بسم الله الرحمن الرحيم
اننا بحاجة الى مشاريع اعمار كما نحن بحاجة الى مشاريع استشهاد(*)
ان لبس الكفن الذي ارتديتموه يثير في النفس عدة معانٍ : اننا بحاجة الى مشاريع اعمار كما نحن بحاجة الى مشاريع استشهاد(*)
الأول : أخلاقي لان لبس الكفن يعني الاستعداد للموت وللقاء الله تبارك وتعالى والإعراض عن الدنيا وزخرفها وزبرجها وكان السلف الصالح يحرصون على استثارة هذه المعاني التي تزهّدهم في الدنيا وتهذب أنفسهم وتردعها عن أتباع الهوى فقد كان بعضهم يحفر قبره في بيته وينام فيه كل يوم ويستحضر محاسبة الملكين له ثم يكرر قول الله تبارك وتعالى على لسان الإنسان الذي يكشف له يومئذٍ عن غطاء الغفلة فيرى ما قدمت يداه فيقول(ربّ أرجعوني لعلي اعمل صالحاً فيما تركت) ثم يخاطب نفسه بأنك قد أُعدت إلى الدنيا وأستجيب دعوتك هذه فانظر ماذا تعمل، ولا شك إن تكرار هذه التذكرة وهذه الموعظة يومياً لا يجعل ثغرة للشيطان أو النفس الأمارة بالسوء كي تنفذ فيها الشرور والآثام ولذا ورد الحث الأكبر على ذكر الموت والاتعاظ بأخباره وقد فصّلنا الكلام حول الموضوع في كتاب ) الأسوة الحسنة).
فارتداؤكم للكفن واستعدادكم للقاء الله تبارك وتعالى يعني إنكم عمرتُم آخرتكم وتودّون اللحاق بها وذلك هو الفوز العظيم، يروى إن جماعة سألوا احد أصحاب رسول الله (ص) كأبي ذر أو سلمان )رضوان الله عليهما( انه لماذا نحب الدنيا نكره الموت قال: لأنكم عمّرتم الدنيا وخربّتم الآخرة فأنتم تكرهون الانتقال من دار عماركم إلى دار خرابكم .
الثاني : حركي أو ثوري يعني إننا مستعدون للتضحية بأغلى شيء وهي النفس من اجل إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونصرة المظلومين والمستضعفين والدفاع عن الحقوق المقدسات، كما وصف الشاعر اصحاب الإمام الحسين عليه السلام:
لبسوا القلوب على الدروع واقبلوا يتهافتون على ذهاب الأنفس
أي عكس ما يفعل الآخرون حين يلبسون الدروع لوقاية أجسادهم من الإصابة .وفي ضوء هذين المعنيين فإنكم بلبس الكفن توجهون رسالة لإدخال اليأس على جميع الأعداء فبالمعنى الأول تردّون على الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وتحققون الانتصار في ميدان الجهاد الأكبر، أما بالمعنى الثاني فتوجهون مثل هذه الرسالة للأعداء من إرهابيين وطغاة يريدون منكم أن تتخلوا عن حقوقكم وهويتكم وانتمائكم ويخيفوننا بالموت فنقول لهم كما قال الإمام السجاد (عليه السلام (القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة) وبذلك تحققون النصر في ميدان الجهاد الأصغر.(
وحينئذٍ قد ينقدح في الذهن سؤال حاصله إن الأمة إذا تكاملت بتربيتها إلى هذه الدرجة من الإقدام على التضحية بالنفس تحت راية مرجعيتها الرشيدة التي هي نائبة الإمام المعصوم إذن فما الذي يؤخر الإمام المهدي) عج( ويقعده عن القيام بحركته الإصلاحية المباركة مادام السبب المتوارث تاريخياً هو عدم وجود ناس كذاك الذي أمره الإمام الصادق عليه السلام برمي نفسه في التنور المسجور ففعل فوراً من دون تردد أو مناقشة وقد أجبت عن هذا السؤال في خطاب سابق بعنوان )ما الذي ينتظره الإمام من شيعته( وقلنا إن عليكم الان أمرين :
الأول :- زيادة درجة الوعي لدى الأمة حتى تمتلك الحصانة من التضليل والانحراف والتشويش المؤدي إلى الإرباك وتعويق حركة الإصلاح المنشود.
الثاني :- تنمية القدرات على إدارة المجتمع وبناء دولة المؤسسات التي تحكم بين الناس بالعدل والتي تقدم للبشرية نموذجاً حضارياً مزدهراً راقياً يذهل البشرية ويدفعها ـ لعجزها عن مجاراته ـ إلى الإذعان بأحقيتها في قيادة البشرية.
فيا أحبتي إن الإمام ينتظر وجود الحلقة الوسطية بين القائد والقواعد الشعبية المهيأة لنصرت المشروع الإلهي العظيم واعني بهم الثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً الذين يقود بهم الناس، عن الامام الصادق (ع) قال : كأنّي انظر الى القائم على منبر الكوفة وحوله اصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدة أهل بدر، وهم اصحاب الالوية وهم حكّام الله في ارضه
على خلقه واعتقد إنكم تشاطرونني القناعة إن المتصدين للعملية السياسية والقيادة الاجتماعية لم يقدموا لنا ثلاثة عشر نموذجاً صالحاً لهذا الدور فضلاً عن الثلاثمائة الآخرين فأين من تسير به همته ليكون من هؤلاء )وفي مثل ذلك فليتنافس المتنافسون(؟ وأنا لا ادعي عدم وجودهم لأنهم قد يكونون موجودين في أوساط الأمة ولكننا لجهلنا وقصورنا وتقصيرنا لم نتوصل إليهم لكن الإمام )عج( يعرفهم بأسمائهم وأعيانهم وسوف يجمعهم من اصقاع الأرض أما نحن فليس لنا تلك المعرفة، ولذا طالما دعونا ذوي الكفاءات والقدرات حتى يعرِّفوا أنفسهم كما فعل الصديق يوسف)عليه السلام(حينما قال لعزيز مصر )إجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم(وما التلكؤ الذي يحيط بحركة المرجعية الرشيدة إلا بسبب هذا النقص والخلل في الحلقة الوسيطة.
إنني اسمع منكم إنكم)مشاريع استشهاد(وإنكم تأنسون بالموت استئناس الطفل بمحالب أمه إذا أمرت المرجعية الرشيدة بمواجهة الظلم بالسلاح.
ولكن يا أحبتي إن موقف الإمام الحسين)ع( في كربلاء كان يوماً واحداً من(57) سنة عاشها الإمام الحسين عليه السلام ورغم علمي إن موقفاً كذاك كافٍ لصنع الحياة ومستقبل البشرية كلها والواقع يشهد بذلك حيث اننا منذ أربعة عشر قرناً ولا زلنا نحيا بركات ذلك اليوم الحسيني العظيم ولكن لا يجوز لنا أن نغفل بقية الأيام الحسينية من عمره الشريف ومساهمتها في بناء صرح الإسلام العظيم من جميع جوانبه، فنحن كما إننا محتاجون لمشاريع الاستشهاد حينما يدعونا الواجب إليها كذلك نحن بحاجة إلى مشاريع أعمار لكل أنشطة الحياة الفكرية والأخلاقية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والهدف الذي خلقنا من اجلهْ ْْ(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ )(هود16)فلا بد ان تتصدى كل شريحة من المجتمع لوجه من هذه النشاطات التي يكمل بعضها بعضاً بحسب قابيلة كل شخص واستعداده أنطلاقاً من الحديث الشريف (الانسان ميّسر لما خلق له)، فلكل حالة طريقتها المناسبة لمعالجتها وليس السلاح والاستشهاد دائما هو الحل فهذا تحجيم لطاقات الامة بل يكون أحياناً هدراً لها وتضييعاً بلا مبرر.
إن مقتضى الحكمة ان حمل السلاح والقتال لا يكون لمجرد القتال وابراز العضلات والفتّوة وطلباً للسمعة والجاه وحتى يقال انه رجل شجاع ومقاتل شرس أو لكي تمجّده الفضائيات ويملأ شاشات التلفزيون وإنما يكون حمل السلاح وسيلة لتأسيس مشروع فيه خير الامة وصلاحها ويكون الملاذ الاخير حينما تعجز كل الوسائل. وهكذا فان الاسلام لم يأمر بالقتال ليبسط نفوذه وليجني امولاً ودنيا او لمجرد تلبية غرائز حب التسلط على رقاب الناس وإنما قاتل ليحرر الناس من عبادة الطواغيت ويترك لهم الخيار والحرية التامة في اعتناق العقيدة التي يشاؤون ولو اذن كسرى لصوت الاسلام ان يُعرض على الفرس ويسمح لهم بالاختيار بحرية لما قاتله المسلمون ولكنه لما عتى وتجبَّر وأصرَّ على استعباد قومه قاتله المسلمون وكسروا شوكته ولما أمَّنوا هذه الحرية للناس تركوا لهم حرية المعتقد وكان اتباع اهل الديانات الاخرى يعيشون في عاصمة الاسلام وغيرها من الحواضر وتوفر الدولة كل حقوقهم حتى ان امير المؤمنين عليه السلام وبخ اصحابه حينا رأى مسيحياً يستعطي في عاصمته الكوفة لانه كبر وعجز عن العمل وامر اصاحبه بصرف راتب تقاعدي له من بيت مال المسلمين. ويؤكد قوله تعالى هذه الحقيقة (لا اكراه في الدين) ولكن بعد ان تؤمن حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر للناس جميعاً . ولذا قاتل المسلمون بشرف وجسدوا اسمى ثقافة للقتال فعندما دخل المسلمون مكة فاتحين كان سعد بن عبادة يحمل راية الانصار فأخذه زهو الانتصار وتراءى له شريط طويل من ذكريات قريش الظالمة المعتدية مع النبي) ص) فاخذ يرتجز ويقول :
اليوم يوم الملحمة اليوم تُسبى الحُرَمة
فما بلغ النبي)ص( هذا الموقف ارسل ابن عمه عليَ ابن ابي طالب وامره باخذ الراية من سعد وان ينادي
اليوم يوم المرحمة اليوم تُصان الحُرمة
هذه هي اخلاق الاسلام واهدافه ومبادئه التي جاء لتاصيلها في الامة ) وما ارسلناك الا رحمة للعالمين( فكلُّه خير وعطاء ونفع عميم للبشرية ومواقف امير المؤمنين مع خصومه الذين شنّوا عليه الحروب وازهقوا الاف النفوس مما يطأطئ له الرأس إجلالاً وإعظاماً .
انني حينما دعوت الى تشكيل اللجان والمجاميع الشعبية ذكرت عملين لهما وهما :-
)الاول ( تنفيذي ويتضمن :
1- حماية المناطق السكنية والتجمعات البشرية والمؤسسات من اعتداءات المجرمين لان جهد الحكومة غير كافٍ لوحده في تحقيق هذا الهدف.
2- مساعدت القوات المسلحة الوطنية القضاء على اوكار الارهابيين الذين يقتلون الابرياء ويفجرون اماكن العبادة وينشرون الرعب والدمار في البلد وجزائهم القتل في كتاب الله تعالى(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فساداً ان يقتّلوا) .
(الثاني) تعبوي ونفسي ليكونوا مستعدين لأي طارئ يستهدف وجودهم وهوّيتهم فان السياسة لا تعرف اماً ولا اباً ولا صاحباً ولا صديقاً والسيناريوهات الموضوعة للعراق والعراقيين خطيرة وبعضها مرعبة فلا بد للشعب ان يبرز البطاقة الصفراء لهؤلاء المتأمرين من خلال استعداده لأي مواجهة لانذاره واجباره عن التراجع .
ورغم ان هذه التوجهات تثير قلقاً وخشية لدى البعض لاحتمال عدم تطبيقها بالدقة وضمن الحدود المرسومة لها الا انني على ثقة كبيرة بوعي القواعد المرتبطة بالمرجعية الرشيدة وانها لا تحيد عن اوامر قيادتها الشرعية وفي ضوء هذه الثقة فأنني أتخذُّ قرارات قد يراها البعض مجازفة الا انها في الحقيقة مستندة الى التقييم الموضوعي لقدرات الامة وتربيتها النفسية والعقلية وارجوا منكم ان تكونوا عند حسن ضن قيادكم فلا تنساقوا وراء عواطفكم وتحملوا توجيهات المرجعية ازيد مما ذُكِر فيها ان الردود الانفعالية والتصرفات الارتجالية تخدم مصالح اعدائنا فينقل عن وزير الخارجية الامريكية رايس انها تتبنى سياسة (الفوضى الايجابية) او ( الفوضى البنّاءة) تصوّروا كيف تكون الفوضى بما تستلزم من خراب وتدمير وازهاق ارواح بنّاءة وايجابية وانما كانت كذلك من جهة نظرهم لأنها ـ في العراق ـ تخدم مصالحهم حيث يتصارع ابناء البلد الواحد وتتوجه اسلحة بعضهم الى البعض وبذلك تضعف قوتهم وشوكتهم وينشغلون عن عدوهم المشترك وسوف يضطرون جميعاً لعدم امكان تحقيق الغلبة في مثل هذه الصراعات إلى الولايات المتحدة لتنقذهم من أزمتهم ويرون فيها المخِلص الوحيد .
فعلينا ان نكون واعين ونحسب تصرفاتنا بدقة ونشخص أهدافنا بوضوح وهنا يكون دور نخب الامة وطليعتها من فضلاء وأساتذة ومفكرين ومثقفين وسياسيين وخطباء ضرورياً في ضبط إيقاع حركة الأمة بما ينسجم مع توجهات القيادة لان المتقدم عليهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق لأنه ليست كل الأمة قادرة على أن تقرأ أو تفهم إذا قرأت او تهتدي الى طريقة التنفيذ اذا فهمت او تنفذ بصورة صحيحة وغيرها من المشاكل .
وهذه السلسلة من خطابات المرحلة لا تجد فيها اختلافاً ولا تناقضاً بفضل الله تبارك وتعالى وليس فيها تراجع او تغيير بل تضم مشاريع محكمة ومتواصلة مع قضايا الامة والتحديات التي تواجهها .
ورغم ان كثيراً من الاخرين لا يأخذون بهذه الافكار والمشاريع الا انني اجدهم يعودون اليها لانهم يجدون فيها الحل السليم لمشاكل الامة ولا احتاج الى ضرب الامثلة وما عليكم الا مراجعتها منذ ان عرضنا مشروع الحكومة الانتقالية قبل تأسيس مجلس الحكم ولم يأخذوا ثم عادوا اليه بعد سنة من التخبط .
وتناولنا مختلف قضايا الامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والفكرية والفضل في ذلك كله لله وحده المفضّل المنان. إن البعض ما زال يفكر بعقلية المعارضة فيشكل الخلايا السرّية ويخطط لساعة الصفر ونحوها وهذا جهل وتخلّف لان الحالة تغيرت والامة تستطيع ان تعبّر عن ارادتها بكل حرية وكل صاحب مشروع يستطيع ان يقنع الامة به فتنتخبه ليبرهن قدرته على تنفيذ المشروع وبذلك انتقلت الامة من حالة المعارضة الى حالة الحكم فلا بد لها ان تفكر بهذه العقلية الجديدة وتخطط لبناء دولة المؤسسات وسلطة القانون والاعمار والازدهار في جميع اوجه الحياة .
وهذه الثقافة ـ أي ثقافة الحكم ـ لا بد من استيعابها ووضع البرامج التفصيلية لها وهذا موضوع مهم ربما تسنح فرصة اخرى لشرحة بأذن الله تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
(*) من حديث سماحة الشيخ مع احدى المجاميع الشعبية من حي المعارف ببغداد وقد ارتدوا الاكفان يوم 11/ربيع1/1427هـ ومن حديث سماحته مع حشود المؤمنين وفدوا لتهنئته بذكرى المولد النبوي الشريف ومن حديث سماحته مع طلبة مدرسة اهل البيت للعلوم الدينية في النجف الاشرف يوم 5/ربيع1/1427 هـ