مواقفه الشامخة في حكومة إمامه
في خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه وحكومته، كانت مواقف الأشتر واضحةً جَليّة المعالم، فهذا العملاق الشجاع.. أصبح جُنديّاً مخلصاً لأمير المؤمنين لم يفارقه قطّ، كما كان من قبل تسلّم الإمام لخلافته الظاهريّة، فلم يَرِد ولم يصدُر إلاّ عن أمر الإمام عليّ سلام الله عليه.. حتّى جاء مدحه جليلاً على لسان أمير المؤمنين عليه السّلام، فكان أن كتب في عهده له إلى أهل مصر حين جعله والياً على هذا الإقليم:
أمّا بعد: فقد بَعثتُ إليكم عبداً من عباد الله، لا ينام أيّامَ الخوف، ولا يَنكُل عن الأعداء ساعاتِ الرَّوع، أشدُّ على الفُجّار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مَذْحِج، فاسمَعوا له وأطيعوا أمرَه فيما طابَق الحقّ، فإنّه سيفٌ من سيُوف الله، لا كليلُ الظُّبّة، ولا نابي الضَّريبة. فإن أمَرَكم أن تَنفِروا فانفِروا، وإن أمَرَكم أن تُقيموا فأقيموا؛ فإنّه لا يُقدِم ولا يُحجِم ولا يُؤخِّر ولا يُقدِّم إلاّ عن أمري.
وكتب عليه السّلام له يوماً: وأنت مِن آمَنِ أصحابي، وأوثقِهم في نفسي، وأنصحِهم وأرآهُم عندي.
ولهذا القول الشريف مصاديق مشرقة، إذ كان للأشتر رضوان الله تعالى عليه هذه المواقف والأدوار الفريدة:
1 ـ قيل: إنّه أوّل مَن بايَعَ الإمامَ عليّاً عليه السّلام على خلافته الحقّة، وطالب المُحجِمين عن البيعة بأن يقدّموا ضمانة على أن لا يُحدِثوا فِتَناً، لكنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أمره بتركهم ورأيَهُم.
2 ـ زَوَّد أميرَ المؤمنين عليّاً عليه السّلام بالمقاتلين والإمدادات من المحاربين في معركة الجمل الحاسمة، مستثمراً رئاسته زعامته على قبيلة مِذحج خاصّة والنَّخَع عامة، فحشّد منهم قوّاتٍ مهمّة. فيما وقف على ميمنة الإمام في تلك المعركة يفدّيه ويُجندِل الصَّناديد، ويكثر القتل في أصحاب الفتنة والخارجين على طاعة إمام زمانهم.
3 ـ وفي مقدّمات معركة صفّين.. عمل مالك الأشتر على إنشاء جسر على نهر الفرات؛ ليعبر عليه جيش الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فيقاتل جيش الشِّقاق والانشقاق بقيادة معاوية بن أبي سفيان. ثمّ كان مالك رحمه الله المحوَر الفعّال في إدارة المعركة، فأزال ـ هو والأشعث ـ أبا الأعور السُّلَميّ عن مشرعة الماء بعد أن استولى عليها. وقاد في صفّين أيضاً جيشاً من الفُرسان والمشاة تعداده أربعة آلاف مقاتل، وكان له بَلاء حَسَن يوم السابع من صفر عام 37 هـ حين أوقع الهزيمة في جيش معاوية.
ولمّا رفع أهل الشام المصاحف، يخدعون بذلك أهل العراق ويستدركون انكسارهم وهلاكهم المحتوم، انخدع الكثير، بَيْد أن مالكاً لم ينخدع ولم يتراجع حتّى اضطرّه الإمام عليّ عليه السّلام إلى الرجوع، كما اضطُرّ إلى قبول صحيفة التحكيم ـ وكان لها رافضاً ـ خضوعاً إلى رضى إمامه عليه السّلام.
الأشتر شاعراً
لمّا كان مالك الأشتر صاحب تلك المواقف الشامخة.. حاول بعضهم أن يهملوا شعره ويطمسوه، لكنهم لم يفلحوا في إطفاء الشمس
فالزركليّ في (الأعلام) يذكر: ولمالك شعر جيّد، وقد اختار له أبو تمّام في (ديوان الحماسة) شعراً. وذكره الآمديّ في (المؤتلِف والمختلِف) في عداد الشعراء، وذكر له البحتري في حماسته شعراً، وعدّه ابن حَجَر في (الإصابة) من فحول الشعراء.. أما ابن أبي الحديد المعتزليّ فقد قال في شرح النهج: كان مالك شديد البأس، جواداً حليماً، فصيحاً شاعراً.
هذا، إلى كثير من المصادر والموسوعات الأخرى، ما يجعلنا نطمئنّ إلى ما في شعره من متانة وسموّ مايستحقّ به الإعجاب والتقدير والدراسة، فضلاً عن الجمع والتبويب، والنشر. لا سيّما وأنّه مليء بمعاني الإسلام والسُنّة النبويّة، والقيم المستوحاة من القرآن والرسالة وروح الدين، وقد انعكس ذلك على ألفاظه وعباراته التي صاغها صياغة جميلة، وأعطاها بُعداً مُبتكَراً، ممّا يدلّ على ارتباطه الوثيق بكتاب الله.
هذا، ومن خصائص شعر مالك الأشتر أنّ الغالب عليه غرضُ الحماسة والبطولة، وهو انعكاس للصراع الخطير والمرحلة التاريخية الحسّاسة التي كان يمرّ بها الإسلام، وقد جادت به قريحته النابضة الحيّة فيه، ولعلّ الشعر البطوليّ هو الغالبَ العامّ في قصائده، بما يمتاز به من سلاسة وروعة.
ثمّ إنّه نحا في شعره منحى الوفاء لإخوانه في العقيدة، الذين شاركهم وشاركوه ذكريات الجهاد، فذكَرَهم ذِكراً جميلاً، وكان يشتاق إلى اللحاق بهم.. وذلك واضح في ذِكره لعمّار بن ياسر وهاشم المِرقال وعبدالله بن بُديل الخُزاعيّ.
ومن الجوانب البارزة في شعر الأشتر، والتي تحتلّ منه مكانة مرموقة، هو الفخر الأصيل الذي لا يصطدم بالمبادئ ولا يخرج على الالتزام الخُلُقيّ الدينيّ، ففخر في المعارك بنفسه وبقومه فهو زعيمهم ورأس حَربتهم، وهو لسانهم والحامل لهمّتهم ، وكانت له شخصيّة طموحة أبيّة عالية، فأنِفَ أن يمدح أحداً أو يفضّله، إلاّ عليّاً أمير المؤمنين عليه السّلام، فكان يتلذّذ بمدحه ونشر فضائله، فيقول:
هذا عليٌّ في الدُّجى مصباحُ
نحن بذا في فضلِه فِصاحُ
ويقول أيضاً:
مَن رأى غُرّةَ الإمام عليٍّ
إنّه في دُجى الحَنادِسِ نُورُ
إنّه والذي يَحُجّ له النّا
سُ سِراجٌ لدى الظلام منيرُ
مَن رضاه إمامُه دخلَ الـ
ـجَنَّة عَفْواً، وذَنبُه مغفورُ
الأشتر خطيباً
وإلى موهبته الشاعريّة الهادفة.. كان الأشتر رضوان الله عليه ذا قوّه خطابيّة فائقة مشفوعة بحجّة واضحة، وقدرة نادرة على تقديم البراهين المقنعة والأجوبة المُفحِمة.
وقد كان له الأثر البالغ والتأثير العميق على قومه ـ وهو سيّدهم ـ بلباقة خطابته التي جذبت القلوب إلى الحقّ، وعرّفت العقول طريق الصواب والفلاح.
وحول قدرته الأدبيّة وبلاغته يقول الزركليّ: إنّه من العلماء الفصحاء. ويقول الذهبيّ: كان سيّد قومه وخطيبهم. ووصفه السيّد محسن الأمين فقال: هو خطيب مِنبر، وقائد عسكر، وشاعر ناثر، وقد استطاع أن يُخمد بذلاقة لسانه من الفتن العمياء ما أعيا السيفَ إطفاؤُه.
وكان من خطبه في أحد أيّام صفّين قوله:
الحمد لله الذي جعلَ فينا ابنَ عمّ نبيّه، أقدَمُهُم هجرة، وأوّلُهم إسلاما، سيفٌ من سيوف الله صَبَّه على أعدائه، فانظروا إذا حمِيَ الوَطيسُ، وثار القَتام، وتكسّر المُرّان، وجالَت الخيلُ بالأبطال، فلا أسمع إلاّ غَمغمةً أو همهمة، فاتّبِعوني وكوني في أثري.
وهكذا جمع الأشتر بين مختلف الكمالات، من: شجاعة مشهودة إلى سياسة نبيلة، ومن شعر مع خطابة، ومن حزم مع عقل وتدبير ولين، ودين وكرم، ورئاسة في تواضع.
بلوغ المراد
وبعد حياة حافلة بالعزّ والجهاد، وتاريخ مشرق في نصرة الإسلام والنبوّة والإمامة.. يكتب الله تعالى لهذا المؤمن الكبير خاتمةً مشرّفة، هي الشهادة على يد أرذل الخَلْق.
لقد أمضى مالك حياته يخدم الدين والمسلمين، فكان مدّةً في سُوح الجهاد في سبيل الحقّ، ومدّة والياً لأمير المؤمنين عليه السّلام على الموصل ونَصيبينَ ودارا وسِنجار وآمُد وهِيت وعانات، وغيرها من المدن والولايات.
وكان لأعداء الله طمع في مصر، لقربها من الشام ولكثرة خراجها، ولتمايل أهلها إلى أهل البيت وكراهتهم لأعدائهم، بادر معاوية بإرسال الجيوش إليها وعلى رأسها عمرو بن العاص ومعاوية بن حديج ليحتلّها. فكان من الخليفة الشرعيّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أن أرسل مالكَ الأشتر والياً له على مصر.. فاحتال معاوية في قتله، داسّاً إليه سُمّاً بواسطة الجايستار ـ وهو رجل من أهل الخراج، وقيل: كان دهقان القُلْزُم ـ وكان معاوية قد وعد هذا ألاّ يأخذ منه الخراج طيلة حياته إن نفّذ مهمّته الخبيثة تلك، فسقاه السمّ وهو في الطريق إلى مصر، فقضى رضوان الله عليه شهيداً، فقال عمرو بن العاص مُعرِباً عن شماتته: إنّ لله جنوداً من عسل!
وقال معاوية: إنّه لكان لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان: قُطِعت إحداهما بصِفِّين ـ يعني عمّار بن ياسر ـ وقُطعت الأُخرى اليوم ـ يعني مالك الأشتر.
وكانت شهادته رحمه الله عام 38 هجريّة، بعد أن امتدّ العمر به فنال ما كان يتمنّاه أن يقضي مظلوماً على أيدي أعداء الله وقد حاربهم جهده، فاستجاب الله دعوته واُمنيّته، إذ كان يقول:
ياربِّ جنّبْني سبيلَ الفجَرهْ
ولا تُخيّبْني ثوابَ البررَهْ
واجعَلْ وفاتي بأكفِّ الكفرَهْ
أمّا أمير المؤمنين سلام الله عليه.. فجعل يتلهّف ويتأسف على فقدان الأشتر ويقول: للهِ دَرُّ مالك! وما مالك ؟! لو كان جَبَلاً لكان فِنْدا، ولو كان حجَراً لكان صَلْدا، أمَا واللهِ ليَهُدّنّ موتُك عالَما، ولَيُفرِحَنّ عالَما، على مِثل مالكٍ فلْتَبكِ البواكي. وقال عليه السّلام: كان لي مالك كما كنت لرسول الله صلّى الله عليه وآله.
في خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه وحكومته، كانت مواقف الأشتر واضحةً جَليّة المعالم، فهذا العملاق الشجاع.. أصبح جُنديّاً مخلصاً لأمير المؤمنين لم يفارقه قطّ، كما كان من قبل تسلّم الإمام لخلافته الظاهريّة، فلم يَرِد ولم يصدُر إلاّ عن أمر الإمام عليّ سلام الله عليه.. حتّى جاء مدحه جليلاً على لسان أمير المؤمنين عليه السّلام، فكان أن كتب في عهده له إلى أهل مصر حين جعله والياً على هذا الإقليم:
أمّا بعد: فقد بَعثتُ إليكم عبداً من عباد الله، لا ينام أيّامَ الخوف، ولا يَنكُل عن الأعداء ساعاتِ الرَّوع، أشدُّ على الفُجّار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مَذْحِج، فاسمَعوا له وأطيعوا أمرَه فيما طابَق الحقّ، فإنّه سيفٌ من سيُوف الله، لا كليلُ الظُّبّة، ولا نابي الضَّريبة. فإن أمَرَكم أن تَنفِروا فانفِروا، وإن أمَرَكم أن تُقيموا فأقيموا؛ فإنّه لا يُقدِم ولا يُحجِم ولا يُؤخِّر ولا يُقدِّم إلاّ عن أمري.
وكتب عليه السّلام له يوماً: وأنت مِن آمَنِ أصحابي، وأوثقِهم في نفسي، وأنصحِهم وأرآهُم عندي.
ولهذا القول الشريف مصاديق مشرقة، إذ كان للأشتر رضوان الله تعالى عليه هذه المواقف والأدوار الفريدة:
1 ـ قيل: إنّه أوّل مَن بايَعَ الإمامَ عليّاً عليه السّلام على خلافته الحقّة، وطالب المُحجِمين عن البيعة بأن يقدّموا ضمانة على أن لا يُحدِثوا فِتَناً، لكنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أمره بتركهم ورأيَهُم.
2 ـ زَوَّد أميرَ المؤمنين عليّاً عليه السّلام بالمقاتلين والإمدادات من المحاربين في معركة الجمل الحاسمة، مستثمراً رئاسته زعامته على قبيلة مِذحج خاصّة والنَّخَع عامة، فحشّد منهم قوّاتٍ مهمّة. فيما وقف على ميمنة الإمام في تلك المعركة يفدّيه ويُجندِل الصَّناديد، ويكثر القتل في أصحاب الفتنة والخارجين على طاعة إمام زمانهم.
3 ـ وفي مقدّمات معركة صفّين.. عمل مالك الأشتر على إنشاء جسر على نهر الفرات؛ ليعبر عليه جيش الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فيقاتل جيش الشِّقاق والانشقاق بقيادة معاوية بن أبي سفيان. ثمّ كان مالك رحمه الله المحوَر الفعّال في إدارة المعركة، فأزال ـ هو والأشعث ـ أبا الأعور السُّلَميّ عن مشرعة الماء بعد أن استولى عليها. وقاد في صفّين أيضاً جيشاً من الفُرسان والمشاة تعداده أربعة آلاف مقاتل، وكان له بَلاء حَسَن يوم السابع من صفر عام 37 هـ حين أوقع الهزيمة في جيش معاوية.
ولمّا رفع أهل الشام المصاحف، يخدعون بذلك أهل العراق ويستدركون انكسارهم وهلاكهم المحتوم، انخدع الكثير، بَيْد أن مالكاً لم ينخدع ولم يتراجع حتّى اضطرّه الإمام عليّ عليه السّلام إلى الرجوع، كما اضطُرّ إلى قبول صحيفة التحكيم ـ وكان لها رافضاً ـ خضوعاً إلى رضى إمامه عليه السّلام.
الأشتر شاعراً
لمّا كان مالك الأشتر صاحب تلك المواقف الشامخة.. حاول بعضهم أن يهملوا شعره ويطمسوه، لكنهم لم يفلحوا في إطفاء الشمس
فالزركليّ في (الأعلام) يذكر: ولمالك شعر جيّد، وقد اختار له أبو تمّام في (ديوان الحماسة) شعراً. وذكره الآمديّ في (المؤتلِف والمختلِف) في عداد الشعراء، وذكر له البحتري في حماسته شعراً، وعدّه ابن حَجَر في (الإصابة) من فحول الشعراء.. أما ابن أبي الحديد المعتزليّ فقد قال في شرح النهج: كان مالك شديد البأس، جواداً حليماً، فصيحاً شاعراً.
هذا، إلى كثير من المصادر والموسوعات الأخرى، ما يجعلنا نطمئنّ إلى ما في شعره من متانة وسموّ مايستحقّ به الإعجاب والتقدير والدراسة، فضلاً عن الجمع والتبويب، والنشر. لا سيّما وأنّه مليء بمعاني الإسلام والسُنّة النبويّة، والقيم المستوحاة من القرآن والرسالة وروح الدين، وقد انعكس ذلك على ألفاظه وعباراته التي صاغها صياغة جميلة، وأعطاها بُعداً مُبتكَراً، ممّا يدلّ على ارتباطه الوثيق بكتاب الله.
هذا، ومن خصائص شعر مالك الأشتر أنّ الغالب عليه غرضُ الحماسة والبطولة، وهو انعكاس للصراع الخطير والمرحلة التاريخية الحسّاسة التي كان يمرّ بها الإسلام، وقد جادت به قريحته النابضة الحيّة فيه، ولعلّ الشعر البطوليّ هو الغالبَ العامّ في قصائده، بما يمتاز به من سلاسة وروعة.
ثمّ إنّه نحا في شعره منحى الوفاء لإخوانه في العقيدة، الذين شاركهم وشاركوه ذكريات الجهاد، فذكَرَهم ذِكراً جميلاً، وكان يشتاق إلى اللحاق بهم.. وذلك واضح في ذِكره لعمّار بن ياسر وهاشم المِرقال وعبدالله بن بُديل الخُزاعيّ.
ومن الجوانب البارزة في شعر الأشتر، والتي تحتلّ منه مكانة مرموقة، هو الفخر الأصيل الذي لا يصطدم بالمبادئ ولا يخرج على الالتزام الخُلُقيّ الدينيّ، ففخر في المعارك بنفسه وبقومه فهو زعيمهم ورأس حَربتهم، وهو لسانهم والحامل لهمّتهم ، وكانت له شخصيّة طموحة أبيّة عالية، فأنِفَ أن يمدح أحداً أو يفضّله، إلاّ عليّاً أمير المؤمنين عليه السّلام، فكان يتلذّذ بمدحه ونشر فضائله، فيقول:
هذا عليٌّ في الدُّجى مصباحُ
نحن بذا في فضلِه فِصاحُ
ويقول أيضاً:
مَن رأى غُرّةَ الإمام عليٍّ
إنّه في دُجى الحَنادِسِ نُورُ
إنّه والذي يَحُجّ له النّا
سُ سِراجٌ لدى الظلام منيرُ
مَن رضاه إمامُه دخلَ الـ
ـجَنَّة عَفْواً، وذَنبُه مغفورُ
الأشتر خطيباً
وإلى موهبته الشاعريّة الهادفة.. كان الأشتر رضوان الله عليه ذا قوّه خطابيّة فائقة مشفوعة بحجّة واضحة، وقدرة نادرة على تقديم البراهين المقنعة والأجوبة المُفحِمة.
وقد كان له الأثر البالغ والتأثير العميق على قومه ـ وهو سيّدهم ـ بلباقة خطابته التي جذبت القلوب إلى الحقّ، وعرّفت العقول طريق الصواب والفلاح.
وحول قدرته الأدبيّة وبلاغته يقول الزركليّ: إنّه من العلماء الفصحاء. ويقول الذهبيّ: كان سيّد قومه وخطيبهم. ووصفه السيّد محسن الأمين فقال: هو خطيب مِنبر، وقائد عسكر، وشاعر ناثر، وقد استطاع أن يُخمد بذلاقة لسانه من الفتن العمياء ما أعيا السيفَ إطفاؤُه.
وكان من خطبه في أحد أيّام صفّين قوله:
الحمد لله الذي جعلَ فينا ابنَ عمّ نبيّه، أقدَمُهُم هجرة، وأوّلُهم إسلاما، سيفٌ من سيوف الله صَبَّه على أعدائه، فانظروا إذا حمِيَ الوَطيسُ، وثار القَتام، وتكسّر المُرّان، وجالَت الخيلُ بالأبطال، فلا أسمع إلاّ غَمغمةً أو همهمة، فاتّبِعوني وكوني في أثري.
وهكذا جمع الأشتر بين مختلف الكمالات، من: شجاعة مشهودة إلى سياسة نبيلة، ومن شعر مع خطابة، ومن حزم مع عقل وتدبير ولين، ودين وكرم، ورئاسة في تواضع.
بلوغ المراد
وبعد حياة حافلة بالعزّ والجهاد، وتاريخ مشرق في نصرة الإسلام والنبوّة والإمامة.. يكتب الله تعالى لهذا المؤمن الكبير خاتمةً مشرّفة، هي الشهادة على يد أرذل الخَلْق.
لقد أمضى مالك حياته يخدم الدين والمسلمين، فكان مدّةً في سُوح الجهاد في سبيل الحقّ، ومدّة والياً لأمير المؤمنين عليه السّلام على الموصل ونَصيبينَ ودارا وسِنجار وآمُد وهِيت وعانات، وغيرها من المدن والولايات.
وكان لأعداء الله طمع في مصر، لقربها من الشام ولكثرة خراجها، ولتمايل أهلها إلى أهل البيت وكراهتهم لأعدائهم، بادر معاوية بإرسال الجيوش إليها وعلى رأسها عمرو بن العاص ومعاوية بن حديج ليحتلّها. فكان من الخليفة الشرعيّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أن أرسل مالكَ الأشتر والياً له على مصر.. فاحتال معاوية في قتله، داسّاً إليه سُمّاً بواسطة الجايستار ـ وهو رجل من أهل الخراج، وقيل: كان دهقان القُلْزُم ـ وكان معاوية قد وعد هذا ألاّ يأخذ منه الخراج طيلة حياته إن نفّذ مهمّته الخبيثة تلك، فسقاه السمّ وهو في الطريق إلى مصر، فقضى رضوان الله عليه شهيداً، فقال عمرو بن العاص مُعرِباً عن شماتته: إنّ لله جنوداً من عسل!
وقال معاوية: إنّه لكان لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان: قُطِعت إحداهما بصِفِّين ـ يعني عمّار بن ياسر ـ وقُطعت الأُخرى اليوم ـ يعني مالك الأشتر.
وكانت شهادته رحمه الله عام 38 هجريّة، بعد أن امتدّ العمر به فنال ما كان يتمنّاه أن يقضي مظلوماً على أيدي أعداء الله وقد حاربهم جهده، فاستجاب الله دعوته واُمنيّته، إذ كان يقول:
ياربِّ جنّبْني سبيلَ الفجَرهْ
ولا تُخيّبْني ثوابَ البررَهْ
واجعَلْ وفاتي بأكفِّ الكفرَهْ
أمّا أمير المؤمنين سلام الله عليه.. فجعل يتلهّف ويتأسف على فقدان الأشتر ويقول: للهِ دَرُّ مالك! وما مالك ؟! لو كان جَبَلاً لكان فِنْدا، ولو كان حجَراً لكان صَلْدا، أمَا واللهِ ليَهُدّنّ موتُك عالَما، ولَيُفرِحَنّ عالَما، على مِثل مالكٍ فلْتَبكِ البواكي. وقال عليه السّلام: كان لي مالك كما كنت لرسول الله صلّى الله عليه وآله.
تعليق