لماذا يعشق الناس الروايات البوليسية؟ (۱-۲)
من الفروق الواضحة بين الروايات البوليسية والادب ان العلاقة بين القراء وهذه الروايات علاقة مؤقتة. تستمر فقط خلال مدة القراءة ثم ما تلبث ان تنقطع عقب الانتهاء من قراءة كتاب، باعتبار ان اللهاث وراء متابعة سطور الكتاب نابع من السعي لمعرفة الفاعل، وما ان يتم ذلك حتى تفقد الرواية جذوتها، اشبه بعيدان الثقاب، من الصعب، بل من المستحيل اشعالها مرة اخرى الا عن طريق مصدر حراري مشتعل، ولا يمكن لقارئ ان يعاود قراءة الرواية نفسها بالمتعة نفسها. مثلما قال فولتير عن متعته في قراءة (الف ليلة وليلة) بانه ليته اصيب بداء النسيان كي يعاود القراءة مرة ومرات.
فالقارئ للادب قد يقرأ رواية من طراز (الجريمة والعقاب) اكثر من مرة، ويشعر في كل منها بالمتعة نفسها، رغم ان الرواية هنا عن جريمة قتل مرابية، ومحاولة ضابط التحقيق التعرف على القاتل، والقبض عليه، وفي هذه الرواية هناك توغل في اعماق النفس البشرية لراسكولنيكوف، وتاصيل علاقته بالفتاة سونيا، ومعرفة دوافع الجريمة، اما العواطف في الروايات البوليسية فهي تبدو كلاسيكية وقليلا ما يتوغل كاتب في النفس البشرية.
وهذا يقودنا الى الحديث عن فروق واضحة بين روايات الجريمة، والرواية البوليسية، ويمكن الاتفاق على ان رواية الجريمة هي التي تعرف في المقام الاول اسم القاتل، ودوافعه، او اسم المجرم، والاسباب التي دفعته لارتكاب جريمته، وقد يكون في هذه الروايات رجل شرطة يسعى للقبض على المجرم، مثلما حدث في رواية دوستويفسكي، اما اغلب الروايات البوليسية، فان القاتل او المجرم لا يظهر سوى في الصفحات الاخيرة، لذا تعد روايات آرثر كونان دويل، واجاثا كريستي ورايموند شاندللر وجورج سيمنون من الروايات البوليسية، اما روايات الجريمة فهي اقرب الى الادب وتكاد الجريمة تكون موجودة في كتابات الكثير من الادباء العالميين والعرب.
رغم ان الجريمة نشاط انساني قديم قدم البشر، ورغم ان الشرطة موجودة في البلاد والحضارات منذ بداية الخليقة، فانه تبعا لان الرواية فن معاصر، فان اغلب ادباء الرواية البوليسية قد كتبوا اعمالهم لتدور احداثها في العصور التي عاشوا فيها، وقليلون هم الكتاب الذين عادوا الى عصور قديمة لجعل الجرائم والقصص البوليسية تدور في اطارها. وعلى سبيل المثال فان روكامبول قد عاش في زمن الكاتب نفسه يوانسون دي تيرايل، وكذلك عاش آرسين لوبين في زمن موريس لبلان (۱۸۶۴-۱۹۴۱) وشرلوك هولمز في زمن آرثر كونان دويل (۱۸۵۹-۱۹۳۰) اما الشخصيات التي صنعها كل من شاندللر، وجاردنر فقد عاشت في ازمنتهم، وقد حاولت اجاثا كريستي ان تهرب من القصص البوليسية المعاصرة، وتبعا لشغفها بالتاريخ فقد جعلت بعض رواياتها تدور في التاريخ الفرعوني على سبيل المثال، وذلك لولعها الشديد بهذا التاريخ بوصفها قد صاحبت زوجها عالم الآثار الذي جاء الى مصر والعراق للبحث. واستلهمت من هذا العالم اجمل كتاباتها البوليسية. مثل (جريمة على نهر دجلة) و(موعد في بغداد) و(جريمة على النيل).
وبشكل عام، فانه حتى بالنسبة للكتاب الذين كتبوا عن التاريخ، فانهم قد حولوا هذا التاريخ الى ديكور تدور في احداثه الجريمة، واثبتوا ان السلوك البشري لم يختلف مع اختلاف العصور، والحضارات، فدوافع القتل لم تتغير، والبشر الذين استعملوا ادوات القتل البدائية الى الصواريخ والطائرات قد تفننوا في القتل، واستخدموا اسباب الحضارة للتخلص من بعضهم مثلما استخدمها بعضهم في الرفاهية.
وفي الشهر الماضي اعلنت نتائج اول مسابقة من نوعها، في اوروبا، حيث تم تشكيل لجنة اعطاء ست جوائز، لاهم ست روايات تنتمي الى هذا النوع، نشرت، وترجمت في اوروبا خلال العام ،۲۰۰۴ كان عدد الروايات التي تم فحصها قد وصل الى ۱۲۲۸ رواية، وهو عدد يعكس الى اي حد تزدهر هذه الروايات، وتلقى قبولا ملحوظا من القراء.
تمت تصفية هذا العدد من الروايات اولا الى ثمانين رواية، ثم وصلت التصفية النهائية الى ست روايات، واعلنت النتيجة ان احسن كاتبة رواية بوليسية هي البريطانية لورا ويلسون، وكانت الايطالية لورا قد فازت بجائزة احسن كاتبة للرواية البوليسية عام ،۲۰۰۳ ثم فاز بالجائزة عام ،۲۰۰۴ الكاتب البريطاني بيل جيمس.
نحن اذن امام ظاهرة، لا تعرف الاستثناء، فاهم من يكتب الرواية البوليسية هم البريطانيون، واهم من يبدعها هم النساء، وقد اثبتت لورا ويلسون انها ورثت موهبة من النساء اللاتي تتلمذت عليهن بقوة، فلورا المولودة عام ،۱۹۷۰ ماهرة في استخدام المفردات المألوفة، الموجودة في جميع الروايات البوليسية وتعيد نسجها بطريقتها الخاصة.
تتمثل هذه المفردات فيما يأتي: اجواء خريف، حيث الضباب، والمطر، وظلال النهار، والشمس الغائبة، ثم هناك الجرحى، وبعض الموتى، ومدينة متسعة، لا يكاد احد يعرف جاره، وعلامات جنون الحياة اليومية، وصخب، وعاهرات في احياء الدعارة، ومحلات مغلقة، ودكاكين على اهبة الاغلاق، وربما اطفال، لكن هناك نساء بلا غد وقتلة يحملون ادوات الجريمة داخل الملابس، وجثث بنات ليل، وضحايا لسفاح المدينة، الرواية الفائزة بجائزة الاحسن في هذه الروايات الكثيرة العدد، تحمل اسم (بليتز) تبدأ احداثها يوم التاسع عشر من تشرين الاول عندما يتم اكتشاف جثة ممزقة، ثم ترجع بنا المؤلفة الى قبل هذا التاريخ بخمسة اسابيع، وابطال الرواية هم ثلاثة اشخاص لا يمكن لهم ان يتقابلوا الا من اجل ممارسة جريمة.
من هؤلاء الشخصيات الثلاثة هناك لوسي وهي فتاة حالمة رقيقة، كل ما تأمله قصة حب بالغة النقاء، وهناك ايضا الضابط جيم، احد الابطال في الرياضة، وهو رجل ازرق العينين، ويحب الصيد، وهو رجل حر لكنه هو الذي يرتكب جريمة قتل، كما ان هناك امرأة تدعى (رين) تتلقى تهديدات بالقتل من شخص تحبه.
وليست الرواية عن ضابط شرطة يقوم بتحقيق، ولكن كل ما يفعله هو ان يسأل المشبوهين، بل ان هؤلاء الاشخاص يعترفون للقارئ بما ارتكبوه، حتى القتيلة نفسها، يحكي كل منهم عن متاعبه، وافراحه، ووساوسه، فالنساء يحببن جيم، في الوقت الذي يحس فيه انه رجل شديد الخطورة.
تقول المؤلفة انها استوحت هذه الرواية من احداث حقيقية، دارت في عام ۱۹۴۲ حين قام ضابط شاب في الثامنة والعشرين من العمر يطلق عليه اسم (الدوق) بسبب جذوره الارستقراطية، بقتل اربع نساء، والاعتداء على اثنتين اخريين خلال يومين فقط، وتم القبض عليه، وصدر ضده حكم الاعدام، وسرعان ما نسيت قصته، ولكن لورا ويلسون اعادت تفتيش اوراق القضية وراحت تكتبها من جديد.
من الفروق الواضحة بين الروايات البوليسية والادب ان العلاقة بين القراء وهذه الروايات علاقة مؤقتة. تستمر فقط خلال مدة القراءة ثم ما تلبث ان تنقطع عقب الانتهاء من قراءة كتاب، باعتبار ان اللهاث وراء متابعة سطور الكتاب نابع من السعي لمعرفة الفاعل، وما ان يتم ذلك حتى تفقد الرواية جذوتها، اشبه بعيدان الثقاب، من الصعب، بل من المستحيل اشعالها مرة اخرى الا عن طريق مصدر حراري مشتعل، ولا يمكن لقارئ ان يعاود قراءة الرواية نفسها بالمتعة نفسها. مثلما قال فولتير عن متعته في قراءة (الف ليلة وليلة) بانه ليته اصيب بداء النسيان كي يعاود القراءة مرة ومرات.
فالقارئ للادب قد يقرأ رواية من طراز (الجريمة والعقاب) اكثر من مرة، ويشعر في كل منها بالمتعة نفسها، رغم ان الرواية هنا عن جريمة قتل مرابية، ومحاولة ضابط التحقيق التعرف على القاتل، والقبض عليه، وفي هذه الرواية هناك توغل في اعماق النفس البشرية لراسكولنيكوف، وتاصيل علاقته بالفتاة سونيا، ومعرفة دوافع الجريمة، اما العواطف في الروايات البوليسية فهي تبدو كلاسيكية وقليلا ما يتوغل كاتب في النفس البشرية.
وهذا يقودنا الى الحديث عن فروق واضحة بين روايات الجريمة، والرواية البوليسية، ويمكن الاتفاق على ان رواية الجريمة هي التي تعرف في المقام الاول اسم القاتل، ودوافعه، او اسم المجرم، والاسباب التي دفعته لارتكاب جريمته، وقد يكون في هذه الروايات رجل شرطة يسعى للقبض على المجرم، مثلما حدث في رواية دوستويفسكي، اما اغلب الروايات البوليسية، فان القاتل او المجرم لا يظهر سوى في الصفحات الاخيرة، لذا تعد روايات آرثر كونان دويل، واجاثا كريستي ورايموند شاندللر وجورج سيمنون من الروايات البوليسية، اما روايات الجريمة فهي اقرب الى الادب وتكاد الجريمة تكون موجودة في كتابات الكثير من الادباء العالميين والعرب.
رغم ان الجريمة نشاط انساني قديم قدم البشر، ورغم ان الشرطة موجودة في البلاد والحضارات منذ بداية الخليقة، فانه تبعا لان الرواية فن معاصر، فان اغلب ادباء الرواية البوليسية قد كتبوا اعمالهم لتدور احداثها في العصور التي عاشوا فيها، وقليلون هم الكتاب الذين عادوا الى عصور قديمة لجعل الجرائم والقصص البوليسية تدور في اطارها. وعلى سبيل المثال فان روكامبول قد عاش في زمن الكاتب نفسه يوانسون دي تيرايل، وكذلك عاش آرسين لوبين في زمن موريس لبلان (۱۸۶۴-۱۹۴۱) وشرلوك هولمز في زمن آرثر كونان دويل (۱۸۵۹-۱۹۳۰) اما الشخصيات التي صنعها كل من شاندللر، وجاردنر فقد عاشت في ازمنتهم، وقد حاولت اجاثا كريستي ان تهرب من القصص البوليسية المعاصرة، وتبعا لشغفها بالتاريخ فقد جعلت بعض رواياتها تدور في التاريخ الفرعوني على سبيل المثال، وذلك لولعها الشديد بهذا التاريخ بوصفها قد صاحبت زوجها عالم الآثار الذي جاء الى مصر والعراق للبحث. واستلهمت من هذا العالم اجمل كتاباتها البوليسية. مثل (جريمة على نهر دجلة) و(موعد في بغداد) و(جريمة على النيل).
وبشكل عام، فانه حتى بالنسبة للكتاب الذين كتبوا عن التاريخ، فانهم قد حولوا هذا التاريخ الى ديكور تدور في احداثه الجريمة، واثبتوا ان السلوك البشري لم يختلف مع اختلاف العصور، والحضارات، فدوافع القتل لم تتغير، والبشر الذين استعملوا ادوات القتل البدائية الى الصواريخ والطائرات قد تفننوا في القتل، واستخدموا اسباب الحضارة للتخلص من بعضهم مثلما استخدمها بعضهم في الرفاهية.
وفي الشهر الماضي اعلنت نتائج اول مسابقة من نوعها، في اوروبا، حيث تم تشكيل لجنة اعطاء ست جوائز، لاهم ست روايات تنتمي الى هذا النوع، نشرت، وترجمت في اوروبا خلال العام ،۲۰۰۴ كان عدد الروايات التي تم فحصها قد وصل الى ۱۲۲۸ رواية، وهو عدد يعكس الى اي حد تزدهر هذه الروايات، وتلقى قبولا ملحوظا من القراء.
تمت تصفية هذا العدد من الروايات اولا الى ثمانين رواية، ثم وصلت التصفية النهائية الى ست روايات، واعلنت النتيجة ان احسن كاتبة رواية بوليسية هي البريطانية لورا ويلسون، وكانت الايطالية لورا قد فازت بجائزة احسن كاتبة للرواية البوليسية عام ،۲۰۰۳ ثم فاز بالجائزة عام ،۲۰۰۴ الكاتب البريطاني بيل جيمس.
نحن اذن امام ظاهرة، لا تعرف الاستثناء، فاهم من يكتب الرواية البوليسية هم البريطانيون، واهم من يبدعها هم النساء، وقد اثبتت لورا ويلسون انها ورثت موهبة من النساء اللاتي تتلمذت عليهن بقوة، فلورا المولودة عام ،۱۹۷۰ ماهرة في استخدام المفردات المألوفة، الموجودة في جميع الروايات البوليسية وتعيد نسجها بطريقتها الخاصة.
تتمثل هذه المفردات فيما يأتي: اجواء خريف، حيث الضباب، والمطر، وظلال النهار، والشمس الغائبة، ثم هناك الجرحى، وبعض الموتى، ومدينة متسعة، لا يكاد احد يعرف جاره، وعلامات جنون الحياة اليومية، وصخب، وعاهرات في احياء الدعارة، ومحلات مغلقة، ودكاكين على اهبة الاغلاق، وربما اطفال، لكن هناك نساء بلا غد وقتلة يحملون ادوات الجريمة داخل الملابس، وجثث بنات ليل، وضحايا لسفاح المدينة، الرواية الفائزة بجائزة الاحسن في هذه الروايات الكثيرة العدد، تحمل اسم (بليتز) تبدأ احداثها يوم التاسع عشر من تشرين الاول عندما يتم اكتشاف جثة ممزقة، ثم ترجع بنا المؤلفة الى قبل هذا التاريخ بخمسة اسابيع، وابطال الرواية هم ثلاثة اشخاص لا يمكن لهم ان يتقابلوا الا من اجل ممارسة جريمة.
من هؤلاء الشخصيات الثلاثة هناك لوسي وهي فتاة حالمة رقيقة، كل ما تأمله قصة حب بالغة النقاء، وهناك ايضا الضابط جيم، احد الابطال في الرياضة، وهو رجل ازرق العينين، ويحب الصيد، وهو رجل حر لكنه هو الذي يرتكب جريمة قتل، كما ان هناك امرأة تدعى (رين) تتلقى تهديدات بالقتل من شخص تحبه.
وليست الرواية عن ضابط شرطة يقوم بتحقيق، ولكن كل ما يفعله هو ان يسأل المشبوهين، بل ان هؤلاء الاشخاص يعترفون للقارئ بما ارتكبوه، حتى القتيلة نفسها، يحكي كل منهم عن متاعبه، وافراحه، ووساوسه، فالنساء يحببن جيم، في الوقت الذي يحس فيه انه رجل شديد الخطورة.
تقول المؤلفة انها استوحت هذه الرواية من احداث حقيقية، دارت في عام ۱۹۴۲ حين قام ضابط شاب في الثامنة والعشرين من العمر يطلق عليه اسم (الدوق) بسبب جذوره الارستقراطية، بقتل اربع نساء، والاعتداء على اثنتين اخريين خلال يومين فقط، وتم القبض عليه، وصدر ضده حكم الاعدام، وسرعان ما نسيت قصته، ولكن لورا ويلسون اعادت تفتيش اوراق القضية وراحت تكتبها من جديد.

