حصيلة الحرب :
ذكروا من هول هذه الحرب الضروس وشدته ما رواه الطبري وغيره عنهم أنهم قالوا : لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت ، وتطاعنا بالرماح حتى تشبكت في صدورنا وصدورهم حتى لو سيرت عليها الخيل لسارت . وقال بعضهم : ما مررت بدار الوليد قط ، فسمعت أصوات القصارين يضربون ، إلا ذكرت قتالهم ( 277 ) .
( 277 ) الطبري 5 / 218 ، وفي العقد الفريد 4 / 32 ما يؤيد ذلك و " دار الوليد " موضع بالبصرة يجتمع فيه غاسلو الثياب " والقصار " و " المقصر " محور الثياب ومبيضها بالقصرة وهي خشبة قصيرة كانوا يضربون بها على الثياب عند غسلها . ( * )
- ج 1 ص 251 -
ومر قولهم : ولقد كانت الرؤوس تندر عن الكواهل والأيدي تطيح عن المعاصم ، وأقتاب البطون تندلق من الاجواف ، وكانت حصيلة هذه الحرب من الايدي المقطوعة والعيون المفقوءة ما لم يحص عددها ، أما القتلى فقد عدهم الطبري في بعض رواياته ما يزيد على ستة آلاف .
وقال ابن أعثم في تاريخه : قتل من جيش علي ألف وسبعمائة ومن أصحاب الجمل تسعة آلاف .
وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد : قتل يوم الجمل من جيش عائشة عشرون ألفا ، ومن أصحاب علي خمسمائة .
وفي تاريخ اليعقوبي : قتل في ذلك نيف وثلاثون ألفا ( 278 ) .
كانت هذه حصيلة المسلمين من الحرب يومذاك ، وما أنتجت لهم بعده فكثيرة لا تحصى ، وهائله لا تقدر .
وإن من نتائجها القريبة إشعال معاوية الحرب بصفين ، فإنها في حقيقتها كانت امتدادا لحرب الجمل ، إذ أن قيام أم المؤمنين التيمية بالحرب على علي باسم الطلب بثار عثمان مهد السبيل لمعاوية الأموي أن يقيمها عليه كذلك ، كما مهدت له السبيل أيضا لان يجعل الخلافة ملكا وراثيا في آل أمية أسرة الخليفة القتيل يورثها الآباء الأبناء .
وكان من نتائج الحربين ( الجمل وصفين ) خروج الخوارج على علي وحربهم بنهروان ، فإن هاتين الحربين شوشتا على جماعة من المتنطعين أمرهم ،
( 278 ) الطبري 5 / 225 ، والعقد الفريد ط . لجنة التأليف 4 / 226 ، وابن أعثم واليعقوبي عند ذكرهما االجمل من تاريخهما . إن المؤرخين غالبا يختلفون في عدد قتلى المعارك وقد يكون منشأ ذلك أنه لم يكن هناك احصاء دقيق صحيح عن الجيوش المحاربة والمفقودين فيها ، وقد يكون مبعثه الاهواء والعصبيات إلى غير ذلك . ( * )
- ج 1 ص 252 -
فخرجوا على المسلمين كافة ، يكفرونهم ، ويريقون دماءهم ويقطعون السبيل ويسلبون الأمن بما أقاموا من حروب امتد مداها إلى عصر الخلافة العباسية . وي كأن حرب الجمل لم تقع في فترة قصيرة من الزمن بل امتدت إلى آماد بعيدة في الدهر .
التحزب والحرب الكلامية :
وكان طبيعيا أن يستتبع ذلك تفريق كلمة المسلمين وانقسامهم إلى شيع وأحزاب فأصبحوا علوية وعثمانية وخوارج وبكرية إلى غير ذلك من طوائف متخاصمة تقوم بينها حروب دموية أحيانا وكلامية أخرى ( 279 )
وكان من مجالات حروبهم الكلامية واقعة الجمل نفسها ومن قام بها ورضي عنها ، فقد قالت الخوارج فيها : إن عائشة وطلحة والزبير كفروا بمقاتلتهم عليا ، وقالوا : إن عليا كان يوم ذاك على الحق ولكنه كفر بعد التحكيم ( 280 ) .
ولعنوا عليا في تركه اغتنام أموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم ( 281 ) .
وقال فريق من المعتزلة بفسق كلا الفريقين من أصحاب حرب الجمل وأنهم خالدون مخلدون في النار ( 282 ) .
وقال آخرون منهم : إن أحد الفريقين فاسق لا محالة وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادته ( 283 ) .
وأن لو شهدوا جميعا على باقة بقل لم
( 279 ) راجع كتاب : " العثمانية " للجاحظ ( 155 250 ) ونقده لمعاصره أبي جعفر الاسكافي ، ترجمة ابن أبي الحديد في شرح النهج 2 / 159 . وكذلك أورد ابن أبي الحديد كثيرا من محاربتهم القولية نظما ونثرا في مجلدات شرح النهج .
( 280 ) التبصير 41 والملل والنحل 1 / 185 ، والفصل 4 / 153 ، والفرق بين الفرق 55 56 ويقصدون بالتحكيم تحكيم أبي موسى وعمرو بن العاص بعد واقعة صفين .
( 281 ) الملل 1 / 176 والتبصير 27 والفرق 58 .
( 282 ) التبصير 42 عن عمرو بن عبيد .
( 283 ) الملل 1 / 65 عن واصل بن عطاء ، والفصل لابن حزم 4 / 153 ، والتبصير 41 . ( * )
- ج 1 ص 253 -
تقبل ( 284 ) .
وقال فريق ثالث منهم : كل أهل الجمل هالكون إلا من ثبتت توبته وكذلك طلحة والزبير ، أما عائشة فإنها اعترفت لعلي يوم الجمل بالخطأ وسألته العفو ( 285 ) .
وروى الجاحظ عن بعض السلف : أنهم كانوا يقولون إذا ذكروا يوم الجمل : " هلكت الاتباع ونجت القادة " ( 286 ).
وقال أكثر الأشاعرة : إن أصحاب الجمل أخطأوا ولكنه خطأ مغفور كخطأ المجتهد في بعض مسائل الفروع ولا يلزم به الكفر ولا الفسق ولا التبري ولا العداوة ( 287 ) .
وقال قسم منهم : إن عائشة وطلحة رجعا عن الخطأ ( 288 ) .
وقال غيرهم : إنهم اجتهدوا فلا إثم عليهم ولا نحكم بخطأهم وخطأ علي وأصحابه ( 289 ) .
وإن أكرم القول في أم المؤمنين وأطيبه ما قاله فيها علي حيث قال : " ولها بعد حرمتها الأولى والحساب على الله " ( 290 ) .
( 284 ) التبصير 41 . وقال ابن الاثير في لغة ( العمري ) من اللباب 2 / 152 " والى عمرو بن عبيد المعتزلي البصري وكان قدريا . . ويقول انه لو شهد علي وطلحة والزبير ( رض ) على شئ لم تقبل شهادتهم " .
( 285 ) شرح النهج 3 / 396 ، وفي 2 / 448 منه يشير إشارة عابرة إلى ذلك .
( 286 ) العثمانية للجاحظ ص 246 ط . دار الكتاب بمصر سنة 1374 ه
( 287 ) شرح النهج 3 / 266 .
( 288 ) التبصير ص 41 .
( 289 ) الملل والنحل 1 / 144 ، والفصل 4 / 153 .
( 290 ) نهج البلاغة 2 / 63 ، وكنز العمال 8 / 215 217 ، ومنتخبه 5 / 315 331 . ( *
ذكروا من هول هذه الحرب الضروس وشدته ما رواه الطبري وغيره عنهم أنهم قالوا : لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت ، وتطاعنا بالرماح حتى تشبكت في صدورنا وصدورهم حتى لو سيرت عليها الخيل لسارت . وقال بعضهم : ما مررت بدار الوليد قط ، فسمعت أصوات القصارين يضربون ، إلا ذكرت قتالهم ( 277 ) .
( 277 ) الطبري 5 / 218 ، وفي العقد الفريد 4 / 32 ما يؤيد ذلك و " دار الوليد " موضع بالبصرة يجتمع فيه غاسلو الثياب " والقصار " و " المقصر " محور الثياب ومبيضها بالقصرة وهي خشبة قصيرة كانوا يضربون بها على الثياب عند غسلها . ( * )
- ج 1 ص 251 -
ومر قولهم : ولقد كانت الرؤوس تندر عن الكواهل والأيدي تطيح عن المعاصم ، وأقتاب البطون تندلق من الاجواف ، وكانت حصيلة هذه الحرب من الايدي المقطوعة والعيون المفقوءة ما لم يحص عددها ، أما القتلى فقد عدهم الطبري في بعض رواياته ما يزيد على ستة آلاف .
وقال ابن أعثم في تاريخه : قتل من جيش علي ألف وسبعمائة ومن أصحاب الجمل تسعة آلاف .
وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد : قتل يوم الجمل من جيش عائشة عشرون ألفا ، ومن أصحاب علي خمسمائة .
وفي تاريخ اليعقوبي : قتل في ذلك نيف وثلاثون ألفا ( 278 ) .
كانت هذه حصيلة المسلمين من الحرب يومذاك ، وما أنتجت لهم بعده فكثيرة لا تحصى ، وهائله لا تقدر .
وإن من نتائجها القريبة إشعال معاوية الحرب بصفين ، فإنها في حقيقتها كانت امتدادا لحرب الجمل ، إذ أن قيام أم المؤمنين التيمية بالحرب على علي باسم الطلب بثار عثمان مهد السبيل لمعاوية الأموي أن يقيمها عليه كذلك ، كما مهدت له السبيل أيضا لان يجعل الخلافة ملكا وراثيا في آل أمية أسرة الخليفة القتيل يورثها الآباء الأبناء .
وكان من نتائج الحربين ( الجمل وصفين ) خروج الخوارج على علي وحربهم بنهروان ، فإن هاتين الحربين شوشتا على جماعة من المتنطعين أمرهم ،
( 278 ) الطبري 5 / 225 ، والعقد الفريد ط . لجنة التأليف 4 / 226 ، وابن أعثم واليعقوبي عند ذكرهما االجمل من تاريخهما . إن المؤرخين غالبا يختلفون في عدد قتلى المعارك وقد يكون منشأ ذلك أنه لم يكن هناك احصاء دقيق صحيح عن الجيوش المحاربة والمفقودين فيها ، وقد يكون مبعثه الاهواء والعصبيات إلى غير ذلك . ( * )
- ج 1 ص 252 -
فخرجوا على المسلمين كافة ، يكفرونهم ، ويريقون دماءهم ويقطعون السبيل ويسلبون الأمن بما أقاموا من حروب امتد مداها إلى عصر الخلافة العباسية . وي كأن حرب الجمل لم تقع في فترة قصيرة من الزمن بل امتدت إلى آماد بعيدة في الدهر .
التحزب والحرب الكلامية :
وكان طبيعيا أن يستتبع ذلك تفريق كلمة المسلمين وانقسامهم إلى شيع وأحزاب فأصبحوا علوية وعثمانية وخوارج وبكرية إلى غير ذلك من طوائف متخاصمة تقوم بينها حروب دموية أحيانا وكلامية أخرى ( 279 )
وكان من مجالات حروبهم الكلامية واقعة الجمل نفسها ومن قام بها ورضي عنها ، فقد قالت الخوارج فيها : إن عائشة وطلحة والزبير كفروا بمقاتلتهم عليا ، وقالوا : إن عليا كان يوم ذاك على الحق ولكنه كفر بعد التحكيم ( 280 ) .
ولعنوا عليا في تركه اغتنام أموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم ( 281 ) .
وقال فريق من المعتزلة بفسق كلا الفريقين من أصحاب حرب الجمل وأنهم خالدون مخلدون في النار ( 282 ) .
وقال آخرون منهم : إن أحد الفريقين فاسق لا محالة وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادته ( 283 ) .
وأن لو شهدوا جميعا على باقة بقل لم
( 279 ) راجع كتاب : " العثمانية " للجاحظ ( 155 250 ) ونقده لمعاصره أبي جعفر الاسكافي ، ترجمة ابن أبي الحديد في شرح النهج 2 / 159 . وكذلك أورد ابن أبي الحديد كثيرا من محاربتهم القولية نظما ونثرا في مجلدات شرح النهج .
( 280 ) التبصير 41 والملل والنحل 1 / 185 ، والفصل 4 / 153 ، والفرق بين الفرق 55 56 ويقصدون بالتحكيم تحكيم أبي موسى وعمرو بن العاص بعد واقعة صفين .
( 281 ) الملل 1 / 176 والتبصير 27 والفرق 58 .
( 282 ) التبصير 42 عن عمرو بن عبيد .
( 283 ) الملل 1 / 65 عن واصل بن عطاء ، والفصل لابن حزم 4 / 153 ، والتبصير 41 . ( * )
- ج 1 ص 253 -
تقبل ( 284 ) .
وقال فريق ثالث منهم : كل أهل الجمل هالكون إلا من ثبتت توبته وكذلك طلحة والزبير ، أما عائشة فإنها اعترفت لعلي يوم الجمل بالخطأ وسألته العفو ( 285 ) .
وروى الجاحظ عن بعض السلف : أنهم كانوا يقولون إذا ذكروا يوم الجمل : " هلكت الاتباع ونجت القادة " ( 286 ).
وقال أكثر الأشاعرة : إن أصحاب الجمل أخطأوا ولكنه خطأ مغفور كخطأ المجتهد في بعض مسائل الفروع ولا يلزم به الكفر ولا الفسق ولا التبري ولا العداوة ( 287 ) .
وقال قسم منهم : إن عائشة وطلحة رجعا عن الخطأ ( 288 ) .
وقال غيرهم : إنهم اجتهدوا فلا إثم عليهم ولا نحكم بخطأهم وخطأ علي وأصحابه ( 289 ) .
وإن أكرم القول في أم المؤمنين وأطيبه ما قاله فيها علي حيث قال : " ولها بعد حرمتها الأولى والحساب على الله " ( 290 ) .
( 284 ) التبصير 41 . وقال ابن الاثير في لغة ( العمري ) من اللباب 2 / 152 " والى عمرو بن عبيد المعتزلي البصري وكان قدريا . . ويقول انه لو شهد علي وطلحة والزبير ( رض ) على شئ لم تقبل شهادتهم " .
( 285 ) شرح النهج 3 / 396 ، وفي 2 / 448 منه يشير إشارة عابرة إلى ذلك .
( 286 ) العثمانية للجاحظ ص 246 ط . دار الكتاب بمصر سنة 1374 ه
( 287 ) شرح النهج 3 / 266 .
( 288 ) التبصير ص 41 .
( 289 ) الملل والنحل 1 / 144 ، والفصل 4 / 153 .
( 290 ) نهج البلاغة 2 / 63 ، وكنز العمال 8 / 215 217 ، ومنتخبه 5 / 315 331 . ( *