إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

القصص الحق

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • القصص الحق

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    للقصة في الآداب بصورة عامة عدة أهداف منها أن يؤتى بها للعبرة أو للتسلية إضافة إلى الكثير من الأغراض الأخرى.

    وقد جاء القرآن الكريم بعدة قصص للأنبياء والأولياء والصالحين كعبرة تؤكد الحقائق التاريخية للماضين ولطمأنة النبي (ص) بالنصرة والغلبة كما كان شأن كل الأنبياء والأولياء الذين انتصروا معنوياً إن لم يحصلوا على النصر المادي، ولا تزال هذه القصص القرآنية تتجدد وإلى يومنا هذا.


    إبراهيم (عليه السلام)

    كان رجلٌ اسمُهُ آزر، منجماً لملك جبَّارٍ يُسمَّى (نمرود) وكان (نمرود) كافراً باللهِ تعالى.

    فقال آزر للملك يوماً: إني أرى في حسابٍ للنجوم: أنّهُ سينشأُ رجلٌ ينسخُ دينَكَ أيُّها الملكُ، ويدعو إلى دينٍ جديد*

    فسأل الملك آزر: وهل وُلِدَ هذا المولود؟

    قالَ آزر: لا..

    قالَ الملك: ينبغي أن يفرّق بين الرجالِ والنساءِ، حتى لا يحصلَ تزاوج، ليكونَ بينهما نسلٌ.

    ثمّ أمَرَ الملكُ بمفارقة الرجالِ للنساء، ولكن شاء اللهُ أن تحمل أمُّ (إبراهيم) بهذا المولود. فحملت.. وأخفَتْ حملها عن الناس، حتى عن أبيه. فلمّا أخذ أمّ (إبراهيم) الطلق، ذهبتْ إلى مكانٍ مستترٍ ووضعتْ بإبراهيم، خوفاً على ولدها، ثم قمطته، ورجعت إلى دارها. وكانت الأمّ تختلف إلى ولدها وكان ينمو إبراهيم نمواً سريعاً حتى بلغَ مبلغَ الفتيان.

    واشتدّ حكمُ نمرود على الأولاد، فكان يقتل كلَّ ولد ذَكر. ولكن شاءَ الله أن يبقى إبراهيم في أمنٍ من الملك السفَّاك.

    * * *

    خرج ذات يوم إبراهيمُ من مخبئهِ، وعمرُه إذ ذاك ثلاثَ عشرة سنةً. فنظر إلى آثار قدرة الله تعالى في السماوات والأرض، وشاء الله أن يلفت نظر إبراهيم إلى آيات الكون

    (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماواتِ والأرض وليكونَ من الموقنين) وهكذا، كان ينظرُ إلى آياتِ الله تعالى، حتى قربت الشمس للأفول.

    (فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً) في السماء وكان الكوكبُ (زهرة)، ورأى إنّ جماعة من الناس يعبدونه، ويخضعون له فتعجّب من فعلهم هذا.

    و(قال) مستنكراً عبادتهم للكوكب: (هذا ربي)؟ ونظر إليهم في صمت! لكن كان يتحيّن الفرصةَ، للردّ عليهم..

    فلمّا (أفل) غربَ الكوكبُ.. واختفى عن الأبصار توجّهَ إلى أولئك النفر الذين كانوا يعبدون الكوكب و(قال) لهم: (لا أحبُّ الآفلين).

    * * *

    ثم مرّ بجماعة أخرى، فرآهم يخضعون للقمر ويعبدونه.

    (فلما رأى القمر بازغاً) طالعاً من الأفق.. ورأى أن أولئك النفر يعبدونه (قال هذا ربي)؟! مستنكراً فعلهم، متعجباً من عبادتهم!!

    لكنّه صبر، وانتظر، حتى يرد عليهم، وتحيّن الفرصة! (فلما أفل) اختفى تحت الأفق! توجّه إلى القوم، و(قال): (لئن لم يهدني ربي لأكوننَّ من القوم الضّالّين).

    * * *

    وبعد ذلك.. بقي إبراهيم، إلى أن طلعَ الصبحُ، وخرجت الشمس وإذا به يمرّ بجماعة، يسجدون للشمس، ويعبدونها!

    (فلما رأى الشمس بازغةً) ورأى أنّ القوم يخضعون أمامها (قال هذا ربّي هذا أكبر)؟! مستنكراً فعلهم، متعجّباً منهم، كيف يتخذون الشمس إلهاً؟!

    لكنه صبر، حتى يردّ عليهم.. وإذا بالشمس تميل نحو الغروب.

    (فلما أفلت) وغابت عن الأبصار.. توجه إلى أولئك النفر الذين كانوا يعبدونها و(قال يا قوم إني بريء مما تُشركون) وكيف تجعلون لله شريكاً؟ إن (الزهرة) و(القمر) و(الشمس) ليست بإله.

    (إنّي وجهتُ وجهي للذي فَطَرَ السماواتِ والأرض) خلقها، وأبدع صُنعها.. (حنيفاً) مائلاً عن الشرك إلى الإيمان بالله (وما أنا من المشركين).

    * * *

    كان (آزر) منجّم الملك (نمرود) عم إبراهيم، وكان عارفاً بنحت الأصنام، فكان ينحتها ويعطيها لأولاده، حتى يبيعوها للناس. وكان إبراهيم يحترم عمّه (آزر)، حتى أنه كان يناديه: (يا أبه)! وقد أحبّ آزرُ ولد أخيه حباً شديداً.

    ولما كبر إبراهيم ورشد، دفع إليه (آزر) بعض الأصنام التي كان قد نحتها، وأمره أن يبيعها، كما يبيع أُخوته. لكن إبراهيم، كان نبياً عظيماً، يعلم إنّ هذه الأصنام ليست بآلهة، وإنما هي أشياء منحوتة. فكان يعلّق في أعناقها الخيوط.. ويجرّها على الأرض ويقول:

    من يشتري ما لا يضرُّه ولا ينفعُه؟

    وكان يستهزئ بالأصنام.. فيُغرّقها في الماء والوحل.. ويقول لها:

    اشربي.. وتكلمي.

    * * *

    وفي ذات يوم، وشى أُخوتُه خبر ما يفعلُ إبراهيمُ بالأصنام إلى (آزر) فنهاهُ آزرُ عن هذا العمل.. فلم ينته إبراهيم، عند ذلك، اغتاظ آزر فحبس إبراهيمَ في منزله ولم يدَعْهُ يخرج.

    ولما انكشف أمرُ إبراهيمَ عند (آزر) وأنه يعبد الله تعالى ولا يعبد الأصنام، التي كان (آزر) يعبدها، ذهب إبراهيم إليه، ليدعُوه إلى الله، وأخذ يدعوه بكلّ أدبٍ ولطفٍ، قال: (يا أبتِ لم تعبدُ ما لا يسمعُ ولا يبصرُ ولا يغني عنك شيئاً)؟

    (يا أبتِ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتِك) وقد علمت أن هذه الأصنام ليست بآلهة، وإنما الإلهُ هو الله الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما (فاتبعني أهدِكَ صراطاً سوياً).

    (يا أبتِ لا تعبدْ الشيطان) فانك إذا عبدتَ الأصنامَ، كنت عبدتَ الشيطان لأنك قبلت قوله، وخالفت أوامر الله (إن الشيطان كان للرحمن عصيّاً). (يا أبتِ إني أخاف أن يمسّك عذاب من الرحمن).

    وهكذا أخذ إبراهيم، ينصح عمّه (آزر) بكلّ أدب ولطف، لكن عمّه اغتاظ من مقالة إبراهيم، و(قال أراغِب أنت عن آلهتي يا إبراهيم)؟! وتعبدُ إلهاً آخر؟! (لئنْ لم تنتَهِ) عن مقالك هذا، (لأرجمنَّكَ) بالحجارة، حتى تموتَ.

    ثم طرد إبراهيم من عنده، (و) قال له: (اهجرني ملياً): تغيّب عني مدة مديدة، حتى لا أراك.

    ولما رأى إبراهيم هذه الخشونة والتهديد من آزر، ودّعه وداع متأدب، (قال سلام عليك) سلامُ وداع.

    (سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً) وأطلب منه أن يغفر لك (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربّي شقياً) وانصرف إبراهيم من عنده كئيباً.

    * * *

    وشرع إبراهيم يدعو إلى الله تعالى، ويأمر قومه بنبذ الأصنام، ولكن.. القوم لم يستجيبوا لإبراهيم دعوته وأصرّوا على الشرك (وحاجّة قومه) في ألوهيّة الأصنام.. قالوا: إن الأصنام هي الآلهة، واللازم علينا أن نعبدها.

    (قال أتحاجّوني في الله) وتدعوني إلى أن اترك الله (وقد هدانِ ولا أخاف ما تشركون به) فإني لا أخاف من آلهتكم، وأي ضرر يمكن أن يضرّني به الصنم أو الكوكب والقمر والشمس؟ كلاّ! إنها لا تضر ولا تنفع (إلا أن يشاء ربي شيئاً) فانّ ربي هو الذي يضر وينفع، وأن أصنامكم لا تعلم شيئاً (وسع ربي كلّ شيءٍ علماً) يعلم كل شيء (أفلا تتذكرون)؟

    ثم خوفهم إبراهيم من عذاب الله، قال: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله) وجعلتم له شريكاً كذباً، لكنّ القوم أصرّوا في العناد.. ولم ينفعهم كلام إبراهيم. ثم أخذ ينصحهم مرّة ثانيةً.

    (إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون)؟

    (قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين).

    (قال هل يسمعونكم إذ تدعون)؟

    قالوا: لا.. إنها أصنام من جماد لا تسمع دعوتنا.

    قال: هل (ينفعونكم أو يضرّون)؟

    قالوا: لا.. إنها لا تتمكّن من جلب نفع أو دفع ضرر.

    قال: فكيف تعبدون ما لا يسمع.. ولا ينفع.. ولا يدفع؟

    (قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) وإنا نتبع آباءنا تقليداً لهم.

    (قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين) إن الأصنام أعداء الإنسان، إنها توجب للإنسان شرّ الدنيا وشرّ الآخرة. أمّا الله تعالى فهو الذي يدبّر أمور الإنسان: (الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين). ولكنّ القوم لم يقبلوا كلام إبراهيم، وركبوا رؤوسهم، ولم يؤثر فيهم نصحه ومنطقه.

    * * *

    حضر عيدٌ للقوم.. وخرج الملك الجبّار (نمرود) وأهل المدينة إلى الصحراء، لأداء مراسيم العيد هناك ولم يخرج معهم إبراهيم. فلما ذهبوا، أخذ إبراهيم شيئاً من الطعام، وذهب إلى بيت الأصنام.

    (فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون)؟ (ما لكم لا تنطقون)؟*

    فكان يدنو من كل صنم فيقول له: كل.. تكلم. فإذا لم يجبه، أخذ القدّوم، فكسر يده ورجله. ثم علّق القدوم في عنق الصنم الكبير، الذي كان في صدر البيت. وخرج لشأنه..

    * * *

    ورجع الملك والقوم من العيد.. ولما دخلوا دار الأصنام، رأوا الأصنام محطّمة. فكثر فيهم اللغو والصياح. من فعل هذا بآلهتهم؟ ومن تجرّأ على مسّ كرامة مقدساتهم. وأخذوا يستفسرون الناس:

    (قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنّه لمن الضالمين)؟

    (قالوا سمعنا فتى يذكرهم) يذكر الأصنام بسوء (يقال له إبراهيم).

    (قالوا فأتوا به على أعين الناس) وإذا بالقوم يطلبون إبراهيم.. هنا.. وهنا حتى وجدوه وجاءوا به إلى مجمع الناس. وهناك نظر القوم إليه في غضب واستنكار، (وقالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم)؟

    ورأى إبراهيم الموقع مهيئاً، لنشر الدعوة فأشار إلى كبير الأصنام، الذي كان القدوم في عنقه، وقال: كسّر الأصنام هذا الصنم الكبير إن نطق.. ومعناه: وإن لم ينطق فلم يفعل كبير الأصنام ذلك.

    وأراد بهذا الكلام أن يرشدهم إلى أنّ الصنم لا يتكلم فكيف تتخذونه رباً؟ ووقع كلام إبراهيم في قلوبهم: كيف يُعبد صنم لا يكلم؟ (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنّكم أنتم الظالمون) وليس إبراهيم ظالماً.. إنه أراد هدايتكم، وأنتم الذين تزيدون عناداً وإصراراً. (ثم نكسوا على رؤوسهم) فلم يرفعوها خجلاً. وأخذوا يتمتمون في أنفسهم: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) فكيف نتخذهم رباً؟

    واغتنم إبراهيم هذه الفرصة، فأخذ يعاتبهم على عبادة الأصنام و(قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم أفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون)؟!

    * * *

    استشار (نمرود) قومه، في أمر إبراهيم (قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين). فحبس إبراهيم، وأمر بجمع الحطب ـ ولقد كان في قليل من الحطب كفاية لحرق إنسان ـ لكن القوم من كثرة غضبهم على محطّم آلهتهم. أخذوا يجمعون الحطب من كل مكان، حتى صار الحطب كجبل عظيم.. ثم أشعلوا الحطب ناراً.. فانتشرت حرارتها في الفضاء بحيث لم يكن يحلّق طائر في تلك الأجواء، إلا سقط محترقاً.. ولم يتمكن ذو روح من الدنو.

    وحينذاك صعب عليهم الأمر، يا ترى كيف يلقون إبراهيم في تلك النار التي لا يتمكن من اقترابها بشر؟ وإذ هم في حيرة من أمرهم. أشار شخص أن يصنعوا المنجنيق، وهي آلةٌ حربية، تقذف بما يوضع فيها من إنسان أو حجر أو غيرهما. فاستصوبوا رأيه، وأمر الملك الطاغي، بصنع الآلة..

    فصنعت ثم وضعوا فيها إبراهيم. وهناك جاء (آزر) عمّه، فلطم إبراهيم، وقال له: ارجع عما أنت عليه.. إشفاقاً على إبراهيم من الحرق.

    لكن (إبراهيم) كان أربط جأشاً، من أن يضعضع إيمانه خوف أو تهديد.. فلزم جانب الحق، ولم يرجع، بل أصرّ على مبدئه، وإن حرق بالنار.

    * * *

    وحينذاك أمر (نمرود) الرّماة، أن يقذفوا إبراهيم في النار! فحركوا عجلة (المنجنيق) فرمت بإبراهيم في الفضاء نحو النار.. وعند إطلاق إبراهيم، أمر الله تعالى النار: (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم)، فانقلبت النيران بإذن الله تعالى روضةً غناءً، يغلب عليها البرد، فاصطكت أسنان إبراهيم من البرد (وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين).

    فنظر نمرود وأصحابه، من بعيد إلى هذه المعجزة متحيرين!! وفلتت من لسان نمرود كلمةٌ، ما أراد أن يقولها.. ولكنها في غمرة التعجب، أخذت مكانها في الفضاء، قال: من اتخّذ إلهاً، فليتخذ مثل إله إبراهيم! لكن أحد المتملقين أراد تدارك الأمر، ليقربه إلى نمرود زلفى.. فقال: إني عزمت على النار أن لا تحرقه. فتطاير شررٌ من النار إلى ذلك المتزلّف.. حتى أبان كذبه: فإن من لا يقدر على أن يرد الشرر عن نفسه، كيف يتمكن أن يعزم على النار أن لا تحرق أحداً؟

    ونظر نمرود إلى آزر، عم إبراهيم.. وقال: يا آزر، ما أكرم ابنك على ربه؟ ثم خرج إبراهيم من النار، وجاء إلى نمرود، ليدعوه إلى الله من جديد.

    * * *

    قال نمرود: يا إبراهيم، من ربك؟

    (قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت).

    (قال أنا أحيي وأميت).

    قال إبراهيم: كيف تُحيي وتُميت؟

    قال نمرود: اطلب رجلين ممن وجب عليهم القتل، فأطلق واحداً، وأقتل واحداً، فأكون قد أمتّ وأحييت.

    وكان هذا الكلام من (نمرود) خطأً، إذ معنى كلام إبراهيم (عليه السلام) أن الله يعطي الحياة، ويقبض الأرواح. أما كلام نمرود أنه يطلق سراح الجاني، فليس هذا إحياءً..

    فقال له إبراهيم: إن كنت صادقاً، فأحْي الذي قتلته.. لكن نمرود لم يحر جواباً.

    ثم أن إبراهيم أعرض عن مقالة نمرود وأراد أن يلزمه بحجةٍ أخرى.. فقال: دع عن هذا (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من الغرب).. فإن كلّ يوم صباحاً، تطلع الشمس من المشرق، وذلك من صنع الله تعالى.. فإن كنت أنت إلهاً، فاعكس الأمر، وائتِ بالشمس من طرف المغرب. (فبهت الذي كفر) وانقطع نمرود عن الحجة، فلم يتمكن أن يجيب إبراهيم. وظهر على الكل أن نمرود كاذبٌ في دعواه الألوهية.

    * * *

    وذات يوم مر إبراهيم على ساحل البحر، فرأى جيفةً على الساحل: بعضها في الماء، وقد اجتمع عليه بعض الأسماك تأكله.. وبعضها في البر، وقد اجتمع عليه بعض السباع تأكله. عند ذاك تفكّر إبراهيم في كيفية إعادة الأموات، يوم القيامة. فطلب من الله، أن يريه إحياء الأموات، حتى يصير علمه عياناً.

    فقال: (رب أرني كيف تحيي الموتى)؟

    (قال) الله تعالى: (أو لم تؤمن)؟

    (قال) إبراهيم: (بلى) إني مؤمن (ولكن ليطمئن قلبي).

    (قال) الله تعالى: (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم).

    فأخذ إبراهيم الديك.. والحمامة.. والطاووس.. والغراب.. فذبحهن، وقطّعهن، وخلطهنّ، ثم جعل على كلّ جبل من الجبال التي حوله ـ وكانت الجبال عشرة ـ جزءاً من تلك الأجزاء المخلوطة، وجعل مناقير هذه الطيور الأربعة بين أصابعه. ثم دعا الطيور بأسمائهن ـ ووضع عنده ماءاً وحبّاً ـ فتطايرت تلك الأجزاء، وانضمّت بعضها إلى بعض، حتى كملت الأبدان وجاء كل بدنٍ حتى لحق برأسه ومنقاره، فخلّى إبراهيم (عليه السلام) سبيلهنّ، فطرن، ثم وقعن، فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحب، وشكَرن إبراهيم..

    يتبع


  • #2
    نوح (عليه السلام)

    كان ـ في سالف الزمان ـ قوم مؤمنون، يعبدون الله وحده ويعتقدون بالمعاد، ويفعلون الخيرات، فمات أولئك القوم، فحزن عليهم الناس لصلاحهم وأخلاقهم. فعمل بعض تماثيل أولئك، وكانوا يسمّون بهذه الأسماء: ودّ، سواع، يغوث، يعوق، نسر..

    وأنس الناس بهذه التماثيل، وجعلوها رمزاً لأولئك النفر الصلحاء الذين ماتوا منهم. وكان أهل المدينة يعظّمون هذه الصّور، قصداً إلى تعظيم أولئك الأموات.
    مضى الصيف، وجاء الشتاء، فأدخلوا الصّور في بيوتهم. ومضى زمان.. وزمان.. حتى مات الآباء وكبر الأبناء، فجعلوا يضيفون في احترام هذه التماثيل، ويخضعون أمامها. وأخذت التماثيل من نفوس أولئك القوم مأخذاً عظيماً. وإذا بالجيل الثاني، شرعوا يعبدون الصور.. ويقولون إنها آلهةٌ، يجب السجود لها، والخضوع أمامها. فعبدوها، وضلّ منهم خلق كثير.

    * * *

    وحينذاك، بعث الله إلى أولئك القوم نوحاً (عليه السلام) ليرشدهم إلى الطريق.. وينهاهم عن عبادة الأصنام.. ويهديم إلى عبادة الله تعالى.

    فجاء نوح إلى القوم.. (فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره) فكذّبوه، ولم يقبلوا منه، فأنذرهم من عذاب الله تعالى.
    قال: (إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم).
    (قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين).
    (قال يا قوم ليس بي ضلالةُ ولكني رسول من ربّ العالمين أبلّغكم رسالات ربّي وانصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون). فتعجّب القوم من مقالة نوح.. وجعلوا يقولون: أنت بشر مثلنا، فكيف تكون رسولاً من عند الله؟ وإن الذين اتبعوك هم جماعة من الأراذل والسفلة.. ثمّ لا فضل لكم علينا، فلستم أكثر منّا مالاً أو جاهاً.. وإنا نظنّ إنكم كاذبون في هذه الادعاءات.. وقال بعض القوم لبعض: (ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم إن هو إلا رجل به جنّة)
    وشجّع بعض القوم بعضاً، في عبادة أصنامهم (وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودّا ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً).
    ولما طال حوارهم وجدالهم، قال نوح: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم)؟ وأخذ نوح (عليه السلام) جانب اللين واللّطف، ولكن القوم لم يزيدوا إلا عناداً.

    * * *

    ولكن نوحاً (عليه السلام) لم ييأس منهم، بل كان يأتيهم كل صباح ومساء، ويدعوهم وينذرهم بلطف ولين.. وكان القوم إذا جاءهم نوح للدعوة (جعلوا أصابعهم في آذانهم) حتى لا يسمعوا كلامه (واستغشوا ثيابهم) تغطّوا بها حتى لا يروه. وكثيراً ما هاجموه، وضربوه حتى يغشى عليه! لكنّ نوحاً النبي العظيم العطوف الحليم، كان إذا أفاق يقول: اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون.

    وفي مرات أنهكوه ضرباً وصفعاً، حتى جرت الدماء عن مسامعه الكريمة، وهو مع ذلك كلّه كان يلطف بهم، ويدعوهم إلى الله تعالى، فكانوا يقولون: لم (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا)؟
    حتى علم أنه لا يفيدهم النصح، فتوجّه إلى الله تعالى، ضارعاً، وبيّن كيفيّة ردّهم إياه (قال ربّ إنّي دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً)، (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً).
    (ثم إني دعوتهم جهاراً)، (ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً)، (يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهاراً).

    * * *

    واختلق بعض أولئك الكفّار عذراً تافها.. فقالوا: (أنؤمن لك واتّبعك الأرذلون)؟ فإن أردت هدايتنا، وإعزازنا لك، فاطرد هؤلاء الأرذلين الذين آمنوا بك عن حوزتك.. فإنّا لا نستطيع أن نقرن بهؤلاء فكيف نستجيب لدين يستوي فيه الشريف والوضيع، والكبير والصغير؟

    فأجابهم نوح (عليه السلام)، بلهجة كلّها حنان وتذكير: (قال وما علمي بما كانوا يعملون)؟ (إن حسابهم إلا على ربّي لو تشعرون)، (وما أنا بطارد المؤمنين)! (وما أنا بطارد الذين آمنوا) وكيف أطرد جماعة آمنوا بي، وآزروني وساعدوني على نشر الدعوة؟ (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكّرون)؟ (إن أنا إلا نذير مبين) أنذر الناس على حدّ سواء، من غير فرق بين الشريف والوضيع، والغنيّ والفقير، والكبير والصغير.
    ولما انقطع القوم عن الاحتجاج.. ولم يتمكّنوا من رد الأدلة التي ذكرها نوح (عليه السلام)، أخذوا يهدّدونه، بالرجم بالحجارة (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين).

    * * *

    وقد علم نوح (عليه السلام) أنهم لا يقبلون منطقاً، ولا يهتدون، فضرع إلى الله تعالى، في أن ينجّيه من هؤلاء المعاندين (قال ربّ إن قومي كذّبون)، (فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجّني ومن معي من المؤمنين).

    وحيث كان نوح يخوّف قومه من عذاب الله، إن أصرّوا على الكفر.. قال بعضهم، استهزاءً: إلى متى تهدّدنا بعذاب الله؟ (فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).
    فأجابهم نوح: إن هذا الأمر ليس بيدي.. و(إنما يأتيكم به الله إن شاء).
    ثم توجه إليهم في تحسّر، وقال: (لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم..).
    وعند ذاك توقّع النّصر من الله تعالى.. وانتظر الوحي ليعلم أنّه ما ينبغي أن يصنع بهؤلاء القوم؟ فأوحى إليه الله تعالى: (إنّه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون).

    * * *

    وإذ تمّت الحجة.. وانقطعت الأعذار، وطالت الدعوة ما يقرب من عشرة قرون، يئس نوح منهم يأساً باتّاً، وأشفق على أولادهم وأحفادهم أن يأخذوا طريقة الآباء في الكفر والإلحاد. فدعا إلى الله تعالى، قائلاً: (ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً).

    وحينئذ أمره الله تعالى أن يغرس النخل فإذا أثمر نزل عليهم العذاب. وقد كان من مقتضى عدل الله تعالى أن لا يعذّب طفلاً صغيراً بذنوب الآباء.. فعقّم أرحام النساء أربعين سنة، فلم يولد لهم مولود ولم يبق لهم طفل غير مكلّف.
    وفي تلك المدّة شرع نوح في غرس النخل، فكان القوم يمرّون به ويسخرون منه، ويستهزئون به، قائلين: انّه شيخٌ قد أتى عليه تسعمائة سنة، وبعد يغرس النخل! وكانوا يرمونه بالحجارة..
    ولما بلغ النخل، وانقضت خمسون سنة، أمر نوحٌ بقطعه.. فقالوا: إن هذا الشيخ قد خرف.. وبلغ منه الكبر مبلغه! مرّة يقول: أنا رسول.. ومرّة يغرس النخل.. ومرّة يأمر بقطعة؟

    * * *

    ولمّا اكتمل الأمر وصارت المدّة ألف سنة إلا خمسين عاما، أوحى الله إليه بصنع السفينة (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا). فأخذ نوح (عليه السلام) يصنع الفلك، وجبرئيل يعلّمه كيف يصنعها.. وإذ كان من الواجب صنع سفينة تسع ملايين المخلوقات، أوحى الله إليه: أن يكون طول السفينة ألفاً ومائتي ذراع، وعرضها ثمانمائة ذراع، وارتفاعها ثمانين ذراعاً، فيكون الحجم سبعة ملايين، وستمائة وثمانين ألف ذراع.

    لكنّ نوحاً (عليه السلام) سأل الله تعالى أن يعينه على صنع مثل هذه السفينة الكبيرة، قال: يا ربّ من يعينني على اتخاذها؟ فأوحى الله إليه: ناد في قومك، من أعانني عليها، ونجر منها شيئاً صار ما ينجره ذهباً وفضة. فأعانوه في صُنعها. وكان محلّ صنع السفينة صحراء وسيعة (ويصنع الفلك وكلما مرّ عليه ملا من قومه سخروا منه)!
    فكان بعضهم يقول: أيها النبي، لم عدلت عن رسالتك إلى النّجارة؟
    وبعضهم كان يقول: يا نوح صرت نجّاراً بعد النبوّة؟!
    وبعضهم كان يقول: السفينة تصنع للبحر وأنت تصنعها في البر؟!
    وكانوا يتضاحكون! ويتعجبون! ويرمون نوحاً بالجنون والسّفه.
    ويجيبهم نوح (عليه السلام) في تأدّب ولين: (إن تسخَروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه ويحلّ عليه عذابٌ مقيم). واشتغل بالعمل جادّاً، حتى تمّ صنع السفينة.

    * * *

    ثم أمر الله سبحانه نوحاً أن يحمل في السفينة الذي آمنوا معه.. ومِن كل ذي روح زوجين اثنين، لئلا ينقرض نسل الحيوان.. وقد كان نوح هيّأ لكلّ صنف من أصناف الحيوان، موضعاً في السفينة، ثم حمل من جميع الأصناف التي تغرق في الماء، ولا يتمكّن أن يعيش فيه.

    فحمل من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الغزال اثنين، ومن اليحمور اثنين، ومن البغل اثنين، ومن الفرس اثنين، ومن الأسد اثنين، ومن النمر اثنين، ومن الفيل اثنين، ومن الكلب اثنين، ومن الدّب اثنين.. وهكذا..
    وحمل من الحمام اثنين، ومن العصفور اثنين، ومن الصعوة اثنين، ومن الغراب اثنين، ومن الكركي اثنين، ومن البلبل اثنين، ومن الببغاء اثنين، ومن النّسر اثنين ومن الهدهد اثنين، ومن الفاختة اثنين، ومن الطاووس اثنين.. وهكذا..
    وحمل من الجعلان اثنين، ومن اليراعة اثنين، ومن اليربوع اثنين، ومن السنور اثنين، ومن الخنافس اثنين.. وهكذا..
    وبالجملة فقد صنع في السفينة اكبر حديقة حيوانية شاهدها العلم. وجمع في السفينة لكل حيوانٍ من طعامه الخاصّ مبلغاً كثيراً. هكذا شاء الله.. ونفّذ مشيئته نوح (عليه السلام).
    وحمل الذين آمنوا به، وكان عددهم ثمانين شخصاً.. (وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها إن ربّي لغفور رحيم).

    * * *

    وكان لنوح (عليه السلام) زوجتان، إحداهما مؤمنة، والثانية كافرة.. وكانت الزوجة الكافرة تؤذي نوحاً، وتقول للناس: إن زوجي مجنون وإذا آمن أحد، أخبرت الكفّار.

    وقد أشار الله تعالى في القرآن إلى هذه الزوجة، حيث يقول: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين).
    ولما ركب نوح (عليه السلام) السفينة، اركب معه الزوجة المؤمنة، وترك الكافرة، فغرقت مع سائر الكفار.

    * * *

    ولما ركب نوح والّذين آمنوا معه السفينة، وأركب جميع الحيوانات، كلاً في موضعه.. كسفت الشمس، وأخذت السماء تمطر مطراً غزيراً، وطفقت عيون الأرض تنبع بالمياه الكثيرة (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) منصب انصباباً شديداً لا ينقطع (وفجّرنا الأرض عيوناً) حتى جرت المياه على وجه الأرض (فالتقى الماء) ماء الأرض وماء السماء، حتى صار العالم كبحر كبير.

    واستمرّ هطول الأمطار ونبع العيون أربعين يوماً. وفي تلك الأثناء، كانت السفينة تجري فوق ظهر الماء حسب هبوب الرياح، وإذا بنوح (عليه السلام) يشرف من السفينة فيرى ولده، يقع مرّة، ويقوم أخرى، يريد الفرار من الغرق، فناداه: (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين). لكن الابن العاق أبى قبول نصيحة والده الشفيق، وأجاب نوحاً (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء).
    فنظر إليه نوح نظر مشفقٍ، وقال: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم). ولكنّ عناد الولد، وإصراره على الكفر حال بينه وبين قبول نصح أبيه، فلم يركب السفينة، وكانت السفينة حينذاك (تجري في موج كالجبال).
    وبعد برهة من هذه المحاورة (حال بينهما) بين نوح وولده (الموج فكان من المغرقين). وأخذت نوح (عليه السلام) الرقة على ولده، فتضرّع إلى الله تعالى في نجاة ابنه الغريق، فإن الله تعالى كان قد وعده بنجاة أهله، فقال نوح (عليه السلام): (ربّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحقّ وأنت أحكم الحاكمين).
    ولكنّ الله تعالى، كان قد وعد نجاة أهل نوح الذين كانوا من الصالحين، ولذا أجابه: (يا نوح إنه ليس من أهلك أنه عمل غير صالح).
    بعدما غمر الماء جميع الأرض، وهلك كل كافر (قيل يا أرض ابلعي ماءك)! فغاض الماء الذي نبع من الأرض، وأوحى إلى السماء: (يا سماء اقلعي) وكُفي عن الانصباب والمطر، فانقطع المطر (واستوت) السفينة (على الجودي) وهو جبل، أرست السفينة عليه، وأخذت المياه التي بقيت على الأرض من الأمطار، تتسرّب إلى البحار.
    وأوحى إلى نوح (عليه السلام): (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أممٍ ممن معك) فنزل نوح من السفينة، ونزل المؤمنون الذين كانوا معه، وبنوا مدينةً، وغرسوا الأشجار، وأطلقوا الحيوانات التي كانت معهم.
    وابتدأت العمارة في الأرض، وأخذ الناس يتوالدون ويتناسلون، وأوحى الله تعالى إلى نوح: يا نوح، إنني خلقت خلقي لعبادتي، وأمرتهم بطاعتي، فقد عصوني، وعبدوا غيري واستوجبوا بذلك غضبي، فغرّقتهم.

    يتبع

    تعليق


    • #3
      تسلم الأيادي

      تعليق


      • #4
        موسى (عليه السلام)
        كان يوسف (عليه السلام) ملكاً في مصر، وقد جمع بين النبوّة، والملوكية، فكان ينظّم أمر الناس على وفق العدل والحكمة.
        وحين حضرته الوفاة جمع آل يعقوب، وهم ثمانون رجلاً.. فقال لهم: إنّ هؤلاء القبط سيظهرون عليكم ويكون الملك للكافرين ويصبح المؤمن في هذه البلاد ذليلاً بأيديهم.. ويسومونكم سوء العذاب. وإنما ينجّيكم الله من أيديهم، برجل من ولد (لاوي) بن (يعقوب) اسمه: موسى بن عمران.
        وبعدما أخبر يوسف بني إسرائيل بهذا الخبر، حزنوا لما يتوقعونه من البلاء، وفرحوا بما ينتظرونه من الفرج على يد نبيّ من بني أبيهم.. ومات يوسف (عليه السلام).
        فملك بعده رجلاً لا يسير سيرة يوسف في كل كبير وصغير.. وكيف يعدل بيوسف غيره: وهو نبيّ من عند الله تعالى لا يأمر إلا بالخير، ولا يفعل إلا الخير. ثم مات الملك..
        وملك بعده رجل آخر، وكان عاتياً فاجراً.. وهكذا أقام بنو إسرائيل، بعد وفاة يوسف، وقد كثروا، وانتشروا، متمسّكين بدين آبائهم يوسف، ويعقوب، وإسحاق وإبراهيم (عليهم السلام).
        حتى زمان الملك فرعون.. وهذا الملك الطاغي فتح لمصر صفحة جديدة من الطغيان والإرهاب، وخصّص لبني إسرائيل ألواناً من العذاب والنكال.
        كان بنو إسرائيل ينتظرون مقدم موسى (عليه السلام) لينجّيهم من طغيان فرعون وقسوته. وكان كلّما ولد لأحدهم مولود سموه عمراناً.. فإذا كبر عمران، سمّى ولده موسى رجاءً لأن يكون هو الذي وعد به يوسف (عليه السلام) حين حضرته الوفاة ولكن خابت الظنون، فلم يكن موسى الموعود أحدهم.
        واغتنم بعض متطلبي الرئاسة هذا الوعد، فجعل من نفسه موسى النبيّ! حتى ادّعى خمسون من بني إسرائيل انهم هم الذين وعدهم يوسف، وكلّهم يدّعي أنه ينزل عليه الوحي، وانه هو مخلص بني إسرائيل، كذباً وافتراءً!
        ولم يزل فرعون يسمع هذه الأخبار عن بني إسرائيل وكان قد علم أن بني إسرائيل يرجفون به ويطلبون هذا الغلام. فاستشار كهنته وسحرته في هذا الأمر المهم.
        قالوا: إن المسموع صحيح، وهلاك دينك وقومك على يدي هذا الغلام.
        وحدّدوا وقت ولادة الغلام بعامِ مخصوص. وهنا ثار ثائر فرعون، وجعل يخبط خبط العشواء للظفر بهذا الذي سيولد، مما يكون بيده هلاكه وتقضي أيامه!! أما كيف يصنع؟ وكيف يظفر على هذا المولود فهو سر مغلق، لا تساعده حيلته على ذلك!!
        وأخيراً ارتأى أبشع الآراء، وقرّر تنفيذه بكل صرامةٍ وقسوةٍ. جعل القوابل على النساء، في ذلك العام الذي أخبر بولادة موسى فيه وأمر بأن يذبح كل غلام يولد في ذلك العام، ليستريح من موسى من أوّل أمره.
        وعجّ بنو إسرائيل من هذا الحكم الإجراميّ واجتمع بعضهم إلى بعض لحلّ المشكلة. وكان فيهم عمران والد النبي موسى (عليه السلام).
        فقال بعضهم: إذا ذبح الغلمان واستحيى النساء هلكنا ولم يبق لنا نسبٌ، فمن الرأي أن لا ينكح رجالنا نساءنا حتى لا يولد لنا مولود.. وبذلك ننقرض جميعاً، أما أن تبقى البنات ويذبح الأولاد فمعنى ذلك: أن نقدّم بناتنا إلى آل فرعون غنيمة باردة. لكنّ عمران أبى هذا الرأي.. وقال: أمر الله واقعٌ ولو كره المشركون.
        وقد أصرّ فرعون في تعذيب بني إسرائيل، وقتل أطفالهم، حتى قتل من أطفال بني إسرائيل نيفاً وعشرين ألف مولود. بالإضافة إلى ما كان يأمر به من تعذيب الرجال والنساء. وقد كان من صنوف تعذيبه أن أمر بتقييد أرجلهم لئلا يفرّوا.. ثم كان يستعملهم في البناء، فكانوا ينقلون الطين على السلالم إلى السطوح، بأرجل مقيدة.. وكثيراً ما كانوا يقعون من السلّم فيموتون أو يزمنون، أو يصابون بصنوف الرض والكسر والتشويه.
        وفي مثل هذا الوقت.. وفي هذا الجوّ الخانق تعذيباً وإرهاباً.. حملت أمّ موسى.. فوكل بها فرعون قابلةً تترقّب ولادتها، فإن كان الولد ذكراً ذبحه وإن كانت أُنثى استحياها.. وألحت القابلة في حراستها، فإذا قامت الأم قامت القابلة في إثرها، وإذا جلست جلست القابلة إزاءها لئلا يفوتها زمنٌ من حالها.
        لكنّ الله تعالى شاء أن تنقلب القابلة عن هذه الصرامة، فأحبّت أُمّ موسى حباً كبيراً، لما رأت فيها من الأخلاق الفاضلة والأدب الرفيع. أما الأُمّ فقد أخذها الخوف، وظهر على ملامحها فشحب وجهها ومال إلى الاصفرار.
        قالت القابلة يوماً لأُمّ موسى: يا بنية، ما لك تصفرّين وتذوين؟
        فأجابت الأمّ قائلة: لا تلوميني، كيف لا أخاف انّه إذا ولدت أخذ الولد وذبح!
        لكن القابلة سلّتها، وقالت: لا تحزني، فإني سوف اكتم عليك.
        أما الأم فقد ظلّت في شك من هذا الوعد، إلى أن ولدت بموسى (عليه السلام)، وكانت القابلة حاضرة حين الولادة، فالتفتت إليها أُمّ موسى، وملء نظرها استعطاف واستيفاء للوعد.. وفوّضت أمرها إلى الله قائلةً: ما شاء الله، وانتظرت أمر القابلة.
        ولما أن سمع الناس ولولة الطلق، ذهبوا يخبرون الحرس الملكي، الذين وكّلوا بذبح الأطفال، فحضروا باب البيت، وتحيّرت القابلة في الأمر، ماذا تجيب الحرس؟ وكيف تنقض عهداً عهدته إلى الأمّ المحببة إليها؟
        لكنها أخيراً، توجّهت إلى الأمً قائلة: إني سوف اكتم عليك، كما وعدتك فلا تخافي، وحملت الأم والولد فأدخلتها المخدع، وأصلحت بعض أمرها، ثم خرجت إلى الحرس قائلة: انصرفوا، فانّه خرج دم منقطع. فانصرف الحرس، واطمأنت الأمّ، وجزت القابلة خيراً.
        وهكذا شاء الله تعالى أن يخلّص نبيّه العظيم موسى (عليه السلام) من براثن فرعون المجرم، وحرسه القساة (وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه) فأرضعت الأمّ ولدها الحبيب، بكلّ لهفةٍ وحنان. لكنّها خافت أن يبكي موسى، فيعرف الجيران خبرها، فتقع فيما فرّت منه.
        فألهمها الله تعالى أن (..إذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني..) فصنعت أُمّ موسى تابوتاً من خشب، ووضعت ابنها الحبيب فيه، وطبقت التابوت بحيث لا يدخل فيه الماء وذهبت ليلاً إلى الماء. ثم طرحت التابوت في النيل، وقلبها ممتلئ كآبةً وحزناً.
        لكن الماء أبى أن يفرّق بين الوالدة الحزينة والولد الحبيب، فجعلت الأمواج تدفع التابوت إلى الجرف.. والوالدة تدفع التابوت إلى الغمر، خوفاً وحزناً! إلى أن ضربت الريح التابوت نحو مجرى الماء، فانطلق به.
        لكن الأم كيف تصبر؟ فهمّت أن تصيح لوعةً وشجناً، فربط الله على قلبها، وحفظها (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها). ووعد الله الأم أن يرد الولد إليها، وبشّرها بأن يجعله من المرسلين (إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين).
        التابوت ينطلق في الماء، حسب لهب الريح ومجرى الماء.. والولد يكلأه الله بلطفه ورعايته في جوف الصندوق.. والأم أخذت ترجع إلى البيت بقلبٍ والهٍ وأن لمس شيئاً من الهدوء والاطمئنان تصديقاً بوعد الله.
        فما هي العاقبة؟
        كانت لفرعون امرأةً صالحة تسمى (آسية) من قبيلة بني إسرائيل، وكانت تخالف زوجها في العقيدة والرأي، لكنّها كانت تسرّ معتقدها، خوفاً من سطوة فرعون الجبار الطاغي.
        وأتت أيام الربيع فقالت آسية لفرعون: هذه أيام الربيع فأمر لي بضرب قبّة على النيل لكي أتنزّه في هذه الأيام الجميلة. فأمر فرعون بضرب قبةٍ لها على الشطّ، وخرجت هي مع لمّةٍ من جواريها.
        وبينما الجواري على الماء.. إذ رأين الأمواج تعلو وتهبط بشيء، ورأت آسية الصندوق في وسط الغمر، فقالت للجواري: ما ترين؟ قلن: يا سيدتنا، إنا لنرى شيئاً كما ترين.. وأتى الماء بالصندوق إلى القرب منهن، فاندفعن في الماء حتى أخذنه، وقد كاد أن ينفلت من أيديهن.
        فتحت آسية الصندوق، وإذا فيه طفل جميل كفلقة القمر، فأوقع الله في قلبها محبة منه (ألقيت عليك محبة مني) ووضعت الولد في حجرها، وتفكّرت في أن تتخذه ابناً لها.. فأعلمت الجواري، وقالت: هذا ابني.. وأقرّتها الجواري بهذا التبنّي الميمون.
        فقلن: أي والله، أي سيّدتنا، ما لك ولدٌ ولا للملك ـ يقصدن فرعون ـ فاتّخذيه ولداً.
        ولكن.. يا ترى، هل يرضى فرعون بذلك؟
        قامت آسية إلى فرعون.. فقالت له: إني أصبت غلاماً طيّباً حلواً، نتّخذه ولداً، فيكون قرّة عين لي ولك، فلا تقتله.
        قال فرعون: ومن أين هذا الغلام؟
        قالت آسية: لا والله ما أدري، إلا أن الماء جاء به..
        لكن فرعون أبى أن يقبل قولها.. وهمّ أن يقتله، لما توجس خيفة، من أن يكون الولد من بني إسرائيل.. فألحّت آسية في الإصرار، وشفعت شمائل الولد الحلوة، في قبول فرعون تبنّي الولد.. وسمّاه (موسى) لأنه التقط من الماء.
        ولما سمع الناس أن الملك قد تبنّى ابناً.. أرسل كبراء الناس نساءهم إلى آسية لتكون لموسى عليه السلام ظئراً ومربية.. وكلما تقدّمت النساء إلى موسى، لتلقمه ثديها، أعرض عن الثدي، فتحيّرت آسية في أمره.. ماذا تصنع به؟
        ثم أمرت جواريها أن يطلبن كلّ امرأة مرضعة أو ذات لبن، ولا يحقرن أحداً كيف ما كان شأنها ومنزلتها فلعل موسى يقبل إحداهن.. أما أم موسى فقد كانت تترقب الأخبار عن ولدها. إذ أنها لم تعلم ما صنع به في النيل! لكنّها لم تظفر بخبر صحيح عن ولدها..
        فقالت لابنتها ـ أخت موسى ـ : قصيه وانظري أترين لأخيك من أثر.. فانطلقت البنت تفحص عن موسى الرضيع هنا وهناك، لكنّها لم تقع على خبر؟!
        وانتهى بها السير إلى باب دار الملك (فرعون) ودخلت الدار فيمن دخل.. وإذا بها ترى موسى أخاها في حضن آسية.. وقد التمست النساء لإرضاعه، لكنّه يأبى عن قبول لبنهن، وذلك بمشيئة من الله تعالى (وحرّمنا عليه المراضع من قبل).
        توجّهت البنت الزكيّة إلى امرأة فرعون قائلة: قد بلغني أنكم تطلبون ظئراً.. وهنا امرأة صالحة تأخذ ولدكم، وتكفله لكم.
        قالت بعض النساء: يظهر أن هذه البنت تعرف أم الغلام وإلا فمن أين لها بالظئر!
        أجابت البنت الفطنة: أردت نصحكم.. فإني اعرف امرأة مرضعةً، وإن لم تحبوا أن آتي بها فلا ضير.
        لكن آسية أمرت بأن تأتي بالمرضعة، فلعل موسى يقبل ثديها. فركضت البنت إلى أمّها تبشرها بالخبر.. وتبعتها الأمّ إلى دار فرعون. فلمّا دخلت الدار..
        قالت آسية: ممن أنت؟
        قالت الأم: من بني إسرائيل.
        قالت آسية: اذهبي يا بنيّة، فليس لنا فيك حاجة.
        توجهت النساء إلى آسية قائلات: انظري يا آسية هل يقبل الطفل الثدي أو لا يقبل؟
        فقالت امرأة فرعون: أرأيتم لو قبل.. هل يرضى فرعون أن يكون الغلام من بني إسرائيل والمرأة ـ تعني الظئر ـ من بني إسرائيل؟ إن فرعون لا يرضى بذلك أبداً.
        قالت النساء: فانظري يقبل أو لا يقبل؟
        وقد كانت أُمّ موسى خرجت من عند آسية عندما قالت لها اذهبي يا بنيّة.. فأرسلت آسية ـ بعض الجواري ـ عليها لترجع. فركضت أخت موسى، إلى أمّها تخبرها بالبشارة قائلة: إن امرأة الملك تدعوك.. فأتت الأم فرحة، ودخلت على آسية.
        فدفعت آسية الولد إليها، والنسوة ينظرن، أخذت الأمّ ولدها، ووضعته في حجرها، ثم ألقمته ثديها، وإذا بموسى يقبل على المصّ إقبالاً عظيماً واللّبن يجري في فمه. فرحت آسية.. وفرحت النسوة.. وفرحت الأمّ فرحاً كبيراً. قامت آسية إلى فرعون، تخبره الخبر، وتستأذنه في أمر الظئر الإسرائيلية.
        فقالت: إنّي قد أصبت لابني ظئراً، وقد قبل منها الرضاع.
        قال فرعون: وممن هي؟
        قالت آسية: من بني إسرائيل!
        قال فرعون: هذا مما لا يكون أبداً: الغلام من بني إسرائيل! والظئر من بني إسرائيل!
        فلم تزل آسية تلحّ عليه، وتستعطفه في أمر الغلام وتقول له: وماذا تخاف؟ إنّ الغلام ابنك وينشأ في حجرك.. فهل تراه يبارزك ويخاصمك؟ هذا مما لا يكون.
        حتى قبل فرعون، ورضي بالظئر الإسرائيلي (فرددناه إلى أمّه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون).
        فنشأ موسى في حضن فرعون وداره، في عز واحترام، بينما كان فرعون وجلاوزته يقتلون أولاد بني إسرائيل، خوفاً من أن ينشأ فيهم من أخبر المنجّمون بأنّ زوال ملك فرعون بيده.
        وهكذا شاء الله أن يربي نبيه العظيم، في حضن أعدى أعدائه (فالتقطته آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً).
        وقد كتمت القابلة.. والأُمّ.. والأخت.. خبر موسى، ومضى زمانٌ، وأتى زمانٌ، واستغنى موسى عن الرضاع، وماتت الأم، وماتت القابلة، وبقي موسى في حجر فرعون، يكلأه الله برعايته ويربيه فرعون ينظر إليه نظر الأب إلى ابنه.
        وفي ذات يوم حدث أن موسى ـ وهو غلام صغير يدرج ـ عطس عطسةً فقال: الحمد لله رب العالمين.
        فأنكر فرعون ذلك عليه، ولطمه موسى على وجهه وقال: ما الذي تقول؟ فوثب على لحية فرعون ـ وكانت طويلة ـ فقلع بعضها! فهمّ فرعون بقتله!
        قالت آسية ـ متشفعةً ـ : إنه غلام حدث ما يدري ما يقول..
        فقال فرعون: بلى يدري. قالت آسية: فامتحنه: ضع بين يديه تمراً وجمراً، فإن ميّز بينهما، فافعل ما تريد.
        فأمر فرعون بأن يوضع إزاء موسى طبقاً من تمر وكانوناً من جمر.. فمدّ موسى يده إلى الجمر، ووضعه في فمه.. فاحترق لسانه ويده، وبكى بكاءً مراً!
        فقالت آسية لفرعون: ألم أقل لك: إنه لا يعقل. فعفا فرعون عنه..
        أمّا بنو إسرائيل، الذين كانوا تحت اضطهاد فرعون ونكاله، فقد كانوا منتظرين مقدم موسى، ولكنّهم لم يكونوا يعلمون أنّه قد ولد.. فكانوا يتذاكرون وعد يوسف (عليه السلام)، وينتظرون نبيّهم المخلّص لهم من أيدي الجبارين.. وكانوا يسأل بعضهم بعضاً عن وقت الفرج، لكن.. لم يكونوا يعرفون ذلك بالضبط.
        ولما علم فرعون بإلحاحهم في طلب مخلّصهم زاد في تعذيبهم، وأمر بأن يفرّق بين رجالهم ونسائهم، كي لا يولد لهم المولود المنتظر. ومنع عن مذاكرة موسى منعاً باتاً، ولم يدر أن موسى في بيته!
        وقد أثّر الضغط الشديد في بني إسرائيل، فلم يقدروا على ذكر اسم موسى إلا في ظلمات الليل، والخفايا، كي لا يرفع أمرهم إلى الطاغية فرعون. فخرجوا! ذات ليلة مقمرة إلى كبير لهم، له علم ومعرفة، يسألونه عن موعد الفرج؟
        قالوا للشيخ: قد كنّا نستريح إلى أخبارك من قبل، وكانت بشائرك بالفرج تسري عنّا بعض الهموم. فإلى متى نحن في هذا البلاء؟ إن فرعون يقتل رجالنا، ويشق بطون نسائنا الحبالى، ويذبح أطفالنا. فمتى الفرج؟
        قال الشيخ: إنكم لا تزالون في البلاء حتى يجيء الله تعالى بغلام من ولد لاوي بن يعقوب.. اسمه موسى بن عمران، غلامٌ طوالٌ جعدٌ. وعند ذلك يكون الفرج.
        وبينما هم في الحديث، بين يأس ورجاء، إذ طلع عليهم موسى من بعيد.. وهو إذ ذاك حديث السن، وقد خرج من دار فرعون، وهم يزعمون أنه يريد النزهة. لكن موسى كان قاصداً نحو بني إسرائيل، ميمّماً وجهه شطر ذلك الاجتماع المنعقد في ظلمة الليل، وقف على القوم، فتوسّم الشيخ فيه الملامح الموعودة.
        فقال: ما اسمك يرحمك الله؟
        قال: موسى..
        قال الشيخ: ابن من؟
        قال: ابن عمران.. فانكبّ الشيخ على قدميه يقبّلهما.
        وعرف بنو إسرائيل نبيّهم، فأقبلوا إليه يقبّلون يده ورجله، في فرح وغبطة ثم ودّعهم موسى قائلاً لهم: أرجو أن يعجّل الله فرجكم! وذهب إلى دار فرعون. وفي هذا الوقت علم بنو إسرائيل أن الفرج قد اقترب.. وانّه قد شبّ مخلّصهم من فرعون.
        خرج موسى ذات يوم يتفرّج.. فدخل مدينة لفرعون، وبينما هو يسير، فإذا به يرى رجلين يقتتلان (هذا من شيعته) من بني إسرائيل (وهذا من عدوه) من القبط، فكان أحدهما يقول بقول موسى، وكان الآخر يقول بقول فرعون (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) قال الإسرائيلي: يا موسى نجني من هذا القبطي. فتقدم موسى إلى القبطي (فوكزه) ضربه بيده، وكانت الوكزة شديدة، لما كان لـ(موسى) من قوة وبطش (فقضى عليه) ومات القبطي في مكانه. قال موسى: هذا الاقتتال من عمل الشيطان.
        فانتشر أمر موسى في الناس، وقالوا: إنه قتل رجلاً من القبط (فأصبح في المدينة خائفاً يترقب). وخرج في غد ذلك اليوم يتحسّس الأخبار، فإذا به يمرّ بذلك الرجل الإسرائيلي، وهو يتقاتل مع رجل قبطي آخر.. ولما أن رأى الإسرائيلي موسى استصرخه وطلب منه العون في إنجائه من القبطي. توجه موسى إلى الإسرائيلي، وقال له: (إنك لغوي مبين) كل يوم تقاتل رجلاً؟!
        لكن موسى ـ بعدما قال هذا الكلام للإسرائيلي ـ نحى نحو القبطي ليزجره وينصر الإسرائيلي (ولما أراد أن يبطش بالذي هو عدوّ لهما) زعم الإسرائيلي أن موسى يريد الانتقام منه.. فاضطرب وتوجه إلى موسى قائلاً: (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين)؟! فخاف موسى أن يتبيّن أمره، ويلقى القبض عليه فهرب من محل المنازعة، واختفى.
        كان خازن فرعون مؤمناً بموسى (عليه السلام) وكان قد كتم إيمانه عن فرعون.. وبعد الواقعة استشار فرعون أصحابه في أمر موسى؟ وأخيراً استقرّ رأيه على أن يقتله. لكن الله شاء أن يحفظ موسى من القتل.
        فأخذ الخازن يناقش فرعون في قتل موسى وقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله)؟ لكن لم تنفع المناقشة، وصدر حكم القتل، فلم ير الخازن حلاً للمسألة إلا أن يخبر موسى بالمؤامرة لينجو بنفسه.
        (وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين) وسمع موسى كلام الخازن (فخرج منها خائفاً يترقّب) بغير دابّةٍ، ولا خادم ولا زادٍ متضرعاً إلى الله تعالى، قائلاً: (رب نجني من القوم الظالمين) وكان يخاف أن يلحقه الطلب!
        لكن الله حفظ نبيه عن أذى فرعون وقومه، فلم يظفروا به، حتى خرج من بلادهم.. وورد إلى بلاد آخرين (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل).
        سار موسى (عليه السلام).. ترفعه أرض وتخفضه أخرى، حتى أتى إلى ارض مدين، فرفعت له من البعيد شجرةٌ، فقصدها ليستظلّ بها، ولما اقترب منها رأى تحتها بئراً (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أُمّةً من الناس يسقون). ونظر في ناحية، فإذا يرى جاريتين معهما غنمٌ تنتظران صدور القوم، حتى تسقيا غنمهما، من فضل ما بقي في الحوض.
        فقال لهما موسى: (ما خطبكما)؟ ولماذا تنتظران؟ (قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخٌ كبير). فرقّ موسى لحالهما، ودنا من البئر، وقال لمن على البئر: أستقي دلوين دلواً لكم، ودلواً لي؟ وكان الدلو كبيراً يحتاج مدُّه إلى جماعة... فقبل القوم كلامه لما رأوا فيه من المنفعة لأنفسهم، فتقدّم موسى (عليه السلام) وحده ـ وكان قويا ـ فاستقى وحده دلواً لمن على البئر ثم استقى دلواً آخر للجاريتين، وسقى أغنامهما.
        ( ثم تولّى إلى الظلّ فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقيرٌ) وكان (عليه السلام) حينذاك جائعاً لم يأكل منذ ثلاثة أيام شيئاً! وكان قد استولى عليه الضعف، والتعب.. فقد قطع الطريق بين مصر ومدين راجلاً خائفاً، ولم يعتد ذلك من قبل حيث انه كان في ظلّ نعيمٍ في بيت الملك، مهيئاً له أفضل الأطعمة، وأحسن المراكب، وأسبغ الرفاه والأمن.
        فتضرّع إلى الله تعالى، في أن يمنحه الراحة والأمن والمأكل. استجاب الله دعاء موسى (عليه السلام). فما أن رجعت المرأتان إلى داريهما ـ وكان أبوهما نبياً من أنبياء الله تعالى، واسمه: شعيب (عليه السلام) ـ حتى أخبرتاه بنبأ موسى.
        إن شعيب سأل ابنتيه، قائلاً: أسرعتما الرجوع اليوم؟ وقد كانتا اعتادتا التأخر حتى يصدر الرعاء.
        فقالتا: وجدنا رجلاً صالحاً رحيماً، فسقى لنا مع القوم، وهذا سبب مجيئنا قبل كل يوم.
        فقال شعيب، لواحدة منهما: اذهبي إليه، فادعيه لنجزيه أجر ما سقى لنا (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) حتى وصلت إلى موسى (قالت إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) فقام موسى معها، وأرادت الفتاة أن تتقدّم على موسى في المشي لتدلّه على الطريق لكن موسى أبى، وقال: بل كوني من ورائي، وأرشديني إلى الطريق بدلالة.
        حتى وصل إلى دار شعيب فدخل الدار، ورحّب به شعيب، واستفسره عن قصته (فلمّا جاءه وقصّ عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين).


        تعليق


        • #5
          الكليم (عليه السلام) وفرعون
          فرّ موسى (عليه السلام)، من الطاغية فرعون من مصر، وجاء إلى مدين، ونزل ضيفاً عند النبي شعيب (عليه السلام).
          فقالت إحدى بنتي شعيب: (يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القوي الأمين).
          قال شعيب: يا بنيّة، من أين عرفت قوّته وأمانته؟
          قالت: أمّا قوّته، فقد عرفته يسقي الدلو وحده، وقد كان الدلو لا يتمكن من استقائها إلا عشرة أشخاص.. وأمّا أمانته فقد عرفتها من قوله لي: تأخّري عنّي ودلّيني على الطريق، وأنتِ من خلفي.. حيث لم يرض أن يمشي وقدّامه امرأة.
          قال شعيب لموسى: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك) يعني: إن صداق بنتي أن تعمل لي ثماني سنوات، أو عشر سنوات، لكنّ إضافة سنتين على ثماني سنوات تفضل منك (وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين).
          قال موسى في جواب شعيب: (ذلك بيني وبينك أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ) سواء خدمتك ثماني سنوات، أم عشر سنوات. فلا لوم بعد ذلك علي. ثم قال موسى: (والله على ما نقول وكيل).
          وقبل شعيب الكلام، وزوّج موسى بإحدى ابنتيه، وهي التي ذهبت إلى موسى لتدعوه إلى دار أبيها، وقالت لأبيها: (يا أبت استأجره).
          أما موسى فقد قرّت عيناه بالزواج من بنت شعيب.. وخدم شعيباً عشر سنوات تبرّعاً وفضلاً.
          * * *
          (فلمّا قضى موسى الأجل) وتمّت خدمة عشر سنين، قال لشعيب: لا بدّ لي أن ارجع إلى وطني وأمّي وأهل بيتي، وطلب من شعيب مؤونة.. فأجازه شعيب بالرجوع، وزوّده بعددٍ من الأغنام، كي يعيش هو وزوجته بصوفها ولبنها ولحمها ونتاجها. ثم سلّم إليه عصىً كانت لإبراهيم الخليل (عليه السلام).
          فتوادعا وخرج موسى بأهله من دار شعيب يسوق غنمه أمامه، ميَمّماً شطر مصر وطنه ووطن بني إسرائيل قرابته. وكانا يسيران بأغنامهما ليلاً ونهاراً.. حتّى إذا أظلم ليلٌ من الليالي، وصارا في مفازةٍ وسيعة أصابهم بردٌ شديدٌ وريحٌ وظلمةٌ، وأخطأ الطريق، فلم يعرف الجادة.
          فإذا به يرى ناراً من بعيد (آنس من جانب الطور ناراً قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر) عن الطريق، فلعلّ عند النار أناس استرشدهم الطريق (أو جذوةٌ من النار لعلّكم تصطلون).
          فأقبل نحو النار.. فإذا به يرى شجرةً تلتهب ناراً.. فلما ذهب إليها ليقتبس من النار أهوت النار نحوه، ففزع منها وعدا متقهقراً. ورجعت النار إلى الشجرة! فرجع إليها مرّة ثانية.. فأهوت نحوه! فعدا متقهقرا، وتركها. فالتفت، فرآها قد رجعت إلى الشجرة.. فرجع إليها ثالثةً، فأهوتْ إليه، ففرّ فزعاً ولم يرجع.
          وهنا (نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين).
          * * *
          تحيّر موسى في الأمر، ما هذه الشجرة؟ وما هذه النار؟ وما معنى هذا النداء؟! لكنّه جمع قواه، قائلاً: ما الدليل على ذلك، أي على أن الصوت من قبل الله تعالى وأنّه هو الذي خلق الصوت في الشجرة، وكلّم موسى؟!
          لكنّ صوتاً ثانياً من الشجرة شقّ الفضاء ووصل إلى مسامع موسى: ما في يمينك يا موسى؟
          أجاب موسى قائلاً: (هي عصاي أتوكأ عليها وأهشّ بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى).
          (قال ألقِها يا موسى)! وكان ذلك ليرى موسى الدليل على أن المتكلّم هو الله تعالى.
          فألقى موسى عصاه، وإذا به يراها انقلبت حيّة عظيمةً تتحرّك!! (فلما رآها تهتزّ كأنّها جان ولّى مدبراً) من الخوف والدهشة، (ولم يعقب) لم يرجع ليأخذ الحيّة! وازدادت حيرته ووجب قلبه: أترى ما هذه الحيّة؟!
          وهناك نودي من جانب الشجرة: (يا موسى أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين) فرجع نحو الحيّة، وإذا به يراها كأنها جذعٌ، يخرج من فمها لهيب النار، ولها صريرٌ! وكان موسى يرتعد من الخوف، وركبتاه تصطكان، قال موسى: إلهي هذا الكلام الذي اسمع كلامك؟ قال: نعم.. فلا تخف.
          وهنا اطمأنّ قلب موسى، ووضع رجله على ذنب الحيّة، ثم تناول لحييها، وإذا به يرى يده في شعبة العصا، قد عادت كما كانت.
          * * *
          ومرّة أخرى، نودي من الشجرة: (اسلك يدك في جيبك) أي أدخلها في جيبك (تخرج بيضاء من غير سوء) أي إذا أخرجتها، رأيتها كالشمس الطالعة تنير، من دون أن يكون ذلك أثراً للبرص ونحوه. فأدخل موسى يده في جيبه، ولما أخرجها أضاءت له الدنيا.
          فناداه الله تعالى: (فذانك) العصا واليد (برهانان) دليلان على نبوّتك (من ربك) فـ(اذهب إلى فرعون وملائه) وادعُهم إلى الله تعالى (إنّهم كانوا قوماً فاسقين). وهكذا أعطى الله تعالى لموسى دليلين عظيمين على كونه مرسلاً من قبل الله تعالى:
          أحدهما: إنّه كان كلما ألقى عصاه انقلبت حيّة عظيمة، فإذا أخذها رجعت إلى حالتها الأولى، وصارت عصىً كما كانت.
          والثاني: إنه كلّما أدخل يده في جيبه، وأخرجها، ظهرت مشرقةً كالشّمس الضاحية، تنير الفضاء، فإذا أدخلها في جيبه ثانية وأخرجها عادت كما كانت.
          لكن موسى (عليه السلام)، خاف من الذهاب إلى فرعون لأنّه قتل من قوم فرعون رجلاً، فمن الممكن أن يقتله فرعون، كما كان قد عزم على ذلك قبل أن يفرّ موسى من مصر بالإضافة إلى أنّ موسى لم يكن منطقياً، فلعلّ فرعون يسخر من كلامه.
          أما المعجزتان، فقد كانتا دليل النبوّة، وكبرياء فرعون تمنع عن الإذعان، فكيف يذهب موسى إليه والحال هذه؟ ولذا توجّه إلى الله متضرّعاً: (قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون) قصاصاً عن قتلي لأحدهم! (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً) أي معيناً على تبليغ الرسالة (يصدقني إني أخاف أن يكذبون).
          وأجاب الله دعاء موسى (قال سنشدّ عضدك بأخيك) وهذا استجابةً لدعائه الأول.
          * * *
          جاء موسى وأخذ معه أخاه هارون ليذهبا إلى فرعون، ويدعواه إلى التوحيد، وأوصاهما الله تعالى بأن يقولا لفرعون قولاً ليناً، لعلّه يتذكّر أو يخشى.
          ولما أتى موسى باب قصر فرعون، استأذن الحاجب للدخول؟ فلم يأذن له، وكان ذلك بإيعاز من فرعون.. وبعد مدّة طويلةٍ، وحجبٍ مديد، ضرب موسى باب القصر بعصاه.. ففتحت الأبواب بإذن الله تعالى، ولما مثلا أمام فرعون.
          قال لهما فرعون: من أنتما؟
          قالا: (إنا رسول رب العالمين فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم).
          قال فرعون: وما الدليل على أنكما رسولان؟
          قالا: (قد جئناك بآية) علامة تدل على صدق دعوانا وهذه العلامة (من ربّك والسلام على من اتبع الهدى). ثم نصحاه قائلين: (إنّا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذّب وتولّى).
          قال فرعون: (ألم نُربّك فينا وليداً)؟ فقد كنت أنت في حجري وفي بيتي، فكيف صرت نبيّاً تدعوني إلى اتّباعك؟ ثم كنت قد (لبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت) قتلت أحد أصحابي، قبل مدّة.. ثم تدّعي النبوّة؟!
          قال موسى: نعم أنا الذي قتلت.. ثم (فررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربّي حكماً وجعلني من المرسلين). وأمّا أنّك تقول: أنا ربيت في بيتك فهل تلك نعمةً تمنّها علي؟ إني إنما ربيت في بيتك لظلمك واضطهادك لبني إسرائيل.. فإنّك إن لم تكن تقتل أولاد بني إسرائيل وتستعبدهم، لم تكن أمي تقذفني في البحر، حتى يلقيني اليمّ إليك لتربيني (وتلك نعمةٌ تمنّها علي أن عبدت بني إسرائيل؟)
          * * *
          وهنا انقطع فرعون عن الكلام، لأنّه لم يحر جواباً.
          أشار فرعون إلى بعض خدمه أن يقتل موسى فقام إليه بعضهم ليقتله، لكن الله تعالى حال دون ذلك، فلم يتمكّن السّياف أن يضرب عنقه. ولما عجز فرعون عن قتله، أخذ يحاجه في الله تعالى.
          (قال فمن ربّكما يا موسى)؟
          (قال ربّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) أي خلق كل شيء على صورته الخاصة ثم هداه بما أودع فيه من الغرائز إلى حوائجه.
          قال فرعون ـ وهو يريد أن يغلب موسى في الكلام، حتى يــظهر نفسه في مظهر العالم الفاهم ويظهر موسى في مظهر الجاهل: (فما بال القرون الأولى)؟ فإنك إن صدقت أنك نبي فما حال الناس السابقين الذين ماتوا ولم يؤمنوا بك؟ فهل أنهم معذّبون كما تزعم؟
          لكنّ هذا السؤال، لما لم يكن مربوطاً بالمقام، وكان فرعون يريد بذلك تطويل الطريق في المحاجّة، كما هي عادة المعاندين، حيث يفرون من الكلام الذي هو موضع المقصد، إلى كلامٍ تافه لا قيمة له.
          لم يُجِب موسى عن كلامه تفصيلاً، وإنما أجاب إجمالاً، بقوله: (عِلمها عند ربي) إن علم تلك القرون، وأحوال الأمم السابقة من الصلاح والفساد لا يرتبط بنا، بل إنه موجود عند الله تعالى وهو المجازي لهم.
          وقد أرى موسى (عليه السلام) عصاه لفرعون لعلّه يؤمن، لكن فرعون تمادى في طغيانه، وأظهر عدم الإيمان.. إنه علم صدق موسى، لكنّه خاف أن يذهب سلطانه وعزّه إن آمن، ولذا أظهر الإنكار. (فتنازعوا أمرهم بينهم) جعل من في بلاط فرعون، يتباحثون حول موسى وعصاه، وما ظهر من أمره، هل صادقٌ أم كاذب؟ وما كيفية الخلاص منه؟ (وأسرّوا النجوى) فأخذ يناجي بعضهم بعضاً بكلام سر.
          وأخيراً.. قرّر فرعون وأصحابه أن موسى ساحرٌ وليس بنبي، وأن هذه العصا التي تنقلب حيّةً إنما هي سحرٌ وليست بدليل نبوّة.
          قال فرعون: إن عملك يا موسى سحرٌ ونحن لسنا من الساحرين حتّى نتمكّن من كسر شوكتك والإتيان بسحر مثل سحرك، وإنما نجعل بيننا وبينك موعداً لندعو السحرة، حتى يأتوك، ويأتوا بمثل سحرك: وحين ذاك يتبين انّك ساحرٌ ولست بنبي، كما تزعم.
          هكذا قال فرعون، ليبقى على شوكة نفسه ويظهر للناس أنّه منصفٌ فيما قال. وقبل موسى ذلك.. وجعلوا بينهم موعداً في يومٍ معين.
          فأرسل فرعون إلى أطراف مملكته يجمع السحرة، وقد كانت بلاد مصر في تلك الأزمنة مليئةً بالساحرين. فاجتمع جمع كبير من السحرة، حتى أن بعض الروايات تقول أن عدد السحرة كان ثمانين ألفاً.
          وقالت السحرة لفرعون: (أئنّ لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين)؟ يجب أن تجزل لنا في العطاء إن غلبنا على موسى.. قال فرعون: نعم لكم الأجر الجزيل (وإنكم لمن المقربين) أقربكم إلى بلاطي، وأقضي حوائجكم.
          ولم تكن هناك حاجة إلى هذا العدد الكبير من السحرة، وإنما أراد فرعون إظهار قوّة نفسه، بالإضافة إلى أن الجبّارين ـ دائماً ـ يخافون من سيطرة الخصم، فيجمعون حول أنفسهم ما يضمن لهم النجاح ـ بزعمهم ـ حتى إذا لم ينفع بعضهم نفع البعض الآخر، إبقاءً على رئاستهم وشوكتهم.
          * * *
          جاء اليوم المعيّن.. وطلعت الشمس، فاصطف الجماعتان فوقف موسى وهارون، وبنو إسرائيل الذين كانوا اتباع موسى (عليه السلام)، في جانب.. ووقف فرعون ووزراؤه وقوّاده والسحرة وجماهير المصريين، في جانب آخر وارتفعت الشمس، حتى صار وقت الضحى.
          وقد جاء السحرة بأقسام من (الحبال) و(العصي) جعلوا فيها الزئبق، ولونوها بألوان الحيات والأفاعي، فإذا ألقيت في الشمس تحركت بحرارة الشمس التي تشع على الزئبق، فيظن الناس أنها حيات حقيقية تتحرك بحركتها الطبيعية.
          وقالوا لموسى: (إمّا أن تلقي) عصاك (وإمّا أن نكون نحن الملقين) لعصيّنا وحبالنا.
          قال لهم موسى: القوا انتم أوّلاً ـ وهكذا يكون الإنسان الواثق من نفسه، لا يأبه لما عند خصمٍ، لأنّه يعلم أن الغلبة له ـ (فألقوا حبالهم وعصيّهم وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون) فتحرّكت الحبال الكثيرة والعصي الكثيرة، حتى ملأت الصحراء حركةً واضطراباً، وخاف الناس، وأخذوا يفرّون، زاعمين أن ذلك كلّه حيّاتٌ وأفاعي. وخاف موسى (عليه السلام) أن يغترّ الناس بهذه الحبال ولا يميزوا بين (عصاه) الحقيقة وعصيّهم الخيالية.
          لكن الله تعالى، أوحى إليه أن (لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك) أي اطرح عصاك على الأرض حتى تنقلب ثعباناً. وألقى موسى عصاه، فإذا بها تنقلب حيّة عظيمةً، أخذت تعدو في الصحراء، (فإذا هي تلقف ما يأفكون) أي تأكل حبال القوم وعصيّهم بكلّ استعجال.
          ولما رأى السحرة ذلك، علموا أن الأمر ليس بسحر، ولو كان سحراً لم يتمكن أن يأكل تلك الحبال والعصيّ التي تربو على الآلاف.. ثم أخذ موسى عصاه، فرجعت كما كانت، من دون أن يزداد حجمها على حجمها السابق وإن كانت أكلت جميع تلك الحبال والعصي.
          * * *
          ولما علم السحرة صدق موسى، ألقوا بأنفسهم على الأرض يسجدون لله سبحانه، ويعترفون بألوهيّته ورسالة موسى، ويخلعون عن أنفسهم إيمانهم السابق، بألوهيّة (فرعون).
          قالوا: (آمنا بربِّ العالمين ربّ موسى وهارون).
          وهنا سقط في يد فرعون.. إنّ أنصاره الذين هيأهم لنصرته انقلبوا عليه، ونصروا خصمه (موسى) والناس بطبعهم في مثل هذا الموقف يؤيدون (موسى) فقد شاهدوا بأنفسهم المعجزة، واعترف بصدقها أهل الخبرة!
          فماذا يصنع فرعون، أمام هذه الهزيمة المحقّقة؟ رأى فرعون أن أحسن الوسائل التهديد والتعذيب ـ الذي هو عمل الجبّارين المبطلين في مقابل الحق ـ (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم)؟ كيف تؤمنون بموسى قبل إذني؟ ألست أنا الملك؟ ثم أراد خداع الناس، بأن موسى والسحرة اتفقوا على هذا الأمر، فقال: (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة).
          ثم أخذ يهدّدهم، ويقول: (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) اقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، أو بالعكس، لئلا يبقى توازن أجسامكم (ولأصلبنّكم في جذوع النخل) حتى تموتوا.
          لكن السحرة الذين آمنوا، أجابوا فرعون ـ بكلّ هدوء واطمئنان ـ : (اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) أي تحكم علينا بالتعذيب والفناء من هذه الحياة، ونحن لا نخاف من ذلك، فإننا ننتقل إلى الآخرة والخير السرمديّ.
          * * *
          ما آمن فرعون، بما شاهد من قصة (عصا) موسى التي انقلبت حية. فأتى إليه موسى (عليه السلام) بثماني معاجز أُخر، كلّها تدل على صحّة نبوّته وصدق كلامه حتى اصبح لموسى تسع آيات كلّها خارقة دالّة على أنه مرسلٌ من قبل الله تعالى، فأدخل موسى يده في جيبه، ثم أخرجها، وهي تشرق كالشمس، ثم أدخلها في جيبه وأخرجها فرجعت إلى حالتها الأولى وهكذا كان موسى يفعل كلما أراد.
          ثم إنّ (هامان) وزير فرعون، لما رأى هامان إيمان السحرة بموسى، قال لفرعون، إن الناس قد آمنوا بموسى، فانظر من دخل في دينه فاحبسه فحبس فرعون من آمن بموسى من بني إسرائيل خوفاً من توسع الإيمان.
          فأرسل الله سبحانه على آل فرعون (الطوفان) بان غرقت ديار مصر بالماء الكثير حتى اضطرّ الأهالي إلى أن يذهبوا خارج المدينة في الصحاري المرتفعة ويعيشوا في الخيام والأكواخ. وقد علم فرعون أن هذا البلاء من أجل موسى (عليه السلام)، فقال فرعون لموسى ادع ربك يكفّ عنا الطوفان حتى أخلّي عن بني إسرائيل.
          فدعا موسى ربّه، فكفّ الله سبحانه ببركة دعاء موسى الطوفان، لكنّ فرعون لم يفكّ بني إسرائيل خوفاً من أن يجتمعوا حول موسى فلا يتمكّن من مقاومتهم، وقد أشار عليه (هامان) وزيره، بعدم فكّهم.
          فأرسل الله سبحانه عليهم بعد ذلك (الجراد) فأخذت الجراد تأكل كل شيء لهم، حتى إنّها تأكل لحاهم وشعور جسدهم، فجزع فرعون وآله من ذلك جزعاً شديداً.. فطلب فرعون أن يكفّ الله عنهم الجراد، ليفك بني إسرائيل، فدعا موسى ربّه، فكفّ عنهم الجراد لكنّ فرعون لم يفِ، خوفاً من التفاف بني إسرائيل حول موسى، وعدم سهولة مقاومتهم بعد ذلك.
          * * *
          فأرسل الله سبحانه على آل فرعون (القمل) فكثرت فيهم، حتى أن وجه الأرض امتلأت، ولقوا من الإرهاق والصعوبة ما لا يطاق.
          وطلب فرعون من موسى (عليه السلام) أن يدعو الله ليكف عنهم القمل، فإذا فعل ذلك أطلق سراح بني إسرائيل. فدعا موسى وكفّ الله عنهم، لكنّ فرعون نكث بعهده ولم يطلق بني إسرائيل.
          فأرسل الله سبحانه عليهم (الضفادع) فكانت تكون في طعامهم وشرابهم وقدورهم وأوانيهم، ولقوا من ذلك عنتاً وعذاباً.
          فطلب فرعون من موسى أن يكفّ الله عنهم الضفادع، فإن فعل ذلك كفّ عن بني إسرائيل وأرسلهم إلى موسى. فدعا موسى، وارتفع عنهم (الضفدع) لكنّ فرعون لم يف بعهده بل ألقى بني إسرائيل في السجون.
          ثم ابتلاهم الله سبحانه بـ(الدم) فقد تحوّل (ماء النيل) دماً، فكان الإسرائيلي إذا أراد شربه، تبدّل عنده ماءاً، فلم يهنأ قبطي بالماء، في شربه، ولا في سائر حوائجه.
          فطلب فرعون من موسى (عليه السلام) أن يدعو الله، ليرجع الماء كما كان، ووعده إن فعل موسى ذلك، كفّ عن بني إسرائيل، وأطلق سراحهم ليكونوا مع موسى (عليه السلام). فدعا موسى، وارتفع (الدم) لكنّ فرعون العنيد لم يف بما وعد.
          ثم ابتلاهم الله سبحانه بـ(الرجس) وهو (الثلج) فنزلت عليهم (الثلوج) وبرد الهواء برداً شديداً، ما لم يكونوا يعهدون، وطلب فرعون من موسى أن يرفع (الله) عنهم الرجس ليكف هو عن بني إسرائيل. فدعا موسى، ورفعه الله سبحانه.. لكن فرعون بقي على عناده ولم يطلق بني إسرائيل، حسب ما وعد.
          وأخيراً.. ابتلاهم الله سبحانه بـ(الطاعون) فأخذ الطاعون يغزوهم، حتى مات من القبط جمعٌ كثير.
          فطلب فرعون من موسى، أن يدعو الله لرفع الطاعون واعداً إياه أن يكف عن بني إسرائيل. فدعا موسى، ورفع الله عنهم الطاعون. وهنا.. اضطرّ فرعون للكفّ عن بني إسرائيل، فأطلق سراحهم من الحبس.
          واجتمع بنو إسرائيل إلى موسى (عليه السلام) يسترشدونه في وجه الخلاص من فرعون الذي بقي عاتياً، لا يؤمن، ويضع المشاكل في طريقهم ويعرقل سير الدعوة.
          وخاف (هامان) وزير فرعون، من التفاف بني إسرائيل حول موسى، وأنّب فرعون على تخليه عن بني إسرائيل، فقال له: قد نهيتك عن التخلّي عن بني إسرائيل، وها أنت ترى نتيجة عملك فقد التفوا حول موسى، ويخشى من عاقبة هذا التجمع؟
          لكن الأمر كان قد انقضى أوانه، وكان لوم (هامان) في غير موقعه فلم يبق للقبط طاقة في مواجهة العذاب الذي كان ينزل بهم من جرّاء حبس بني إسرائيل، ودعاء موسى.
          وأخيراً.. أمر الله تعالى موسى (عليه السلام) أن يخرج مع بني إسرائيل من أرض مصر، إلى مكان آخر يتمكنون فيه من تنظيم أمورهم، وعبادتهم لله سبحانه بلا مزاحم، وقرّر موسى الخروج، وأخبر بني إسرائيل بذلك. فتهيأ الجمع الغفير للفرار من (فرعون) والتخلص من سلطانه.


          تعليق


          • #6
            موسى (عليه السلام) في البحر
            لقد لقي بنو إسرائيل في مصر العنت والإرهاق من كبت فرعون وظلمه فانهم وإن أمِنوا على أنفسهم ـ نوعاً ما ـ من القتل، بعد أن أرى موسى لفرعون الآيات، من الدم، والقمّل، والضّفادع، وغيرها ـ إلا أن فرعون العنيد ، وأتباعه الكفرة ما زالوا يضايقون موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل، حتى ضاقوا بالأمر ذرعاً.
            إن الأغلبية السّاحقة من المصريّين كانوا ينظرون إلى موسى والمؤمنين شزراً، وكانوا يشبعونهم إهانات، والمؤمنون صابرون صامدون، لكن إلى متى؟ وكثرت الشكوى إلى موسى حول هذا الموضوع.
            ولكن ما هو العلاج؟
            وجاء الفرج.. وذلك بأن أوحى الله تعالى إلى موسى بالخروج من مصر، وهل المكان منحصرٌ في مصر؟ كلاّ! إذن إلى أين؟ وكيف؟ وهل هذا الأمر سهل؟ كلاّ! فإنه خروج مما يقارب الثلاثة أرباع المليون، تاركين وراءهم مكاسبهم ومنازلهم، وكلّ ما يتعلّق بهم من أصعب الأمور.
            غير أن الاضطرار قد يكلّف الإنسان رهقاً.
            * * *
            قرر موسى ـ حسب أمر الله تعالى ـ الهجرة من مصر مع بني إسرائيل أجمع، ويا له من قرار خطير!
            ثم هل يمكنهم الفرار من يد الطاغية فرعون، وهو يرصدهم، ويبغي لهم الغوائل؟ لكن قدرة الله تعالى أكبر من كل شيء وتدبيره أحسن من كل تدبير، لقد أفجع سبحانه آل فرعون بنفوس أعزّائهم، فمات كثيرٌ منهم، مما أشغل بالهم، وأخذوا في النّواح والنّدبة لأعزائهم.
            وهنا حان الوقت ليفرّ بنو إسرائيل من مصر، حين اشتغال القبط بأنفسهم وكان الذين يريدون الفرار، يقاربون ثلاثة أرباع المليون، وفي ليلة الميعاد المقرّر خرج هذا الجمع الغفير، تحت ظلام الليل، وأسرعوا من المدينة مع موسى وهارون أحدهما يقود الجمع، والآخر يسوقهم، لئلا يفرط منهم، ولا يسير أحد بدون قيادة.
            وهكذا ساروا بكل سرعة وهدوء، حذرين خائفين، وإن جاسوساً واحداً لفرعون يكفي لإدراك الطلب.
            وهل من الممكن أن يسير الجمع الكثير بدون أن ينتبه قبطي واحد؟ وهل من الممكن الإفلات من قبضة فرعون الحديدية، الذي كان يعتبر هؤلاء ـ إن ظفر بهم ـ عبيداً آبقين؟
            وفي أثناء السير ـ والذعر قد أخذ منهم كل مأخذ ـ إذا بهم يصطدمون بالبحر يا لها من مفاجأة! ماذا يصنعون؟ هل يرجعون أو يبقون؟ وكلا الأمرين فيه خطرٌ وأي خطر؟ لا بد وأن يدركهم فرعون، وهناك العذاب والتنكيل.
            * * *
            لمّا رأوا البحر أمامهم، (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) يدركنا فرعون وجنوده.
            (قال) موسى: (كلاّ إن معي ربّي) يحفظني، ولا يكلني إلى الأعداء فـ(سيهدين) طريق الخلاص ممّا أمامنا من البحر، وممّا وراءنا من فرعون.
            وهنا جاءتهم النجدة من الله تعالى، فأوحى إلى موسى: (فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى) فضرب موسى (عليه السلام) عصاه بالبحر، فانجاب الماء، وظهرت في البحر طريقٌ، وكان طول البحر الذي يلزمهم عبوره (أربعة فراسخ) فيا للهول، وقف الماء كأنه جمد، في حافتي الطريق، وفي الوسط طريق لاحب.
            خاف أصحاب موسى من العبور قائلين: كيف نعبر في الوحل؟ فأرسل الله الرياح، وأشرقت الشمس في الطريق فيبست، ثم ماذا؟
            قال أصحاب موسى: إنا لا نعبر في طريق واحد، ونحن اثنتا عشرة قبيلة، فمن يتقدم ومن يتأخّر؟
            فضرب موسى عصاه بالبحر حتى صار اثني عشر طريقاً، لكل سبط طريق والماء بين الطرق كالحاجز.. وهل من عذرٍ بعد؟
            نعم.. قالوا لموسى كيف نعبر وبعض الأسباط لا يرى السبط الآخر، ولعل أذى يصيبه، لأن الماء حاجز بين الطرق؟
            ورحابة صدر موسى العظيم تقبل حتى هذا العذر التافه، ويجعل له حلاً، إذ أشار موسى بــعصاه فصارت الحواجز كأنها شبابيك، يتمكن كل سبط أن يرى سائر الأسباط طول الطريق.
            * * *
            (انفلق) الماء ببركة عصا موسى (فكان كل فرق كالطود) أي الجبل العظيم فانسابت القبائل في الطريق المهول، إن الأرض جافةٌ، والشمس مشرقةٌ عليهم، وهم كثرةٌ هائلة، يحدث بعضهم بعضاً، وكلّهم مطمئنّو القلب بحكمة القائد والسائق، واثقين بوعد الله ولطفه.
            ولكن هل يبعث ذلك كله الاطمئنان الكامل؟ كيف والماء ماء، والبحر بحر، والطريق طويل، إنه ليس ذراعاً وأذرعاً، وإنما يبلغ أربعة فراسخ؟ وممّا زادهم قلقاً وارتباكاً، ما لمحوه من بعيدٍ من الجيش اللجب العرمرم، الذي قاده فرعون لإدراكهم.
            فقد عرف فرعون بعد لأيٍ أن بني إسرائيل نزحوا عن المدينة، فتعجّب إلى أين ذهبوا؟ وبعد التحقيق تبين أنهم فرّوا ليلاً في اتجاه البحر فثار فرعون وهيّأ جيشاً ضخماً، قوامه مليون وستمائة ألف جندي.
            واطمأنّ فرعون بالنصر، فإن الأمر لديه واضحٌ كل الوضوح، إنه ليست هناك سفن تقلّ أصحاب موسى عبر البحر، ولا طاقة لبني إسرائيل حتى يقاوموا جيش فرعون المنظم المسلّح، فما هي إلا عشية أو ضحاها، حتى ينتقم من الفارّين أشد انتقام؟
            وهكذا جاء فرعون حتى وصل إلى البحر وهنا رأى العجب! هاهي المياه تراكم بعضاً على بعض، حتى فتحت الطرق! ما أغرب هذا الأمر! وما العمل؟
            خاف قوم موسى قائلين: (إنا لمدركون). لكن موسى لم يخف إنه واثق بفضل الله ونجاته. ووصل أصحاب موسى إلى منتصف البحر، حين وصل فرعون إلى أوّله.
            * * *
            لقد خاف فرعون عاقبة الأمر، ولم يدر ماذا يصنع؟ أيرجع؟ وفي رجوعه الفشل الذريع، أم يبقى؟ وما فائدة البقاء؟ أم يسير في البحر وهو لا يأمن الغرق؟ إنه يعلم أنّ الأمر معجزة موسى (عليه السلام)، لكن هل بإمكانه أن يظهر ذلك لقومه، وهو يقول: أنا ربّكم الأعلى؟
            وأخيراً قاده غروره، إلى أن يقول لقومه: إن انفلاق البحر معجزة لي، ولمّا علم بأني قاصدٌ صوبه، انجاب إجلالاً لكبريائي.
            وهل انطلت الكذبة على أصحابه؟ ذلك ما لا نعلمه، وإن كنّا نعلم أن الأذكياء من أصحاب المستبدين، يعرفون كل شيء، ولا يتمكنّون أن يتكلّموا بكلمة!
            تقدّم منجم فرعون قائلاً له: لا تدخل البحر فإنه خطر. وتوقّف فرس فرعون، فلم يدخل البحر.
            ومن هناك أراد موسى أن يضرب بعصاه البحر خلفهم، ليرجع الماء كما كان، فلا يلتحق بهم فرعون.
            لكن كل ذلك لم يحل دون إرادة الله سبحانه.
            فلقد أوحى إلى موسى قائلاً: (اترك البحر رهواً) ساكناً حتى يدخله فرعون وجنده (إنهم جند مغرقون). ولم يبال فرعون بقول منجّمه، إذ أبى ذلك غروره وكبرياؤه.
            وركب جبرئيل (عليه السلام) (رمكة) فدخل في البحر أمام حصان فرعون.. وتبع الحصان الرّمكة، فدخل فرعون، ودخل الجيش وراءه. وسار الجمعان أصحاب موسى، وأصحاب فرعون، وليس الفاصل بينهم، إلا ما يقارب نصف البحر، وكلّ قلق خائف: أصحاب موسى من العدوّ، وأصحاب فرعون من الغرق.
            * * *
            وصل أصحاب موسى إلى شاطئ البحر مخلفين وراءهم البحر بطرقه، والعدو الذي يتبعهم حثيثاً.
            ووصل فرعون وأصحابه إلى وسط البحر...
            وهنا، أمر الله الماء أن يرجع كما كان، وإذا بجبال الماء تلفُّهم في أعماق البحر، وإذا بهذا الجيش الكثيف يعلو وينزل في الماء، كأنه كرات بيد صبيان، وإذ أدرك فرعون الغرق (قال آمنت إنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) فقد انجاب عنه سحاب الغرور، وظهر لديه عجزه وحقارته، فقال: (وأنا من المسلمين).
            وهل ينفع هذا الإيمان؟ فإنه (ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن).
            ولذا ظهر له جبرئيل (عليه السلام) قائلاً: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) لا، لا، لا ينفع مثل هذا الإيمان في النجاة من عذاب الآخرة، وضرب على فمه بكتلةٍ من (الحماة).
            لكن هل يلفّ البحر جسد فرعون؟ كلا! إن الناس اعتادوا أن يزعموا بقاء العظماء والمتجبّرين على حد سواء، ولذا ظنّ بنو إسرائيل الذين ملأ قلوبهم جبروت فرعون: أنه لم يمت ولم يغرق، وهكذا زعمت البقية الباقية من القبط الذين لم يخرجوا مع فرعون لإدراك موسى.
            ولذا أبقى الله جسد فرعون قائلاً: (فاليوم ننجيك ببدنك) بعد إزهاق روحك (لتكون لمن خلفك آية) وعلامة على هلاكك، وأنك لم تكن ربّاً ـ كما كنت تقول ـ وهل يغرق الرب؟
            * * *
            لقد غرق فرعون وآل فرعون، و(كم تركوا من جنّات) بساتين ونخيل، (وعيون) مياه جارية، (وزروع ومقام كريم) من قصور وبيوت ومساكن، (ونعمة كانوا فيها فاكهين) بكلّ سلام ودعة (كذلك وأورثناها قوماً آخرين) من بني إسرائيل وغيرهم.
            ومن طريف ما يحكى: أن امرأة من بني إسرائيل لما عبروا البحر، جلست على الماء تغسل بعض حاجاتها، وإذا بها ترى جثّة فرعون، وضربها الماء حتى أتت الجثّة قرب المرأة، فأخذت المرأة تقتطع بعض الجواهر التي علّقها فرعون في لحيته وتذكّرت هناك قصّة عذابها على أيدي عمّال هذا الطاغية:
            فقد كان أمر فرعون جلاوزته بتعذيب بني إسرائيل بأنواع العذاب لعلّهم يرجعون عن الإيمان بإله موسى. تخلّصاً من العذاب، فقد كانوا (يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم) فكانت الجلاوزة تسخّر النساء لأعمال شاقة، حمل الطين وما أشبه على السلالم، إلى السطوح.
            وكانت هذه المرأة ـ صاحبة القصّة ـ ممن شملهم العذاب، فقد سخّرت ذات مرّة لرفع الطين، وكانت حاملاً، وفي رجلها قيدٌ، لئلا تهرب، فأدّى الحمل والقيد والطين إلى سقوطها عن الدرج، فرضّت عظامها وأسقطت جنينها.. فرفعت رأسها، وهي مذهولة، وخاطبت ربّها: هل أنت نائم يا رب؟
            واليوم حيث أخذت تقتطع جواهر لحية فرعون الغريق، ذكرت القصة، وسمعت منادياً غيبيّاً يجيبها، عن كلامها ذاك: (لا، لسنا نائمين)!!
            * * *
            لقد غرق الطاغية فرعون بعد ما فسد وأفسد، وضلّ وأضلّ، وطغى وتجبّر، فأين فرعون، وأين جلاوزته، وأين جلاّدوه، وأين سجونه، وأين أعوانه وأنصاره؟؟
            بل أين صرحه المدهش؟ فقد (قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) وموسى كاذبٌ في مقالته أن للكون إلهاً (فأوقد لي يا هامان على الطين) أوقد النار على الطين، ليكون أجرّاً وجصّاً، (فاجعل لي صرحاً) قصراً عالياً في الهواء. فأصعد إلى السطح (لعلّي أطّلع إلى إله موسى) وقد ظنّ فرعون أنّ الله مقرّه السماء جاهلاً أو متجاهلاً أنه لا مكان لله تعالى، كما أنه لا زمان له سبحانه (وإني لأظنه) أي أظن موسى (من الكاذبين) في قوله إن للكون إلهاً.
            وهكذا أمر فرعون وزيره (هامان) وامتثل هامان، فسخّر ما يقارب المائة ألف من أهل مصر، لبناء صرح لم ير مثله في العلو والارتفاع، حتى تم البناء، وصعد فرعون وهامان سطح القصر، ثم هيأ (هامان) مهداً ذا أربعة قوائم صاعدة فوقه، وأربعة أساطين نازلة تحته وهيأ أربع نسور قويّة، وربطها بالأساطين، وعلّق فوق القوائم أربع ذبائح، وجوّع النسور.
            ثم جلس فرعون وهامان في المهد، في أعلى سطح الصّرح، فأخذت الطيور في الطيران كأنها تحاول الوصول إلى الذبائح، حتى بلغ المهد مبلغاً كبيراً في الارتفاع. وهناك لم يريا إلا السماء والأنجم، حيث جنّهم الليل ـ وزاد خوفهما من الصعود أكثر.. فقلّبا وضع النسور واللحوم، بالبكرات والحبال التي كان هامان قد هيأها لمثل هذه المهمّة، إذ نقل النسور من الأساطين إلى القوائم، ونقل اللحوم من القوائم إلى الأساطين.
            والنسور الجائعة، رأت اللحم في أسفل فأخذت في الهبوط لتصل إليه سدّاً لجوعتها، وهكذا نزل المهد، ولم يظفر فرعون ببغيته.
            لقد ذهب فرعون الطاغي، وذهب أتباعه وجلاوزته، وذهبت كنوزه وقصوره، وذهب صرحه الذي سخّر له العمال الكثيرين، ليطّلع إلى إله موسى ويشاطره ـ بزعمه ـ الملك والحكم!
            ورجع البحر رهواً كما كان، كأنه لم يَحْو في بطنه شيئاً من ذلك الجيش اللّجب، بعدده وأسلحته ومعدّاته. ولم يبق إلا جثّة فرعون الهامدة، على رابية قرب البحر حيث قذفته الأمواج (ليكون لمن خلفه آيةً) وعبرة، يعتبر به الجبابرة.
            ويقال إن إحدى جثث الفراعنة الموجودة في متحف القاهرة هي جثّة هذا الرجل الطاغي، وسواء كان الخبر صدقاً أم مخالفاً للواقع، فقد لفت فرعون وقومه لعنة الأبد، وبقي أمثولةً للاستبداد والكبر، حتى إن الناس اشتقّوا لفظة (تفرعن) من اسمه أي طغى وتجبّر.
            وبقي موسى (عليه السلام) وقومه المؤمنون الصابرون، مثلاً أعلى لكل فضيلة.
            * * *
            لقد عبّر بنو إسرائيل البحر في سلام، وهاهم يرون أمام أعينهم غرق ألدّ أعدائهم، والمعاونين له في إيذائهم، فقد انقضى كلّ شيء، وانتهى أمر فرعون.
            فلننظر إلى موسى وقومه..
            فمن غريب الأمر أن يكون بنو إسرائيل، بعد هذا الاضطهاد والاستعباد، وبعد تلك المعجزات والغرائب، لم تتبلور في نفوسهم روحيّة التوحيد، فإنهم بعد ما خرجوا من البحر، (أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)! وماذا يقول موسى العظيم لهؤلاء القوم؟ (قال موسى إنكم قوم تجهلون) وهل بعد هذه الآيات محلٌّ للكلام؟ لكن قد أُشرِب في قلب جماعة منهم حب الأوثان أليسوا قد عبدوا العجل بعد مدة أخرى أيضاً؟
            هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى..
            (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون) ينظر إليهم فرعون بنظر الضعف والمهانة (مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) فقد صارت أراضي مصر وأراضي سوريّا، تحت سلطة موسى وقومه.
            (وتمّت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) فقد دمّر الله سبحانه قصور فرعون، وبالأخص صرحه الذي بناه له (هامان).
            وذلك بأن ضرب جبرئيل (الصرح) بجناحه، فصار دكّاً ولم يبق منه أثر.
            أما مصر: فبعد أن هلك فرعون، بعث موسى جندين عظيمين من بني إسرائيل كل جند اثنا عشر ألفاً، إلى مدائن فرعون ـ ولعل البعث كان بالسفن ـ وتلك المدائن كانت خالية من أهلها، لم يبق منهم إلا النساء والصبيان والزمنى والمرضى والهرمى.
            وجعل الآمر على أحد الجندين (يوشع بن نون) وعلى الجند الآخر (كالب بن يوفنا) فدخلوا بلاد فرعون.
            هاهي البلاد خالية! وهاهو محل القوم الذين طالما عتوا وطغوا وبغوا في الأرض بغير حق! وهاهي قصور فرعون وبساتينه وحدائقه، خلت من الطاغية الذي سام هؤلاء أشدّ ألوان العذاب، فكان (يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم) تجاوب السوم في أرجائها، عوض المستبد العاتي الذي كان ينادي بملء فمه (أنا ربكم الأعلى) و(ما علمت لكم من إله غيري).
            إنه من الطبيعي أن تجيش في صدور بني إسرائيل الذين يرون كل ذلك ألف جائشة وجائشة، ويتذكّروا أيّامهم الماضية التي قاسوها، تحت الذل والاستعباد، والظلم والاضطهاد.. كيف أخرجوا بغير حق إلا أن يقولوا: ربّنا الله؟ وكيف اضطرّوا إلى ترك بلادهم بدون مبرّر؟!
            وكيف كان الأمر، فهل أمروا من قبل النبي الظافر موسى بن عمران (عليه السلام) بأخذ الغنائم، ولذا حملوا كنوزهم وأموالهم، وما أقلّت الحمولة من أثاث ورياش، كما أنهم باعوا قسماً مما وجدوا له مشترياً.
            أما الجيشان فقد قفلا راجعين إلى موسى، بعد ما خلّف (يوشع) رجلاً صالحاً على تلك البلاد، ليملأ الأرض بصوت التوحيد، بعد ما ملأها فرعون بصوت الكفر والوثنية.
            * * *
            إلى أين مسير هذه الجماعة الغفيرة التي تقارب ثلاثة أرباع المليون؟
            إن مثل هؤلاء الجماعة لابد وان يسكنوا بلداً يسعهم، ولكن أي البلاد يستطيع أن يرحب بمثل هذه الكثرة العظيمة؟ وكيف يتمكّنون من أن يعيشوا في بلاد غربةٍ بدون مؤهلات؟ إنها مشكلة كبرى لهم، وللبلد الذي ينزلون فيه، ولقائدهم موسى بن عمران (عليه السلام) الذي لابد وأن يلاقي الصعوبة من قومه ومن أهل ذلك البلد الذين يريدون النزول فيه.
            ولا يتمكّنون من أن يعيشوا في برّيّة.. إذن فما العلاج؟
            لقد حل الله المشكلة، فأوحى إلى موسى أن ينحو نحو الأرض المقدسة، أرض الشام، التي قدّست وبوركت بكثرة الأنبياء، وبكثرة الفاكهة والمياه، وطيب الهواء.
            وكان ذلك في نفس الوقت حلاً لمشكلتين: مشكلة هؤلاء النازحين، الذين يحدو بهم السير نحو بلاد يعيشون فيها آمنين، يؤدّون شعائرهم بكل حرّية، ويعبدون الله جهاراً، بلا خوف ولا رقابة.. ومشكلة الكفّار الذين كانوا في (الشام) وكانوا إخوان (فرعون) في العقيدة والعمل، فقد كان العمالقة الساكنون في (الشام) كفّاراً عتاةً يفسدون ويظلمون ويبغون في الأرض بغير الحق.
            أما إذا جاء موسى وبنو إسرائيل وأخضعوهم، فإن صبغة البلاد تنقلب من الكفر إلى الإيمان، ومن الطغيان إلى العدل.
            أمّا.. لماذا لم يصمّم بنو إسرائيل على الرجوع إلى (مصر) مقرّهم، بعد هلاك عدوّهم؟ فكان ذلك بأمر الله الذي أراد لهم أن يسكنوا الأرض المقدّسة، ولعلّ الغرض من ذلك كان إرادة تطهيرها من الوثنية وعبادة الطاغوت، وقطع يد الظالمين عنها.
            * * *
            نزل قوم موسى عند نهر الأردن، وكان من المقرر أن يواصلوا السير حتى يصلوا إلى الشام، لكنهم خانوا وتردّدوا، أمّا موسى فلم يتردد، بل خاطبهم قائلاً: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) أن تدخلوها (ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) بعدم إطاعة أوامر الله، فإن ذلك يوجب خسران الدنيا والآخرة.
            لكن القوم بقوا على عنادهم، فـ(قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبّارين) هم العمالقة الذين كانوا أقوياء في البنية، أشدّاء، منحرفي العقيدة والعمل (وإنا لن ندخلها) إذ نخاف أن تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة باردةً لهم، ونقع في أسرهم كما كنا في أسر فرعون من ذي قبل (حتى يخرجوا) أي العمالقة (منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون).
            وقد همّ جماعة من بني إسرائيل بالانصراف إلى مصر، ثم إن موسى بعث من كل سبط من الأسباط الاثني عشر، رجلاً، ليروا وضع الأرض المقدسة، لعلّهم يتشجّعون على دخولها، لكن القوم رجعوا بعكس ذلك، وبعضهم عادوا خائفين وجلين مما شاهدوا من أمر العمالقة.
            أمر موسى (عليه السلام) الرجال الاثني عشر أن يكتموا ما شاهدوا، لئلا يجبن أصحابه فكتم بعضهم، وأفشى الآخرون، مما زاد الأمر إعضالاً، واستبدّ القوم في عدم الدخول.
            فـ(قال رجلان) هما (يوشع) و(كالب) (من الذين يخافون) الله ويتبعون أوامره، ممن قد (أنعم الله عليهما) بالإيمان والتقوى: يا قوم لا تخافوا و(ادخلوا عليهم) أي على العمالقة (الباب) باب المدينة، (فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) فإن من الطبيعي أن يكون المهاجم رابحاً للمعركة ـ (فما غزي قومٌ في عقر دارهم إلا ذلّوا)(1) ـ (وعلى الله فتوكّلوا) يا قوم (إن كنتم مؤمنين).
            سخر القوم من كلام (يوشع) و(كالب) وأرادوا أن يرجموهما بالحجارة، وتوجّهوا إلى موسى قائلين: (يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها) فليس لنا طاقة بهم، وقد أُرهقنا في مصر، فلا نوقع أنفسنا في مشكلة ثانية لا ندري ماذا تكون عاقبتها، فإذا أردت أن لا نرجع إلى مصر (فاذهب) يا موسى (أنت وربك فقاتلا) العمالقة حتى تتغلّبا عليهم (إنا هاهنا قاعدون) فإن طهّرت البلاد منهم دخلناها، وإلا فلسنا نحن بداخلين.
            هنا غضب موسى (عليه السلام)، وتحيّر ماذا يصنع بهم؟ بعد ما أنقذهم من يد عدوّهم (فرعون) وأراهم تلك الآيات البينات. ثم.. توجّه إلى الله سبحانه في ضراعةٍ قال: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) هارون (فافرق) وباعد يا رب (بيننا وبين القوم الفاسقين) وإذ لم يسمع القوم كلام الله المنزل على نبيه، وخالفوا موسى بن عمران، استحقوا العقاب والعذاب.
            فقد أوحى الله تعالى إلى موسى (قال فإنّها) أي الأرض المقدسة (محرّمة عليهم) تحريماً تكوينيّاً، فإني لا أقسم دخولها لهم بعد ما عصوا وعتوا (أربعين سنة).
            وماذا يكون مصير القوم إذن؟ إنهم في هذه المدة (يتيهون في الأرض) حائرين لا يرجعون إلى مصر، ولا يدخلون الشام، بل هم في هذه المدة تائهون في الصحراء (فلا تأس) ولا تغتم يا موسى (على القوم الفاسقين) مما ينالهم من الصعوبات في هذه المدة.
            * * *
            ربما يستغرب كيف يمكن أن يتيه قوم يبلغ عددهم ثلاثة أرباع المليون ـ تقريباً ـ في صحراء، يمكن أن يهتدي إلى الطريق فيها أنفار قليلون في أيام معدودات؟
            لكن هذا الاستغراب يتلاشى لو علم الإنسان قدرة الله تعالى على كل شيء، وإنه سبحانه هو الذي أراد هذا التيه لبني إسرائيل عقوبة على ما اقترفوه من المعصية بعدم إطاعة موسى في دخول الأرض المقدسة.
            هذا.. مع غضّ النظر عن أن الشخص غير المسلم يمكن أن يرى بقاءهم في الصحراء في هذه المدّة طبيعياً، إنهم لم يكونوا يقدرون على الرجوع إلى مصر، بعد أن انقلعت عنها قلوبهم، كما انتقلت عنها أقدامهم، لم يكونوا قادرين ـ حسب زعمهم ـ على دخول الأرض المقدسة، لأن فيها قوماً جبّارين، ولا قبل لبني إسرائيل بهم.
            إذن فما من حيلة إلا البقاء في الصحراء، حتى ينكشف لهم الطريق الصحيح؟ والجمع الكثير يتمكّنون من إيجاد مرافق الحياة لأنفسهم حتى في المفازة ـ هكذا يعلّل الأمور من لا يريد الإيمان بالقدرة الإلهية المطلقة ـ أمّا نحن ففي غنى عن مثل هذه الكلمات والتوجيهات.
            فما يتراءى من بعض الذين انهزموا أمام التيارات الإلحادية ـ التي لا تؤمن بالإعجاز ـ من تأويل كلّ معجزة بأمور طبيعية، شطط في القول، وتناقض في التفكير، في فرق بين الإعجاز بالوحي على الرسول، وبين الإعجاز بالتيه في الأرض، أو ضرب العصا بالبحر الموجب لانفلاقه؟
            وإن قبلنا الرسالة يلزم أن نقبل كل توابعها، وإن لم نقبل التوابع، فما هو الفارق بين الأمرين؟
            فلندع بني إسرائيل في التيه، لنرى إلى ماذا انتهى أمرهم وأمر موسى (عليه السلام) وكيف عاشوا في التيه هذه المدة الطويلة؟

            1 ـ نهج البلاغة: ج1، ص68.

            تعليق


            • #7
              بساط سليمان (عليه السلام)

              كان داود من أنبياء الله تعالى، وكان بيده السلطة الزمنية، كما أن بيده السلطة الدينية، وكان يقضي بين الناس بالحق، فقد قال الله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق).

              مرّت أزمنةٌ على ذلك، لكن داود كان تعلّم أنه لابد وأن يموت فعليه أن يخلّف أحداً مكانه ليقوم مقامه في هداية الضالّ، وتعليم الجاهل، وإرشاد الغافل، وإقامة الأحكام، ليبقى الدين قائماً.

              وكيف يمكن أن يذهب عن أمته بدون أن يُعين خليفةً له من بعده.

              وذات مرّة أوحى الله تعالى إليه بان يخلّف على الأمّة ابنه (سليمان)، وكان سليمان (عليه السلام) في ذلك الوقت غلاماً حدث السنّ، لكنه كان أهلاً للخلافة لمكانته الدينية وفضله وتقواه، وذكائه، وفطنته، ومعرفته الحق من الباطل، والحلال من الحرام.

              وقد اختار الله (سليمان) خليفة لداود، حيث علم سبحانه أن (سليمان) أهلاً لذلك، ولم يكن لداود أن يختار لنفسه خليفةً بدون إذن الله تعالى، فإن الخلافة للأنبياء، كالنبوّة لا تكون إلا بتعيين الله تعالى.

              وطبيعي أن يفرح (داود) لهذا الوحي الإلهي، الموجب لامتداد النبوة والقدرة في بيته.. لكنه من الطبيعي أيضا أن يخاف إنكار أصحابه وشيوخ بني إسرائيل لخلافة ولده، وهل يرضى الشيوخ أن ينضووا تحت لواء غلام؟ وإن كان له من الفضل والنبل الشي الكثير، إضافة إلى أن الحسد دارٌ قلّما يسلم منه إنسان عادي.

              * * *

              وأخيراً.. أخبر (داود) بني إسرائيل بأمر الله تعالى، وأنه سبحانه جعل خليفته فيهم (سليمان).

              وهنا قامت القيامة على بني إسرائيل، فضجّوا من ذلك، واستنكروا خلافة (سليمان) قائلين: وهل يستخلف (داود) علينا حدثاً، وفينا من هو أكبر منه؟ ولمّا أكثروا من اللغط والغلط والإنكار والشجب لخلافة سليمان (عليه السلام) أرسل داود (عليه السلام) إلى أسباط بني إسرائيل وشيوخهم ليكلّمهم ويناقش الموضوع وجهاً لوجه.

              وقد أراد (داود) أن يدعم أمر خلافة سليمان بحجة وبرهان، لا يتمكّن أحد من إنكار تلك الحجة، ولا من مقابلة ذلك البرهان، ولذا جعل الحجة (معجزة) كما هو شأن الأنبياء، حتى يأتوا بالمعجزات إن رأوا عناد المخالف.

              * * *

              قال داود لشيوخ بني إسرائيل: قد بلغتني مقالتكم، وكراهتكم لتنصيب ولدي خليفةً عليكم من بعدي.. إن هذا من أمر الله، لا من أمري، فالله هو الذي يعيّن خلفاء الأنبياء، وإن أنكرتم قولي، فإليكم هذه الحجة:

              أدّوني ـ يا معاشر شيوخ بني إسرائيل ـ عصيّكم، فأي عصا أثمرت وهي عودٌ يابسة، فصاحب تلك العصا هو الخليفة من بعدي، ووليّ أمر الناس.

              يا لها من حجة! وهل تخضر العودة اليابسة؟ أم هل تأتي بثمرٍ؟ أليس ذلك كافياً لصدق (داود) (عليه السلام)؟ فإن إثمار العصي لا يكون إلا بأمر الله تعالى، فمن أثمرت عصاه فهو الخليفة.

              اتفق الجميع على ذلك، وجاء شيوخ بني إسرائيل بعصيّهم، وقالوا لداود، رضينا بهذه الحجة.. فقال لهم (داود): ليكتب كل واحد منكم اسمه على عصاه، فكتبوا، وجاء (سليمان) أيضاً بعصاه وكتب عليها اسمه.

              ثم.. أمر (داود) أن يجعلوا تلك العصي في غرفة، فجعلوها كما أمر وأغلقوا الباب، وتبنّى حراسة الغرفة رؤوس أسباط بني إسرائيل وكبراؤهم ـ حذراً من التزوير ـ ، وبقيت العصي في الغرفة ليلة كاملة فلمّا أصبحوا صلى (داود) بهم صلاة الصبح ـ على حسب عادته كل يوم ـ ثم أقبل في حشد كبير ففتح باب الغرفة، وأخرج العصي، وإذا بإحداها مثمرة.

              وهنا اشرأبت الأعناق، وامتدّت الأعين، ليروا لمن هذه العصا؟ وكل يرجوا أن تكون عصاه.. وإذا بهم يقرأون الاسم المكتوب على العصا، فيلمع اسم سليمان (عليه السلام) فهذه عصا سليمان التي أورقت وأثمرت.

              سلّم شيوخ بني إسرائيل الأمر لنبي الله (سليمان) وعلموا أنه من عند الله تعالى. فلا يحق لهم بعد هذه الحجة المناقشة، وأصبح معروفاً أن (سليمان) هو الخليفة الشرعي لداود (عليه السلام).

              لكن داود (عليه السلام) أراد أن يظهر للناس فضل ولده (سليمان) وأن الله سبحانه لم يمنحه هذه العطية اعتباطاً، ولذا أخذ (داود) يسأل (سليمان) أسئلة تدل أجوبتها على مقدار ذكاء ولده، وعقله وحصافته.

              وكان الاختبار والتداول في محضر بني إسرائيل ورؤوس الأسباط.

              فقال داود لسليمان: يا بني ما أبرد الأشياء؟

              قال (سليمان): عفو الله عن الناس، وعفو الناس بعضهم عن بعض.

              قال (داود): يا بني ما أحلى الأشياء؟

              قال (سليمان): المحبة، وهي روح الله في عباده.

              فافترّ (داود) ضاحكاً، ثم قال مؤكداً: يا بني إسرائيل هذا ولدي (سليمان) خليفتي فيكم.

              إن أسئلة (داود) كانت ذات وجهين، لكن ذكاء (سليمان) وفطنته أرشداه إلى وجه السؤال الحقيقي ولذا أجاب على طبق السؤال: إن برودة العفو على قلب الإنسان، أحسن من برودة الثلج، وحلاوة المحبة في روح المرء أكثر من حلاوة السكر.

              ولعل في سؤالي (داود) إلماعاً إلى وجوب تفشي (العفو) و(المحبة) بين الناس لتستقيم أمورهم، وتقوى الصلات والروابط بينهم.

              * * *

              تزوّج (سليمان) بفتاة شريفة، وعاش في كنف والد زوجته مدة من الزمن.. وفي ذات يوم قالت الزوجة لسليمان: بأبي أنت وأمي ما أكمل خصالك، وأطيب ريحك، ولا أعلم خصلةً فيك أكرهها إلا أنّك في مؤنة أبي.

              وكان لسليمان وجهة نظر في بقائه تحت رعاية أبي زوجته، كما أن الزوجة ثقلت عليها نفقة أبيها.

              ثم قالت الزوجة لسليمان: فلو دخلت السوق فتعرضت لرزق الله رجوت أن لا يخيبك. وكان قصدها أن يحصل زوجها على رزق الله مباشرة، دون إعالة (داود) أو إعالة أبيها.

              مضى سليمان، ذات يوم إلى ساحل البحر، فرأى صيّاداً يصيد السمك، فقال له: هل تحب أن أساعدك في مهمتك بأجرة تدفعها لي؟

              رحّب الصيّاد بسليمان ـ وهو لا يعرفه ـ فأخذ سليمان يعاونه حتى إذا فرغ الصياد، قدّم لسليمان (عليه السلام) ـ سمكتين ـ أجرة لعمله.

              فشكر سليمان الله تعالى، وأخذ السمكتين، ولما شقّ بطن إحداهما، وجد في جوفها خاتماً! ففرح بالخاتم، فرحاً كثيراً، لقد ساقه الله سبحانه إليه، ليجعل في ذلك الخاتم سر عظمة ملك سليمان، وتسخير كل شيء له.

              * * *

              إن الله سبحانه تفضّل على (داود) و(سليمان) فأعطاهما النبوة، والخلافة في الأرض، والسيطرة والسلطة (ولقد آتينا داود وسليمان علماً) فهما عرفا هذا الفضل لله تعالى وشكراه في مقابل هذه النعمة العظيمة فـ(قالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين). وقد أعلم (سليمان) الناس بما منحه الله تعالى، زيادةً في الشكر (فإن الله إذا أنعم على عبدٍ بنعمةٍ أحب أن يرى أثرها فيه)(1).

              (وورث سليمان داود) ورثه في إرثه الشخصي، كما ورثه في علمه وحكمته وسلطته (وقال يا أيها الناس عُلّمنا منطق الطير) فكان سليمان (عليه السلام) يعرف كلام الطيور، فإذا تكلّم ببغاء أو عصفور أو حمام أو هدهد أو غيرها من سائر الطيور، لآخر من بني جنسه، سمع سليمان كلامها وعرف معنى الكلام.

              إنه (عليه السلام) لم يكن يعرف منطق الطير فقط، بل كان يعرف منطق سائر الحيوانات.. كما أن الله سبحانه سخّر لسليمان الريح، فكانت تحمله، كما تحمل الطائرة أحدنا.. وكان سليمان قد سخّر له (الجن) فكان الجن يعملون بأمره، إلى غيرها من النعم الكثيرة التي منحها الله سبحانه لسليمان تفضّلاً، ولذا قال سليمان لقومه ـ حيث كان يذكر فضل الله عليه ـ : (وأُوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين).

              * * *

              وقد كان لسليمان جلالة عظيمة، فقد دعا الله سبحانه قائلاً: (رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) فاستجاب الله دعاءه وأعطاه الملك العظيم وكان من ذلك الملك العظيم (بساط سليمان).

              وكان سليمان مع ذلك في منتهى التواضع والزهد، فكان يلبس لباس الشعر تزهداً في زخارف الدنيا.

              وكان إذا أقبل الليل يشد يده في عنقه ـ تواضعاً لله تعالى ـ ويقف في محراب عبادته مصلّياً باكياً خاشعاً، حتى الصباح.

              وكان إذا دخل مجلساً فيه أغنياء وفقراء تصفّح الوجوه، فيجوز عن الأشراف والأغنياء، حتى يصل إلى الفقراء فيقعد معهم، ويقول: (مسكين مع المساكين). وكان يعمل بيده سفائف الخوص، ثم يبيعها ويأكل من ثمنها. وإنما طلب الملك ليقوى به على الكفار وينشر في الأرض التوحيد، ويأخذ للمظلوم من الظالم.

              أما بساط سليمان فهو شيء عجيب، لا تبلغه أكبر الطائرات والصواريخ المكتشفة في زماننا هذا. فكان يجلس أحياناً على بساطه، وعن يمينه ثلاثمائة ألف كرسي عليها الإنس، وعن يساره ثلاثمائة ألف كرسي عليها الجن، وكانت تأتي الطيور فتصفّ بأجنحتها على ذلك البساط الممتد حتى لا يؤذيها حر الشمس، ثم يرتفع هذا البساط المهيب في أجواء السماء.

              * * *

              ولسليمان (عليه السلام) قصص شيقة مع الحيوانات:

              فذات مرة تحيّرت (القبرة) أين تبيض، فسألها ذكرها: أين تريدين أن تبيضي؟ فقالت الأنثى: لا أدري.. أنحيه عن الطريق ـ وكان ذلك لخوفها أن يصيب المارّة البيض في الطريق فيفسدوه ـ .

              فقال الذكر: إني أخاف أن يمر بك مارٌ في الطريق.. وبعد لأي وجد الذكر والأنثى مكاناً مناسباً للبيض فباضت الأنثى وحضنت البيض حتى قرب الفقس.

              فبينما هما كذلك طلع سليمان (عليه السلام) في جنوده والطير يظله فاضطربت الأنثى خوفاً من أن ينزل سليمان بجنوده فيدوسوا بيضها، فقالت للذكر: هذا سليمان قد طلع علينا بجنوده، ولا آمن أن يحطّمنا ويحطّم بيضنا؟

              أجاب الذكر: إن سليمان لرجل رحيم لا يفعل ذلك.

              ثم قرّر أن يقدّم كل واحد من الذكر والأنثى هديّة إلى (سليمان) استعطافاً له، وجلباً لانتباهه إلى مكانهما. فأخذ الذكر تمرةً في منقاره، وأخذت الأنثى جرادة في رجلها، وجاءا بالهديّة إلى سليمان.. فلمّا رآهما سليمان ـ وهو على عرشه ـ بسط لهما يديه فوقع الذكر في كفّه اليمنى، ووقعت الأنثى في كفة اليسرى فقدّما له الهدية، وأمر جنده أن يتجنّبوا محل بيضهما، ودعا لهما بالبركة ومسح سليمان تعطفاً على رأسيهما. ومن أثر يد سليمان أحدث الله (القنزعة) مثل التاج على رأس القبّرة.

              جاءت سليمان يوم العرض قبّرةٌ تهدي إليه جراداً كان في فيها

              فاستقبلته وقالت وهي ضاحــكةٌ إن الهدايا على مقــدار مهديها

              * * *

              وذات مرة حدثت قصة جميلة بين سليمان ونملة:

              فقد أتى جمع (لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون) يجلس أوّلهم لآخرهم، حتى يجتمع الكل فيركبوا البساط، ويسيروا في الهواء أينما شاءوا.

              وكان من شأن (البساط) أنه يسير في الفضاء صباحاً مقدار ثلاثين يوماً إذا أراد أن يسير فيها السائر العادي، وكذلك كان البساط يقطع مثل هذه المسافة، في المساء.

              فسار البساط، وعليه سليمان وجنوده، والطير صافّات فوقهم (حتى إذا أتوا على وادِ النمل) وكان محلاً كثير النمل، من مدينة (الطائف) أو مدينة (الشام).

              هناك نظرت نملة إلى بساط سليمان، فخافت إن نزل، أن يحطم النمل، سليمان وجنوده، ولذا قالت محذّرة سائر النمل: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) في أجواف الأرض (لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) فإن الإنسان لا يشعر بوجود النملة تحت رجله.

              وشاء الله تعالى أن يسمع سليمان كلام النملة (فتبسم) سليمان (ضاحكاً من قولها) كيف تتحفظ على بني نوعها، وتجنبهم الأخطار.

              ثم توجه سليمان إلى ربه في ضراعة، قائلاً: (رب أوزعني) أي وفقني (أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليه وعلى والديَّ) ووفقني (أن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني) يا رب (برحمتك في عبادك الصالحين).

              * * *

              ومرّة أخرى سمع سليمان (عليه السلام) حواراً بين (عصفورٍ) و(عصفورةٍ) فقد كانت الأنثى تمنع نفسها عن معاشرة الذكر، فقال الذكر ـ مبيّنا قوّته لأنثاه ـ : لو شئت أخذت قبّة سليمان فألقيتها في البحر.

              فعجب سليمان من كلام العصفور، وتبسم ضاحكاً.

              ثم إن سليمان طلب العصفورين، وقال للعصفور: هل تطيق أن تفعل ما قلته للعصفورة، من إلقاء قبتي في البحر؟

              قال العصفور: لا يا نبي الله، ولكن المرء قد يزين نفسه عند زوجته، والمحب لا يلام على ما يقول.

              ثم توجه سليمان إلى العصفورة، قائلاً:

              لم تفرّين من زوجك، وهو يحبك؟

              قالت العصفورة: يا نبي الله، إن زوجي لا يحبني، وإنما هو يدّعي ذلك، والدليل على أنه لا يحبني، أنه يحب غيري.

              هنا جاشت في نفس سليمان الخواطر الإلهية، فكيف يمكن أن يدّعي محبة الله، من يحب غير الله،؟ إن عصفورة صغيرة تعرف أن محبتين لا يجتمعان في قلب واحد، فكيف يقول الإنسان إني أحب الله، وهو يحب الدنيا؟ وهل يمكن أن تجتمع في قلب الإنسان محبتان: محبة الله ومحبة الدنيا؟

              ولذا تأثر سليمان بكلام العصفورة، وبكى بكاءً شديداً، وأخذ يدعو الله سبحانه أن يملأ قلبه من محبته، ويفرغ قلبه من محبة ما سواه.

              * * *

              وفي يوم من الأيام كان سليمان (عليه السلام) جالساً، مع أصحابه، فصاحت الطيور، ففسر كلامها لأصحابه، حتى يعلموا أن كل طير يقول قولاً، وليست صيحات الطيور أصواتاً فارغة.

              صاح (ورشان) فقال سليمان: يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب.

              وصاحت (فاختة) فقال سليمان: تقول: ليت الخلق لم يخلقوا.

              وصاح (طاووس) فقال سليمان: يقول: كما تدين تدان.

              وصاح (هدهد) فقال سليمان: يقول: من لا يَرحم لا يُرحم.

              وصاح (صرد) فقال سليمان: يقول: استغفروا الله يا مذنبين.

              وصاح (طوطن) فقال سليمان: يقول: كل حي ميّت، وكلّ جديد بال.

              وصاح (خطّاف) فقال سليمان: يقول: قدّموا ضراً تجدوه.

              وهدلت (حمامةٌ) فقال سليمان: تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سماواته وأرضه.

              وصاح (قمري) فقال سليمان: يقول: سبحان ربي الأعلى.

              ثم.. إن سليمان (عليه السلام)، نشر لأصحابه كلام بعض الطيور الأخرى التي لم تكن حاضرة فقال (عليه السلام):

              الغراب، يدعو على العشّارين.

              والحدا، يقول: كل شيء هالك إلا وجهه.

              والقطا، يقول: من سكت سلم.

              والطائر الأخضر، يقول: ويلٌ لمن الدنيا همّه.

              والباز، يقول: سبحان ربي وبحمده.

              والدراج، يقول: الرحمان على العرش استوى.

              وهذا الكلام الشيّق من سليمان فتح على أصحابه أبواب المعرفة، كما كان هذا الكلام فاتحة خير للبشر، حيث عرفوا أن الحيوانات تتكلم، وأخذوا يبحثون للتوصل إلى معرفة كلام الحيوانات(2).

              * * *

              وذات مرة كان سليمان (عليه السلام) جالساً على شاطئ بحر، فبصر بنملةٍ تحمل حبّة قمحٍ تذهب بها نحو البحر، فجعل سليمان ينظر إليها، حتى بلغت الماء، فإذا بضفدعة قد أخرجت رأسها من الماء وفتحت فاها، فدخلت النملة في فمها، وغاصت الضفدعة في البحر.

              فدهش سليمان لهذا الحادث وأخذ يفكر متعجباً!

              فلم يمر زمان حتى رأى سليمان الضفدعة تخرج من الماء، ثم فتحت فاها، وخرجت النملة من فمها، وليست معها حبّة الحنطة.

              هنالك، دعا سليمان النملة، ليستفسرها عن الخبر؟

              أجابت النملة: يا رسول الله، إن في قعر هذا البحر الذي تراه صخرة مجوّفة، وفي جوفها دودة عمياء قد خلقها الله هنالك، وهي لا تقدر على رزقها، وقد وكلني الله برزقها، فأنا أحمل رزقها، وهذه الضفدعة مأمورة أن تحملني إليها، فإذا وصلنا إلى الدودة، وضعت الضفدعة فمها على ثقب الصخرة، فأدخلها ـ وأنا آمنة من البلل ـ فألقم الدودة رزقها، ثم أخرج إلى فم الضفدعة لتردني إلى الجرف.

              قال سليمان ـ وهو متعجب من فضل الله سبحانه في حكمته ـ : وهل سمعت أيتها النملة، من الدودة تسبيحة؟

              قالت النملة: نعم.

              إنها تقول: (يا من لا تنساني في جوف هذه الصخرة تحت هذه اللجة، برزقك، لا تنس عبادك المؤمنين برحتمك).

              وقد كان في هذه القصة الطريفة تصديق لقول الله تعالى في القرآن الحكيم: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها).

              وكذلك في هذه القصة تصديق لقول الله سبحانه: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).

              كما أن فيها عبرة للإنسان وذكرى له: إنه لا ينبغي للحريص أن يعصي الله تعالى لتحصيل رزقه، كما يكون بعض الناس هكذا يرابون، ويغشون، ويسرقون، ويحتكرون، ويأكلون أموال الناس ظلماً، ويمنعون حقوق الله عدواناً.. كل ذلك ظنّاً منهم أن تلك الأعمال هي التي توفر لهم المعيشة، وهي التي تهيئ لهم الرزق.

              ولذا قال القرآن الحكيم، تنديداً بهم: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). إن من لا ينسى دودة عمياء في جوف صخرة صمّاء، تحت مياه ظلماء، كيف ينسى الإنسان؟ وهل يمكن أن يحتاج الإنسان، لرزقه، إلى عمل الحرام؟ كلا! فمن خلق الإنسان يعطي ويرزق.

              * * *

              لقد كان (لسليمان الريح عاصفة) فكانت تعصف لتحمل بساط سليمان إلى حيث يشاء، فكانت الريح (تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها) أي جعلنا فيها البركة بإرسال الأنبياء، وبكثرة الثمار والأشجار والأنهار، وعذوبة الهواء ـ وهي أرض الشام، كما في بعض التفاسير ـ .

              (وكنّا بكل شيء عالمين) ومن علمنا وحكمتنا أعطينا سليمان هذا البساط ليعرف الناس بعض قدرة الله تعالى، وليروا آثار ملكه.

              (و) سخّرنا له (من الشياطين) والجِنة(3) (من يغوصون له) في أعماق البحار ليخرجوا الدّر واللؤلؤ والمرجان وسائر الأحجار الكريمة الموجودة في أعماق البحار.

              والشيطان والجنّ هنا بمعنى واحد: فإنه جسمٌ لطيف لا تراه العين المجرّدة، يسمّى شيطاناً لشيطنته وسرعة تقلّبه في الأمور، كما يسمّى (جنّاً) لستره عن الأبصار(4).

              (ويعملون عملاً دون ذلك) أي اسهل من الغوص في أعماق البحار البعيدة (وكنّا لهم) أي للشياطين (حافظين) لئلا يهربوا من سليمان أو يفسدوا عليه.. (و) قد كانوا يعملون له ما يشاء من (محاريب) للعبادة (وتماثيل) أي بمثال الأشجار وما أشبه (وجفان) جمع جفنة، وهي الآنية الكبيرة (كالجواب) أي كانت كل جفنة كالحوض الكبير، فإن (جواب) جمع جابية، وهي الحوض الكبير (وقدور راسيات) ثابتات في الأرض، القدور لأجل طبخ الطعام للجيش والناس، والجفان لأجل الإطعام (وأسلنا له عين القطر) أي أذبنا لسليمان عين النحاس، فكان كالماء المذاب، يصنعون به ما يشاءون.

              وربما كان الجن يهربون من سليمان أو يريدون الإفساد، فـ(من يزغ) وينحرف (منهم) أي من أولئك الجن المسخرين لسليمان (عليه السلام) (عن أمرنا) فقد كان سبحانه أمر الجن بإطاعة سليمان (نذقه من عذاب السعير) فقد ورد أن الله سبحانه وكّل بالجن العاملين لسليمان، ملكاً بيده سوطٌ من نار، فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان، ضربه ضربةٌ تحرقه.

              وبعد ما أنعم الله تعالى، لسليمان بهذه النعم العظيمة، وكذلك أنعم على أقربائــه، بنعمة سليمان، ونعمة داود، قال لهم: (اعملوا آل داود شكراً).

              قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كانوا ثمانين رجلاً، وسبعين امرأة، ما اغب المحراب رجلٌ واحدٌ منهم يصلّي فيه)(5) فلم يكونوا يتركون المحراب والصلاة فيه، بل كانوا دائمي العبادة والطاعة.

              وعمل الشكر؛ أعمّ من الشكر باللّسان، وإظهار الطاعة بالجوارح، والعقيدة الراسخة في القلب، بالنسبة إلى الله تعالى ولطفه، جميل صنعه.

              * * *

              قد عرفت في هذه القصّة الشيّقة كيف كان سليمان (عليه السلام) نبيّا عظيماً، وملكاً، وزاهداً.

              ولعل من أسرار جمع الله لسليمان بين النبوة والملك، تعليم الملوك، وهداية المهتدين: أن لا منافاة بين الدنيا والدين، فرجل الدين يتمكّن أن يدير البلاد، ورجل الملك يتمكن أن يرشد الناس.

              وقد كان يوسف الصديق (عليه السلام)، أيضاً نبّياً وملكاً، وكان نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّاً ويدير أمن البلاد ويصلح شأن الدنيا.

              أمّا معجزات سليمان، وما أوتي من القوة والقدرة، وتسخير الجن وما أشبه ذلك.. فكلّها هيّنة بالنسبة إلى قدرة الله تعالى، إنه سبحانه الخالق القادر الذي بيده كل مفتاح، وهو على كل شيء قدير، وقد شاءت حكمته أن يجعل مقاليد بعض أجزاء الكون في يد نبيه سليمان (عليه السلام) ليكون آية لنبوّته، كما كانت ناقة صالح، وعصا موسى، وإحياء عيسى للموتى، ونار إبراهيم عليهم السلام، آيات دالّة على صدق نبوة هؤلاء الأنبياء.



              1 ـ وسائل الشيعة: ج3، ص341.

              2 ـ توصل العلم الحديث إلى بعض ما أراد، راجع كتب (نوفل).

              3 ـ الجِنة: جمع جني.

              4 ـ قد عرف العلم الحديث: (التحضير، والتنويم) لهذا الموجود العجيب.

              5 ـ بحار الأنوار: ج14، ص71.

              تعليق

              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
              حفظ-تلقائي
              x

              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

              صورة التسجيل تحديث الصورة

              اقرأ في منتديات يا حسين

              تقليص

              لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

              يعمل...
              X