العلمانية في تركيا
لقد طبّق الإستعمار في العالم الإسلامي مستويين من العلمانية: في العالم العربي وسائر أنحاء العالم الإسلامي علمانية معتدلة، وفي تركيا الكمالية علمانية متطرفة.لقد بقي للإسلام في العالم العربي قوانين الأحوال الشخصية ( وهذه زالت في السنين الأخيرة في بعض الدول العربية: تونس، ...) والتعليم الديني في المرحلة الإبتدائية والمرحلة الثانوية ( بصورة جزئية وتمويل شعبي) أما في الجامعات فلا يوجد تعليم ديني علة الإطلاق، مع ملاحظة أن بعض المواد ( التاريخ، علم الأحياء) تدرس بروح مغايرة للدين وللأمانة العلمية في كثير من الحالات. ونفوذ ثقافي محدود يعتمد على إمكانات فردية أو مؤسسية ضعيفة غالباً(كتب، مجلات دينية، حفلات ومهرجانات دينية، منشورات) هذا إلى جانب حصة لا تكاد تذكر في الإعلام الرسمي للمناسبات الدينية كخطب الجمعة وما إليها .
وفي تركيا أعلن حكامها بقيادة أتاتورك في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بعد إلغاء الخلافة الإسلامية، علمانية الدولة التركية، فألغى إعتماد الشريعة الإسلامية في القانون والقضاء، وأدى ذلك إلى إلغاء قوانين الأحوال الشخصية بطبيعة الحال. والغي التعليم الديني وتعليم تلاوة القرآن، بل غدا ذلك محرماً بحكم القانون، ووألغى إعتماد الحرف العربي في الكتابة التركية واعتمد بدلاً منه الحرف اللاتيني، وبالإجمال: لم يترك شيئاً يصل تركيا المسلمة بدينها الإسلامي والعالم إلا وقضى عليه أو وضع الخطط للقضاء عليه، تحت شعار (( التغريب)) وإلحاق تركيا بالغرب وقطع صلاتها بالشرق والعالم الإسلامي والعالم العربي .
لماذا اتجهت تركيا هذه الوجهة؟ وما الأهداف التي ابتغت القيادة التركية الوصول إليها من وراء هذا العمل، وماذا حققت هذه العلمانية لتركيا بعدما يزيد على نصف قرن من العمل بها؟
لقد كان في القيادات التركية رجال حاقدون على العروبة والإسلام ، لهم أصول دينية غير إسلامية هم اليهود والذين دخلوا في الإسلام في وقت ما وتغلغلوا في الإدارة العثمانية، وقادوا جانباً من الحياة السياسية السريّة في الدولة العثمانية، وكان في القيادة التركية إلى جانب هؤلاء رجال أخذ بألبابهم البريق الساطع لأوروبا: تنظيمها، علمها، قوتها، واستسلموا لدعاية تقول: إن كل ذلك من إنسلاخ أوروربا عن دينها وعن تقاليدها وأخذها بأسباب العلمانية .
وقد كان الغرب يريد أن ينصب في العالم الإسلامي، في مركز الخلافة منه، النموذج الحياتي الغربي المضاد للإسلام ليستهوي بذلك الدويلات التي كان قد عزم على تكوينها في العالم العربي، الذي يشكل قلب الإسلام الحضاري والتشريعي والفكري، والذي لم يكن لذلك، من السهل عزله عن تراثه الإسلامي واقتلاعه من جذوره دفعة واحدة على نحو ما حدث في تركيا، فتكون تركيا نموذجاً دعائياً يساهم في تكوين المناخ الفكري الملائم لتطبيق العلمانية في سائر أنحاء العالم العربي، وبذلك يسهل عليه الوصول إلى هدفه الذي أشرنا إليه سابقاً وهو الذي يرتكز- منذ الإسكندر - على الحقيقة التالية: (( إن إستعماراً لا يغيّر البنية الثقافية والتشريعية في الشعوب المستعمرة، لا يمكن أن يستمر..)).
هذا بالنسبة إلى العالم العربي، أما بالنسبة إلى العالم الإسلامي غير العربي فقد كان المقصود إعطاء نموذج يحقق بالإضافة إلى الهدف الآنف الذكر عزل هذه الشعوب الإسلامية عن اللسان العربي، وعن الثقافة العربية، ومن ثم التأثير العربي، ومن ثم يفقد العالم العربي عمقه الإسلامي فيضعه في مواجهة التحديات والخطط المرسومة له، ويعزل العالم الإسلامي- كل دولة منه على إنفراد - عن عمقها العربي فيفقدها بذلك الدعم السياسي والمعنوي، ويستفرد كل شعب دون أن يخشى إعتراضاً من أحد، ويكون بذلك قد أفقد العالم العربي مركزه الفريد العظيم بإعتباره القلب والعقل في حضارة عالمية وثقافة عالمية. ويتجه الجهد، بعد ذلك، إلى تنمية السمات الخاصة بثقافة كل شعب على إنفراد بل يتجه الجهد إلى محاولة عزل بعض العالم العربي عن بعضه الآخر بتنمية اللهجات العامية في كل قطر بحيث تنمو لكل قطر ثقافته ذات المقوّمات الإقليمية الخاصة وتكتب هذه الثقافة بلهجة تختلف عن لهجة القطر الآخر، وهكذا يتم التفتيت الثقافي والروحي للعالم العربي، بعد أن تم تفتيته جغرافياً، وإدارياً، وسياسياً، وتشريعياً ..
إن دفع تركيا نحو العلمانية من قبل الغرب، واستثمار بعض القوى الحاكمة المنحرفة فيها في ذلك الحين،كان جزءاً من خطة واسعة النطاق، بعيدة الأهداف، تتجاوز تركيا نفسها لتصيب بآثارها الملائمة للغرب وللشرق، العالم العربي كله، ومن ورائه العالم الإسلامي ، والحديث عن تفصيل ذلك طويل لا تتسع له هذه المعالجة اللإإقتصادية والعسكرية. إنها في الحقيقة لم تحقق لم تحقق مستويات أعلى مما حققه غيرها، ومعدلات النمو فيها ليست أعلى من معدلات النمو في غيرها، ولا يزال إقتصادها متخلّفاً كإقتصادغيرها، وربما أكثر تخلّفاً في بعض الحالات.. هذا إلى جانب ما سببت العلمانية من تمزقات لا زالت حية تنزف حتى الآن في جسم المجتمع التركي بين القاعدة الشعبية العريضة الحريصة على إيمانها وقيمها وبين القلة القليلة الماضية في التقليد والإتباع للغرب مضحية بأصالتها سعياً وراء حداثة لم تنفعها شيئاً بدون الأصالة والأمانة للجذور العقيدية والتاريخية والحضارية هذا من جهة، ومن جهة أخرى: الإنفصام بين معظم الشعب وبين قياداته السياسية التي كانت مضطرة في غالب الأحيان إلى مصادرة الحرية، وهدر الكرامة الإنسانية قي سبيل حمل الشعب على الأخذ بصيغة العلمنة والتحديث الغربي دون جدوى .. ومع ما رافق ذلك من المساخر المضحكة التي نتجت عن بعض تطبيقات (التغريب) كتوحيد الزي وما إلى ذلك من تطبيقات .
_______________________________
من كتاب ((العلمانية)) للمقدس الإمام محمد مهدي شمس الدين

تعليق