذا فقد حاولت وحاولت وذهبت أفتش عن كتب تبحث في وجود الله عسى أن ترشدني إلى الهدف الذي يستتر وراء كل سؤال ، فأنا لا أريد أن أكون معك كتلميذة صغيرة تملي عليها الأفكار على شكل مفاجأة ، وكلفني ذلك أن أقرأ أكثر من ثلاثة كتب عدى قصة الايمان التي كنت قد انتهيت منها قبل وصول الأسئلة ، ولا أكتمك أنني عندما بدأت أقرأ كانت همتي متوجهة لنقطة واحدة : هي فهم ما تريد قبل أن تقوله أنت ولكن طبيعة الفكرة في الكتب وتناولها لأكثر ما كان يعشعش في ذهني من تساؤلات جعلني اندمج مع القراءة لغاية التفهم والاطلاع ، ولكني ( مع الأسف ) لم أعرف كيف استخلص من
    مجموعها الأجوبة المتوخاة ، ولهذا أجدني مضطرة لأن أسمع جوابها منك بعد أن أعطيك جوابي عنها وهو :
    أولاً : أما بالنسبة للفرق بين الانسان والحيوان ما دام يحمل نفس ادراكات الحواس الخمس فهو العقل. إذ أن الانسان قادر على التفكير المجرد على العكس من الحيوان.
    ثانياً : أما عن الوجود والعدم فهو أمر لا خلاف فيه فإن كل عقل يدرك بأن هناك وجود وهناك عدم.
    ثالثاً : وأما عن المحال والمستحيل فهو أمر واضح وكثير الوضوح في أغلب الحالات إذ يستحيل علينا مثلاً أن ندخل الجمل في سم الخياط.
    هذه أجوبة ما سئلت فما هو جوابك بعدها يا ترى ؟
    اتمنى لك كل الخير واستميحك العذر.
    حسنات

    تعليق


    • #3
      امرأتان ورجل

      وصلت رسالة رحاب إلى مصطفى فأخذها بين يديه ثم خطر له أن يمزق الرسالة قبل أن يقرأ ما فيها. أفحقاً أن هذه هي شريكة حياته التي طالما نسج لها أحلامه ذهبية فضية ؟ أية محنة مريرة دفعته إليها زينب ؟ كيف يمكن له أن يعيش مع انسانة تشكك باقدس المثل والمفاهيم ؟ ولكنه عاد فتراجع عن قراره قائلاً : كلا أن عليّ أن أمضي في طريقي حتى النهاية ، سيما وقد بدأت أجني ثمار موقفي ... ثم فتح الرسالة وقرأها بامعان وهو يفتش بين كلماتها عن طبيعة الانسان التي كتبتها فوجد خلالها لمحات تبشر بالخير ، فحمد الله وردد قائلاً : أرجو أن لا يكون الشوط طويلاً . ثم كتب يجيبها قائلاً :
      عزيزتي حسنات
      ألف سلام وألف تحية
      وصلتني رسالتك وأسعدني أن تكوني قد قرأتِ مهما كانت غايتك في القراءة فالمهم هي الفائدة التي حصلت عليها نتيجة ما وجدتيه بين صفحات الكتب ، ومن هذا ترين كم هي كبيرة وثمينة هذه الكنوز التي كانت ولا تزال قريبة منك دون أن تستشعري أنت ذلك القرب ، وبودي لو أعلم من أين حصلت على هذه الكتب ؟


      اما عن الأسئلة الثلاث فأنت حينما اعترفتِ أن الحواس الخمس هي ليست كل شيء في طريق الادراك وإلا لتساوى الانسان والحيوان في مدى ذلك الادراك ، من هذا نعلم أن الحواس ما هي إلا وسيلة من وسائل تسهيل الادراك الذي يجرده العقل فيتوصل منه إلى الحقيقة ولهذا نجد أن هناك حقائق لا جدل في وجودها ولا نقاش ، مع عدم ادراكها بالحواس ، ومثال ذلك هو ما تؤمنين به من الوجود والعدم ، فمتى رأيت العدم بعينيك يا ترى ؟ أم متى تذوقتيه بلسانك أو لمستيه بيدك أو شممت له رائحة ؟ أو سمعت له صوتاً هل حدث هذا لك أو لسواك ؟ أو هل من الممكن أن يحدث ؟ أنه محال ، لأن المعدوم لا يحس ولا يرى ولا يسمع ولا يشم ولا يتذوق ، ومع هذا فانت وأنا وكل ذو عقل يؤمن بالوجود والعدم فكيف يحدث هذا ؟ والمستحيل عندما نقول أن رؤية العدم مستحيلة كيف عرفنا هذه الاستحالة وعن أي طريق ؟ أترانا عرفناها عن طريق الحواس ؟ هل رأيناها أو لمسناها
      أو شممناها أو تذوقناها ؟ طبعاً لم يحدث شيء من هذا ومع ذلك فنحن نؤمن أن هناك شيء محال ونتمكن أن نحدد ذلك الشيء كما أعطيتِ أنت لذلك مثلاً وهو إدخال الجمل في سم الخياط ... فكيف حدث هذا وهل للحواس الخمس دخل في ذلك ؟ بطبيعة الحال يكون الجواب كلا إذ لا تتمكن الحواس الخمس أن تحس بغير الموجود ومع هذا فنحن نؤمن بوجود المحال نتيجة للتجريد الفكري الذي يتميز به الانسان عن الحيوان ... وهناك حقيقة أخرى لم نتوصل إليها عن طريق الحواس ايضاً ، فالماء سائل ، هذا شيء لا جدال فيه... والحقيقة التي لم نتوصل إليها عن طريق الحواس هي أن الماء يحتوي على ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأوكسجين هذه هي الحقيقة التي أثبتها العلم بالاستدلال المنطقي فقط دون أن تتحسسها الحواس... ثم اسمعي معي البرفسور أ.ي. ماندير وهو يقول في كتابه : ( أن الحقائق التي نتعرفها مباشرة تسمى الحقائق المحسوسة بيد أن الحقائق

      التي توصلنا إلى معرفتها لا تختص في الحقائق المحسوسة فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة ولكننا عثرنا عليها على كل حال ووسيلتنا في هذا السبيل هي الاستنباط فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه ( بالحقائق المستنبطة ) والأهم هنا أن نفهم أنه لا فرق بين الحقيقتين وإنما الفرق هو في التسمية من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة وعلى الثانية بالواسطة. والحقيقة دائماً هي الحقيقة سواء عرفناها بالملاحظة أو بالاستنباط ) ثم يقول البروفسور ماندير أيضاً ( إن حقائق الكون لا تدرك الحواس منها غير القليل فكيف يمكن أن نعرف شيئاً عن الكثير الآخر ؟ هناك وسيلة وهي الاستنباط أو التعليل وكلاهما طريق فكري نبتدي به بواسطة حقائق ، معلومة حتى ننتهي بنظرية أن الشيء الفلاني يوجد هنا ولم نشاهده مطلقاً هذا بالاضافة إلى قانون الجاذبية الذي لعلك تعرفين أنه لا ولن يشاهد بالحواس كما جاء في خطاب أرسله نيوتن مكتشف

      قانون الجاذبية إلى بنتلي فيقول : ( أنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس وهي تؤثر على مادة أخرى مع أنه لا توجد أية علاقة بينهما ).
      فعن هذا الطريق يا حسنات طريق التجريد الفكري والدليل العقلي والنقلي نؤمن بوجود الخالق وبالتالي بوجود دين يجب أن ندين فيه.
      لعلني قد أطلت عليك فيما كتبت ولكنني أتوخى صالحك في ذلك وأنا على استعداد للمزيد لو أردت.
      مصطفى
      * * *

      ضاعفت حسنات من إظهار عواطفها واهتمامها بأختها وأخذت تتقرب إليها وتتحبب وكلها أمل بعودة أختها إلى الايمان ، ولكنها كانت تلاحظ أن رحاب لا تتمكن أن تكون معها طبيعية أبداً ، وطالما حاولت أن تحنو عليها وتفتح لها قلبها مخمنة أن هذه الردود السلبية هي نتيجة رواسب ماضيها ولكنها كانت تجد أن رحاب تزداد حيرة وقلقاً كلما زادتها هي
      حباً وحدباً ، أما رحاب فقد أخذت تتفاعل مع مشاعر الندم وتأنيب الضمير ، وقد تغلب جانب الندم لديها على جانب الخوف من افتضاح أمرها ولولا خشيتها أن تخسر مصطفى فتخسر معه تعاليمه التي أصبحت في حاجة ماسة إليها ، لولا هذا لكتبت اليه تعترف أمامه بالحقيقة ، ثم لاعترفت بجريمتها أمام حسنات طالبة منها العفو والغفران ، ولكنها كانت لا تستشعر الضعف عن الانقطاع عما يكتب إليها مصطفى ، والضعف عن مواجهة أختها بالاعتراف ولهذا فقد قررت الاستمرار بمراسلة مصطفى فكتبت إليه قائلة :
      عزيزي مصطفى
      هل تعلم كم أنا شاكرة لك وخجلة منك ؟ لأنني قد استفدت منك بقدر ما أسئت اليك ! ولولا أنني أضمن أنك رجل نبيل لما كنت أغفر لنفسي أساءتي إليك أبداً .. رائع ما كتبت ومقنع ما وضحت ولكنني ما زلت أريد أن أسأل إن سمحت لي بالجواب ، فنحن ما دمنا قد صدقنا بوجود ما لا شك في وجوده دون أن ندركه بالحواس الخمس وإنما نتوصل إليه عن طريق الحقائق المستنبطة من الأدلة والبراهين ؟ فما هي طريقة الاستدلال على

      وجود الخالق ؟ هذا وأنني لن أنسى فضلك عليّ ما حييت.
      حسنات

      إلى هنا أنهت رحاب رسالتها ولكن خطرت لها فكرة ، أن مصطفى كان قد طلب من حسنات صورة في رسالته الأولى ولم يعد إلى طلبه ثانية بعد أن زهد بها نتيجة استلامه للرسائل المزورة التي وصلت منها إليه ، ولكن أليس أن عليها أن تعمل شيئاً من أجل أختها المسكينة البريئة ؟ أنها تتمكن أن لا ترسل الصورة ولكنها في ذلك سوف تسيء إساءة جديدة إلى حسنات ، أنه سوف يشك بجمالها كما جعلته يشك بدينها ، فهي إذن جريمة جديدة وحسنات جميلة وجميلة جداً ، أنها جميلة كملاك فماذا عساها أن تصنع دون أن تجعله يشك بجمالها ؟ لو كانت قد أرسلت إليه صورة في البداية لأرسلت صورتها هي بدلاً عن حسنات تمشياً مع موقفها العدائي ذاك ولكنها الآن تختلف عما كانت عليه ، صحيح أنها جميلة أيضاً ولكنها لا تريد أن تتردى بخيانة جديدة ، كلا ان هذا ما لا يكون من جديد ، ولهذا فان عليها أن تحصل على صورة حسنات وترسلها له ، وهي ليس لديها صورة واضحة لها ولهذا فان عليها أن تطلب منها صورة...
      وعند الظهر حيث كانت حسنات في غرفتها ذهبت إليها
      رحاب وحاولت أن تبدو طبيعية وتمكنت من ذلك بعض الشيء فرحبت بها حسنات وأظهرت لها فرحتها بها فقالت رحاب : أن لي إليك حاجة يا حسنات !
      فاستبشرت حسنات أن تطلب رحاب منها حاجة وقالت بلهفة واندفاع : أن أي حاجة لك مقضية يا أختاه قولي ماذا تريدين ؟
      قالت رحاب وقد اصطبغ وجهها بحمرة الخجل : أريد صورة منك يا حسنات ، صورة من أجمل صورك يا عزيزتي.
      فاستغربت حسنات هذا الطلب ولكنها لم تشأ أن تخدش مشاعر أختها فقالت سوف أعطيك البوم الصور واختاري منها ما تشائين ، قالت هذا ثم تناولت البوم الصور من فوق المكتبة وقدمته إلى رحاب ، فتناولته رحاب بيد ترتجف وأخذت تصفحه وهي لا تكاد تعي ما فيه لشديد اضطرابها ، ثم اختارت صورة كانت أوضح الصور وأبرزها ثم أعادت الألبوم إلى حسنات مع الشكر وذهبت إلى غرفتها وكأنها تهرب من خطر عظيم ، ووضعت الصورة داخل الرسالة ولم تكتب خلفها إهداءاً لكي لا تلوث صفاء الصورة بكلماتها الدخيلة ، ثم أبردت الرسالة عصر ذلك اليوم.

      * * *

      أما حسنات فقد كانت الأسابيع والأشهر التي تمر
      تضاعف من آلامها وتزيد من احساسها بالضيعة ، ولكنها في كل ذلك هادئة المظهر ، وقورة المشاعر ، تملي على نفسها الثقة بالمستقبل والاطمئنان إلى حسن اختيارها وكان مما يفرحها أن تجد رحاب منكبة على مطالعة الكتب الدينية ، وقد لاحظتها في يوم وهي تصلي في غرفتها فدخلت عليها وقبلتها فرحة ثم قالت : هل تعلمين كم أنا فرحة بك ولك يا رحاب ؟ ها أنا أجدك أختاً حبيبة لي من جديد فهل تجدينني كذلك يا أختاه ؟ أنني أحبك جداً جداً يا رحاب ، يا الله ما أروعك وأحلاك في هذه الأبراد ؟ لكأنك حورية ، أنك جميلة وجميلة جداً ، ولم تتمكن رحاب أن تجيب فقد شعرت أن روحها تفور مع كل كلمة فاهت بها حسنات ، ولهذا فقد تهاوت إلى الأرض بعد خروج حسنات واندفعت تبكي في حشرجة مكتومة وهي تقول : الويل ما كان أقساني على هذا الملاك الطيب الوديع.

      * * *

      مرت الأيام بطيئة وثقيلة بالنسبة إلى رحاب وحسنات ثم استلمت رحاب جواب من مصطفى فقرأت فيه ما يلي :

      بسم الله الرحمن الرحيم

      عزيزتي حسنات
      سلام الله عليك ورحمة الله وبركاته

      أرجو أن تكوني بخير وعافية وأن يرشدك الله لما فيه صلاح دينك ودنياك وبعد ،
      لطيف منك أن تطلبي الدليل بعد الدليل فان هذا يبشر بالخير والحمد لله ، واليك بعض الأدلة على وجود الخالق كما طلبت :
      أولاً : لقد اكتشف العلم = القانون الثاني للحرارة الديناميكية = وهذا القانون الذي يسمى حالياً = بقانون الطاقة المتاحة = يثبت لنا وجود الايمان بخلق الكون وعدم كونه أزلياً فهو يقول أن الحرارة الموجودة في الكون تنتقل من ( وجود حراري ) إلى ( عدم حراري ) أي أنها تنتقل من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة حتى يتساوى الجسمان في الحرارة ونحن نلاحظ أن مصادر الطاقة والحرارة من الكون تنبعث منها الحرارة باستمرار في أرجاء هذا الكون الرحيب ، ولكن على الرغم من ذلك لم تتساو حتى الآن الحرارة في كل جسم هذا الكون الكبير وهذا دليل علمي على أن مصادر الطاقة في الكون حادثة وليست أزلية لأنها

      لو كانت أزلية وكانت عملية الانتقال تجري منذ ملايين السنين ومنذ الأزل لوصلت إلى حالة التساوي قبل الآن ... ونتيجة لهذا الاكتشاف يقول الاستاذ ( أدوارد لوثر كيسل ) وهو عالم أميركي من علماء الحيوان يقول = وهكذا أثبتت البحوث العلمية دون قصد أن لهذا الكون بداية فأثبتت تلقائياً وجود الاله لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدىء بذاته ولا بد أن يحتاج إلى المحرك الأول الخالق الاله = ويقول ( السير جيمس ) في هذا المضمار أيضاً = تؤمن العلوم الحديثة بأن عملية تغير الحرارة سوف تستمر حتى تنتهي طاقاتها كلياً ولم تصل هذه العملية حتى الآن إلى آخر درجاتها لأنه لو حدث شيء مثل هذا لما كنا الآن موجودين على ظهر الأرض حتى نفكر فيها . ان هذه العملية تتقدم بسرعة مع الزمن ومن ثم لا بد لها من بداية ولا بد أنه قد حدثت عملية في الكون يمكن أن نسميها خلقاً في وقت ما حيث لا يمكن أن يكون هذا الكون أزلياً = ثم أن هناك أدلة علمية

      كثيرة يا حسنات تدعونا للأيمان بوجود خالق للكون وتجعلنا نتعرف على الخالق من خلال معرفة الكون وما فيه ، والمجال هنا لا يتسع لسردها وإنما ذكرت لك واحداً منها وهاك مثالاً ثانياً وأرجو أن لا أطيل عليك به وهو الشواهد الطبيعية التي اكتشفها العلم والتي تثبت أن الكون لم يكن موجوداً من الأزل وأن له عمراً محدوداً فان علم الفلك يقرر أن الكون يتسع بالتسلسل الدائم ، وان مجاميع النجوم والأجرام والأجسام الفلكية تتباعد بسرعة مدهشة بعضها عن بعض ، وهذا يعني أن هذه الأجزاء التي تتباعد عن بعضها كانت في وقت ما كتلة واحد مجتمعة مع بعضها ثم بدأت الحرارة والحركة ونتيجة هذا الكشف العلمي هو الايمان أن للكون عمراً محدوداً وأنه في حركة مستمرة تنتهي به إلى الدمار يوماً ما ... ونعود لنقول أن كل ما له نهاية لا بد أن يكون له بداية وإلا وعلى فرض أزلية الكون لكانت النهاية قبل أن تكون بما لا يتصور.
      والآن ، أرجو أن لا أكون قد أتعبتك وبالمناسبة أطلب منك قراءة كتاب الله يتجلى في عصر العلم وكتاب رحلتي من الشك إلى الايمان . وإلى المزيد من خطوات التكامل.
      مصطفى
      * * *

      تسلمت رحاب رسالة مصطفى وذهبت بعد قراءتها إلى غرفة حسنات حيث أخذت من بين كتبها الكتب الثلاث مع أنها لم تكن موجودة وانهمكت في مطالعتها بجد واستيعاب وقدمت إجازة مرضية لمدة اسبوع تفرغت خلالها لسبر الكتب الثلاث وأحست بعد الفراغ منها أنها أصبحت تؤمن بالله إيماناً مركزاً لا شك فيه ولا مراء ولكنها كانت لا تزال بحاجة إلى مزيد من المعرفة وكانت هناك أسئلة كثيرة ما زالت تعشعش في فكرها فجلست تكتب إلى مصطفى لتقول :
      عزيزي مصطفى
      كيف تقول أنك قد أتعبتني فيما كتبت مع أنك بدأت تكشف عن عيني غشاوة طالما حالت بيني وبين معرفة الطريق ،

      وأسلمتني إلى التيه والضلال ، وها أنا ذي أطلب منك المزيد بعد أن قرأت الكتب التي ذكرتها وشعرت بالكثير من الراحة النفسية ، فهل تراك على استعداد لأن تكتب إلي من جديد وأن تذكر لي مزيداً من الحقائق التي ذكرتها سابقاً ؟ ثم أرجو أن تعلم بأنني بدأت أولد من جديد وأن حاجتي إلى مزيد من المعرفة حاجة الطفل الرضيع إلى الحليب ، ولعل في هذا ما يدفعك أو يشجعك على تحمل ما أكلفك به من جهد لم أكن لأستحقه منك ولكنني أرجوك أن لا تخذلني وأنا في أمس الحاجة إليك ـ أقصد إلى علمك ودرايتك ـ
      حسنات
      * * *

      وصلت رسالة رحاب إلى مصطفى فقرأها بامعان ثم بادر إلى الكتابة لها لأنه كان على أبواب الامتحان فكتب يقول :

      بسم الله الرحمن الرحيم

      عزيزتي حسنات
      السلام عليك ورحمة الله وبركاته
      أكتب اليك متمنياً لك السعادة الكاملة في الدارين وقد ارتحت لرسالتك الأخيرة لما كانت تعبر به عن اجتيازك لمرحلة العبور ورحلتك الموفقة من الشك إلى اليقين ، فهنيئاً لك هذا الميلاد الجديد الذي أرجو أن يكون ميلاداً سعيداً وكل عام وأنتِ ومن معك بخير ، ولا تحسبي أنني متبرم بشيء مما تريدين بل على العكس من ذلك تماماً. فإن مما يسعدني أن يكون الله عز وجل قد اختارني لأقف إلى جوارك في محنتك بدينك وإيمانك فأكون سبباً لكشف الحقائق أمامك ، هذه الحقائق التي طمست معالمها الأفكار الهدامة فكنتِ أنت ضحية من ضحاياها وها أنت وقد استجبت لصوت الحق الذي يناديك ليأخذ بيدك من الظلمات إلى النور ولهذا فأنا راض ومقتنع بضرورة الكتابة اليك أكثر فأكثر وإن كنت أجد في الكتب التي ذكرتها لك رصيداً يغنيك عن كل سؤال ، أما وأنك ما زلت تريدين المزيد فهاك منه بعضاً وهذا البعض له ارتباط
      بأجسامنا ، فهل سبق لك أن وقفتِ حائرة أمام النظام المعقد لأسلاك الهاتف ، وكيف أن مكالمة تنتقل عبر الأسلاك من مصر إلى لندن أو من العراق إلى واشنطن ؟ لا شك أنه أمر معقد جداً يبعث لمتأمله الحيرة ويدفعه إلى الاعجاب بالمصممين البارعين لهذا النظام ، ولكن لماذا لا يقف الانسان قليلاً أمام نظام أوسع من هذا النظام وأشد تعقيداً ، ألا وهو نظامنا العصبي ! ان ملايين الأخبار تجري على أسلاك نظامنا العصبي من جانب إلى آخر ، لا تتوقف ليلاً ولا نهاراً ، تقوم بمهمتها في توجيه القلب والتحكم في حركات الأعضاء ، وحينما كان لا بد لكل نظام من مركز فان مركز هذا النظام للمواصلات هو مخ الانسان وفيه يوجد ألف مليون خلية عصبية ، ومن هذه الخلايا تخرج أسلاك تنتشر في سائر جسم الانسان وهي ما يسمى بالأنسجة العصبية... وفيها في هذه الأنسجة يوجد نظام استقبال ، ونظام إرسال ، وبواسطتها نسمع ، ونتذوق ، ونرى ، ونقوم بشتى

      أعمالنا ... هذا المخ هل تأملتِ كم يضم بين جوانبه من أسماء ، وأرقام ، وتصورات لأحداث طويلة ، وقصيرة ، وصور لوجوه لا تعد ولا تحصى ، يعرف بعضها ويجهل البعض الآخر ؟ فكيف وأين تختفي كل هذه الاسماء والارقام والأحداث والصور وحجم المخ كما تعلمين صغير ؟ أفتراها الطبيعة الغير ذات الشعور هي التي نظمت للمخ هذا النظام وجعلته مركزاً لانطلاق الأفكار والأعمال في جسم الانسان ؟ هل تعقلين هذا يا حسنات ؟ أو هل هناك عاقل يؤمن به حقاً دون رغبة منه في عناد أو مراء ؟ ثم هل تعلمين أن هناك الكثير من الآلات والمكائن هي في الواقع تقليد لما خلقه الله عز وجل فعدسة الكاميرا مثلاً ، هي كالشبكة الخارجية للعين ، والحجاب الحاجز هو يقوم مقام قزحية العين ، والفلم الذي يتأثر بالضوء في جهاز الكاميرا ما هو إلا تقليد شاشة العين ، التي توجد فيها خطوط وأشكال مخروطية ترى الأشكال وهي معكوسة ولكن ليس هناك من يجرؤ على القول أن

      الكاميرا صنعت نفسها بنفسها ، وإن وجد يجرأ من يقول أن العين خلقت بدون خالق وان الصدفة وحدها هي التي نظمتها على هذا الشكل !! ثم هل تعلمين أن جامعة من جامعات موسكو قد ابتكرت آلة لقياس الذبذبات تحت الصوتية ومهمتها التقاط أخبار الفيضان والزلزال قبل حدوثها بساعات ، وقد استوحى العلماء فكرة هذه الآلة من سمكة قنديل البحر التي تسمى ( هلامي ) إذ أنها تستشعر بحدوث الفيضان والزلزال قبل حدوثها بساعات ، فقلد المهندسون أعضاءها التي هي من الحساسية بشكل يجعلها تتحسس حتى الذبذبات تحت الصوتية ؟ هذه أمثلة قصيرة ولك أن تراجعي كتاب مع الله في السماء وكتاب الطب محراب الايمان ، وكتاب طبائع الأحياء لتتعرفي على شيء مما خلق الله عز وجل ولك مني أصدق التمنيات والتحيات.
      مصطفى

      وصلت رسالة مصطفى إلى رحاب أسرع مما كانت تنتظر لأنه تعجل جوابها قبل بداية الامتحان ، فاستعارت من حسنات الكتب التي ذكرها فزادها ما قرأت إيماناً واطمئناناً ولكنها كانت لا تزال تحس أن هناك سؤالاً يلح عليها بين حين وحين ، فصممت أن تلقيه عليه كآخر سؤال فقد صممت أن تكشف له بعد ذلك الحقيقة وأن يكون اعترافها قبل نهاية السنة الدراسية وقبل عودته إلى الوطن ، ولهذا فقد بادرت إلى الكتابة فكتبت إليه تقول :

      بسم الله الرحمن الرحيم

      عزيزي مصطفى
      ألف سلام وألف تحية راجية من الله عز وجل أن يحرسك بعينه التي لا تنام ويجعلك منار هدى وهداية....
      لا شك أنك مشغول بالاستعداد للامتحان ولهذا فأنا استميحك العذر إذا الححت عليك بالأسئلة ولكنها قضية حياتية بالنسبة إليّ وأنت الذي بعثت الحياة في وجودي فمن حقي أن أستمد منك مقوماتها... وسؤالي اليوم هو أننا ما دمنا قد سلمنا
      وآمنا أن الله تبارك وتعالى هو خالق هذا الكون فمن خلق الله يا ترى ؟
      حسنات


      أبردت رحاب رسالتها إلى مصطفى وعادت إلى البيت فلم تجد حسنات فسألت عنها أمها فقالت أنها في غرفتها لم تبرحها منذ الظهر فخمنت رحاب أن حسنات غير مرتاحة نفسياً فعزّ عليها ذلك وذهبت تحوم حول غرفتها وهي مترددة بين الدخول وعدمه حتى صممت أن تدخل عليها مهما كلف الأمر فطرقت الباب بهدوء وأحست أنه مغلق من الداخل فنادت بهدوء أيضاً : حسنات ، حسنات . ففتحت حسنات الباب وهي تتصنع الابتسام. ولكن رحاب لاحظت آثار الدموع في عينيها فشعرت بطعنة دامية في فؤادها وهي تعرف أنها هي السبب في ذلك ، وكادت أن تنهار فتعترف لها بالحقيقة ، ولكنها جبنت فأوحت إلى نفسها أن حاجتها لمصطفى لم تنته بعد وأنها سوف تعترف بعد اقتناعها الكامل ، ولهذا فقد دخلت وجلست إلى جوارها ، ثم أخذت بيدها برفق وحنو بالعين وقالت : ما لي أراك حزينة يا حسنات ومن حقك أن تكوني أسعد الناس...
      فسكتت حسنات ولم تجب ولكنها ارتاحت لحنو اختها وانعطافها نحوها وقد بدا ذلك عليها أيضاً إذ وضعت رأسها

      على كتف رحاب وكأنها تريد أن تستند إليه ليحمل عنها ثقل الألم...
      فعادت رحاب تقول وهي تبذل طاقة كبيرة في كبح جماح قلقها ، قالت : لا تحسبي أن هناك ما يستحق أن يقلقك يا حسنات فان الخير كل الخير هو الذي ينتظرك يا أختاه...
      وهنا تنهدت حسنات ورفعت وجهها نحو أختها لتقول : كيف تقولين هذا يا رحاب ؟ ألا ترين أنني ومنذ سبعة أشهر مرتبطة شرعاً وعرفاً مع رجل لم أسمع منه كلمة ، ولم أعرف عنه خبراً ؟ الشيء الذي جعلني أتأكد أنه لم يكن راغباً بي وأنني فرضت عليه فرضاً ، ولم يبق على عودته إلا أسابيع فماذا سوف يحدث بعد أن يعود يا ترى ؟ أنني لا أريد أن أشكوه ولكنني أتألم وأفكر بمستقبل حياتي مع زوج حملت عليه تحميلاً...
      كانت حسنات تتكلم وكل كلمة منها بمثابة شفرات حادة تقطع نياط قلب رحاب ، ولكنها تماسكت ورأت أن عليها أن تعمل شيئاً من أجل هذه الأخت المسكينة فقالت بنغمة حاولت أن تكون مشرقة : كلا ، كلا يا حسنات أنك غلطانة في طبيعة تفكيرك عن الموقف فان هذا الرجل الذي ارتبطت به شرعاً وعرفاً هو من أحسن الناس وأنبلهم وأليقهم بك يا عزيزتي...
      قالت حسنات : أنني لا أنكر ذلك ولكن يبدو أنه لم يكن مقتنعاً باختياره لي...
      قالت رحاب : أنه مقتنع تمام الاقتناع وليس لعدم اقتناعه أي دخل فيما تجدين كوني واثقة من هذا يا أختاه...
      فتطلعت حسنات نحو اختها وسألتها بتعجب : من أين لك هذه الثقة يا رحاب ؟
      فاحتارت رحاب بماذا تجيب ولكنها أجابت قائلة بإصرار : أنني أعرف وتأكدي مما اقول...
      قالت : ومن أين عرفت ؟
      وكادت رحاب أن تنهار فماذا عساها أن تقول ؟ من أين عرفت ؟ نعم من أين ؟ يا لدناءة الطريق الذي عرفت منه ذلك ، ولكنها تماسكت وقالت : يكفيك أن تعلمي بأنني متأكدة مما أقول وسوف أشرح لك ما أعرف بعد أيام قليلة أو أسابيع المهم أن تستعيدي ثقتك بزوجك المنتظر وتعودي إلى اشراقتك الباسمة للحياة ، أرجوك يا حسنات ... قالت هذا ونهضت لتطبع على جبين أختها قبلة أودعتها الكثير من الحب والحنان ، ثم قالت : أتعاهديني أن تعودي طبيعية يا حسنات عودي إلى عهدك بالرضا والسعادة وسوف ترين بأنني صادقة فيما أقول...
      فابتسمت حسنات وقالت بوداعة : لقد وثقت بكلامك يا
      اختي وإن كنت لا أعرف كيف أفسره ولكنني قد بدأت أطمئن من جديد...
      فأخذت رحاب بيدها وأنهضتها قائلة : إذن هيا بنا إلى أمنا فهي تنتظر...

      * * *

      كانت رحاب خلال الأيام التي أعقبت هذا الموقف لا تكاد تفارق حسنات إلا خلال ساعات دوامها ، فهي دائماً معها تلاطفها وتتحدث معها عن المستقبل وتحاول أن تساعدها بالخياطة والتطريز وهي بين ذلك كله تقرأ من كتبها ما تشاء فتزداد إيماناً واطمئناناً ولكنها كانت تنتظر جواب مصطفى حتى وصلها الجواب وكان ما يلي :
      بسم الله الرحمن الرحيم
      عزيزتي حسنات
      حرسك الله ورعاك وسدد في طريق الحق خطاك...
      يؤسفني أن أكون قد تأخرت عنك في الجواب ولكنها مشاغلي واستعدادي للامتحان النهائي... فإليك الآن جواب ما أردت يا حسنات وسوف أورده لك باختصار وأطلب منك مطالعة أصول العقيدة لتجدي فيه التفصيل. والآن فنحن لو وجدنا ماءاً قد وصل إلى درجة الغليان نتمكن أن نتساءل

      عن السبب الذي أوصله إلى درجة الغليان فيأتينا الجواب أن السبب هو قربه إلى النار فنقول لماذا كان القرب من النار يوجب الحرارة ؟ فيقال لأن النار حارة ، وعند ذلك فهل يصح لنا أن نتساءل لماذا كانت النار حارة ؟ بطبيعة الحال أن هذا السؤال غير معقول لأننا متى رأينا ناراً ليست بحارة لنتساءل متى أصبحت حارة ؟ ثم ألسنا ( جميعاً ) مؤمنين وماديين متفقين على أن لهذا الكون سبباً وخالقاً ينتهي لديه التعليل والتفسير لأن لكل شيء نهاية ولا يمكن أن يستمر التفسير والتعليل إلى غير نهاية ، وإنما نختلف في نوعية هذا السبب الأول فالماديون يزعمون انه الطبيعة أو المادة أو الدهر كما يقول القرآن الكريم والمؤمنون يعتقدون بأنه الله العليم القدير ، فنحن إذن بين افتراضين وحيدين وكل منهما يعترف بوجود سبب أعلى ليس له بدوره سبب فالمسألة إذن أن نعين نوعية هذا السبب الأعلى فهل يا ترى بالامكان أن يكون هذا السبب الأعلى للكون بكل ما فيه من حكمة واتقان وجمال وتدبير وضبط وإبداع وتمشياً مع مصلحة الانسان وحاجة الحياة ، أقول هل يمكن أن يكون السبب الأعلى لكل ذلك قوة عمياء لا تعي ولا تدرك ولا تفهم ما هي الحياة ولا تعرف من سننها ما يعرفه حتى طالب الاعدادية كما يفترض الماديون من الههم المزعوم الذي يسمونة الطبيعة تارة والمادة أخرى والدهر ثالثة. ان الجواب كلا لأن النظام بحاجة إلى منظم والحكمة دليل على الحكيم
      والعلم والجمال لا يعطيه إلا العالم الجميل فتبارك الله احسن الخالقين.
      مصطفى


      عندما انتهت رحاب من قراءة رسالة مصطفى ذهبت إلى حسنات تطلب منها الكتاب وقد حسبت أنها لن تكتب إلى مصطفى بعد الآن وبدأت تقرأ وقد زادتها القراءة هدى واطمئناناً وصممت أن تكتب إلى مصطفى لتصارحه بالحقيقة إذ أنها لم تعد بحاجة إلى سؤال وجواب ، ولكن خاطر خطر لها أسلمها إلى الحيرة من جديد ، أنها ما دامت قد آمنت بالله فان عليها أن تؤمن بالقرآن ولكن كيف تعرف أو تطمئن إلى أن هذا القرآن هو من الله خالق الكون والحياة ؟ إذن فهي ما زالت مشدودة إلى مصطفى ... وصممت أن تكتب سيما وان حسنات قد تحسن وضعها النفسي بعد حديثها معها وأخذت تملي على نفسها التصديق بكلام أختها وإن كانت لا تعرف كيف تفسره... ولهذا فقد كتبت إليه من جديد قائلة :

      بسم الله الرحمن الرحيم

      عزيزي مصطفى ... يا من نورت فؤادي بنور الايمان واخذت بيدي إلى طريق الحق والرشاد... لقد أصبحت أشعر بتطفلي




      تعليق


      • #4
        امرأتان ورجل

        عليك ولعلك لا تعلم لماذا ولكنك سوف تعلم عما قريب ، وها أنني مازلت مضطرة إليك فتعطف عليّ بالجواب... وسؤالي اليوم هو كيف يمكن أن أطمئن إلى أن القرآن هو كتاب الله عز وجل ؟ أرجوك أن لا تنقم علي وسوف يكون هذا آخر سؤال أوجهه اليك ولعلك بعد هذا تغفر لي ما سببته لك من ازعاج. أرجو من الله أن يديمك لدينك ابناً باراً ولمن تحب ويحبك هدياً ومناراً.
        حسنات
        * * *


        لم يطل انتظار رحاب للجواب فقد استلمته في أقرب وقت وكانت قد بدأت قبل ذلك بقراءة القرآن الكريم مع أختها حسنات وفي ذلك اليوم وقبل أن تخلو إلى نفسها لتقرأ الرسالة بادرتها حسنات تخبرها بفرحه أنها استلمت رسالة من زينب أخت مصطفى وأنها سوف تعود بعد نهاية الامتحانات ... فتظاهرت رحاب بمشاركتها الفرحة ثم أردفت تقول : حتى مصطفى فأنه سوف يعود قريباً إن شاء
        الله ... قالت هذا وذهبت إلى غرفتها تقرأ الرسالة فكانت كما يلي :

        بسم الله الرحمن الرحيم
        عزيزتي حسنات
        السلام عليك ورحمة الله وبركاته

        دعيني أولاً أؤكد لك بأنني غير برم برسائلك وذلك لأنها مكنتني من أداء بعض الواجب بالنسبة لديني ثم أعود لأسألك من جديد ، ترى لو وجدت طفلة صغيرة تعيش في محيط لا يفتح لها أبواب المجتمع وهي ما زالت لا تعرف القراءة والكتابة ولم تتطلع على أي مجلة أو صورة للأزياء ثم ومع كل هذا تجدينها تبرز للمجتمع فستاناً قد صمم على أحدث موضة ، واعتمد ابتكارات مصممي الازياء في باريس ، تبرزه للمجتمع على أنه من خيطتها هي ! فهل تراك سوف تصدقي منها هذه الدعوى ؟ بطبيعة الحال أن الجواب سوف يكون نفياً ، لأنها صغيرة ، ولم يسبق لها أن مارست اي شكل من أشكال الخياطة ثم لأنها لا تعرف القراءة والكتابة

        ولم تطلع على المجلات ونشرات دور الأزياء ، ولم يحدث أن سافرت إلى باريس مثلاً ، وهي كذلك وبحكم محيطها المنغلق لم تنفتح حتى للمجتمع الذي حولها فكيف تمكنت مع كل هذا أن تصمم هذا الفستان الذي يحمل معه ابتكارات جديدة وخطوط موديلات كلاسيكية قديمة ؟ ولهذا فلا شك أن هذا الفستان قد وصلها من سواها وإن هناك مصمم يعرف تاريخ تصميم الأزياء في الماضي ، ويشخص أصلح ابتكارات الموضة في الحاضر ، وهو مع هذا دقيق في عمله بارع في صناعته ... وإلى هنا اعتقد أن انكار خياطة الطفلة للثوب والاعتقاد بأن هناك غيرها من أبدع خياطته هو أمر مفروغ منه ، وبعد هذا نأتي إلى رسالة السماء التي قدمها للبشرية رجل صادق أمين قد تربى في صحراء الجزيرة العربية تربية قاحلة من العلوم والفنون والآداب حتى أنه كان أمياً لا يعرف القراءة والكتابة ولم يغادرها إلا مرتين. مرة وهو صبي صغير ومرة في تجارة مع ركب من المتاجرين العرب أمثاله
        ولم يعرف عنه من قبل دراسة لما مضى أو حديثاً عما يأتي ، ثم وفجأة يقدم للبشرية رسالة معجزة أعجزت العرب ببيانها وتحدتهم ببلاغتها حتى قال عنها قائلهم وهو من أشد المعارضين لها قال حينما استمع إليها = والله لقد سمعت كلاماً ما هو من كلام الأنس ، ولا من كلام الجن ، وان له لحلاوة ، وأن عليه لطلاوة ، وان أعلاه لمثمر ، وأن أسفله لمعذق وأنه ليعلو وما يعلى عليه ، وانه ليحطم ما تحته = وحققت اعجازها من نواح كثيرة أيضاً منها اخبارها بحوادث الرسالات السابقة على شكل تذكرها كتب تلك الرسالات مع أن حامل الرسالة لم يكن من الممكن له أن يقرأ كتاباً واحداً منها لجهله حتى القراءة العربية فكيف باللغات الأخرى كما أشارت إلى ذلك الآية المباركة التي تقول : ( وما كنت بجانب الغربى إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ، ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما

        كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما آتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ) ثم أن الحوادث الماضية لا يمكن لها أن تكون مستنسخة حتى لو فرضنا تمكن حامل الرسالة من الاستنساخ لأن القرآن يذكر هذه الحوادث بشكلها الصحيح بعد تنزيهها مما لصق بها زوراً وتشذيبها عما لحقها من تحريف وتضليل ، اذن فالقرآن يتعرض إلى الحوادث الماضية بشكل ايجابي ولا يكتفي بالذكر السلبي فقط... هذا بالاضافة إلى أن هذه الرسالة قد تنبأت بوقوع أحداث لم يكن يحتمل وقوعها ثم حدث ، كما أخبرت به ، ومثال ذلك الآية المباركة التي نزلت بعد أن غلبت الروم على أيدي الفرس فسبب ذلك حزناً عند المسلمين ، لأن الفرس كانوا يمثلون الجانب الوثني ، والروم كانوا يمثلون الجانب الكتابي ؛ فنزلت الآية المباركة تقول : ( غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين
        ) وبضع سنين في الاصطلاح العربي هي لا تتجاوز العشر
        سنين وقد وقع فعلاً ما أخبرت به الآية المباركة بعد تسع سنين تقريباً ، أو ليس في هذا ما يبعث في نفسك الاطمئنان إلى أن هذه الرسالة هي رسالة السماء وأنها ليست من إنشاء محمد بن عبدالله ؟ ثم وبعد هذا دعيني أذكر لك بعض جوانب الاعجاز العلمي للقرآن : فقد جاء في الآية المباركة : ( وأرسلنا الرياح لواقح
        ) وقد اكتشف أخيراً وبعد تقدم الفكر العلمي للبشرية أن للرياح دوراً في تلقيح الأشجار الشيء الذي جعل المستشرق الانجليزي ( اجنيدي ) أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد يقول : ( إن اصحاب الابل قد عرفوا ان الريح تلقح الاشجار والثمار قبل أن يتوصل العلم في أوربا إلى ذلك بعدة قرون ) كما أن العلم قد أثبت أخيراً ان الأرض تتناقص يوماً بعد يوم وتنكمش على نفسها بعد أن انفصلت عن الشمس وأخذت تبرد وأن مما يساعد على انكماشها وهو تشقق قشرتها وخروج الحمم والبراكين منها كما أن الضغط الجوي والجاذبية الأرضية وضغط
        الانكماش المستمر يساعد على تضاؤل حجمها أيضاً ، هذا ما أثبته العلم ، أما رسالة السماء فقد أخبرت بذلك قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً بما جاء في الآية المباركة التي تقول : ( أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب
        ) ومثال ثالث هو الآية المباركة تقول : ( إذا الشمس كورت ) ثم وبعد قرون عديدة يبرز علينا العلم باكتشافه الجديد وهو أن الشمس تحترق كالشمعة وسيأتي يوم تذوى فيه وتقل حرارتها نتيجة تبدد شعاعها وسلسلة التفاعلات التفجرية في باطنها فتموت كما تموت بقية الشموس والنجوم...
        أرجو أن لا أكون قد أطلت عليك ولأجل مزيد من الاطمئنان إقرأي كتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن بني وأتمنى لك كل خير وصلاح.
        مصطفى

        أعادت رحاب قراءة الرسالة مرات ومرات ثم ألقت برأسها على المنضدة التي أمامها واندفعت تبكي بحرقة وألم ومع كل دمعة كانت ترسم لها صورة مرعبة عن جريمتها وعن موقفها المحرج الذي زجت نفسها به فقد بدأت تحس بالواقع كما لم تكن تحس من قبل ، فهي الآن ليست تلك الرحاب التي أقدمت على الخطوة الأولى ، أنها إنسانية ثانية لا تمثل تلك إلا بالمظهر الخارجي ، وحتى هذا فقد تغير عما كانت عليه فقد أخذت تلتزم بارتداء الملابس المحتشمة وتركت المكياج ، ولهذا فهي الآن تتعذب وبضراوة ، واندفعت تبكي والرسالة إلى جانب رأسها على المنضدة وعلا نشيجها دون أن تحس حتى بلغ مسمع حسنات في غرفتها المجاورة فهالها أن تبكي رحاب هكذا وخشيت أن تكون قد أصيبت بنكسة تحيد بهاعن الطريق الذي بدأت تسير فيه فبادرت إليها وفتحت الباب دون استئذان إذ أن الكلفة كانت قد ارتفعت بينهما أخيراً وانحنت عليها تقبلها بحنان وهي تقول : رحاب ، رحاب ماذا بك يا أختاه ؟ رحاب أجيبيني لماذا كل هذا البكاء ؟ هل حدث لك مكروه قولي ؟ ولم تكن رحاب لتجيب فقد زاد وجود حسنات وحنانها من حرقة بكائها واستمرت حسنات تحاول أن ترفع رأسها وهي تقول : أرجوك يا رحاب ارحميني أنا على الأقل ألست أختك يا رحاب أنا لا أتمكن أن أراك تبكين أن دمعة واحدة من عينيك تحرق فؤادي فكيف بهذا البكاء ؟ رحاب رحاب وكانت حسنات تندفع مع كلماتها

        العذاب جاهلة أنها تزيد من عذاب أختها المسكينة ... وتمكنت أخيراً من رفع رأسها عن المنضدة وإسناده إلى صدرها وأخذت تمسح دموعها برفق وتناغيها بأعذاب الكلمات وتهدىء عليها بحنان ، ثم لاحت لنظرها الرسالة ، وكانت كالعادة تحمل عنوان صديقة رحاب ولكنها خمنت أن لهذه مساساً في وضع رحاب النفسي . فقالت لعل هذه الرسالة قد حملت إليك أمراً تكرهينه يا رحاب ؟ ولكنني لا أظن أن صاحب هذا الخط الجميل يكتب الى الآخرين ما يؤذي ، يبدو أن صديقتك مذواقة في اختيار الصديقات.
        وهنا اندفعت رحاب تقول في كلمات يقطعها النحيب : أنني مجرمة ، أنني ظالمة ، أنني لا أستحق حبك يا حسنات...
        فحسبت حسنات أنها تريد أن تشير إلى ماضيها فقالت : دعيك من هذا يا أختاه فأنت الآن في طريقك إلى الكمال ولم يبق لك سوى خطوة واحدة تكونين بعدها خيراً مني يا رحاب لأن التائب عن الذنب كمن لا ذنب له فاندفعت رحاب تبكي من جديد ثم رفعت عينها نحو اختها بنظرة استرحام وقالت : وهل حقاً أن الله سوف يغفر لي يا حسنات ؟
        قالت حسنات : نعم يا رحاب وقد قال نبينا ( صلى الله عليه وآله ) لو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب الله عليكم ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) أيضاً : التائب حبيب الله ، إذن فأن الله عز وجل لا يغفر لك فقط بل أنه يحبك أيضاً ، ويفرح بتوبتك كما جاء
        عن الامام الصادق ( عليه السلام ) أن الله يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب كما يفرح أحدكم بضالته إذا وجدها ، والآية المباركة تقول أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فكيف تشكين برضاء الله تعالى عنك لو التزمت بجميع ما يأمر يا رحاب ؟
        وكانت رحاب قد هدأت نسبياً وهي تستمع إلى كلام حسنات الهادىء الرصين وهي لا تفتأ تتطلع اليها كما يتطلع الغريق إلى منقذه وكأنها اندمجت مع كلام حسنات فغفلت عن وضعها الخاص وحراجته فقالت ورأسها ما زال على صدر حسنات : وما هي الخطوة التي تعنيها يا حسنات ؟
        قالت حسنات ، وهي تمسح على رأس أختها وجبينها : إنها الحجاب يا رحاب ، ألم تقرأي معي في سورة النور آيات الحجاب ولا شك أنك تؤمنين بالقرآن الكريم كرسالة من السماء أتت لتنظم حياتنا وتهبنا السعادة في الدارين...
        وكانت كلمات حسنات الأخيرة كفيلة بتحسيس رحاب بواقعها المؤلم من جديد ! نعم أنها الآن تؤمن أن القرآن رسالة السماء ولكن كيف تحقق لها هذا الايمان وعن أي طريق ؟ فهي لا تشك أن حسنات لو علمت لما تمكنت من النظر إليها بعد الآن ، ولكن حسنات كانت مستمرة بحديثها عن الحجاب ومصالحه الاجتماعية وحفاظه لكيان المرأة...
        وشعرت رحاب أنها في حاجة إلى أن تعرف المزيد عن الحجاب ، فهي تريد أن تتحجب ولكنها لا تعرف كيف
        ولماذا ؟ ولهذا فقد اعتدلت في جلستها وأخذت تستمع إلى حسنات بكل هدوء ثم قالت : إذن فان الحجاب ليس عادة دخيلة على الاسلام من الفرس ؟
        فقالت حسنات : كلا يا رحاب فان آية الحجاب نزلت قبل أن يفتح المسلمون فارس وقبل أن يحدث بينهم أي تماس وتعارف ، ثم أن الحجاب الذي فرضه الاسلام يختلف عن الحجاب الذي كان متبعاً عند الفرس من قبل فهو بتعبير أصح ستر وليس حجاباً بالمعنى الذي يحجب المرأة عن الحياة كما كان يحجبها الفرس القدماء ويمكنك أن تطمئني إلى صحة كلامي بمراجعة سورة النور وآيات الحجاب وتقفي عند الآية المباركة التي تقول : ( قل للمؤمنين يغضو من أبصارهم
        ) إلى أن تقول : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) فلماذا هذا الأمر بالغض من البصر إذا كان في الستر الذي فرضه الاسلام عزلاً للمرأة عن الحياة ؟ ان الغض من بصر الرجل يعني امكان وجود المرأة إلى جواره والغض من بصر المرأة يعني امكان وجود الرجل إلى جوارها ، ولكن ولأجل الحيلولة دون إثارة مشاعر اطلاقها يعني الفوضى الجنسية والاجتماعية وحبسها يعني الكبت والحرمان اللذين يجران إلى العديد من الأمراض النفسية والعصبية لأجل صيانة هذه الغرائز من الاثارة المستمرة مع ما عرفناه من إمكان أن يعيش كل من المرأة والرجل إلى جوار بعضهما في المجتمع ، أمر الاسلام بالستر كتنظيم وقائي للمرأة والرجل سواء بسواء ، ألا ترين
        أن أكثر الويلات والمشاكل الاجتماعية نشأت من نتيجة الاختلاط المطلق بين الجنسين.
        وهنا سكتت حسنات تنتظر من أختها الجواب وكانت رحاب تستمع إليها بكل هدوء ، فلما سكتت بادرتها قائلة : لقد كنت أسمع أن الحجاب في الاسلام هو صورة عن أفكار الرهبنة والتقشف وترك الملاذ ، وبما أن المرأة هي من أهم متع الحياة بالنسبة للرجل فرض عليها الحجاب تمشياً مع باقي الفروض القاسية التي يضعها أو يفرضها على نفسه في الحياة...
        قالت حسنات : يؤسفني أن تكوني قد سمعت أشياء شوهت أمامك مفهوم الحجاب مثل هذه الناحية التي ذكرتيها مع أن الاسلام لم يدع في يوم من الأيام إلى أفكار الرهبنة وترك ملاذ الحياة بل على العكس من ذلك تماماً فقد أبصر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الدين المتعة ، والمتعة التي عناها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) هي التمتع بملاذ الحياة التي خلقها الله لعباده ، وقال الامام أمير المؤمنين عليه السلام : ان الله جميل يحب الجمال ، وقال الامام الصادق ( عليه السلام ) وهو يخاطب أصحابه ما نعني :
        أن الله قد أنعم عليكم فلا تخفوا نعمه ، فقالوا وكيف ذلك يا ابن رسول الله فقال ( عليه السلام ) ينبغي أن يكون لباس الواحد منكم

        نظيفاً وريحه طيباً وجداره أبيضاً وداره مضيئة فان في ذلك توسعه في الرزق وقد شكون ثلاث من النساء إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أزواجهن ، فقالت احداهن أن زوجي لا يأكل اللحم وقالت الثانية أن زوجي يبتعد عن الطيب ، وقالت الثالثة أن زوجي يبتعد عن النساء ، فظهر الألم على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وخرج من بيته إلى المسجد وصعد المنبر وقال : لقد بلغني أن بعض أصحابي ترك اللحم والطيب والنساء وها آناذا أكل اللحم واستعمل الطيب وأتمتع في النساء.
        أيما أحداً عرض عن منهجي هذا فو ليس مني ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرجل شعره وينظر في حب الماء بدلاً عن المرآة قبل أن يخرج إلى أصحابه ويقول : أن الله يحب من العبد أن يبدو أمام اصحابه بشكل جميل ، فهل تجدين في هذه الأمثلة ما يشير إلى تبني الاسلام لفكرة الرهبنة وترك ملاذ الحياة فكيف يمكن أن ننسب الحجاب في الاسلام إلى هذه الغاية ؟ والاسلام كما ترين يحارب فكرة الرهبنة ويعارضها وسوف أعطيك كتاب العفاف بين السلب والايجاب لزين الدين لتتعرفي أكثر فأكثر على فوائد الحجاب ومضار السفور ، وقد اعددت لك مفاجأة لا بأس أن أخبرك بها الآن وهي أنني
        قد أعددت بدلة حجاب كاملة لكي أقدمها لكِ عند أول بادرة رغبة وأرجو أن لا يكون انتظاري طويلاً لتلك البادرة ، وكانت رحاب قد استعادت وضعها النفسي الطبيعي فحاولت حسنات أن تتحدث معها بعض أحاديث خارجية ثم قامت لتنصرف إلى غرفتها ولاحظت رحاب أنها ألقت نظرة ثانية على المظروف الملقى على المنضدة قل أن تخرج...
        عادت حسنات إلى غرفتها وألقت بنفسها على الكرسي هناك وتمتمت تقول : أجدني أكاد أعرف هذا الخط الذي على الظرف أنه ليس غريباً علي تماماً !! آه أنه يشبه خط مصطفى ، نعم خطه في الاهداء الذي رأيته على الكتاب الذي كان قد أهداه لزينب ، نعم لقد تذكرت الان وقد اعارتني إياه وظني أنه ما زال بين كتبي ، قالت هذا ونهضت تفتش بين كتبها حتى وجدته كان كتاب ( الشيطان يحكم ) لمصطفى محمود ففتحته وألقت على الاهداء نظرة فاحصة ثم تهاوت على الكرسي قائلة : يا لله ، أنه نفس الخط ، أو أنه يشبهه إلى حد بعيد ، ولكن كيف حدث هذا وما هي علاقة مصطفى بصديقة رحاب ؟! كلا لا شك أنني غلطانه فلعل هناك الكثير من الخطوط تتشابه وتتقارب ولكن ما معنى هذا يا ترى ؟ لعل لهذا علاقة مع بكاء رحاب « لعلها عرفت عن مصطفى شيئاً غير مريح » ولكنني لا أريد أن أشك باستقامة مصطفى فلماذا أفتح أمامي أبواب تصورات خاطئة ؟ نعم لماذا ؟ قالت هذا ثم

        أخذت كتاباً تحاول أن تقرأ فيه ولكن تفكيرها كان غير قادر على استيعاب ما تقرأ فقد كان فكرها يقفز بين حين وحين إلى الرسالة والاهداء وتشابه الخطين ولهذا فقد حاولت أن تنام ففشلت في محاولتها هذه أيضاً فلم يسعها إلا أن تستلم للتفكير...
        وبعد مضي ساعات لم تبرح خلالها غرفتها دخلت عليها رحاب ففرحت لقدومها عساها تبتعد معها عن أفكارها القاسية ، أما رحاب فقد وقفت أمامها تقول : أنني أطلب منك شيئاً يا حسنات...
        فردت حسنات باندفاع : قولي ما تريدين يا رحاب.
        قالت : أريد أبراد الحجاب التي أعددتها لي فقد صممت أن أتحجب منذ اليوم...
        فأشرق وجه حسنات بالفرحة رغم وضعها النفسي السيء ونهضت فقبلت رحاب اولاً ثم ذهبت إلى خزانتها فاستخرجت منها زي الحجاب الكامل الذي كانت قد أعدته لرحاب وقدمته اليها بكل فرح وسعادة ، فأخذته رحاب شاكرة وقالت : أرجو أن لا أتخلى عنه بعد اليوم أبداً ، كما وأرجو أن لا تتخلي عني يا حسنات بعد اليوم أيضاً...
        فاستغربت حسنات كلام أختها وقالت : أنا أتخلى عنك يا رحاب ! وكيف يخطر لك ذلك إن هذا لن يحدث أبداً مهما كان...
        قالت رحاب : مهما كان ومهما عرفتِ عن ماضي يا حسنات ؟
        قالت حسنات في ثبات وتصميم : نعم مهما كان ومهما عرفت عن ماضيك ما دمت أنتِ الآن نقية طاهرة...
        قالت رحاب : حتى ولو كنت قد أسئت اليك من قبل ؟
        قالت حسنات : حتى هذا فان مجرد فرحي بحجابك تعدل عندي كل أساءة ماضية ثم أنك أختي وحبيبتي فكيف تحسبينني أحقد عليك يا رحاب ؟
        قالت رحاب : أتمنى هذا منك وان كنت لا استحقه يا حسنات وعلى كل حال فألف شكر لك يا أختاه ، ثم استدارت وخرجت من الغرفة وهي تجهش في البكاء وتركت حسنات في حيرة من أمرها وأمر أختها وأمر الرسالة والاهداء.

        * * *

        عادت رحاب إلى غرفتها وقد صممت أن تنتهي هذه المسرحية المخجلة وعليها أن تتحمل النتائج مهما كانت وأن تواجه الواقع على مختلف احتمالاته ، وفعلاً فقد أخذت القلم لتكتب ولكنها عادت فألقت بالقلم على الأرض في عنف ونهضت قائلة : سوف لن أكتب بهذا القلم بعد اليوم ، أنه قلم مدنس بكلمات الخيانة ، ثم ذهبت فاستخرجت قلماً

        جديداً وعادت لكي تكتب فيه صفحة جديدة من صفحات حياتها الجديدة فكتبت ما يلي :

        بسم الله الرحمن الرحيم

        حضرة السيد الفاضل الأستاذ مصطفى ...
        لست أدري كيف أبدأ رسالتي وهي المرة الأولى التي أكتب فيها ( أنا ) اليك ! نعم أنا ويا لخجلتي مما أكتب ، ولكن ميلادي الذي كان على يديك وعمري الجديد الذي وهبتني إياه تعاليمك ، جعلاني أؤمن أن العار أولى من النار ، وأن الخجل هنا أهون من الخجل أمام الله الواحد القهار ، وهذا ما دفعني لأن أكتب لأضع الحقائق أمامك جلية واضحة بعد أن شوهتها ولونتها مدة من الزمان ، ولعل اعترافي هذا بصدق دليلاً على ندمي على ما مضى وتوبتي لله تبارك وتعالى عما اقترفت وأذنبت ، والآن إليك هذه الحقيقة يا سيد مصطفى ... آه أنك سوف تذهل أولاً ثم تفرح ثانياً ثم تحتقرني وتنقم عليّ ثالثاً ، ولكن المهم أن أكون قد قمت بواجبي
        تجاه ربي وتجاهكما وتجاه ضميري الذي يأبى أن يهادنني دون أن أعترف وبصراحة ... واعترافي هذا هو أنني أنا التي أكتب اليك الآن والتي كتبت اليك منذ جواب أول رسالة أرسلتها يا سيد مصطفى. أنني رحاب أخت حسنات ! ولم تكن حسنات في يوم من الأيام لتكتب ما كتبت لأنها لم تكن تشك كما شككت... نعم أنها مؤمنة كقديسة وطاهرة كملاك وجميلة كحورية فكيف لها أن تكتب ما كتبته أنا ؟ نعم أنا التي كنت أعيش عالم التيه والضلال ، أنا التي خضعت للشيطان فأغواني وللهوى الباطل فاستهواني ، فتلوثت روحي وانطمست معالم الخير من ضميري ، واندفعت وراء حسدي وغروري ، فتقمصت شخصية حسنات التي هي حسنات حقاً ، وكتبت اليك ما كتبت وأنا أتوقع منك القطيعة لها ، واعلم أن في ذلك تعاسة أختي ، ولكنني كنت مندفعة وراء الباطل فكتبتُ ما كتبتُ وأعطيتك عنواناً آخر لكي لا تصل الرسائل إلى البيت فتستلمها حسنات ، ثم
        بدأت تكتب إليّ فتكشف عن عيني أغشية الخداع والتضليل وكلما كنت أتقدم إلى الخير خطوة كان ضميري يلح علي مؤنباً ومؤنباً من جديد ، وطالما حاولت أن أنثني عن طريقتي المنحرفة وأنسحب عن حياتكما الصالحة ، ولكنني كنت أشعر بالحاجة إلى تعاليمك وهدايتك ولهذا... تابعت خطواتي في الطريق الوعرة الخطرة اتطلع إلى مصدر النور الذي كنت تهبني إياه ، وكنتُ ألاحظ حسنات وهي تتألم من جفائك وتتعذب لانطوائك فكان يزيدني هذا عذاباً على عذاب ، نعم حسنات وليتك تعلم كيف هي حسنات أنها وبينما كنت أعمل على هدم سعادتها ، كانت تفرح كلما وجدتني أقرأ كتاب أو لاحظت علي بوادر اصلاح ، كانت تتحبب إلي وتتقرب فرحة بعودتي إلى حضيرة الايمان ، جاهلة أن هذه العودة كانت على حساب سعادتها وراحتها ، لا تحسب أنني أمدحها لأنها أختي ، كلا فقد كانت أختي ولم أكن أحبها لأنني ما كنت أثمن جوهرها ولكنني وقد عرفتها على واقعها بدت عندي فوق
        كل مدح ، لقد أرسلتُ لك أخيراً صورتها فهل رأيت كم هي جميلة ؟ وكم هي رائعة ؟ ولكنك لم تذكر عنها شيئاً في الجواب لأنك لم تكن تريد أن تمجد جمال أنسانة ما زالت تشك بأهم المقدسات ولهذا فقد أغفلت ذكر الصورة ، وصورتك يا سيد مصطفى أتعلم أنها ما زالت عندي لا أعرف كيف أوصلها إلى حسنات ؟ آه ها أنت قد بدأت تتقزز مني يا سيد مصطفى ومن حقك ذلك ولكن هكذا كان ... فقد سبق أن سألتني عن الطريق الذي أحصل به على الكتب ، فأغفلت الجواب ، فماذا كان عساي أن أقول ؟ أنني كنت أستعيرها من حسنات التي وضعت مكتبتها تحت تصرفي ... نعم هل كان يمكنني أن أقول لك أنني استعيرها من حسنات ؟ يا لله لكم أسخط على نفسي وكم احتقرها واستصغرها ولكن لعل هذا الاعتراف سوف يبعث شيئاً من الرضا في نفسي ويهبني راحة الضمير ، ثم وقبل كل شيء أن ما يهمني هو رضاء الله علي أفتراه يرضى ؟
        والآن يا سيد مصطفى أرجو أن تصلك هذه الرسالة وقد انتهيت من امتحاناتك وأنت تستعد للعودة ، ولكنني أرجو أن تكتب إلى حسنات قبل أن تعود ، دعها تستلم ولو رسالة واحدة منك على الاقل ، ثم أن لك أن تنقم فيها علي كما تشاء.
        هذا واستميحك العذر من جديد وأتمنى لك من كل قلبي مزيداً من الخير والسعادة ، واغفر لي واسلم لدينك ولحسنات إلى الابد.
        رحاب


        أتمت رحاب كتابة الرسالة وكتبت العنوان على الغلاف ثم ارتدت ملابس الحجاب التي أهدتها إليها حسنات ووضعت الرسالة في حقيبتها اليدوية وذهبت إلى غرفة حسنات فطرقت الباب دون أن تدخل ففتحته لها حسنات فوجدتها بملابس الحجاب فهتفت تقول : الله ما أروعك بهذا اللباس يا رحاب تعالي وتطلعي إلى مظهرك المحتشم المحترم في المرآة...
        قالت رحاب : كلا فأن لدي مهمة مقدسة علي أن أنجزها في أسرع وقت وقد بدأت بارتداء الحجاب مع انجازها...
        قالت حسنات : وهل سوف تتأخرين في الخارج يا رحاب ؟
        قالت رحاب : كلا فان علي أن أعود سريعاً وسوف أعود اليك فانتظرينني يا حسنات ... قالت هذا وذهبت تاركة حسنات نهباً للحيرة والفكر.

        * * *

        أبردت رحاب رسالتها إلى مصطفى وعادت الى البيت ، فخلعت حجابها وتوجهت إلى غرفة حسنات فهي تريد أن تعترف لها بكل شيء ، يكفي ما كلفتها من آلام ، وكانت كلما مشت خطوة عادت فوقفت حائرة كيف سوف تبدأ ؟ ماذا سوف تقول ؟ ما هي ردود الفعل عند حسنات ؟ لا أنها سوف تنقم عليها بشدة ، لا شك أنها وعلى الأقل سوف تعاقبها بقساوة ، وخشيت أن تجبن عن الاعتراف فاندفعت نحو غرفة حسنات بخطوات ثابتة وهي تقول : ليس لي أن أخشى شيئاً ما دمت أؤدي عملاً يرضي الله ، وكانت حسنات تنتظر أختها بشيء من القلق ، ولهذا فقد تطلعت إليها بلهفة وجلست أمامها تنتظر ، فكان أول عمل قامت به رحاب أن أخرجت من حقيبتها صورة مصطفى ومقدمتها إلى حسنات ، فأخذتها حسنات واستغربت الأمر فأدرات الصورة لترى ما كتب خلفها فوجدت كلمات اهداء غذبة موجهة نحوها وموقعة باسم مصطفى ! فعلت وجهها صفرة باهتة أعقبتها حمرة ثم
        ورفعت وجهها إلى رحاب قائلة : متى وصلت هذه الصورة يا رحاب ؟
        قالت رحاب وصوتها يكاد يعود إلى الأعماق : لاحظي التاريخ يا حسنات ...
        فألقت حسنات نظرة على التاريخ ثم قالت : ماذا ؟ أن تاريخها يعود إلى ما قبل سبعة أشهر فأين كانت كل هذه المدة يا رحاب ؟
        قالت رحاب : أنها كانت عندي يا حسنات ألم أقل لك بأنني مجرمة ؟ ألم أقل لك بأنني لا أستحق منك الحب والحنان ؟
        قالت حسنات : كلا ، كلا أنا لا أسمح لك بهذا الكلام يا أختاه ولكن حدثيني بحديث الصورة إن سمحت يا أختاه ...
        قالت رحاب : أنا ما قدمت اليك إلا لأحدثك حديث هذه الصورة يا حسنات ولك بعد حديثي أن تعاملينني بما تريدين ، ثم بدأت تحدثها بكل شيء وكانت حسنات تستمع إليها بكل هدوء الشيء الذي أعجب رحاب وشجعها على متابعة الاعتراف ، وما أن انتهت من حديثها حتى أطرقت تنتظر الحكم ... فقامت إليها حسنات وقبلتها بحنان قائلة : بنفسي أنتِ يا أختي لكم تحملتِ من آلام ؟

        فرفعت رحاب رأسها نحو حسنات وهي لا تكاد تصدق ما تسمع ثم قالت : أنا ؟ أنا التي تحملت الآلام أم أنتِ التي حملتك الآلام يا حسنات ؟!
        فردت حسنات تقول : ولكن آلامي هانت لدي عندما عرفت أنها كانت الطريق الغير المباشر لهدايتك ولهذا فأنا الآن أشعر بالسعادة مضاعفة لأنني حصلت على أخت صالحة وزوج صالح...
        قالت رحاب : وهل سوف تغفرين لي خيانتي يا حسنات ؟
        قالت : نعم وسوف أنساها لعمق فرحتي بك وبإيمانك وبعودة مصطفى إلي وهاك هذه القبلة كدليل على اخوتي التي لم تتغير ولم تتبدل ، ثم طبعت على جبين أختها قبلة حب صادقة ثم جلست إلى جوارها وصورة مصطفى ما زالت بيدها وهي تتطلع إليها بين حين وحين فقالت رحاب : أنظري كم هو جميل بالاضافة إلى باقي ما يميزه ؟
        فابتسمت حسنات وقالت : أن الجمال لا يهمني كما تهمني الشخصية والايمان ، أنا لم أفكر يوماً في جماله وعدمه ولكن طالما فكرت في سلوكه وسيرته.

        * * *

        مرت الأيام وقد عادت إلى حسنات إشراقتها وعادت من
        جديد تنسج تصوراتها لحياتها القادمة ، وكانت خلال ذلك تحاول أن تهب رحاب مزيداً من الحب والحنان والاهتمام لكي تبعد عنها كل شائبة ، وبعد مضي أكثر من ثلاثة أسابيع حيث كانتا تجلسان معاً في غرفة رحاب دخلت عليهما الخادمة تحمل بيدها رسالتين ، ولم تمد إحداهما يدها نحو الرسائل ، وكان كل منهما كانت تنتظر المبادرة من أختها ولهذا فقد وضعت الخادمة الرسائل أمامهما وانصرفت ، وتطلعت عيونهما نحو الرسالتين وقالتا بصوت واحد : انهما من مصطفى ، وكانت احداهما موجهة إلى حسنات والأخرى إلى رحاب ، وكأن رحاب خشيت أن تفتح رسالتها لجهلها بمحتواها ، ولكن حسنات شجعتها قائلة : سوف لن أفتح رسالتي حتى تفتحي رسالتك يا رحاب أنني أخمن أن تكون رسالة مريحة لك يا عزيزتي . ففتحتا رسالتيهما معاً ، فأما رحاب فقد وجدت رسالتها كما يلي :

        بسم الله الرحمن الرحيم

        حضرة الأخت الفاضلة الست رحاب
        سلامي وتحياتي وخالص دعائي وتمنياتي

        ها أنا أكتب اليك بشكل جديد ، وكما لم أكن أكتب من قبل بعد أن بدأت أشعر نحوك مزيداً من الاحترام والاكبار فأنا الآن أحس بأنني أكتب إلى انسانة عظيمة

        قهرت بارادتها الشيطان ، وترفعت بمعنوياتها على الاغراء والاهواء فحققت رقماً قياسياً بتنزيه النفس وتجريدها عن كل شائبة وبلورتها بالشكل الذي يرضاه الله ، فبورك لك هذا الشؤ الذي بلغتيه وهنيئاً لشخصك هذا السبق الذي أحرزتيه ، وأنني ومنذ استلام رسالتك الأخيرة أو ( الأولى ) أعدك أختاً لي يسعدني ما يسعدها ويؤذيني ما يؤذيها ويهمني أمرها إلى أبعد الحدود ، ثم أنني أرجو أن لا تكدري فكرك بمراجعة الأحداث الماضية ، وأن تكوني واثقة من أنني لا أضمر لك إلا كل احترام وإعزاز ، وأملي أن تكون حسنات كذلك لأنها وكما ذكرت عنها ، حسنات ، وهل تصدر السيئة عن الحسنة ؟ وأخيراً أعود فأتمنى لك كل خير واستودعك الله طالباً لك مزيد التوفيق والتسديد.
        مصطفى

        أما رسالة حسنات فقد كانت من الرقة والعذوبة بشكل
        عوضها عن حرمانها الطويلة ، وكانت حسنات خلال قراءتها للرسالة تتطلع نحو رحاب خشية أن يكون في الرسالة ما يكدرها ولكنها اطمئنت عندما وجدت علائم الراحة بادية على تعابيرها ، وما أن انتهت كل منهما من القراءة حتى تعانقتا على فرح وسعادة بالغين ثم قالت حسنات : هل تعلمين أنه سوف يعود بعد أسبوعين ؟
        فقالت رحاب : مرحباً به متى جاء.
        وبعد أسبوع من وصول الرسالة اتصلت بهم أم مصطفى تطلب منهم تحديد موعد لزيارتهم ، فحددوا لها عصر ذلك اليوم وخمنوا انها آتية للتحدث حول مقدمات الزفاف ، ولكنها عندما حضرت كانت تخطب رحاب لأبنها محمد وتقترح لو حصلت الموافقة أن يتم زواج الأخوين في وقت واحد ...

        * * *

        وفعلاً فقد تم زواج الأختين في يوم واحد وسعدت كل مع زوجها.


        تعليق


        • #5
          اللهم صلي على محمد وال محمد وعجل فرجهم واهلك اعدائهم

          بالبداية لا أعرف كيف أوصف مدى نقاء مشاعر وفكر كاتبة القصة التي لطالما
          تمنيت أن أقرأ عنها المزيد والمزيد....

          قصة تجعل من يقرأها يعيش عالما آخر من الايمان والنقاء عالم شد انتباهي لدرجة التفاعل والحكم على المواقف

          قصة تستحق القراءة والامعان الشديد

          وسلمت يمناك اختي العزيزة خادمة ام ابيها على سرد هذه القصة العطرة

          وتحياتي...

          تعليق


          • #6
            خادمة ام ابيها
            سلمت اناملك على كتابة هذه القصه
            الي اكثر من روعــــــــــــــــــــــــه

            تعليق


            • #7
              نقل موفق سلمت الأيدي

              تعليق


              • #8
                امرءتان ورجل بقلم الشهيدة بنت الهدى

                في هذا اليوم تمر ذكرى استشهاد الشهيدة امنة الصدر(رحمها الله تعالى) وكنت قد اشتقت اليها لكثرةما سمعت عنها.لكني في الحقيقة لم اقراء لها شيء,فتصفحت في منتدياتكم القيمة ووجدتها غنية بالمواضيع الشيقة واول شيء قراءته هو عن حياة الشهيدة الطاهرة ومؤلفاتها .ولقد قراءت هذه القصة المؤثرة.لقد كانت قصة رائعة جدا ومشوقة ممتلئة بكل معاني الايمان والهداية .وسوف اتابع قرائتي لكل مؤلفات الشهيدة ان شاء الله وفقكم الله لمرضاته وشكرا لكم اختكم ام نور الهدى

                تعليق


                • #9
                  جزاكم الله خير

                  تعليق

                  المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                  حفظ-تلقائي
                  x

                  رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                  صورة التسجيل تحديث الصورة

                  اقرأ في منتديات يا حسين

                  تقليص

                  لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                  يعمل...
                  X