بين الساحتين الأمريكية والفلسطينية
عمل العدو الصهيوني في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول، على إدراج حربه ضد الانتفاضة الفلسطينية في إطار الحرب العالمية التي أخذت تشنها الولايات المتحدة على ما سمته بالإرهاب، وكان التركيز الإسرائيلي على العلميات الجهادية لا سيما الاستشهادية التي اعتبرها شارون مماثلة لما حدث في أمريكا. وكان رأي سماحة السيد فضل الله أنه لا مجال للمقارنة " بين الساحتين، لأن الساحة الفلسطينية هي ساحة الحرب الحارة التي تستخدم فيها إسرائيل كل ما تملكه من الأسلحة الأميركية، التي جهزت للحروب الكبرى، من طائرات الـ" إف16" وطائرات الأباتشي والصواريخ والدبابات والمدافع ضد الفلسطينيين العزّل الذين لا يملكون إلا حجارة، أو بعض الأسلحة الخفيفة، أو بعض قنابل الهاون، هذا فضلاً عمّا يمارس عليهم من حصار جغرافي واقتصادي، والقيام بأبشع أنواع الجرائم، وهو ما يجعل الفلسطينيين، بفعل فقدان التوازن في موقفي الهجوم والدفاع، مضطرين إلى أن يواجهوا الدمار الإسرائيلي بإسقاط الأمن الإسرائيلي. لذلك فإنهم لا يهدفون إلى قتل المدنيين، بل إلى قتل المشروع الإسرائيلي الذي انطلق فيه آرييل شارون كعنوانٍ لحكومته. ومن الطبيعي أن "إسرائيل" التي تعتبر أن قتلها للمدنيين الفلسطينيين يتم على أساس خطأ، أو نتيجة لظلامات الحرب، فإن ظلامات الحرب، في المقابل، هي التي تبرر ما يقوم به المجاهدون في فلسطين من عمليات استشهادية، حتى لو كانت في مواقع مدنية.
لكن في أمريكا ليست هناك حرب حارة كي يردَّ فيها هؤلاء بهذا الأسلوب، وهذا خلاف ما قد يفكر فيه البعض أن من الممكن القيام ببعض الأعمال، التي هي غير مبررة من ناحية المبدأ.
وإذا كنا في القضايا الكبرى، نقول أن الغاية تبرر الوسيلة وتنظف الوسيلة، كما ورد في فتوى العلماء المسلمين، أنه في حال احتماء الكفار بأسرى المسلمين، فإن الفتوى تجيز قتل الأسرى المسلمين حين يتوقف تحقيق النصر على موت هؤلاء، فإننا أمام ما قام به هؤلاء من هجمات في أمريكا، نقول إن هذه الأعمال قد أفادت أميركا ولم تفد الإسلام ولا المسلمين، إذا كان المسلمون قد قاموا بها، بل إنها أثرت تأثيراً سلبياً على المسلمين في كل العالم، وهيأت لأميركا فرصة لأن تقمع كل حركة رافضة للسياسة الأميركية في المنطقة على جميع المستويات باسم الحرب على "الإرهاب"، لأنها تتهم كل من يقف ضدها وضد المصالح الأميركية بـ"الإرهاب"، وقد استطاعت أن تفتح لأميركا أبواب العالم، وأن تجعل العالم خاضعاً لأميركا، في البداية على الأقلّ، بقطع النظر عمّا سيأتي من نتائج، ولهذا فإنني أقول للذين قد يفكرون في أن مثل هذه العمليات مبرّر إذا كان الهدف الكبير لا يتحقق إلاّ بهذه الطريقة، أقول لهم إنها من الممكن أن تؤدي إلى عكس النتائج المطلوبة.
بعض المفتين لا يملكون ثقافة سياسية
أما بالنسبة لمن أطلقوا فتاوى يحرِّمون فيها العمليات الاستشهادية، وتحديداً بعد العمليات الجهادية التي نفِّذت في حيفا والقدس، فقد رأى سماحته: "إن مشكلتنا مع هؤلاء المفتين ـ مع احترامنا لمواقعهم ـ أنهم لا يملكون ثقافة سياسة الواقع، لأنهم ينظرون إلى الأمور بطريقة تجريدية. أن تقتل مدنياً هذا أمر محرم شرعاً إذا كان هذا المدني مسالماً أو إذا كان ذمياً. إنه عنوان كبير في الفقه الإسلامي، ولكن الفقيه إذا أراد أن يحرك عنواناً فقهياً عريضاً بالفتوى الإسلامية، يجب عليه دراسة حركية هذا العنوان في الواقع، فقد يكون الموضوع في عناصره بحسب الظروف المحيطة به حراماً في ذاته، ولكنه يصير حلالاً بلحاظ بعض الظروف الموضوعية إسلامياً، وفي هذا الإطار، نقدم نموذجاً لذلك في ما اتفق عليه المسلمون من أن الكفار إذا تترَّسوا بأسرى المسلمين وتوقف النصر على قتلهم جاز للمسلمين أن يقتلوهم، بل وجب عليهم أن يقتلوهم، ونحن نعرف أن قتل المسلم حرام، ولكنه صار بفعل الظروف الموجودة واجباً.
ولذلك علينا أن نناقش المسألة من ناحية واقعية، وهي أن اليهود احتلُّوا فلسطين كلها بما فيها القدس، وسكنوا الأراضي الفلسطينية، وهم يملكون الأسلحة التي أعدتها أمريكا لتتفوق على كل المنطقة العربية امتداداً إلى بعض انحاء المنطقة الإسلامية لتكون مواقع استراتيجية لهم. أما الفلسطينيون، فهم لا يملكون إلا الكثير من حجارة بلدهم وبعض الأسلحة الخفيفة وبعض قذائف الهاون التي يصنعونها بطريقة بدائية، ومن الطبيعي أنه ليس هناك توازن بين آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية وبين ما يملكه الفلسطينيون. وهي ليست حرباً بين أشخاص هنا وأشخاص هناك، ولكنها حرب بين الأمن الفلسطيني الذي تريد إسرائيل أن تسقطه وأن تمرغه بالوحل حتى لا يبقى للفلسطيني أيُّ أمن في بيته أو مدرسته أو في كل موقع من مواقعه إلا بالبركة الإسرائيلية ، وبين الأمن الإسرائيلي الذي يمثل العنوان الكبير لحكومة شارون. لذلك فإن الفلسطينيين الذين عملت إسرائيل على تدمير أمنهم، بحاجة إلى سلاح يدافع عن هذا الأمن ليهز الأمن الإسرائيلي، بحيث يؤدي ذلك إلى تحقيق مكاسب سياسية تفرض على إسرائيل أن تنصاع مرغمة للتسليم ببعض حقوق الفلسطينيين المشروعة.
لذلك فإن الذين يفجرون أجسادهم في سوق إسرائيلي في أرضهم، وهي القدس، أو في مقهى أو ملهى إسرائيلي، إنما يعملون على قتل الأمن الإسرائيلي، ولا نوافق على أن غالبية الإسرائيليين هم من المدنيين، لأنهم في غالبيتهم جنود احتياط لإسرائيل، وهم عسكريون باحتلالهم لبيوت الفلسطينيين، فالحرب إذاً هنا ليست قتل مدنيين، ولكنها قتل الأمن الإسرائيلي، وهذا أمر جائز في الحرب، عندما تضطرك حرب الآخرين عليك والتي تحاصرك في أكثر من زنزانة وفي أكثر من زاوية، ونحن نعرف أن العالم كله يعتبر أن سقوط المدنيين في الحرب أمر طبيعي تفرضه شرعية الحرب، لهذا فإن هؤلاء المفتين بحاجة إلى ثقافة سياسية ميدانية واقعية تضع المسألة في ظروفها الواقعية التي قد تعطي عمل الفلسطيني معنى الاضطرار، ونحن نقرأ قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}.
وبهذه المناسبة، فإننا في الوقت الذي نتحفظ على فتوى شيخ الأزهر وفتوى العالم السعودي، فإننا نقدر الفتوى التي صدرت عن مفتي مصر التي تحدثت عن شرعية العمليات الاستشهادية في القدس وحيفا".
ولفت سماحته من جهة ثانية إلى أن هذا الأمر لا يقتصر على المسلمين فحسب، بل عرفته شعوب وأمم أخرى، حيث قال: "هذا ليس أمراً جديداً، اليابانيون قاموا بمثل ذلك في الحرب العالمية الثانية، وفي حرب قناة السويس سنة 1956، قام طيار سوري مسيحي بعملية استشهادية بطائرته ضد السفن الحربية ، هذا مع ملاحظة فكرية هامة، وهي أنه ليس هناك فرق بين الجندي الذي يذهب إلى المعركة ليقاتل وهو يعرف أنه سوف يموت بيد العدو، سواء اصطدم بلغم أرضي، أو بقنبلة يمكن أن تنفجر به، وبين من يقوم بتحويل نفسه إلى قنبلة، حيث تختلف فقط آليات المعركة، لعل المشكلة هي أن الغربيين يحملون ذهنية لا يتصورون فيها هذا الأسلوب كجزء من حركة المعركة، إننا نعرف أن هناك أسلحة مألوفة اعتادها الناس وأخرى لم يعتادوها، والعمليات الاستشهادية هي سلاح جديد اكتشفه فعل الإيمان، ولذلك نرى أنه لا فرق بين ذهنية الجندي الذي يقاتل بالطريقة التقليدية وذهنية الاستشهادي، لأن كلاهما ينطلق من خلال محاولة تحقيق الهدف الذي يؤمن به".
وإذا كان هذا الأمر غير مألوف في الذهنيات الغربية، فقد وجّه سماحته للغربيين، لاسيما للأوروبيين، نداءً دعاهم فيه إلى إعادة النظر في سياساتهم، والأخذ بعين الاعتبار بوجهة نظر المسلمين، وذلك في قوله: "نحبُّ للغربيين، وخصوصاً الأوروبيين منهم، الذين نريد أن نعيش معهم ضمن مصالح متبادلة وحوار متبادل، أن يفهموا وجهة نظرنا ولا يأخذوا بوجهة النظر الإسرائيلية".
الشهيدات يصنعن تاريخاً مجيداً للأمة
ولم يقتصر سماحته على إجازة العمليات الاستشهادية للرجال، بل ذهب إلى أكثر من ذلك، حين أجاز للاستشهاديات دخول ساحة المعركة، حاسماً الجدل والنقاش في هذا الموضوع وذلك بقوله: "لقد شكل الجهاد حالة واحدة للرجال والنساء معاً. وصحيح أن الإسلام لم يكلِّف المرأة بالجهاد، ولكنه أجاز لها أن تجاهد، لا سيما إذا كانت ضرورات الحرب الدفاعية تتطلب أن تنطلق النساء في أي عملية عسكرية عادية أو عسكرية استشهادية... لذلك، فإننا نعتقد أن اللواتي ينفذن العمليات الاستشهادية هن من الشهيدات اللواتي يصنعن تاريخاً جديداً ومجيداً للمرأة العربية المسلمة. من هنا، نتحفظ على كل الكلمات التي تحفظت على عمليات المرأة الاستشهادية، ونقول إنها جهاد كأية عملية جهادية أخرى، لأن الله لم يحدد لنا آلية للجهاد، فالآليات تفرضها حاجة المعركة".
وفي موقع آخر يعتبر "أن حركة المرأة أكثر ثواباً وفضلاً وإيثاراً من الرجل، لأن الرجل يتحرك من خلال أن الجهاد في مواقعه فرض عليه، أما المرأة فقد وضع الله عنها الجهاد، ولذلك فإن جهادها هو جهاد تطوّعي ينطلق من عمق إنسانيتها وعمق إيمانها بدينها وبأمتها، ولذلك فإن استشهاد المرأة في هذا الخط هو بألف شهادة إذا كان استشهاد الرجل بشهادة واحدة".
العلماء واجبهم توعية الناس
وأنحى سماحة السيد باللائمة على العلماء الذين يقفون موقف المتفرج من قضايا الصراع مع أعداء الأمة فقال "أما بالنسبة للعلماء، فإنني أتصور أن مسؤوليتهم هي أن ينطلقوا من أجل دراسة الواقع كله ومعرفة كيفية مواجهته، وأن ينطلقوا لمواجهة الأخطار المحدقة بالعالم العربي والإسلامي.. لأن القضية هي أن يقفوا وقفة واحدة من أجل توعية الأمة كلها، حتى يشعر كل فرد من الأمة أن مسألة الجهاد ضد إسرائيل هي مسألة شرعية لا بد لنا من تحريكها في الواقع على طريقة رسم الخطة، والبحث عن أية ثغرة يمكن أن ينفذ منها المتطوّعون والمسلحون لمشاركة الشعب الفلسطيني.
كما اعتبر أن من واجبهم أن يقوموا بتوعية الناس، لأن" دورهم هو تعبئة الشعوب من الناحية الدينية، ليعرف كل شعب أن مسألة دعم الفلسطينيين تكليف شرعي مباشر على كل مسلم ومسلمة، وإصدار الفتاوى الشرعية الملزمة بمقاطعة البضائع الإسرائيلية والأمريكية التي تدعم إسرائيل بالمطلق، وكل دولة تدعم إسرائيل بالمطلق، وبالدعوة الشرعية الملزمة لمقاطعة إسرائيل من الناحية الدبلوماسية... إننا نعتقد الآن أن المرحلة هي مرحلة الجهاد بكل معانيه، باعتبار أن الاستكبار برز مع الكفر كله إلى الإسلام والإيمان كله، وأن انتصار إسرائيل في فلسطين يمثل خطراً على المسلمين والعرب جميعاً. لذلك، إذا كانت الشعوب لا تستطيع الدخول إلى فلسطين لتقاتل من خلال الظروف المعقَّدة المحيطة بذلك، فإن عليها الجهاد بكل وسائل الدعم لهذه المعركة الفاصلة، بالمال وبالموقف السياسي وبالمظاهرات، وبكل المجالات.. إن على العلماء المسلمين أن يكونوا القيادة الإسلامية المتحركة إلى وحدة تلغى فيها كل الحساسيات بينهم، ليصدروا فتوى موحدة وموقفاً موحداً، لأن القضية تتجاوز كل الشخصيات والمرجعيات، وتتجاوز الحزبيات والحساسيات، القضية هي أن أمريكا تعمل على إضعاف الإسلام والمسلمين ..
فلا يجوز أن نتلهى بالقضايا الصغيرة عن القضايا الكبيرة، وإلا فإن العدوّ سوف يسقط كل مواقعنا، سواء الدينية أو السياسية أو الاقتصادية أو ما إلى ذلك، إن هناك معركة متواصلة، وعلينا الارتفاع إلى مستواها، لأنها معركة الحقِّ ضدَّ الباطل".
عمل العدو الصهيوني في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول، على إدراج حربه ضد الانتفاضة الفلسطينية في إطار الحرب العالمية التي أخذت تشنها الولايات المتحدة على ما سمته بالإرهاب، وكان التركيز الإسرائيلي على العلميات الجهادية لا سيما الاستشهادية التي اعتبرها شارون مماثلة لما حدث في أمريكا. وكان رأي سماحة السيد فضل الله أنه لا مجال للمقارنة " بين الساحتين، لأن الساحة الفلسطينية هي ساحة الحرب الحارة التي تستخدم فيها إسرائيل كل ما تملكه من الأسلحة الأميركية، التي جهزت للحروب الكبرى، من طائرات الـ" إف16" وطائرات الأباتشي والصواريخ والدبابات والمدافع ضد الفلسطينيين العزّل الذين لا يملكون إلا حجارة، أو بعض الأسلحة الخفيفة، أو بعض قنابل الهاون، هذا فضلاً عمّا يمارس عليهم من حصار جغرافي واقتصادي، والقيام بأبشع أنواع الجرائم، وهو ما يجعل الفلسطينيين، بفعل فقدان التوازن في موقفي الهجوم والدفاع، مضطرين إلى أن يواجهوا الدمار الإسرائيلي بإسقاط الأمن الإسرائيلي. لذلك فإنهم لا يهدفون إلى قتل المدنيين، بل إلى قتل المشروع الإسرائيلي الذي انطلق فيه آرييل شارون كعنوانٍ لحكومته. ومن الطبيعي أن "إسرائيل" التي تعتبر أن قتلها للمدنيين الفلسطينيين يتم على أساس خطأ، أو نتيجة لظلامات الحرب، فإن ظلامات الحرب، في المقابل، هي التي تبرر ما يقوم به المجاهدون في فلسطين من عمليات استشهادية، حتى لو كانت في مواقع مدنية.
لكن في أمريكا ليست هناك حرب حارة كي يردَّ فيها هؤلاء بهذا الأسلوب، وهذا خلاف ما قد يفكر فيه البعض أن من الممكن القيام ببعض الأعمال، التي هي غير مبررة من ناحية المبدأ.
وإذا كنا في القضايا الكبرى، نقول أن الغاية تبرر الوسيلة وتنظف الوسيلة، كما ورد في فتوى العلماء المسلمين، أنه في حال احتماء الكفار بأسرى المسلمين، فإن الفتوى تجيز قتل الأسرى المسلمين حين يتوقف تحقيق النصر على موت هؤلاء، فإننا أمام ما قام به هؤلاء من هجمات في أمريكا، نقول إن هذه الأعمال قد أفادت أميركا ولم تفد الإسلام ولا المسلمين، إذا كان المسلمون قد قاموا بها، بل إنها أثرت تأثيراً سلبياً على المسلمين في كل العالم، وهيأت لأميركا فرصة لأن تقمع كل حركة رافضة للسياسة الأميركية في المنطقة على جميع المستويات باسم الحرب على "الإرهاب"، لأنها تتهم كل من يقف ضدها وضد المصالح الأميركية بـ"الإرهاب"، وقد استطاعت أن تفتح لأميركا أبواب العالم، وأن تجعل العالم خاضعاً لأميركا، في البداية على الأقلّ، بقطع النظر عمّا سيأتي من نتائج، ولهذا فإنني أقول للذين قد يفكرون في أن مثل هذه العمليات مبرّر إذا كان الهدف الكبير لا يتحقق إلاّ بهذه الطريقة، أقول لهم إنها من الممكن أن تؤدي إلى عكس النتائج المطلوبة.
بعض المفتين لا يملكون ثقافة سياسية
أما بالنسبة لمن أطلقوا فتاوى يحرِّمون فيها العمليات الاستشهادية، وتحديداً بعد العمليات الجهادية التي نفِّذت في حيفا والقدس، فقد رأى سماحته: "إن مشكلتنا مع هؤلاء المفتين ـ مع احترامنا لمواقعهم ـ أنهم لا يملكون ثقافة سياسة الواقع، لأنهم ينظرون إلى الأمور بطريقة تجريدية. أن تقتل مدنياً هذا أمر محرم شرعاً إذا كان هذا المدني مسالماً أو إذا كان ذمياً. إنه عنوان كبير في الفقه الإسلامي، ولكن الفقيه إذا أراد أن يحرك عنواناً فقهياً عريضاً بالفتوى الإسلامية، يجب عليه دراسة حركية هذا العنوان في الواقع، فقد يكون الموضوع في عناصره بحسب الظروف المحيطة به حراماً في ذاته، ولكنه يصير حلالاً بلحاظ بعض الظروف الموضوعية إسلامياً، وفي هذا الإطار، نقدم نموذجاً لذلك في ما اتفق عليه المسلمون من أن الكفار إذا تترَّسوا بأسرى المسلمين وتوقف النصر على قتلهم جاز للمسلمين أن يقتلوهم، بل وجب عليهم أن يقتلوهم، ونحن نعرف أن قتل المسلم حرام، ولكنه صار بفعل الظروف الموجودة واجباً.
ولذلك علينا أن نناقش المسألة من ناحية واقعية، وهي أن اليهود احتلُّوا فلسطين كلها بما فيها القدس، وسكنوا الأراضي الفلسطينية، وهم يملكون الأسلحة التي أعدتها أمريكا لتتفوق على كل المنطقة العربية امتداداً إلى بعض انحاء المنطقة الإسلامية لتكون مواقع استراتيجية لهم. أما الفلسطينيون، فهم لا يملكون إلا الكثير من حجارة بلدهم وبعض الأسلحة الخفيفة وبعض قذائف الهاون التي يصنعونها بطريقة بدائية، ومن الطبيعي أنه ليس هناك توازن بين آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية وبين ما يملكه الفلسطينيون. وهي ليست حرباً بين أشخاص هنا وأشخاص هناك، ولكنها حرب بين الأمن الفلسطيني الذي تريد إسرائيل أن تسقطه وأن تمرغه بالوحل حتى لا يبقى للفلسطيني أيُّ أمن في بيته أو مدرسته أو في كل موقع من مواقعه إلا بالبركة الإسرائيلية ، وبين الأمن الإسرائيلي الذي يمثل العنوان الكبير لحكومة شارون. لذلك فإن الفلسطينيين الذين عملت إسرائيل على تدمير أمنهم، بحاجة إلى سلاح يدافع عن هذا الأمن ليهز الأمن الإسرائيلي، بحيث يؤدي ذلك إلى تحقيق مكاسب سياسية تفرض على إسرائيل أن تنصاع مرغمة للتسليم ببعض حقوق الفلسطينيين المشروعة.
لذلك فإن الذين يفجرون أجسادهم في سوق إسرائيلي في أرضهم، وهي القدس، أو في مقهى أو ملهى إسرائيلي، إنما يعملون على قتل الأمن الإسرائيلي، ولا نوافق على أن غالبية الإسرائيليين هم من المدنيين، لأنهم في غالبيتهم جنود احتياط لإسرائيل، وهم عسكريون باحتلالهم لبيوت الفلسطينيين، فالحرب إذاً هنا ليست قتل مدنيين، ولكنها قتل الأمن الإسرائيلي، وهذا أمر جائز في الحرب، عندما تضطرك حرب الآخرين عليك والتي تحاصرك في أكثر من زنزانة وفي أكثر من زاوية، ونحن نعرف أن العالم كله يعتبر أن سقوط المدنيين في الحرب أمر طبيعي تفرضه شرعية الحرب، لهذا فإن هؤلاء المفتين بحاجة إلى ثقافة سياسية ميدانية واقعية تضع المسألة في ظروفها الواقعية التي قد تعطي عمل الفلسطيني معنى الاضطرار، ونحن نقرأ قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}.
وبهذه المناسبة، فإننا في الوقت الذي نتحفظ على فتوى شيخ الأزهر وفتوى العالم السعودي، فإننا نقدر الفتوى التي صدرت عن مفتي مصر التي تحدثت عن شرعية العمليات الاستشهادية في القدس وحيفا".
ولفت سماحته من جهة ثانية إلى أن هذا الأمر لا يقتصر على المسلمين فحسب، بل عرفته شعوب وأمم أخرى، حيث قال: "هذا ليس أمراً جديداً، اليابانيون قاموا بمثل ذلك في الحرب العالمية الثانية، وفي حرب قناة السويس سنة 1956، قام طيار سوري مسيحي بعملية استشهادية بطائرته ضد السفن الحربية ، هذا مع ملاحظة فكرية هامة، وهي أنه ليس هناك فرق بين الجندي الذي يذهب إلى المعركة ليقاتل وهو يعرف أنه سوف يموت بيد العدو، سواء اصطدم بلغم أرضي، أو بقنبلة يمكن أن تنفجر به، وبين من يقوم بتحويل نفسه إلى قنبلة، حيث تختلف فقط آليات المعركة، لعل المشكلة هي أن الغربيين يحملون ذهنية لا يتصورون فيها هذا الأسلوب كجزء من حركة المعركة، إننا نعرف أن هناك أسلحة مألوفة اعتادها الناس وأخرى لم يعتادوها، والعمليات الاستشهادية هي سلاح جديد اكتشفه فعل الإيمان، ولذلك نرى أنه لا فرق بين ذهنية الجندي الذي يقاتل بالطريقة التقليدية وذهنية الاستشهادي، لأن كلاهما ينطلق من خلال محاولة تحقيق الهدف الذي يؤمن به".
وإذا كان هذا الأمر غير مألوف في الذهنيات الغربية، فقد وجّه سماحته للغربيين، لاسيما للأوروبيين، نداءً دعاهم فيه إلى إعادة النظر في سياساتهم، والأخذ بعين الاعتبار بوجهة نظر المسلمين، وذلك في قوله: "نحبُّ للغربيين، وخصوصاً الأوروبيين منهم، الذين نريد أن نعيش معهم ضمن مصالح متبادلة وحوار متبادل، أن يفهموا وجهة نظرنا ولا يأخذوا بوجهة النظر الإسرائيلية".
الشهيدات يصنعن تاريخاً مجيداً للأمة
ولم يقتصر سماحته على إجازة العمليات الاستشهادية للرجال، بل ذهب إلى أكثر من ذلك، حين أجاز للاستشهاديات دخول ساحة المعركة، حاسماً الجدل والنقاش في هذا الموضوع وذلك بقوله: "لقد شكل الجهاد حالة واحدة للرجال والنساء معاً. وصحيح أن الإسلام لم يكلِّف المرأة بالجهاد، ولكنه أجاز لها أن تجاهد، لا سيما إذا كانت ضرورات الحرب الدفاعية تتطلب أن تنطلق النساء في أي عملية عسكرية عادية أو عسكرية استشهادية... لذلك، فإننا نعتقد أن اللواتي ينفذن العمليات الاستشهادية هن من الشهيدات اللواتي يصنعن تاريخاً جديداً ومجيداً للمرأة العربية المسلمة. من هنا، نتحفظ على كل الكلمات التي تحفظت على عمليات المرأة الاستشهادية، ونقول إنها جهاد كأية عملية جهادية أخرى، لأن الله لم يحدد لنا آلية للجهاد، فالآليات تفرضها حاجة المعركة".
وفي موقع آخر يعتبر "أن حركة المرأة أكثر ثواباً وفضلاً وإيثاراً من الرجل، لأن الرجل يتحرك من خلال أن الجهاد في مواقعه فرض عليه، أما المرأة فقد وضع الله عنها الجهاد، ولذلك فإن جهادها هو جهاد تطوّعي ينطلق من عمق إنسانيتها وعمق إيمانها بدينها وبأمتها، ولذلك فإن استشهاد المرأة في هذا الخط هو بألف شهادة إذا كان استشهاد الرجل بشهادة واحدة".
العلماء واجبهم توعية الناس
وأنحى سماحة السيد باللائمة على العلماء الذين يقفون موقف المتفرج من قضايا الصراع مع أعداء الأمة فقال "أما بالنسبة للعلماء، فإنني أتصور أن مسؤوليتهم هي أن ينطلقوا من أجل دراسة الواقع كله ومعرفة كيفية مواجهته، وأن ينطلقوا لمواجهة الأخطار المحدقة بالعالم العربي والإسلامي.. لأن القضية هي أن يقفوا وقفة واحدة من أجل توعية الأمة كلها، حتى يشعر كل فرد من الأمة أن مسألة الجهاد ضد إسرائيل هي مسألة شرعية لا بد لنا من تحريكها في الواقع على طريقة رسم الخطة، والبحث عن أية ثغرة يمكن أن ينفذ منها المتطوّعون والمسلحون لمشاركة الشعب الفلسطيني.
كما اعتبر أن من واجبهم أن يقوموا بتوعية الناس، لأن" دورهم هو تعبئة الشعوب من الناحية الدينية، ليعرف كل شعب أن مسألة دعم الفلسطينيين تكليف شرعي مباشر على كل مسلم ومسلمة، وإصدار الفتاوى الشرعية الملزمة بمقاطعة البضائع الإسرائيلية والأمريكية التي تدعم إسرائيل بالمطلق، وكل دولة تدعم إسرائيل بالمطلق، وبالدعوة الشرعية الملزمة لمقاطعة إسرائيل من الناحية الدبلوماسية... إننا نعتقد الآن أن المرحلة هي مرحلة الجهاد بكل معانيه، باعتبار أن الاستكبار برز مع الكفر كله إلى الإسلام والإيمان كله، وأن انتصار إسرائيل في فلسطين يمثل خطراً على المسلمين والعرب جميعاً. لذلك، إذا كانت الشعوب لا تستطيع الدخول إلى فلسطين لتقاتل من خلال الظروف المعقَّدة المحيطة بذلك، فإن عليها الجهاد بكل وسائل الدعم لهذه المعركة الفاصلة، بالمال وبالموقف السياسي وبالمظاهرات، وبكل المجالات.. إن على العلماء المسلمين أن يكونوا القيادة الإسلامية المتحركة إلى وحدة تلغى فيها كل الحساسيات بينهم، ليصدروا فتوى موحدة وموقفاً موحداً، لأن القضية تتجاوز كل الشخصيات والمرجعيات، وتتجاوز الحزبيات والحساسيات، القضية هي أن أمريكا تعمل على إضعاف الإسلام والمسلمين ..
فلا يجوز أن نتلهى بالقضايا الصغيرة عن القضايا الكبيرة، وإلا فإن العدوّ سوف يسقط كل مواقعنا، سواء الدينية أو السياسية أو الاقتصادية أو ما إلى ذلك، إن هناك معركة متواصلة، وعلينا الارتفاع إلى مستواها، لأنها معركة الحقِّ ضدَّ الباطل".