اللهم صلي على محمد وآل محمد
X
-
لقد وجدت هذا في أحد مواقع السنة
كشف الشبهات
لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله
شبكة مشكاة الإسلامية
اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهو دين الرسل الذي أرسلهمالله به إلى عباده. فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا فيالصالحين وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، وآخر الرسل محمد، وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين،أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيراً، ولكنهم يجعلون بعضالمخلوقات وسائط بينهم وبين الله.
يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله ، ونريد شفاعتهم عنده؛ مثل الملائكة، وعيسى،ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين.
فبعث الله إليهم محمداًيجدد لهم دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، ويخبرهم أن هذا التقربوالاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شئ لغير الله لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل فضلاًعن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون مقرون ويشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك لهوأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو،وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن والأراضين السبع ومن فيها كلهم عبيده وتحت تصرفهوقهره.
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول اللهيشهدون بهذا فاقرأ قوله تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُالسَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُالْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْأَفَلاَ تَتَّقُونَ[يونس:31] وقوله: قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْتَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنرَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَلِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍوَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَلِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ[المؤمنون:84-89] وغير ذلك من الآيات.
فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسولالله، وعرفت أنالتوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا (الاعتقاد) كماكانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهاراً.
ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعوارجلاً صالحاً مثل اللات: أو نبياً مثل عيسى وعرفت أن رسول الله، قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلىإخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَاتَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً[الجن:18] وقال: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَيَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ[الرعد:14]، وتحققت أن رسولاللهقاتلهم ليكونالدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها لله، وجميع أنواعالعبادات كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأنقصدهم الملائكة أو الأنبياء، أو الأولياء، يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلكهو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عنالإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله هوالذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو شجرة، أو قبراً، أوجنياً لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحدهكما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد. فأتاهمالنبييدعوهم إلى كلمةالتوحيد وهي (لا إله إلا الله) والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها.
والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبيبهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به والكفر بمايعبد من دون الله والبراءة منه، فإنه لما قال لهم: {قولوا: لا إله إلا الله}، قالوا: أَجَعَلَالْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ[ص:5].
فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف منتفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غيراعتقاد القلب لشئ من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلاالله ، ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إلهإلا الله.
إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنيَشَاءُ[النساء:48] وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبلالله من أحد سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس عليه من الجهل بهذا أفادك فائدتين:
الأولى: الفرح بفضل الله وبرحمته، كما قال تعالى: قُلْبِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّايَجْمَعُونَ[يونس:58].
وأفادك أيضاً الخوف العظيم، فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها منلسانه، وقد يقولها وهو جاهل، فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلىالله تعالى كما كان يفعل الكفار المشركون، خصوصاً إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسىمع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين: اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَالَهُمْ آلِهَةٌ[الأعراف:138]. فحينئذٍ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.
وأعلم أنه سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قالتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِوَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً[الأنعام:112].
وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: فَلَمَّاجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِوَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون[غافر:83].
إذا عرفت ذلك، وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهلفصاحة وعلمٍ وحُجج، فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحاً تقابل بههؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِأَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَتَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[الأعراف:17،16].
ولكن إذا أقبلت على الله، وأصغيت إلى حججه وبيناته، فلا تخف ولا تحزنإِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً[النساء:76]، والعامي منالموحدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين، كما قال تعالى: وَإِنَّجُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[الصافات:173]، فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان ،كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليسمعه سلاح، وقد من الله تعالى علينا بكتابه الذي جعلهتِبْيَاناًلِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[النحل:89] فلا يأتي صاحب باطلبحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى: وَلَايَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً[الفرقان:33]، قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلىيوم القيامة.
وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جواباً لكلام احتج به المشركون فيزماننا علينا فنقول:
جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل، ومفصل. أما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدةالكبيرة لمن عقلها، وذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَالْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُمُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَاتَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُتَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ[آل عمران:7]، وقد صح عن رسول الله، أنه قال: {إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى اللهفاحذروهم}.
مثال ذلك إذا قال لك بعض المشركين: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[يونس:62]، أو استدل بالشفاعةأنها حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله أو ذكر كلاماً للنبييستدل به على شئ من باطله، وأنت لاتفهم معنى الكلام الذي ذكره، فجاوبه بقولك: إن الله ذكر أن الذين في قلوبهم زيغيتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله ذكر أن المشركين يقرونبالربوبية، وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ[يونس:18] هذا أمر محكم بين، لا يقدر أحد أن يغييرمعناه، وما ذكرته لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبيلا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلامالله لا يتناقض، وأن كلام النبيلا يخالف كلام الله عز وجل، وهذا جواب سديد، ولكن لا يفهمه إلا من وفقهالله تعالى، فلا تستهن به فإنه كما قال تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَصَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصلت:35].
وأما الجواب المفصّل: فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل يصدونبها الناس عنه.
منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضرإلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن عبدالقادر أو غيره، ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله، وأطلب من الله بهم ،فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول اللهمُقرِّون بما ذكرت، ومُقرِّون بأن أوثانهم لا تدبر شيئاًوإنما أرادوا الجاه والشفاعة. واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه.
فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنامأم كيف تجعلون الأنبياء أصناماً؟ فجاوبه بما تقدم فإنه إذا أقر أن الكفار يشهدونبالربوبية كلها لله، وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة.
ولكن إذا أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكره، فاذكر له أن الكفار منهم منيدعو الصالحين والأصنام ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: أُولَـئِكَالَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ[الإسراء:57]، ويدعون عيسى ابن مريم وأمه، وقد قال تعالى: مَّاالْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُوَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُلَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِندُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ[المائدة:76،75] واذكر له قوله تعالى: وَيَوْمَيَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْكَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْكَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ[سبأ:41،40]، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِاتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَايَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ[المائدة:116]، الآية، فقل له: أعرفت أن الله كفر من قصد الأصنام، وكفر من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله.
فإن قال: الكفار يريدون منهم: وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار لا أريد إلامنه والصالحون ليس لهم من الأمر شئ ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم.
فالجواب: أن هذا قول الكفار سواء بسواءٍ فاقرأ عليه قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّالِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى[الزمر:3]، وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ[يونس:18].
واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله وضحها في كتابه،وفهمتها فهماً جيداً فما بعدها أيسر منها.
فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وهذا الإلتجاء إلى الصالحين، ودعاءهم ليسبعبادةٍ.
فقل له: أنت تقر أن الله فرض عليك إخلاص العبادة وهو حقه عليك؟ فإذا قال: نعم،فقل له: بين له هذا الذي فرض عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده وهو حقه عليك فإن كانلا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له بقولك: قال الله تعالى: ادْعُواْرَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[الأعراف:55].
فإذا أعلمته بهذا فقل له: هل علمت هذا عبادة لله؟ فلا بد أن يقول لك: نعم،والدعاء مخ العبادة، فقل له: إذا أقررت أنه عبادة لله ودعوت الله ليلاً ونهاراًخوفاً وطمعاً، ثم دعوت في تلك الحاجة نبياً أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟فلا بد أن يقول: نعم، فقل له: فإذا عملت بقول الله تعالى: فَصَلِّلِرَبِّكَ وَانْحَرْ[الكوثر:2]، وأطعت الله ونحرت له هل هذا عبادة، فلا بد أن يقول: نعم، فقلله: فإذا نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلابد أن يقر، ويقول نعم، وقل له أيضاً: المشركون الذين نزل فيهم القرآن، هل كانوايعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟ فلا بد أن يقول: نعم، فقل له: وهل كانتعبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك، وإلا فهم مقرون أنهم عبيدالله وتحت قهره، وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكن دعوهم، والتجئوا إليهم للجهوالشفاعة، وهذا ظاهر جدا.
فإن قال أتنكر شفاعة رسول اللهوتبرأ منها فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل هوالشافع والمشفع وأرجوشفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً[الزمر:44] ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُإِلاَّ بِإِذْنِهِ[البقرة:255]، ولا يشفع في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه كما قال عزوجل: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى[الأنبياء:28]، وهو لا يرضى إلاالتوحيد كما قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنيُقْبَلَ مِنْهُ[آل عمران:85]، فإذا كانت الشفاعة كلها لله ولا تكون إلا بعد إذنه ولايشفع النبيولا غيرهفي أحدٍ حتى ياذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد بين لك أن الشفاعة كلها لله،وأطلبها منه، وأقول: اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفعه في، وأمثال هذا.
فإن قال: النبيأعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله، فالجواب أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عنهذا فقال: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً[الجن:18].
فإذا كنت تدعو الله أن يشفع نبيه فيك، فأطعه في قولهفَلَاتَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً[الجن:18] وأيضاً فإن الشفاعة أعطيها غير النبي، فصح أن الملائكة يشفعونوالأفراط يشفعون والأولياء يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم؟فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه، وإن قلت لا، بطل قولكأعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله. فإن قال أنا لا أشرك بالله شيئاًحاشا وكلا ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، فقل له: إذا كنت تقر ان الله حرمالشرك أعظم من تحريم الزنا وتقر أن الله لا يغفره، فما الذي حرمه الله وذكر أنه لايغفره، فإن كان لا يدري، فقل له: كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيفيحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه، أتظن أن الله يحرمهولا يبينه لنا؟؟
فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام فقل: ما معنى عبادة الأصنام؟أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟ فهذايكذبه القرآن، كما في قوله تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَالسَّمَاءِ وَالأَرْضِ[يونس:31] الآية.
وإن قال هو من قصد خشبة أو حجراً أو بنية على قبر أو غيره يدعون ذلك ويذبحون لهويقولون، إنه يقربنا إلى الله زلفى ويدفع عنا ببركته ويعطينا ببركته.
فقل صدقت، وهذا فعلكم عند الأحجار والبنايات التي على القبور وغيرها، فهذا أقرأن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام، وهو المطلوب ويقال له أيضاً قولك: "الشرك عبادةالأصنام"، هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لايدخل في هذا؟ فهذا يرده ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسىأو الصالحين فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحداً من الصالحين فهوالشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.
وسر المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله، فقل له: وما الشرك بالله؛ فسره لي؟فإن قال: هو عبادة الأصنام، فقل: وما معنى عبادة الأصنام فسرها لي ؟ فإن قال أنا لاأعبد إلا الله وحده فقل: ما معنى عبادة الله وحده فسرها لي؟ فإن فسرها بما بينهالقرآن فهو المطلوب ، وإن لم يعرفه فكيف يدعي شيئاً وهو لا يعرفه، وإن فسر ذلك بغيرمعناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان، وأنه يفعلونهفي هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرونها عليناويصيحون كما صاح إخوانهم حيث قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاًوَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ[ص:5].
فإن قال: إنهم لا يكفرون بدعاء الملائكة والأنبياء، وإنما يكفرون لما قالوا: الملائكة بنات الله؛ فإنا لم نقل: عبد القادر ابن الله ولا غيره. فالجواب: إن نسبةالولد إلى الله كفر مستقل؛ قال الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ[الإخلاص:2،1]، والأحد الذي لا نظير له، والصمد المقصود في الحوائج، فمنجحد هذا؛ فقد كفر، ولو لم يجحد السورة. وقال تعالى: مَااتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ[المؤمنون:91]، ففرق بينالنوعين، وجعل كلا منهما كفراً مستقلاً. وقال تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَوَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ[الأنعام:100]، ففرق بين كفرين. والدليل على هذا أيضاًأن الذين كفروا بدعاء اللات، مع كونه رجلاً صالحاً؛ لم يجعلوه ابن الله، والذينكفروا بعبادة الجن لم يجعلوهم كذلك، وكذلك أيضاً العلماء في جميع المذاهب الأربعة؛يذكرون في باب حكم المرتد أن المسلم إذا زعم أن لله ولداً؛ فهو مرتد، ويفرقون بينالنوعين، وهذا في غاية الوضوح.
وإن قال: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْيَحْزَنُونَ[يونس:62]. فقل: هذا هو الحق، ولكن لا يُعبدُون، ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله،وشركهم معه، وإلا؛ فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم، ولا يجحد كراماتالأولياء إلا أهل البدع والضلال. . . إلخ، ودين الله وسط بين طرفين، وهدى بينضلالتين، وحق بين باطلين.
فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا هذا "الاعتقاد"، هو الشرك الذيأنزل الله في القرآن وقاتل رسول اللهالناس عليه، فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل
- اقتباس
- تعليق
تعليق
-
من شرك أهل زماننابأمرين:
أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكةوالأولياء والأوثان مع اللهإلا في الرخاء، وأما في الشدة فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى: وَإِذَامَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّانَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً[الإسراء:67]، وقوله: قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُالسَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُتَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَاتُشْرِكُونَ[الأنعام:41]، وقوله: وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُمُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَيَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِقُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ[الزمر:8]، وقوله: وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[لقمان:32]،فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسولاللهيدعون اللهويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له،وينسون ساداتهم، تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهمقلبه هذه المسألة فهماً راسخاً؟ والله المستعان.
والأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله: إما أنبياءوإما أولياء وإما ملائكة، ويدعون أشجاراً أو أحجاراً مطيعة لله ليست عاصية، وأهلزماننا يدعون مع الله أناساً من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحلون لهمالفجور من الزنا، والسرقة، وترك الصلاة، وغير ذلك والذي يعتقد في الصالح أو الذي لايعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به.
إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول اللهأصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء فاعلم أن لهؤلاء شبهةيوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم فاصغ سمعك لجوابها.
وهي إنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا اللهويكذبون الرسول، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي، ونصوم،فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟ فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدقرسول اللهفي شئ وكذبهفي شئ أنه كافر لم يدخل في الإسلام.
وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد، وجحد وجوب الصلاة، أوأقر بالتوحيد والصلاة، وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذاكله وجحد الحج، ولما لم ينقد أناس في زمن النبيللحج، أنزل الله في حقهموَلِلّهِعَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَفَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران:97].
ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع وحل دمه وماله، كما قال جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنيُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُبِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَـئِكَهُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً[النساء:151،150]، فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعضٍ فهو الكافر حقاً،وأنه يستحق ما ذكر. زالت هذه الشبهة، وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابهالذي أرسل إلينا.
ويقال أيضاً: إذا كنت تقر أن من صدق الرسول في كل شئ وجحد وجوب الصلاة، أنه كافرحلال الدم بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شئ إلا البعث ، وكذلك إذا جحد وجوب صومرمضان لا يجحد هذا، وصدق بذلك كله ولا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كماقدمنا، فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي محمد، وهو أعظم من الصلاة والزكاةوالصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئاُ من هذه الأمور كفر؟ ولو عمل بكل ما جاءبه الرسول، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر، سبحان الله! ما أعجبهذا الجهل.
ويقال أيضاً: هؤلاء أصحاب رسول اللهقاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي، وهم يشهدون أن لا إله إلا اللهوأن محمداً رسول الله، ويصلون ويؤذنون، فإن قال: إنهم يقولون: أن مسيلمة نبي، قلنا: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلا إلى رتبة النبي، كفر وحل ماله ودمه، ولم تنفعهالشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف، أو صحابيا، أو نبيا، إلى مرتبةجبار السموات والأرض؟ سبحان الله ما أعظم شأنهكَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىقُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[الروم:59].
ويقال أيضاً: الذين حرقهم علي بن أبي طالببالنار، كلهم يدعون الإسلام، وهم من أصحاب عليوتعلموا العلم من الصحابةولكن اعتقدوا في علي، مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابةعلى قتلهم وكفرهم؟
- اقتباس
- تعليق
تعليق
-
أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد فيتاجٍ وأمثاله لا يضر، والاعتقاد في علي بن أبي طالبيكفر؟
ويقال أيضاً: بنو عبيدٍ القداحِ الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس،كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدعون الإسلام، ويصلونالجمعة والجماعة فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه، أجمع العلماءعلى كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهممن بلدان المسلمين.
ويقال أيضاً: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيبالرسولوالقران،وإنكار البعث، وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب "باب حكمالمرتد" وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعاً كثيرة كل نوعٍ منهايكفر ويحل دم الرجل وماله، حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمةيذكرها بلسانه دون قلبه أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.
ويقال أيضاً: الذين قال الله فيهم: يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْوَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ[التوبة:74] أما سمعت أن الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول اللهيجاهدون معه ويصلون معه ويزكونويحجون ويوحدون، وكذلك الذين قال الله فيهم:قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِوَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَإِيمَانِكُمْ[التوبة:66،65] فهؤلاء الذين صرح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم معرسول اللهفي غزوةتبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح.
فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم: تكفرون من المسلمين أناساً يشهدون أن لا إله إلاالله ويصلون ويصومون، تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق.
ومن الدليل على ذلك أيضاً حكى الله عن بني إسرائيل مع إسلامم وعلمهم وصلاحهمأنهم قالوا لموسى: اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ[الأعراف:138]، وقول ناسٍ من الصحابة: {اجعل لنا ذاتأنواط}فحلفأن هذا نظير قول بني إسرائيل اجعل لنا إلهاً.
ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون: فإن بني إسرائيللم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا: {اجعل لنا ذاتأنواط}لم يكفروا.
فالجواب أن تقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك وكذلك الذين سألوا النبيلم يفعلوا، ولا خلاف في أنبني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، ولو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهمالنبيلو لم يطيعوهواتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب.
ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنهافتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل التوحيد فهمناه أن هذا من أكبر الجهلوكايد الشيطان.
"وتفيد" أيضاً أن المسلم إذا تكلم بكلام كُفر وهو لا يدري فنبه على ذلك فتاب منساعته، أنه لا يكفر، كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي، "وتفيد" أيضاً أنه لو لم يكفرفإنه يغلظ عليه الكلام تغليظاً شديداً كما فعل رسول الله.
وللمشركين شبهة أخرى يقولون: إن النبيأنكر على أسامة قتل من قال: لا إله إلا الله، وقال له: {أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟}وكذلك قوله: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلهإلا الله}، وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة أنمن قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل.
فيقال لهؤلاء الجهلة: معلوم أن رسول اللهقاتل اليهود وسباهم وهو يقولون: لا إله إلا الله، وأنأصحاب رسول اللهقاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ويصلونويدعون الإسلام، وكذلك الذين حرقهم على بن أبي طالب بالنار.
وهؤلاء الجهلة يقولون: إن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال: لا إله إلا الله، وأنمن جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها، فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً منالفروع؟ وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس دين الرسل ورأسه، ولكن أعداء الله مافهموا معنى الأحاديث، ولن يفهموا.
فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلامإلا خوفاً على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه مايخالف ذلك وأنزل الله تعالى في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ[النساء:94] أي تثبتوا، فالآيةتدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتللقوله تعالى: فَتَبَيَّنُواولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبيت معنى، وكذلكالحديث الآخر وأمثاله.
معنى ما ذكرناه إن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلا أن يتبين منه مايناقض ذلك.
والدليل على هذا أن رسول اللههو الذي قال: {أقتلته بعد ما قال: لا إلهإلا الله؟}، وقال: {أمرت أن أقاتلالناس حتى يقولون لا إله إلا الله}هو الذي قال في الخوارج: {أينما لقيتومهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عادٍ}مع كونهم أكثر الناس عبادةً، وتهليلاً وتسبيحاً، حتى أن الصحابةيحقرون صلاتهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم "لا إله إلا الله" ولا كثرة العبادة، ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة.
وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة، وكذلك أرادأن يغزو بني المصطلق لماأخبره رجل منهم أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل اللهيَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، وكان الرجل كاذباً عليهم، وكل هذا يدل على أن مراد النبيفي الأحاديث التي احتجوا بها ماذكرناه.
ولهم شبهة أخرى وهي ما ذكر النبيأن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثمبإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول اللهقالوا فهذا يدل على أن الاستغاثةبغير الله ليست شركاً.
والجواب أن تقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيمايقدر عليه لا ننكرها، كما قال تعالى في قصة موسىفَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ[القصص:15] وكما يستغيثالإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنااستغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لايقدر عليها إلا الله.
إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أنيحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة،وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي كما كانأصحاب رسول اللهيسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته، فحاشا وكلا أنهم سألوا ذلك عند قبره، بل أنكرالسلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه نفسه؟
ولهم شبهة أخرى وهي قصة إبراهيم لما ألقي في النار اعترض له جبريل في الهواءفقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم أما إليك فلا، فقالوا: فلو كانت الاستغاثة شركا لميعرضها على إبراهيم.
فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدرعليه، فإنه كما قال الله تعالى فيه: شَدِيدُ الْقُوَى[النجم:5] فلو أذن له أن يأخذنار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويقلبها في المشرق أو المغرب لفعل، ولوأمره الله أن يضع إبراهيم في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره الله أن يضع براهيمعليه السلام في مكانٍ بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل، وهذاكرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجاً فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئاً يقضيبه حاجته فيأبى ذلك المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد،فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟
ولنختم الكلام بمسألة عظيمة مهمة تفهم مما تقدم ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنهاولكثرة الغلط فيها فنقول:
لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل فإن اختل شئ من هذا لميكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر مرتد معاند ككفر فرعونوإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثير من الناس يقولون: أن هذا حق ونحن نفهم هذاونشهد أنه حق، ولكننا لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، أوغير ذلك من الأعذار، ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق، ولم يتركوهإلا لشئ من الأعذار كما قال تعالى: اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِثَمَناً قَلِيلاً[التوبة:9] وغير ذلك من الآيات، كقوله: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ[البقرة:146].
فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه، فهو منافق، وهوشر من الكافر الخالصإِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِمِنَ النَّارِ[النساء:145].
وهذه المسألة مسألة طويلة تبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس ترى من يعرف الحقويترك العمل به، لخوف نقص دنيا أو جاه أو مداراة لأحد، وترى من يعمل به ظاهراً لاباطناً، فإذا سألته عما يعتقده بقلبه فإذا هو لا يعرفه. ولكن عليك بفهم آيتين منكتاب الله:
أولاهما، قوله تعالى: لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَإِيمَانِكُمْ[التوبة:66] فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله، كفروا بسبب كلمةقالوها على وجه اللعب والمزح، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر ويعمل به خوفاً من نقصمالٍ، أو جاهٍ أو مداراة لأحد، أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها.
والآية الثانية قوله تعالى: مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِإيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّنشَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌعَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَىالآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ[النحل:107،106] فلم يعذر اللهمن هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعدإيمانه سواء فعله خوفاً أو مداراة، أو مشحةً بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أوفعل على موجه المزح أو لغير ذك من الأغراض إلا المكره.
فالآية تدل على هذا من وجهين:
الأول قوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ، فلم يستثن الله تعالى إلاالمكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلايكره أحد عليها، والثاني قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْالْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِفصرح أن هذا الكفر والعذاب لميكن بسبب الاعتقاد والجهل والبغض للدين ومحبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظامن حظوظ الدنيا فآثره على الدين، والله سبحانه وتعالى أعلم وأعز وأكرم، وصلى اللهعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تمت والحمد لله رب العالمين.
- اقتباس
- تعليق
تعليق
اقرأ في منتديات يا حسين
تقليص
لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.
تعليق