بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا الهادي
محمد المصطفى وعلى آله الطاهرين.
ما سأكتبه في هذه الوريقات المتواضعة ليس كتاباً ولا بحثاً معمّقاً، ولست في مقام الدفاع عن مرجعية محددة او عن فقيه معين، وإن كنت أحترم الجميع ما داموا ينفعون الامة والدين، وما داموا يقدّمون أنفسهم جنوداً للإسلام ولقادة الإسلام المعصومين (ع)، ولا سيما إمامنا المهدي المنتظر عجل الله فرجه.
وأنا مقتنع تماماً بأن لكل واحدٍ منهم أسلوبه الخاص الذي يتناسب مع مشروعه وقابليته وحجم قواعده الشعبية، وهم بذلك يتأسّون بمبدأ اختلاف الأدوار وتعدد الأساليب رغم وحدة الهدف, هذا المبدأ الذي جسّده أئمتنا المعصومون (ع) كما جسّده من قبلهم الأنبياء والرسل (ع).
والمهم على أية حال أن نحرز منهم النية الصادقة والالتزام التام بالمشروع الإلهي بجانبيه التشريعي والتكويني، وإنما نعرف ذلك من العدالة الظاهرية التي تُستَكشَف غالباً بحسن الظاهر، والمسلم محمول على الصحة وعدم الفسق ما لم يثبت العكس، وإلا لضاعت الامة تحت وطأة التشكيك المتبادل والاتهامات المتعارضة والعياذ بالله تعالى.
ومحل الشاهد في هذه المقدمة اننا نريد ان نتحدث باختصار عن خطر حقيقي، ومخطط خبيث يستهدف الأمة المؤمنة عن طريق التفرقة بين الفقهاء العدول وقواعدهم الشعبية، وإذا نجح هذا المخطط لا سامح الله فعلى الأمة السلام.
إن قراءة بسيطة في كتب التأريخ سوف تظهر لنا بوضوح جملة لا يستهان بها من الدعوات المنحرفة التي استغلت مرحلة من الاهتزازات الشعبية والفوضى الفكرية، فانطلقت على أساس التشكيك بمبادئ معينة وثوابت محددة، فراحت تفصل هذه المبادئ والثوابت عن الأمة، مستغلةً بذلك نوعاً من التشكيك بالنماذج او الافراد، او قد تستعمل مفاهيم رمزية، أو تعمد الى مقاطع ناقصة، وأجزاء مقتطعة، لتثير جراح المحرومين، أو تستفز عواطف الضعفاء, او توجه السذّج والبسطاء، أو تستغل تزلزل بعض المثقفين ممن أُصيبوا بخيبة أمل مما يحصل في عالمهم الخارجي, محاولةً بذلك جعل نفسها هي البديل وهي الدواء وهي المنقذ..
( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران: 7)
ففي مصادر التاريخ توجد امامنا الكثير من الدعوات بالنبوة او الدعوات بالمهدوية أوبالسفارات المزورة , أو الدعوات (السلوكية) , وهناك من ادعت انها زينب (ع) في زمن بني العباس . وكل هؤلاء كانوا يطعنون بالآخرين ويزينون للناس انهم على حق، ولكنهم فشلوا وضاعوا في زحمة التاريخ الذي فضحهم وأظهر اساليبهم وزيف ادعاءاتهم.
حتى معاوية ونحوه من المجرمين حاولوا ان يبنوا أمجادهم على تسقيط الرموز المقدسة، كما حاولوا ان يصرفوا الأدلة والأحاديث الى ساحتهم، ولكن هيهات يأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون.
كما أنني أدعو إخوتي المؤمنين ان يقرأوا عدة مصادر عن الإمام المهدي (ع) ليزدادوا فهما ودرايةً بسيرته وتاريخه(ع). وسيلاحظون في كل مصدر أموراً قد لا يجدونها في مصدر آخر, وليعلموا ان نصف العلم قد يكون في أحيانٍ كثيرةٍ أضرَّ من الجهل,نستجير بالله. وأهم المصادر التي تتحدث عن إمامنا المهدي (ع) هي الموسوعة للسيد الشهيد محمد الصدر (قدس), ومعجم أحاديث الامام المهدي للكوراني, وحياة المهدي للقرشي, وغيرها من المصادر التي كتبت بأسلوب علمي دقيق.
وسيجد القارىء في هذه المصادر مايكشف زيف مثل تلك الدعوات المنحرفة وأمثالها,حتى أنه ورد في بعض الروايات مامعناه أن كل دعوة مهدوية قبل الصيحة هي كذب وإفتراء.
وفي هذه الأيام أيضاً نلاحظ بروز عدة حركات، وعدة دعوات، تشترك في أنها تقدح في العلماء وتسيء اليهم، وتتهمهم, وتنسب اليهم الكثير من الافتراءات, وتأوِّل تصرفاتهم بما يخالف الشريعة، وتجيئ بجملة من الأخبار والروايات على أنها تتحدث عن هؤلاء الفقهاء الذين تتهمهم بأنهم منحرفون ومضلون.
وأنا أتساءل واسأل سائر المؤمنين، هل أن هذه الدعوات التي تبتني على هذا الأسلوب اللاأخلاقي، تصلح أن تكون هي البديل؟
وهل أن هذه الحركات التشويهية يمكن ان تقود الأمة الى الخير والصلاح؟
بالتأكيد لا وألف لا. فإن الوارد في الحديث أنه لا يُطاع الله من حيث يُعصى،وأن الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق , وان الوارد في القرآن الكريم ان الله تعالى أمر نبيه محمداً (ص) بأن لا يدخل مسجداً ضراراً:
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) (التوبة:107-108).
ثم يقول الله عز وجلّ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ_ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة:109).
فكلنا يعرف من آيات القرآن، ومن سيرة المعصومين (ع) ان الدعوة الى الله يجب ان تكون نقيّة، وان تكون الأقوال مقرونة بالأفعال، وأن تكون الأخلاق والشرف ومحاسن الصفات هي مقياس الداعي النموذجي والدعوة المثالية.
هل تساءل أحدنا لماذا تلتقي أهداف الدعوات الجديدة التي تحارب الفقهاء عموماً مع أهداف القوى الاستعمارية والشيطانية؟ فالجميع يشتركون في أهمية التخلص من العلماء أو تشويه سمعتهم في أقل التقادير.
هل تساءل احدنا لماذا هذا الوقت الحرج بالذات حيث الصدامات الطائفية والنزاعات المذهبية، والعنف يملأ البلاد، ولا استقرار ولا أمان؟
هل تساءل أحدنا أنه إذا كان هؤلاء الفقهاء غير شرعيين، وانهم لا يستحقون ان يُقلَّدوا أو يُسألوا عن الفتاوى الشرعية، فما هو البديل ومن هم القادة الشرعيون الذين يفترَض انهم أمناء الرسل وحصون الإسلام كما سنسمع في أحاديث اهل البيت عليهم السلام؟
ومن أين ستأخذ الأمة أحكامها الشرعية ووظائفها الدينية، حينما يُشطب على الفقهاء والعلماء جملةً وتفصيلاً؟
هل سيكون هؤلاء الذين يدّعون لأنفسهم الكمالات والمناصب (بلا دليل منطقي وبلا حجة شرعية)هم الذين يعلّمون الامة دينها وتعاليم ربّها عزّ وجل، وهم أناس غاية ما يقولونه ويحفظونه بعض الروايات أو النصوص الموجودة في بعض الكتب التي يمكن لأي شخص ان يقرأها، وأما الاعم الاغلب من اقوالهم فهو مجرد ادعاءات وتأويلات مبنية على الاستحسان والفهم الشخصي، وكله يدخل اما في باب التفسير بالرأي او في باب الإفتاء بالرأي وكلاهما منهيّ عنه في عدة روايات صحيحة ومعتبرة (انظر كتاب الوسائل، ابواب صفات القاضي).
ثم انهم يخدعون الناس بأن الفقيه ليس محصوراً بمن يفهم الفقه والمسائل الشرعية (أي المجتهد)، وانما يُراد به العارف او الولي او نحو ذلك.
ولكن الواقع ان الفقه كما في الآيات القرآنية والروايات يشمل العنوانين معاً, فالمجتهد والعارف والولي وكل من يلتزم بالتعاليم الإلهية هو فقيه, حتى ورد عن النبي (ص) انه قال لعمّار بن ياسر انك من الفقهاء، وقد ورد ان الفقيه من لم يقنّط الناس من رحمة الله.
وهذا صحيح فعلاً , إلا أن المهم عملياً هو معرفة الأحكام الشرعية لتفاصيل الحياة الشخصية والاجتماعية, وهذا يتطلب جهداً كبيرا,ً وإطلاعاً واسعاً على مصادر التشريع والرواية وكتب الرجال، وفهماً باللغة وبموضوعات الأحكام، ودراية بقواعد الترجيح وغير ذلك مما ينفرد به المجتهد الحوزوي وهو الفقيه بالمعنى المصطلح عليه ,وهو الذي أمرنا الأئمة (ع) بالرجوع اليه (كما سنذكر) في بعض الروايات.
وكيف يحق للفرد ان يأخذ وظيفته الشرعية من شخص غير ملم بهذه التفاصيل، لمجرد انه يدّعي الكشف او العلم اللدني او يدّعي انه يلتقي بالحجة المنتظر (ع), وهل يكفي الادعاء مع كثرة المدعين وتعارضهم، وكيف يثق المؤمن بمثل هذه الادعاءات وهو يريد ان يقابل الله تعالى بوجه أبيض وقلب سليم، في حين ورد في بعض الروايات انه (لا تصلي إلا خلف من تثق بدينه) فكيف بالانقياد التام خلف امثال هؤلاء؟!
وقد نقل الشهيد الثاني في (منية المريد) عن بعض المحققين ما مضمونه: (ان العلماء ثلاثة: عالم بالله غير عالم بأمر الله، وعالم بأمر الله غير عالم بالله، فهو الذي عرف الحلال والحرام ودقائق الأحكام، وعالم بالله وبأمر الله فهذا على سبيل المرسلين والصدّيقين وهو المراد بقوله (ص) (سائل العلماء وخالط الحكماء وجالس الكبراء) فالعلماء هم الصنف الثاني، وقد أمر الله بمساءلتهم عند الحاجة الى الاستفتاء، واما الحكماء فهم الصنف الاول فأمر بمخالطتهم ,واما الكبراء فهم الصنف الثالث فأمر بمجالستهم لأن فيها خير الدنيا والآخرة.
أقول: لا يخفى ان الخير كل الخير اذا اجتمع الأمران, الفقه بمعنى الاجتهاد، والفقه بمعنى العرفان، فهذا فقيه كامل وهو الفقيه الربّاني والعالم الحقيقي وهو خير بالتأكيد من الفقيه العادل الاعتيادي، وكلاهما مبرئ للذمة ويصدق عليه عنوان (الفقيه). وحتى لو قلنا باشتراط الاعلمية في مرجع التقليد فهذا لا يمنع من ان يجمع الفرد بين تقليد الأعلم في المسائل الشرعية، والتعلم من الآخر في مسائل الأخلاق والسلوك العرفاني.
وهكذا فإن الحذر واجب وقد ورد عن المعصومين (ع) انه ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها، وإنه ليس من العقل ان يسلّم الإنسان هذه الوديعة التي بين جنبيه الى كل من هبّ ودبّ, ومن دون ان يضمن الفوز والنجاة ورضوان الله عز وجل.
خصوصاً وان الخالق عز وجل نَبّهَ عباده الى مشكلة الجهل المركب التي هي من اعظم المشاكل والابتلاءات التي يمكن ان تصادف الفرد ، حيث يقول الله تعالى (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأعراف: 30) (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف:104).
ولقد كان الخوارج يحاربون امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) وهم ينادون (الرواح الرواح الى الجنة), وكان اللعين ابن ملجم ينادي حينما ضرب الامام علي (ع) : (الحكم لله). وكذلك يفعل هؤلاء الارهابيون التكفيريون الذين يفجرون انفسهم بين الابرياء من اهل الاسلام، وهم يظنون انهم يحسنون صنعاً.
فهل يود أحدنا ان يكون مثل هؤلاء الجهلة السذج الذين سلّموا عقولهم وأرواحهم بأيدي شياطين الإنس من الدجالين والكذابين والوضاعين؟
وفي الحقيقة فإن الدعوات المهدوية والسلوكية الجديدة تركّز على جملة من النصوص والروايات التي هي من قبيل المتشابه في القرآن، حيث يقول الله تعالى ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)، وعن الامام الرضا (ع) (ان في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن فردوا متشابهها الى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا).
فهؤلاء الدعاة تركوا الاحاديث التي توصي بالاخلاق والكلمة الطيبة، وانه لا إكراه في الدين، وانه لا يجوز التعريض بالمؤمنين, وانه ليس من اخلاق المؤمن ان يسب او يحقد او يؤذي غيره.
تركوا كل هذه الاحاديث وتمسكوا بظاهر بعض النصوص التي تتحدث ان المهدي (ع) عندما يخرج سيقتل جملة من الفقهاء.
فمن هذه الاحاديث ما دل على ان من علامات الظهور هو ان يقل الفقهاء الهادون، ويكثر فقهاء الضلالة، وكذلك ورد ان فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء، وكذلك ورد ان المهدي (ع) يقتل في ظهر النجف ستة عشر الف فقيهاً من البترية الذين خرجوا اليه مدججين بالسلاح وهم من القرّاء والفقهاء في الدين وكلهم يقول يابن فاطمة ارجع لا حاجة لنا فيك.
هذه الاحاديث موجودة في بعض المصادر فعلاً، تماماً كما نجد فيها أيضاً ان الامام (ع) يمسح على ظهور الفقهاء وبطونهم فلا يقولون الا حكماً.
فالمسألة اذاً لا تخص جميع الفقهاء، كيف والشريعة قامت بهم، وهم الذين حفظوا الدين وأهله في زمن الغيبة بفضل الله ثم ببركات الامام الحجة عليه السلام.
ونحن نسمع في عدة نصوص عن المعصومين (ع) انهم يحذّرون من الفقهاء المنافقين، او الذين يميلون الى الدنيا، وكانوا يتحدثون عن كل زمان، ولم يقيّدوا الامر بزمان الظهور الشريف.
فيتحصّل مما سبق انه وان كانت مثل هذه الاحاديث ضعيفة على مستوى البحث الرجالي, إلا انه على فرض صحتها فإن المقصود بهؤلاء الفقهاء هم الفقهاء المنافقون، او اهل الدنيا من الفقهاء، او الذين يدّعون كذباً انهم فقهاء، او الفقهاء المخالفون الذين يناصبون العداء لأهل البيت(ع) ولشيعتهم، وهؤلاء كثيرون كما لا يخفى وكلهم مشمول بالعقاب الإلهي الذي سيأتي به امامنا المنتظر (ع), لأنهم فعلاً سيقفون ضده ويحاربونه بشتى الوسائل.
وقد سمعت قبل قليل أن الرواية تحدثت عن فقهاء من البترية ,وهم ليسوا من الامامية الإثني عشرية.ولعل المقصود بهم في هذه الرواية هم الذين ينفصلون ويتبرأون من خط المذهب الحق المتمثل بالأئمة(ع) ,ثم سفراء الامام الثاني عشر(ع),ثم عدول الفقهاء جيلاً بعد جيل.وقد ورد أن زيداً الشهيد خاطب البترية بقوله: (بترتم أمرنا بتركم الله).
واما الفقهاء العدول العاملون فهؤلاء من انصار الحجة(ع) بالتأكيد ,وهم جنوده في عصر الظهور، مثلما هم جنوده وأنصاره في زمن الغيبة. وقد ورد في رواية عن الامام علي الهادي(ع): (لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين اليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شِباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتدّ عن دين الله, ولكنهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل).
وفي الحقيقة فإن هؤلاء الفقهاء المخلصين، وهؤلاء المراجع الذين يخدمون الدين بأقلامهم وأرواحهم، والذين بنوا هذه الحوزة الشريفة وحافظوا عليها طيلة قرون من الزمن، وتحملوا من أجلها أشد التضحيات, ومرّوا بأقسى الظروف . هؤلاء العلماء هم الذين عناهم الائمة (ع) في عدة روايات صحيحة ومعتبرة ووصفوهم بأنهم أمناء الرسل، وحصون الإسلام، وورثة الأنبياء، وانهم كأنبياء بني اسرائيل.
وهؤلاء العلماء هم الذين ورد في حقهم عن الصادق (ع) انه توزن دماء الشهداء مع مداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء (انظر من لا يحضره الفقيه: 4/399) .
هؤلاء العلماء هم الذين أعطاهم الأئمة (ع) منصب القضاء والحكومة كما في روايتي ابي خديجة وعمر بن حنظلة عن الصادق (ع). وقد ورد في الفقه الرضوي ان منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني اسرائيل. وهؤلاء هم رواة الأحاديث الثقاة الذين هم حجة الامام على الناس كما ورد في توقيع الامام المهدي (ع) في جوابه للعمري.
وهؤلاء العلماء هم الذين اذا مات الواحد منهم ثُلِمَ في الاسلام ثلمة لا يسدها شيء الى يوم القيامة كما ورد في الحديث، وانه ما من احد يموت من المؤمنين أحب الى ابليس من موت فقيه، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الاسلام كحصن سور المدينة لها. الى غير ذلك من الاحاديث التي يمكن مراجعتها في اول كتاب الكافي وغيره.
بل نزيد هنا فنقول: انه ورد في الحديث عن الامام علي (ع) ان من علامات الفسق هو مقت الفقهاء، وورد عن الامام السجاد (ع) (ان الله اوحى الى دانيال أن أَمْقَت عبيدي الي: الجاهل المستخفّ بحق أهل العلم التارك للاقتداء بهم. وان أحب عبيدي الي :التقي الطالب للثواب الجزيل, اللازم للعلماء، التابع للحلماء، القابل عن الحكماء) .
ثم انه تجدر الاشارة هنا الى ما ورد من ان العبد لا يزال يكتب محسناً ما دام ساكتاً, فإذا تكلم كتب عند الله اما محسناً او مسيئاً.
فلماذا يجازف العبد باتهام الآخرين او قدحهم، سواء كانوا من الفقهاء او من عوام عباد الله، وما فائدته في ذلك، خصوصاً اذا التفت الى قول النبي (ص) (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته). فإذا كان يعتقد ان البعض قصّر او أخطأ, فلماذا لا يحاول الإصلاح بنفسه ما دام مكلفاً ايضاً. وقد ورد عن الصادق (ع) ما مضمونه: لوددت ان اضرب رؤوس اصحابي بالسياط حتى يتفقهوا في الدين.
بل يقول الله تعالى (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122).
ولقد سمعت من السيد الشهيد محمد الصدر (قدس) ان المجتمع بلا حوزة لا يساوي شيئاً ,مهما كانت هناك سلبيات او نواقص في الحوزة ، وهذه حقيقة لا يمكن انكارها، بدليل ان كل قوى الطغيان والظلم تحاول قتل الحوزة او اسقاطها بشتى الوسائل , لتضيع الامة او تتجه نحو الفوضى المذهبية والتشتت الفكري.
ومن العجيب أن أعداءنا يعرفون أهمية رموزنا وعلمائنا فيحاولون إستهدافهم وتصفيتهم ,في الوقت الذي نجهل نحن قيمتهم, ولا يهتم أكثرنا إلا بإنتقادهم أو التجريح بهم حتى جعلوهم مائدة للغيبة والبهتان والعياذ بالله.
ومن العجيب ايضاً ان سائر الملل واهل الاديان والمذاهب يقدسون علماءهم رغم انهم لا يعرفون شيئاً عن الدين الا المظاهر، اما مجتمعاتنا(الملتزمة) فلا تحترم العلماء والفقهاء ,ولا تقدر مكانتهم الا بعد موتهم, رغم انهم رمز كرامتهم، وشعار هيبتهم، شعروا بذلك ام لم يشعروا.
وهذا هو السر في ان الائمة (ع) تحدثوا عن اهمية الفقهاء في عدة روايات، وأوصوا الامة باتباعهم والاقتداء بهم، لأنهم يعلمون ان الامة ستمر في عصر الغيبة بظروف عصيبة تحتاج فيها الى من يمسك بيدها ويقودها على الصراط المستقيم، وهؤلاء هم الفقهاء الذين يكون دورهم دور التبليغ والوساطة والنيابة عن المعصومين (ع).
فلنحذر جميعاً من الدعايات والافتراءات والشعارات المزيفة، لكي لا يقع واحدنا فريسة للجهل وقلة الوعي, كما وقع ذلك الشامي في مجلس يزيد حينما اراد أن يستوهبه فاطمة بنت الحسين عليه السلام لأنه كان يصدّق بدعايات يزيد ويظن ان سبايا الحسين (ع) هم من الخوارج. او كما وقع ذلك الشيخ المسكين الذي اساء الى السجاد (ع)، فلما عرف انه من اهل القربى وانه من اهل بيت النبي (ص) ، ندم وبكى.
ليكن هدفنا خدمة الدين قربة خالصة لله تعالى، واحترام بعضنا البعض قربة خالصة لله تعالى, لا نريد من احد جزاءاً ولا شكوراً، ولا يدفعنا الحقد السابق، او الكراهية الفئوية أو الحزبية، لأن نقتل انفسنا بأنفسنا، ونعين أعداءنا علينا ، فإن هؤلاء الأعداء والشياطين لا يفرقون فيما بيننا، ونحن جميعاً مستهدفون عندهم..
وإذا كانت هناك خيبة أمل من بعض الرموز,أو كان هناك عدم إقتناع بتصرفات أو مواقف بعض الفقهاء, فلا يدفعنا ذلك الى هاوية الضياع والانحراف,فإن الخطأ لايعالج بالخطأ, ونحن ندعو في كل صلاة ونناجي ربنا (إهدنا الصراط المستقيم ,صراط الذين أنعمت عليهم ,غير المغضوب عليهم ولا الضالين)..
هذا الصراط ليس بعيدا عنا ,فهو موجود في كلمات أئمتنا(ع)التي نقرأها في هذه الكتب الأصيلة التي تملأ المكتبات ولله الحمد. وقد ورد في الحديث عنهم(ع)
ذروا الناس فإن الناس أخذوا عن الناس,وأنتم أخذتم عن رسول الله(ص)).
نعم لابد من إختيار الكتاب الموثق والمصدر الأمين الذي ينقل الاحاديث والروايات بصدق وإخلاص,من قبيل كتاب الوسائل للحر العاملي ونحوه.كذلك يجب أن يستنير الفرد بفهم المؤمنين المتقين, فإن المؤمن مرآة المؤمن , وماخاب من إستشار.
فالله الله في ديننا فإنه عصمة أمرنا، والعاقبة للمتقين وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
(الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه,أولئك الذين هداهم الله,وأولئك هم أولوا الألباب)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا الهادي
محمد المصطفى وعلى آله الطاهرين.
ما سأكتبه في هذه الوريقات المتواضعة ليس كتاباً ولا بحثاً معمّقاً، ولست في مقام الدفاع عن مرجعية محددة او عن فقيه معين، وإن كنت أحترم الجميع ما داموا ينفعون الامة والدين، وما داموا يقدّمون أنفسهم جنوداً للإسلام ولقادة الإسلام المعصومين (ع)، ولا سيما إمامنا المهدي المنتظر عجل الله فرجه.
وأنا مقتنع تماماً بأن لكل واحدٍ منهم أسلوبه الخاص الذي يتناسب مع مشروعه وقابليته وحجم قواعده الشعبية، وهم بذلك يتأسّون بمبدأ اختلاف الأدوار وتعدد الأساليب رغم وحدة الهدف, هذا المبدأ الذي جسّده أئمتنا المعصومون (ع) كما جسّده من قبلهم الأنبياء والرسل (ع).
والمهم على أية حال أن نحرز منهم النية الصادقة والالتزام التام بالمشروع الإلهي بجانبيه التشريعي والتكويني، وإنما نعرف ذلك من العدالة الظاهرية التي تُستَكشَف غالباً بحسن الظاهر، والمسلم محمول على الصحة وعدم الفسق ما لم يثبت العكس، وإلا لضاعت الامة تحت وطأة التشكيك المتبادل والاتهامات المتعارضة والعياذ بالله تعالى.
ومحل الشاهد في هذه المقدمة اننا نريد ان نتحدث باختصار عن خطر حقيقي، ومخطط خبيث يستهدف الأمة المؤمنة عن طريق التفرقة بين الفقهاء العدول وقواعدهم الشعبية، وإذا نجح هذا المخطط لا سامح الله فعلى الأمة السلام.
إن قراءة بسيطة في كتب التأريخ سوف تظهر لنا بوضوح جملة لا يستهان بها من الدعوات المنحرفة التي استغلت مرحلة من الاهتزازات الشعبية والفوضى الفكرية، فانطلقت على أساس التشكيك بمبادئ معينة وثوابت محددة، فراحت تفصل هذه المبادئ والثوابت عن الأمة، مستغلةً بذلك نوعاً من التشكيك بالنماذج او الافراد، او قد تستعمل مفاهيم رمزية، أو تعمد الى مقاطع ناقصة، وأجزاء مقتطعة، لتثير جراح المحرومين، أو تستفز عواطف الضعفاء, او توجه السذّج والبسطاء، أو تستغل تزلزل بعض المثقفين ممن أُصيبوا بخيبة أمل مما يحصل في عالمهم الخارجي, محاولةً بذلك جعل نفسها هي البديل وهي الدواء وهي المنقذ..
( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران: 7)
ففي مصادر التاريخ توجد امامنا الكثير من الدعوات بالنبوة او الدعوات بالمهدوية أوبالسفارات المزورة , أو الدعوات (السلوكية) , وهناك من ادعت انها زينب (ع) في زمن بني العباس . وكل هؤلاء كانوا يطعنون بالآخرين ويزينون للناس انهم على حق، ولكنهم فشلوا وضاعوا في زحمة التاريخ الذي فضحهم وأظهر اساليبهم وزيف ادعاءاتهم.
حتى معاوية ونحوه من المجرمين حاولوا ان يبنوا أمجادهم على تسقيط الرموز المقدسة، كما حاولوا ان يصرفوا الأدلة والأحاديث الى ساحتهم، ولكن هيهات يأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون.
كما أنني أدعو إخوتي المؤمنين ان يقرأوا عدة مصادر عن الإمام المهدي (ع) ليزدادوا فهما ودرايةً بسيرته وتاريخه(ع). وسيلاحظون في كل مصدر أموراً قد لا يجدونها في مصدر آخر, وليعلموا ان نصف العلم قد يكون في أحيانٍ كثيرةٍ أضرَّ من الجهل,نستجير بالله. وأهم المصادر التي تتحدث عن إمامنا المهدي (ع) هي الموسوعة للسيد الشهيد محمد الصدر (قدس), ومعجم أحاديث الامام المهدي للكوراني, وحياة المهدي للقرشي, وغيرها من المصادر التي كتبت بأسلوب علمي دقيق.
وسيجد القارىء في هذه المصادر مايكشف زيف مثل تلك الدعوات المنحرفة وأمثالها,حتى أنه ورد في بعض الروايات مامعناه أن كل دعوة مهدوية قبل الصيحة هي كذب وإفتراء.
وفي هذه الأيام أيضاً نلاحظ بروز عدة حركات، وعدة دعوات، تشترك في أنها تقدح في العلماء وتسيء اليهم، وتتهمهم, وتنسب اليهم الكثير من الافتراءات, وتأوِّل تصرفاتهم بما يخالف الشريعة، وتجيئ بجملة من الأخبار والروايات على أنها تتحدث عن هؤلاء الفقهاء الذين تتهمهم بأنهم منحرفون ومضلون.
وأنا أتساءل واسأل سائر المؤمنين، هل أن هذه الدعوات التي تبتني على هذا الأسلوب اللاأخلاقي، تصلح أن تكون هي البديل؟
وهل أن هذه الحركات التشويهية يمكن ان تقود الأمة الى الخير والصلاح؟
بالتأكيد لا وألف لا. فإن الوارد في الحديث أنه لا يُطاع الله من حيث يُعصى،وأن الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق , وان الوارد في القرآن الكريم ان الله تعالى أمر نبيه محمداً (ص) بأن لا يدخل مسجداً ضراراً:
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) (التوبة:107-108).
ثم يقول الله عز وجلّ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ_ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة:109).
فكلنا يعرف من آيات القرآن، ومن سيرة المعصومين (ع) ان الدعوة الى الله يجب ان تكون نقيّة، وان تكون الأقوال مقرونة بالأفعال، وأن تكون الأخلاق والشرف ومحاسن الصفات هي مقياس الداعي النموذجي والدعوة المثالية.
هل تساءل أحدنا لماذا تلتقي أهداف الدعوات الجديدة التي تحارب الفقهاء عموماً مع أهداف القوى الاستعمارية والشيطانية؟ فالجميع يشتركون في أهمية التخلص من العلماء أو تشويه سمعتهم في أقل التقادير.
هل تساءل احدنا لماذا هذا الوقت الحرج بالذات حيث الصدامات الطائفية والنزاعات المذهبية، والعنف يملأ البلاد، ولا استقرار ولا أمان؟
هل تساءل أحدنا أنه إذا كان هؤلاء الفقهاء غير شرعيين، وانهم لا يستحقون ان يُقلَّدوا أو يُسألوا عن الفتاوى الشرعية، فما هو البديل ومن هم القادة الشرعيون الذين يفترَض انهم أمناء الرسل وحصون الإسلام كما سنسمع في أحاديث اهل البيت عليهم السلام؟
ومن أين ستأخذ الأمة أحكامها الشرعية ووظائفها الدينية، حينما يُشطب على الفقهاء والعلماء جملةً وتفصيلاً؟
هل سيكون هؤلاء الذين يدّعون لأنفسهم الكمالات والمناصب (بلا دليل منطقي وبلا حجة شرعية)هم الذين يعلّمون الامة دينها وتعاليم ربّها عزّ وجل، وهم أناس غاية ما يقولونه ويحفظونه بعض الروايات أو النصوص الموجودة في بعض الكتب التي يمكن لأي شخص ان يقرأها، وأما الاعم الاغلب من اقوالهم فهو مجرد ادعاءات وتأويلات مبنية على الاستحسان والفهم الشخصي، وكله يدخل اما في باب التفسير بالرأي او في باب الإفتاء بالرأي وكلاهما منهيّ عنه في عدة روايات صحيحة ومعتبرة (انظر كتاب الوسائل، ابواب صفات القاضي).
ثم انهم يخدعون الناس بأن الفقيه ليس محصوراً بمن يفهم الفقه والمسائل الشرعية (أي المجتهد)، وانما يُراد به العارف او الولي او نحو ذلك.
ولكن الواقع ان الفقه كما في الآيات القرآنية والروايات يشمل العنوانين معاً, فالمجتهد والعارف والولي وكل من يلتزم بالتعاليم الإلهية هو فقيه, حتى ورد عن النبي (ص) انه قال لعمّار بن ياسر انك من الفقهاء، وقد ورد ان الفقيه من لم يقنّط الناس من رحمة الله.
وهذا صحيح فعلاً , إلا أن المهم عملياً هو معرفة الأحكام الشرعية لتفاصيل الحياة الشخصية والاجتماعية, وهذا يتطلب جهداً كبيرا,ً وإطلاعاً واسعاً على مصادر التشريع والرواية وكتب الرجال، وفهماً باللغة وبموضوعات الأحكام، ودراية بقواعد الترجيح وغير ذلك مما ينفرد به المجتهد الحوزوي وهو الفقيه بالمعنى المصطلح عليه ,وهو الذي أمرنا الأئمة (ع) بالرجوع اليه (كما سنذكر) في بعض الروايات.
وكيف يحق للفرد ان يأخذ وظيفته الشرعية من شخص غير ملم بهذه التفاصيل، لمجرد انه يدّعي الكشف او العلم اللدني او يدّعي انه يلتقي بالحجة المنتظر (ع), وهل يكفي الادعاء مع كثرة المدعين وتعارضهم، وكيف يثق المؤمن بمثل هذه الادعاءات وهو يريد ان يقابل الله تعالى بوجه أبيض وقلب سليم، في حين ورد في بعض الروايات انه (لا تصلي إلا خلف من تثق بدينه) فكيف بالانقياد التام خلف امثال هؤلاء؟!
وقد نقل الشهيد الثاني في (منية المريد) عن بعض المحققين ما مضمونه: (ان العلماء ثلاثة: عالم بالله غير عالم بأمر الله، وعالم بأمر الله غير عالم بالله، فهو الذي عرف الحلال والحرام ودقائق الأحكام، وعالم بالله وبأمر الله فهذا على سبيل المرسلين والصدّيقين وهو المراد بقوله (ص) (سائل العلماء وخالط الحكماء وجالس الكبراء) فالعلماء هم الصنف الثاني، وقد أمر الله بمساءلتهم عند الحاجة الى الاستفتاء، واما الحكماء فهم الصنف الاول فأمر بمخالطتهم ,واما الكبراء فهم الصنف الثالث فأمر بمجالستهم لأن فيها خير الدنيا والآخرة.
أقول: لا يخفى ان الخير كل الخير اذا اجتمع الأمران, الفقه بمعنى الاجتهاد، والفقه بمعنى العرفان، فهذا فقيه كامل وهو الفقيه الربّاني والعالم الحقيقي وهو خير بالتأكيد من الفقيه العادل الاعتيادي، وكلاهما مبرئ للذمة ويصدق عليه عنوان (الفقيه). وحتى لو قلنا باشتراط الاعلمية في مرجع التقليد فهذا لا يمنع من ان يجمع الفرد بين تقليد الأعلم في المسائل الشرعية، والتعلم من الآخر في مسائل الأخلاق والسلوك العرفاني.
وهكذا فإن الحذر واجب وقد ورد عن المعصومين (ع) انه ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها، وإنه ليس من العقل ان يسلّم الإنسان هذه الوديعة التي بين جنبيه الى كل من هبّ ودبّ, ومن دون ان يضمن الفوز والنجاة ورضوان الله عز وجل.
خصوصاً وان الخالق عز وجل نَبّهَ عباده الى مشكلة الجهل المركب التي هي من اعظم المشاكل والابتلاءات التي يمكن ان تصادف الفرد ، حيث يقول الله تعالى (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأعراف: 30) (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف:104).
ولقد كان الخوارج يحاربون امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) وهم ينادون (الرواح الرواح الى الجنة), وكان اللعين ابن ملجم ينادي حينما ضرب الامام علي (ع) : (الحكم لله). وكذلك يفعل هؤلاء الارهابيون التكفيريون الذين يفجرون انفسهم بين الابرياء من اهل الاسلام، وهم يظنون انهم يحسنون صنعاً.
فهل يود أحدنا ان يكون مثل هؤلاء الجهلة السذج الذين سلّموا عقولهم وأرواحهم بأيدي شياطين الإنس من الدجالين والكذابين والوضاعين؟
وفي الحقيقة فإن الدعوات المهدوية والسلوكية الجديدة تركّز على جملة من النصوص والروايات التي هي من قبيل المتشابه في القرآن، حيث يقول الله تعالى ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)، وعن الامام الرضا (ع) (ان في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن فردوا متشابهها الى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا).
فهؤلاء الدعاة تركوا الاحاديث التي توصي بالاخلاق والكلمة الطيبة، وانه لا إكراه في الدين، وانه لا يجوز التعريض بالمؤمنين, وانه ليس من اخلاق المؤمن ان يسب او يحقد او يؤذي غيره.
تركوا كل هذه الاحاديث وتمسكوا بظاهر بعض النصوص التي تتحدث ان المهدي (ع) عندما يخرج سيقتل جملة من الفقهاء.
فمن هذه الاحاديث ما دل على ان من علامات الظهور هو ان يقل الفقهاء الهادون، ويكثر فقهاء الضلالة، وكذلك ورد ان فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء، وكذلك ورد ان المهدي (ع) يقتل في ظهر النجف ستة عشر الف فقيهاً من البترية الذين خرجوا اليه مدججين بالسلاح وهم من القرّاء والفقهاء في الدين وكلهم يقول يابن فاطمة ارجع لا حاجة لنا فيك.
هذه الاحاديث موجودة في بعض المصادر فعلاً، تماماً كما نجد فيها أيضاً ان الامام (ع) يمسح على ظهور الفقهاء وبطونهم فلا يقولون الا حكماً.
فالمسألة اذاً لا تخص جميع الفقهاء، كيف والشريعة قامت بهم، وهم الذين حفظوا الدين وأهله في زمن الغيبة بفضل الله ثم ببركات الامام الحجة عليه السلام.
ونحن نسمع في عدة نصوص عن المعصومين (ع) انهم يحذّرون من الفقهاء المنافقين، او الذين يميلون الى الدنيا، وكانوا يتحدثون عن كل زمان، ولم يقيّدوا الامر بزمان الظهور الشريف.
فيتحصّل مما سبق انه وان كانت مثل هذه الاحاديث ضعيفة على مستوى البحث الرجالي, إلا انه على فرض صحتها فإن المقصود بهؤلاء الفقهاء هم الفقهاء المنافقون، او اهل الدنيا من الفقهاء، او الذين يدّعون كذباً انهم فقهاء، او الفقهاء المخالفون الذين يناصبون العداء لأهل البيت(ع) ولشيعتهم، وهؤلاء كثيرون كما لا يخفى وكلهم مشمول بالعقاب الإلهي الذي سيأتي به امامنا المنتظر (ع), لأنهم فعلاً سيقفون ضده ويحاربونه بشتى الوسائل.
وقد سمعت قبل قليل أن الرواية تحدثت عن فقهاء من البترية ,وهم ليسوا من الامامية الإثني عشرية.ولعل المقصود بهم في هذه الرواية هم الذين ينفصلون ويتبرأون من خط المذهب الحق المتمثل بالأئمة(ع) ,ثم سفراء الامام الثاني عشر(ع),ثم عدول الفقهاء جيلاً بعد جيل.وقد ورد أن زيداً الشهيد خاطب البترية بقوله: (بترتم أمرنا بتركم الله).
واما الفقهاء العدول العاملون فهؤلاء من انصار الحجة(ع) بالتأكيد ,وهم جنوده في عصر الظهور، مثلما هم جنوده وأنصاره في زمن الغيبة. وقد ورد في رواية عن الامام علي الهادي(ع): (لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين اليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شِباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتدّ عن دين الله, ولكنهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل).
وفي الحقيقة فإن هؤلاء الفقهاء المخلصين، وهؤلاء المراجع الذين يخدمون الدين بأقلامهم وأرواحهم، والذين بنوا هذه الحوزة الشريفة وحافظوا عليها طيلة قرون من الزمن، وتحملوا من أجلها أشد التضحيات, ومرّوا بأقسى الظروف . هؤلاء العلماء هم الذين عناهم الائمة (ع) في عدة روايات صحيحة ومعتبرة ووصفوهم بأنهم أمناء الرسل، وحصون الإسلام، وورثة الأنبياء، وانهم كأنبياء بني اسرائيل.
وهؤلاء العلماء هم الذين ورد في حقهم عن الصادق (ع) انه توزن دماء الشهداء مع مداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء (انظر من لا يحضره الفقيه: 4/399) .
هؤلاء العلماء هم الذين أعطاهم الأئمة (ع) منصب القضاء والحكومة كما في روايتي ابي خديجة وعمر بن حنظلة عن الصادق (ع). وقد ورد في الفقه الرضوي ان منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني اسرائيل. وهؤلاء هم رواة الأحاديث الثقاة الذين هم حجة الامام على الناس كما ورد في توقيع الامام المهدي (ع) في جوابه للعمري.
وهؤلاء العلماء هم الذين اذا مات الواحد منهم ثُلِمَ في الاسلام ثلمة لا يسدها شيء الى يوم القيامة كما ورد في الحديث، وانه ما من احد يموت من المؤمنين أحب الى ابليس من موت فقيه، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الاسلام كحصن سور المدينة لها. الى غير ذلك من الاحاديث التي يمكن مراجعتها في اول كتاب الكافي وغيره.
بل نزيد هنا فنقول: انه ورد في الحديث عن الامام علي (ع) ان من علامات الفسق هو مقت الفقهاء، وورد عن الامام السجاد (ع) (ان الله اوحى الى دانيال أن أَمْقَت عبيدي الي: الجاهل المستخفّ بحق أهل العلم التارك للاقتداء بهم. وان أحب عبيدي الي :التقي الطالب للثواب الجزيل, اللازم للعلماء، التابع للحلماء، القابل عن الحكماء) .
ثم انه تجدر الاشارة هنا الى ما ورد من ان العبد لا يزال يكتب محسناً ما دام ساكتاً, فإذا تكلم كتب عند الله اما محسناً او مسيئاً.
فلماذا يجازف العبد باتهام الآخرين او قدحهم، سواء كانوا من الفقهاء او من عوام عباد الله، وما فائدته في ذلك، خصوصاً اذا التفت الى قول النبي (ص) (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته). فإذا كان يعتقد ان البعض قصّر او أخطأ, فلماذا لا يحاول الإصلاح بنفسه ما دام مكلفاً ايضاً. وقد ورد عن الصادق (ع) ما مضمونه: لوددت ان اضرب رؤوس اصحابي بالسياط حتى يتفقهوا في الدين.
بل يقول الله تعالى (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122).
ولقد سمعت من السيد الشهيد محمد الصدر (قدس) ان المجتمع بلا حوزة لا يساوي شيئاً ,مهما كانت هناك سلبيات او نواقص في الحوزة ، وهذه حقيقة لا يمكن انكارها، بدليل ان كل قوى الطغيان والظلم تحاول قتل الحوزة او اسقاطها بشتى الوسائل , لتضيع الامة او تتجه نحو الفوضى المذهبية والتشتت الفكري.
ومن العجيب أن أعداءنا يعرفون أهمية رموزنا وعلمائنا فيحاولون إستهدافهم وتصفيتهم ,في الوقت الذي نجهل نحن قيمتهم, ولا يهتم أكثرنا إلا بإنتقادهم أو التجريح بهم حتى جعلوهم مائدة للغيبة والبهتان والعياذ بالله.
ومن العجيب ايضاً ان سائر الملل واهل الاديان والمذاهب يقدسون علماءهم رغم انهم لا يعرفون شيئاً عن الدين الا المظاهر، اما مجتمعاتنا(الملتزمة) فلا تحترم العلماء والفقهاء ,ولا تقدر مكانتهم الا بعد موتهم, رغم انهم رمز كرامتهم، وشعار هيبتهم، شعروا بذلك ام لم يشعروا.
وهذا هو السر في ان الائمة (ع) تحدثوا عن اهمية الفقهاء في عدة روايات، وأوصوا الامة باتباعهم والاقتداء بهم، لأنهم يعلمون ان الامة ستمر في عصر الغيبة بظروف عصيبة تحتاج فيها الى من يمسك بيدها ويقودها على الصراط المستقيم، وهؤلاء هم الفقهاء الذين يكون دورهم دور التبليغ والوساطة والنيابة عن المعصومين (ع).
فلنحذر جميعاً من الدعايات والافتراءات والشعارات المزيفة، لكي لا يقع واحدنا فريسة للجهل وقلة الوعي, كما وقع ذلك الشامي في مجلس يزيد حينما اراد أن يستوهبه فاطمة بنت الحسين عليه السلام لأنه كان يصدّق بدعايات يزيد ويظن ان سبايا الحسين (ع) هم من الخوارج. او كما وقع ذلك الشيخ المسكين الذي اساء الى السجاد (ع)، فلما عرف انه من اهل القربى وانه من اهل بيت النبي (ص) ، ندم وبكى.
ليكن هدفنا خدمة الدين قربة خالصة لله تعالى، واحترام بعضنا البعض قربة خالصة لله تعالى, لا نريد من احد جزاءاً ولا شكوراً، ولا يدفعنا الحقد السابق، او الكراهية الفئوية أو الحزبية، لأن نقتل انفسنا بأنفسنا، ونعين أعداءنا علينا ، فإن هؤلاء الأعداء والشياطين لا يفرقون فيما بيننا، ونحن جميعاً مستهدفون عندهم..
وإذا كانت هناك خيبة أمل من بعض الرموز,أو كان هناك عدم إقتناع بتصرفات أو مواقف بعض الفقهاء, فلا يدفعنا ذلك الى هاوية الضياع والانحراف,فإن الخطأ لايعالج بالخطأ, ونحن ندعو في كل صلاة ونناجي ربنا (إهدنا الصراط المستقيم ,صراط الذين أنعمت عليهم ,غير المغضوب عليهم ولا الضالين)..
هذا الصراط ليس بعيدا عنا ,فهو موجود في كلمات أئمتنا(ع)التي نقرأها في هذه الكتب الأصيلة التي تملأ المكتبات ولله الحمد. وقد ورد في الحديث عنهم(ع)

نعم لابد من إختيار الكتاب الموثق والمصدر الأمين الذي ينقل الاحاديث والروايات بصدق وإخلاص,من قبيل كتاب الوسائل للحر العاملي ونحوه.كذلك يجب أن يستنير الفرد بفهم المؤمنين المتقين, فإن المؤمن مرآة المؤمن , وماخاب من إستشار.
فالله الله في ديننا فإنه عصمة أمرنا، والعاقبة للمتقين وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
(الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه,أولئك الذين هداهم الله,وأولئك هم أولوا الألباب)
21/محرم/1428
تعليق