وقائع من عملية «الوعد الصادق»
إبراهيم الامين
صحيفة الاخبار اللبنانية -12/7/2007
بعـد أقـلّ مـن 6 سنـوات تكـرّر سـيناريو شــبعا الـ2000... لكـن بنـجاح تـام!
يوم 12 تموز، لم يكن الاستنفار على الحدود شبيهاً بما سبقه. انتبه حزب الله إلى أن إسرائيل صارت تدقّق في أشياء كثيرة، وتتحدّث عن «إشارات إلى نية حزب الله القيام بشيء». أمّا من جهة المقاومة، فكان كلّ شيء جاهزاً: سيارات النقل وغرفة العمليات الطبية وغرفة الأسر... والثلاجات لمن يقتل في المعركة.
في غرفة العمليات المركزية، جلس الحاج (ا. م) والى جانبه قائد الوحدات البرية الحاج (م) و مسؤول القطاع الأول الحاج (ج) وآخرون من وحدة الاستخبارات الميدانية في المقاومة. على الطاولة الخشبية كانت بضعة فناجين من الشاي وفاكهة صيفية. لم يتوقف (م) عن إطلاق النكات. كان عليه أن يتذكر أنه نجا للمرة العاشرة بعد المئة من عملية رصد يقوم بها العدو له في المنطقة الحدودية. لكن أعباء المهمة تفرض حركة مكثفة هذه الأيام.
قال ( ا.م): «لقد التزم السيد حسن مجدداً أمام الجمهور بأن عملية أسر سوف تحصل. هذا يلزمنا بعمل إضافي لتحقيق الهدف والحصول على النتيجة المطلوبة: أسر جنود تهتم إسرائيل لأمرهم (أي ليسوا من أصول عربية) وهم أحياء».
منذ وقت غير قصير والاستعدادات لعمل من هذا النوع لم تلامس النجاح الكامل. في بعض الأحيان، كان الهدف يتحرك في منطقة تحتاج الى ترتيبات عملانية معقدة. وفي أحيان أخرى، كانت التحذيرات العلنية من جانب المقاومة تفرض استنفاراً دائماً لجنود العدو. لكن ذلك لا يمنع من التدقيق في الإجراءات وصولاً الى الثغرة التي يمكن النفاذ منها. هكذا هي معادلات المقاومة: كل إجراء للعدو فيه ثغرة، والمهم تشخيصها بدقة وعدم ارتكاب أي خطأ في التقدير ولا في التوقيت.
في أذهان القادة تجري مراجعة دائمة بشأن التجارب السابقة. آخر المهمات الكبرى، كانت في بلدة الغجر. أعدت المجموعات لتنفيذ عملية من النوع الجديد. اقتحام صاعق لمواقع ثابتة، تحت تغطية غير مسبوقة من القصف المدفعي المركز والشامل لكل نقاط التحرك من جانب العدو. كان المئاتمن المقاتلين في وضعية استعداد لتنفيذ أضخم عمليات الاقتحام. سيارات مدنية ذات طابع عسكري جهزت بالقرب من المكان دون أن يلتفت أحد للأمر. فرضت المقاومة حركة روتينية لمقاومين وسيارات حتى صار المشهد مملاً: مقاومون يرصدون بصورة رتيبة المشهد المقبل، يتهامسون ثم يختفون.
يوم تقرر تنفيذ الهجوم، احتاج المقاومون لدقائق معدودة لكي ينجحوا في شل حركة كل المواقع الاسرائيلية في المنطقة والتلال المشرفة عليها. كان القصف عنيفاً وكثيفاً جداً. وكان رماة الصواريخ المضادة للدروع يحرقون الآليات العسكرية على شكل لعبة «أتاري» كما قال السيد نصر الله لاحقاً. ثم اقتحم مقاومون بسيارات رباعية الدفع وعلى دراجات نارية المكان. وحمل أحدهم للمرة الاولى في تاريخ المقاومة سلاحاً جديداً هو «ب ـ 29» وهو الجيل الجديد من السلاح الروسي التقليدي «ب ـ 7». الرشاشات لا تتوقف عن إطلاق النار في اتجاه الدشم والكمائن المفترضة. لكن خللاً برز في عملية الرصد. وأدى إلى نشوب مواجهة غير محسوبة. مرت دقائق قبل أن تقع مجموعة من المقاومين في كمين أدى الى استشهاد أربعة منهم.
الاتصالات مع القيادة المركزية أشارت الى الفشل. جرى العمل بسرعة على سحب مجموعة العمليات من أرض المعركة، فيما بقيت مجموعات الجهوزية الخاصة بمواجهة أي ردة فعل للعدو في حالة استنفار قصوى. في هذا الوقت، كان الإسرائيليون يتفقدون جنودهم عبر اتصالات لاسلكية مكثفة، وكعادته تأخر الطيران للوصول الى المنطقة. وعندما تلقت قيادة المنطقة الشمالية أنباء المواجهات والنتائج، تأكدت من أن أي جندي لم يفقد. تنفس قادة العدو الصعداء. وقرروا الرد موضعياً. مرت ساعات قليلة وعاد الهدوء الى المكان.
مر وقت طويل على عملية الغجر. عملية استخلاص العبر تكثفت لدى قيادة المقاومة. السيد نصر الله الذي لطالما واجه أوضاعاً من هذا النوع، وقف على خاطر المسؤولين عن العملية. وعلى طريقته، أكثر من «الحمد لله سائلاً إياه العون على إنجاح مهمة أخرى». أما القادة المعنيون فلم يفارقهم التوتر لأيام طويلة. كان الوجوم قائماً، وإن رافق مراجعة سريعة والبدء بالعمل من جديد.
بعد الخامس والعشرين من أيار عام 2000، باشر المقاومون عملية رصد للحافة الأمامية الجديدة. كانت الثغر كبيرة في حركة جنود العدو. لكن تحذيرات قيادة المقاومة العلنية إزاء الأسر كانت أكثر حضوراً، والإجراءات الاحترازية لم تكن كافية لسد الثغر. وبعد شهور قليلة من المراقبة اللصيقة، حددت نقطة العملية الشهيرة عند بوابة شبعا قرب بركة النقار. يومها جرت عملية كلاسيكية. مرت مركبة معادية وفجرت بها عبوة ناسفة كبيرة. الانفجار الكبير دمر السيارة غير المصفحة بخلاف ما هو متوقع. قتل الجنود لكن جثثهم حُملت على وجه السرعة في سيارة نقل رباعية الدفع. وخلال أقل من نصف ساعة، كان كل شيء قد انتهى.
أقل من ستّ سنوات مرت على تلك العملية. بدا من الوقائع الميدانية بعد عملية الغجر، أن استنفار العدو ارتفع الى مستويات غير مسبوقة. كان على المقاومين إنهاك جنود العدو دون توقف. عمليات التحرش المنظمة بالسلك الالكتروني فرضت على دوريات العدو عدم التوقف عن عمليات التفقد. كانت هناك حاجة كبيرة لمراقبة آلية العمل من جانب العدو: نوع السيارات المستخدمة، عدد الجنود في كل منها، الحركة الروتينية أو المفاجئة، هامش المناورة أمام الجنود وآلية الاتصال بينهم وبين قيادتهم، ومستوى الاستعداد القتالي. وكيفية التصرف إزاء ما يحصل على السياج. اختبارات كثيرة حصلت. وعندما وجدت قيادة المقاومة أنه لا مناص من توسيع رقعة العمل، كانت الطبيعة عاملاً مساعداً في القطاع الغربي من الجبهة. ومر وقت قبل أن تتأكد قيادة المقاومة من أن هناك فرصة جدية لتنفيذ عملية خاطفة. كانت الصورة واضحة في أن العمل سوف يكون مشابهاً بقوة لعملية شبعا الشهيرة. ليس مطلوباً القيام بعمل عسكري اقتحامي كبير. ولكن المطلوب عملية ذات بعد أمني. ما يعني أن على وحدة الرصد أن تقدم المعلومات الكافية التي تمنع أي نوع من المفاجآت. وحقيقة أن الهدف هو أسر جنود أحياء، فرضت آلية من العمل العسكري. لم يكن على المقاومين عدم إطلاق رصاصات قاتلة ضد الجنود، ولكن كان عليهم استخدام آليات من العمل التي تتيح قتل البعض وترك البعض الآخر على قيد الحياة. وبالتالي فإن درس عملية شبعا النظري مهم في هذه اللحظة: إعطاب آلية دون قتل من بداخلها، وتدمير آليات الدعم وقتل من يتحرك لنجدتها.
مرت أسابيع عدة على المراقبة اللصيقة للنقطة. ذات يوم عبر المنطقة ضابط إسرائيلي برتبة عالية،هو اودي ادم ، لم يكن وحده، بل كانت معه عائلته. ولم يكن هدفاً جدياً في تلك اللحظة. المقاومون الذين دربوا على تنفيذ الهجوم، وأعدوا له ما يجب من أسلحة وخطط هجومية وأدوات، باتوا لياليهم الطويلة وراقبوا لنهارات عدة قبل أن تظهر في الأفق ملامح الهجوم الناجح. كانت المعطيات الاستخبارية لدى المقاومة تشير الى اقتراب لحظة التبديل في عمل الكتائب المنتشرة هناك. كانت نقطة العملية قد تحولت الى نقطة أكثر ضعفاً من الفترة السابقة. الاسترخاء ظهر على حركة الجنود وقيادتهم، وموعد التبديل اقترب. لكن المفاجأة جاءت على شكل معلومة وردت الى قيادة المقاومة، بأن الكتيبة الدرزية سوف تتولى المهمات خلال 48 ساعة. وهذا يعني أن العملية قد تنجح، ولكن الجنود المفترض أن يقعوا في الأسر سوف يكونون من أصول عربية، كانت المقاومة تبحث عن صيد من صنف آخر. ما استدعى الاستنفار بطريقة مختلفة.
يوم 12 تموز، لم يكن الاستنفار على الحدود شبيهاً بما سبقه. انتبه حزب الله إلى أن إسرائيل صارت تدقّق في أشياء كثيرة. وفي كل مرة ينوي الحزب القيام بعمل ما، كان عليه إبلاغ جميع نقاط المراقبة والمراكز العلنية بوجوب الإخلاء، . كبر جسم المقاومة، وباتت الحركة غير قادرة على الإخفاء كلياً. وتحدث الاسرائيليون كثيراً عن «إنذارات أو إشارات الى نية حزب الله القيام بشيء». كان البعض يعتقد ولا يزال، بأن اسرائيل تستند الى معطيات استخبارية من النوع الذي يصنّف عادة في خانة الخرق. لكن قيادة المنطقة الشمالية، كانت تكتفي بملاحظة لأحد مواقعها عن تقلص مفاجئ في حركة المقاومة، حتى تتصرف على أساس أن هناك شيئاً ما يتحضر.
في ذلك اليوم لم يكن القرار على نفس المستوى، لم تتلق وحدات المقاومة المنتشرة على طول الحدود وخلفها إنذاراً مسبقاً أو أمر عمليات موحداً حيال ما يمكن أن تنفذه مجموعات خاصة قرب عيتا الشعب أو قبالة مستعمرة زرعيت، بينما كانت الوحدات المكلفة العمل تتصرف على أساس أنها المعركة:
في مسرح العملية، انتشرت خمس مجموعات من المقاومة، تولت واحدة أمر الهجوم المباشر بواسطة القذائف الصاروخية، وتولت أخرى توفير الغطاء الناري بواسطة الرشاشات الخفيفة والمتوسطة، بينما تولت ثالثة قصف النقاط العسكرية ذات الحساسية المباشرة بالعملية، وكانت مهمة الرابعة تجاوز الحدود بعد تفجير البوابة الحديدية بواسطة عبوة خاصة وتسهيل دخول بسيارة مدنية لنقل الأسرى. اضافة الى تعطيل حركة الجنود وفتح أبواب السيارات العسكرية،
وفي مكان يصعب التأكد ما إذا كان قريباً أو بعيداً عن المكان، كانت الفرق الأخرى جاهزة أيضاً. سيارات مدنية اخرى فيها من يقوم بعملية الاسعاف لاي جريح يسقط من المقاومة او من الاسرى. كذلك جهزت غرفة عمليات جراحية خاصة مجهزة بكل ما يتطلبه أمر إجراء عمليات جراحية للجنود الإسرائيليين إذا أصيبوا بجراح خفيفة أو قاسية. وبرادات خاصة لحفظ جثث الجنود إذا ما قتلوا. غرف مخصصة لإيواء ضيوف من هذا المستوى إذا ما تم أسر الجنود احياء.
عند اقتراب الدورية من نقطة الهجوم، كانت الخطة تقضي بمحاصرتها بالنيران في أكثر النقاط ابتعاداً عن أعين الرقابة الاسرائيلية. لم تكن العملية تحتمل أي نوع من الخطأ أو أي نوع من البطء. ولما تم التأكد من وجود سيارتين وأن تصفيحهما جيد، وأن بداخلها أكثر من ستة جنود، أُبلغت القيادة الميدانية بواقع الأمر. ولم يتأخر الجواب بإعلان الاستعداد للتنفيذ. وهو إعلان لا يشمل فقط المجموعات التي تولت الهجوم الصاعق، بل يشمل وحدات أخرى، سواء على مستوى الجبهة أو على مستوى المناطق الخلفية.
«وصل الهدف الى نقطة المقتل» كما يقول المقاومون. أعطيت الإشارة ببدء الهجوم. السيارة الخلفية تعرّضت لقصف صاروخي مباشر أدى الى تدميرها بالكامل وقتل وجرح من بداخلها. لم تصدر عنها أي حركة بينما كانت هناك مجموعة تتولى أمرها، لا توقف الصليات المباشرة في ما بقي من الهامر التي أضحت في أقل من 3 دقائق كلعبة أطفال محطمة. أما السيارة الأولى، فكانت هي أيضاً في مرمى النيران. لكن الإصابات أخذت شكلاً مختلفاً. كان المقاومون قد تدربوا على كيفية إصابة سيارة مصفحة دون إحراقها بالكامل، وكيفية توجيه الصليات الغزيرة من النيران باتجاه جنود مدججين بالسلاح دون إصابتهم إصابة قاتلة.
الهدف الرئيسي للمهاجمين كان الهامر الأمامي، كانت الخطة تقضي بأسر الجنود من داخله. لذلك حرص المقاومون على أن تكون صواريخهم الموجهة نحوه غير قاتلة في إصابتها. استنتج الجيش الإسرائيليلاحقا بان خطة المقاومة كانت ترمي إلى استهداف الهامر بطريقة تؤدي إلى احتجاز الجنود داخله.
أطلق المقاومون ثلاثة قذائف صاروخية من طراز "آر بي جي" باتجاه الهامر، فانفجرت في الجانب الذي يجلس فيه غولدفاسر وريغيف، وأدت إلى إصابتهما بجراح. في هذه اللحظة تمكن الجنديان الآخران، موعادي وفاينبرغ، من الفرار خارج الآلية وتوجها نحو حرش محاذ للطريق ليختبآ داخله.
كانت القاعدة تقول بأن الجنود إما يهربون من السيارة بعيداً حيث يأخذون مكاناً مناسباً للمواجهة، أو يبقون داخل المركبة بانتظار النجدة. كان تسليح وحدة الاقتحام يتضمن آلات حادة مخصصة لفتح أبواب مغلقة أو خلافه. لم يكن أمام الجنود الأربعة في سيارة الهامر الأولى فرصة لالتقاط الانفاس. خرج جنديان من السيارة باتجاه حرج قريب. بحثا عن مكان آمن ولم تظهر منهما أي حركة كما يفترض أن يبدر من جنود في معركة. شيء ما حصل خلال أقل من دقيقة. الجنديان الآخران أصيبا بجراح مختلفة. اقتربت مجموعة من المقاومين من الآلية المشتعلة وسحبوا منها الجنديين، غولدفاسر وريغيف، فيما كان آخرون يفجرون البوابة الحدودية القريبة، لتنْقض عبرها السيارة التي سرعان ما اختفت في «المنطقة الآمنة» حيث لا يمكن للعدو أن يلحق بها. وبينما كانت مجموعات المقاومة تعمل على الانسحاب بسرعة مذهلة مخلفة قتلى وجرحى ودماءً، كانت عمليات التبديل قائمة خلف الحدود بمسافة طويلة. ولم يمض وقت طويل جداً، حتى وصل الأسيران الى حيث تختفي آثارهما حتى يوم التبادل.
-تلقّى السيّّد «الهدية» وشاهد العملية مصورة
لا يقرّ السيّد حسن نصر الله بعد ما الذي كان يفعله أثناء تنفيذ العملية. لكنّ مساعده لم يرفع نظره عن الهاتف. لم يكن يعرف ما الذي يريده نصر الله منه اليوم، عندما ألحّ عليه عدم إهمال أي اتصال من جانب القيادة العسكرية. وفي لحظة العمل، يجب تقليص هذا النوع من الاتصالات، برغم كل شبكات الأمان الخاصة التي تتطلب جهداً لا يزال العدو حتى اللحظة يحاول الإحاطة به، حيث السؤال: كيف يتمكن نصر الله، من أن يتحدث من مكان مجهول في بيروت الكبرى مع نقطة المراقبة الحدودية الموجودة على بعد متر واحد من فلسطين المحتلة، وأن يكون هو ومن يتحدث معه على اطمئنان إلى أنه لا أحــــد يســـترق السمع؟
استغرق الإعداد للعملية أربعة شهور على الأقلّ. كان السيد نصر الله على ثقة غير عادية بأن المهمة سوف تنجح في مكان على طول خط المواجهة. وبعد أقل من ساعة على بدء العملية، تلقى السيد الاتصال الأخير: الهدية وصلت! لم يكن ممكناً فهم فحوى بقية الحديث، لأن نصر الله أطلق رشقات سريعة من الأسئلة: هل سقط لنا شهداء وهل أصيب أحد من الاخوان، هل الأسيران على قيد الحياة. هل تسير الامور وفق ما هو مقرر. وما هي تقديرات القيادة الميدانية لردة فعل العدو. وما هو الوارد من غرفة الرصد الخاصة بإعلام العدو العام أو الخاص. وما هو الوضع على الحدود الآن؟
بالتأكيد لم يكن نصر الله في مكتبه في تلك اللحظات. وبعد ساعات لم يبق أحد من قيادات المقاومة لا في مكتبه ولا في منزله، فيما كانت الوحدات القتالية تستعد جنوباً لاحتمال توسع ردة فعل العدو. وكانت التعليمات توصي بعدم الانجرار الى مواجهة شاملة، بانتظار تبيان حجم القرار في تل أبيب.
لاحقا، حضرت الى مكتب السيد نصرالله مجموعة من قيادة المقاومة. اعدت الغرفة على عجل، وشاهد الجميع شريط فيديو خاصاً بالعملية. كانت التفاصيل كاملة، وبعد دقائق اخفي الشريط وحتى اللحظة، لم يشاهده احد حتى من قام بتصويره
مقاومون يروون لـ«السفير» قصص أبرز معارك حرب تموز (1) ضابط كبير في المقاومة: هكذا تمكنا من شل قدرة العدو على الاستفادة من تفوقه
جهاد بزي
صحيفة السفير اللبنانية -4/7/2007
ليس فيه ما يميّزه عن أي لبناني آخر. رجل بثياب مدنية يحتسي كوب الشاي في الغرفة المغلقة علينا ويحكي. حين سيخرج من الغرفة، سيذوب ولن يشير شيء الى أنه واحد من كبار ضباط المقاومة الذين قادوا الجبهة في الجنوب خلال حرب تموز.
هادئ. قليل الحذر في البداية، ثم أكثر ارتياحاً مع الوقت القصير المكثف للمقابلة. كل ما قد يدل الى هويته ليس سؤالاً يسأل. لا قريته ولا عمله ولا عمره. لا اسم له. نعلم عنه أمرين فقط: مقاوم منذ عام .1982 وفي الحرب الأخيرة كان في الخطوط الأمامية للجبهة.
يروي لـ«السفير» كيف خاضت المقاومة تلك الحرب بطريقة غير مسبوقة تاريخياً في مدارس الحروب. ويشرح في «علم العسكر» لماذا يعتبر ان ما حدث كان انتصاراً على الجيش الاسرائيلي، كما يحكي عن أناس آخرين... عن «الشباب». هؤلاء اللبنانيون العاديون الذين لعبوا مع «الاسرائيلي» لعبة انهكته، ولن ينساها أبداً.
بداية
من في هذه الحرب؟ في الجهة الأولى، المهاجمة، جيش نظامي متمكن لوجستياً وعددياً. ومن المفترض انه متفوق في الجو وفي البر. وله ما له من صيت عالمي عامة، وعربي خاصة.
في وجهه تقف مقاومة لا يمكنها أن تخوض معه إلا «حرب عصابات». المقاومة تعتمد على ثلاثة عوامل أساسية لخوض حرب العصابات هذه: الارض والانسان والإمكانات. الارض لصالحها. أرض المقاومين. المقاومون أبناء الأرض، وطبيعتها تساعدهم. الجنوب ليس جبالاً شاهقة بحاجة الى لوجستية عالية، وليس سهولاً مكشوفة على عيون العدو. هو عبارة عن مجموعة هضاب متتالية تؤمن الاستتار والمباغتة.
الناس، من جهتهم، أهل القرى، امنوا حاضناً طبيعياً للمقاومين. بقاء من بقي منهم في القرى كانحافزاً معنوياً للمقاتلين. والناس هم أيضا المقاومون. لكل فرد مقاتل تركيبة نفسية معينة. معتقده ودرجة تعبئته وبنيانه وتدريبه بالإضافة الى تسليحه بما ينسجم مع عمله.
في حرب العصابات، ليست المقاومة عادة هي المسؤولة عن حماية الأرض. لكن ما حصل كان عكس ذلك. في البداية، كانت القيادة متسامحة مع مقاتليها على الجبهات. قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله لضباطه أن لا مشكلة في دخول الاسرائيليين الأرض ما دام هذا سيخدم الدفاع بشكل صحيح.
هامش سيسمح به «السيد» ولن يستخدمه المقاتلون. فالمقاومة خاضت حرب «منع». دافعت دفاعاً ثابتاً بعكس المتعارف عليه في مدارس حرب العصابات. كيف فعلت هذا؟
«المقاومة كانت تعرف ما الذي ينتظرها بعكس الاسرائيلي. العدو سيقوم بتقطيع الاوصال، ويقوم بالإغارة بكثافة هائلة، ويتحرك باتجاهنا في البر، ويقوم بإنزالات. كان هدفه، منذ البداية، دخول جنوبي الليطاني وعجز. العدو هو مجموعة من هذه الاختصاصات اذاً. أنظر اليه على أنه جسد بشري بدماغ وعيون وأطراف. تلقى ضربة على عينه، وأخرى على رأسه، وثالثة على ساقه. لم يعد قادراً على التحرك. سلاح الجو الحربي تفاديناه بالاختباء منه. الطيران المروحي خرج من المعركة باكراً. لم يكن قادراً على الخروج نهاراً. ولا جدوى من عمله ليلاً.
اما الســـلاح المدفعي الاســـرائيلي فهو أكثر ما يستخف به المقاتل في الميدان. يكــــفي ان تعلم من أين يأتي وأين ينـــزل حتى يكفيك نصف متر للاحتماء منه.
يبقى سلاح المدرعات. في هذه، يمكن للضابط في المقاومة ان يحكي، ويحكي كثيراً. أول ما واجهته دبابة الميركافا كان «سلاح الهندسة» التابع للمقاومة الذي كان قد أعد مسبقاً شبكة عبوات تستهدفها. في الدبابة المنفجرة في منطقة الراهب، أتى الإسرائيليون بالحاخامات ليلموا الأشلاء الصغيرة التي تناثرت للجنود الذين كانوا على متنها. كانوا متفائلين وظنوا ان الأمر لن يتكرر. لاحقاً فقدوا اهتمامهم بالأجزاء. فقدوا اهتمامهم حتى بالجثث. عبوة الكحيل بالقرب من مارون الراس قلبت الدبابة على الضابط. «عبوة وادي ريشا» انفجرت بالجرافة. سلاح الهندسة حدّ، ومنذ الايام الاولى، من حركة الدبابات. شلها وباتت تحت حصار. جرب الاسرائيلي التوغل أكثر. دخل «الميم دال» الحرب. «ميم دال» إختصار لـ: مضاد الدروع. نحكي عن صاروخ الكورنيت الذي غرّد في تلك الهضاب. حسب العدو حساباً لمضاد الدروع، لكن ليس هذا. قدرة المقاومة وجدارتها كانت في الحفاظ على سرية اقتنائها لهذا السلاح. تشكيل واحد كان يعرف عنه، اما البقية من الذين استخدموهلاحقاً فلم يعرفوا بوجوده إلا في الميدان. تعلموا عليه بسرعة، وصاروا جميعاً «اساتذة» في استخدام ذلك الصاروخ المحمول.
في القنطرة، لم يكن جنرالاً ذاك الشاب العشريني الذي اسقط سبع دبابات اسرائيلية قبل أن تتقدم دبابتان الى البيت الذي يختبئ فيه. حضر العبوة التي وضعها على طاولة امام الباب. فتح الباب وانفجرت العبوة بنقيب واثنين معه وبقي المقاوم على قيد الحياة. ليس جنرالاً. هو مبتدئ. يقسم الضابط ان هذا ما حدث.
كان المقاومون على قدر عال من الاحتراف. ضرب الدبابات يكون بعد تنسيق مع القيادة الميدانية. وكان عادياً ان يسمح الرماة لبعض الدبابات من الرتل بالمرور قبل معالجة الرتل كله بطريقة تشله تماماً.
خرجت المدرعات من المعادلة. «هل تعرف ما الذي فعلناه بالاسرائيلي؟ جعلنا الميركافا، وهي الأكثر تصفيحاً في المعركة تستخدم احياناً كإسعاف بعدما كانت تفرغ من ذخيرتها». لم تعد ذات جدوى. أدخل الاسرائيلي مشاته. وقعت عليه الواقعة. يمكن لأي جيش أن يدخل عسكره ليمشي في الوديان ويقول إنه احتل أرضاً. هذه كانت دعاية بدا بحاجة اليها. لكنها لم تكن شيئاً. في العلم العسكري هذا ليس احتلالاً. من دون غطاء وإمداد لوجستي ودبابة ومدفع لا جدوى لهؤلاء. بل إنهم كـــانوا وبالاً على قيادتهم. وكانوا حين يحاولون الدخول الى قرية تقع مواجهة يخسرونها دائماً. في مقـــارنة عددية، كانت المواجهات تقع بين خمسين اسرائيلياً وما فوق، وبـــين خمسة مقاومين وأقل. يرمي مقاوم قنبلة يدوية، يرمي الثاني قـــذيفة آر بي جي. الثالث يطلق النار. يفقد الاسرائـــيلي المبادرة. يفـــرّ من المعركة. «هذا ما جعل قلوبنا تكبر».
إن الجيش الذي تراه على التلفزيون يتدرب وشكله سينمائي وجميل هو غيره على الارض. على الأرض لا يوجد أحد. عبوة انفجرت على بعد 15 متراً من سريّة الجنود. اصيب آمرها بشظية في عينه. فرّت السريّة كلها.
ثم إن أعدادهم الكبيرة جعلت منهم صيداً أكثر من سهل. 700 جندي إسرائيلي في إنزال الغندورية جعلت الرامي على الهاون لا يصحح إحداثياته، لأنه أصاب كيفما رمى. قتلهم كيفما اتفق.
لم ينتظر المقاومون مبادرة الخصم. كان المقاتل منهم حين يلحظ أي تغيير في بيت ما يعرف ان الاسرائيليين تسللوا اليه. يتصل بعدها بقيادته وياخذ امراً بالتحرك صوب البيت فيهجم، ولو وحيداً. جُنّ العدو. كنت أسمع ولولة الجنود عبر جهاز اللاسلكي.
في مشروع الطيبة، وما أن شخصّ المقاومون وجود الاسرائيليين حتى أطبقوا عليهم، ودارت المواجهات بين الغرف. في مارون الراس، شخصّ «جواد» بيتاً ودخله وقتل اثنين وجلس فوقهما واتصل بي. طلبت منه ان يخبئ الجثة وهكذا فعل. جواد سيستشهد لاحقاً. ومارون الراس لن يدخلهاالاسرائيلي إلا بعد نفاد ذخيرة المقاومين فيها. هذه البلدة الصغيرة المكشوفة انهكت عدوها ولم تنفعه في حربه ضد بنت جبيل بالطبع.
في الميدان، كان سقوط الاسرائيلي جريحاً افضل بما لا يقاس من سقوطه قتيلاً. فالجريح سيشغل بشكل او بآخر 12 جندياً آخرين. ثمانية ينهارون نفسياً. وأربعة يحملونه ليركضوا به خارج المعركة. عويل الجريح وصراخه يؤذي رفاقه كثيراً. عدد الجرحى كان كبيراً، ونادراً ما كانت إصاباتهم طفيفة. معظم هؤلاء خرجوا من الحرب معوقين.
دخول المشاة الاسرائيليين جعل المقاتل اللبناني يعيش أكثر لحظات الأمان وهو يلتحم معهم. ناهيك عن جبن الجندي الاسرائيلي، فمواجهتك له تعني أن الطيران لن يغير على رأسك ولن تتدخل المدفعية ولا قذائف الدبابات. من جهة أخرى، كان المقاوم أمام فرصة لشفاء غليله.
سقط الإسرائيلي ميدانياً إذاً. انقلب الدور للمرة الأولى في تاريخ العرب. الاسرائيلي هو من راح يقول لجنديه: «إسرائيل في خطر. اصمد. اصبر. عليك ان تحمي إسرائيل». يقول هذا ويترك جنوده بلا إخلاء ولا إسعاف ولا بديل ولا طعام. للمرة الأولى كان وضع الاسرائيلي مزرياً. غمرته المفاجأة من رأسه الى أخمص قدميه. كان منطاداً من غرف متتالية. المقاومة راحت تثقب هذه الغرف واحدة بعد أخرى. ولم يكن باستطاعته ان يفعل شيئاً...
بكينا ونعرف أنه بكى
...نعود الى الجهة الاخرى، جهة المقاومة. يقول الضابط إن اتساع العملية الاسرائيلية هو وحده الأمر الذي لم يكن متوقعاً. ومع ذلك، لم تقع القيادة في إرباك لأن طبيعة الانتشار والتموضع والاستراتيجية برمتها محضرة عموماً.
تعتمد المقاومة الدوائر الضيقة للقتال. وهذه لا تحتاج الى حركة لوجستية واسعة. وأهم ما في عملها هو الاكتفاء الذاتي في كل شيء. ما دام هناك استقلالية في المهمة واكتفاء ذاتي في القدرات فهذا كاف. وثلاثة عناصر يكفون لإرباك سريّة وحتى كتيبة أحياناً. على هؤلاء القتال إلى الحد الأقصى. وجود دعم مدفعي مثلاً، جيد وغيابه ليس مشكلة.
الشباب كانوا مهيئين اصلاً لما هو اشد صعوبة مما حدث. كثير منهم صام عن الطعام والماء. بهذا، يؤدي فرضاً مستحباً ويوفر طعامه كي يكفيه. وما دام العدو لم يصل اليه بعد، وهو ما زال بحوزته صواريخ فهو يطلقها الى الداخل المحتل. وحين يصل اليه العدو يواجهه.
تشكيلات صغيرة من خمسة مقاومين وأقل ملأت الأرض. لم يدخل العدو الى مكان إلا وكانت المقاومة في انتظاره. تلقى الضربات من كل حدب وصوب. دخل الاسرائيلي فوجدنا وقد شغلنا كل الأرض، نتحكم بالجغرافيا تماماً ونسيطر عليها بطريقة غير طبيعية ونواجه بإرادة قتال عاليةوبفعالية.
في أي حال كنا؟ إذا كنت تريد استعادة ذاك المشهد فاسمع: حرفياً، لم تكن تمر ثانية لا نسمع فيها صوت صاروخ يمر، وينفجر، او هدير طائرة حربية ترمي، أو أزيز طائرة تجسس. «كبسة بيدال واحدة» (على الجهاز اللاسلكي) من قبل أي مقاوم، تلتقطتها اجهزة العدو كانت كفيلة بتغيير معالم حارة بعد دقائق. لكل قرية افرز عدوك أربع طائرات تجسس. المقاومون بقوا مستيقظين 34 يوماً. جائعون وعطشى. يرون رفاقهم يستشهدون أمامهم. مع ذلك، ماذا فعلنا؟
عدد الخلايا التي انقطع اتصالنا بها كان لا يذكر. أبسط دليل على ذلك هو في رماية الصورايخ. ظلت القيادة مسيطرة تماماً. اذا كان الأمر بالتنفيذ محدداً عند الثالثة، ترمى الصواريخ من كل النقاط عند الثالثة تماماً. لا صاروخ تأخر عن موعده في هذه الحرب. وفي نهايتها، في الرابع عشر من آب، التزمت كل الجبهة بوقف إطلاق النار عند الثامنة صباحا. هذا يعني أننا كنا على اتصال بكل خلايانا المقاتلة. وكنا نخفف من اندفاعهم في إطلاق الصواريخ وإلا لقصفوا اضعاف العدد الذي ضرب.
في بعض المناطق، كان الاسرائيلي قد دخل الى نقاط معينة، وكنا نقصف الداخل الفلسطيني من خلفه. قبل يوم فقط من وقف الحرب كنا نرمي من محيط يارون وعيتا الشعب واللبونة (وهي بلدات حدودية) بينما هو يتغنى بأنه تقدم واحتل.
في الوقت ذاته، لم ينقطع الاتصال بين القيادة في بيروت وبيننا للحظة. ظلت القيادة العسكرية مترابطة تسلسلياً، ومع ذلك، كان «سماحة السيد» يتصل أحياناً بنا ليطمئن علينا. وكل رسائله كانت تصل الى المقاتلين، عبر الراديو لمن استطاع الى الراديو سبيلاً، وعبر الأجهزة. كان كلما حكى، شحنوا بطاقة هائلة. حين توجه اليهم في رسالته التي رد بها على رسالتنا بكيــــنا كلنا. بات الجميع يريد القتال باستماتة وكان علينا تهدئة الشــــباب. عدنا الى الزخم والقوة والإصرار نفسه الذي بدأنا به الحرب. نحـــن نعلم انه بكى حين قرأ رسالتنا. عظمة قيادتنا تتلخص في حبها لنا. تلك الرسالة دفعت دماً جديداً في عروقنا.
عدونا كان بلا قيادة. في الميدان شعرنا بأنه كان يدير عملياته بلا ضابط إيقاع على مستوياتها كافة. بدا انه يتخبط منذ الايام الأولى للمعركة. وفي الايام اللاحقة صارت معركته بلا افق. إدارته للمعركة في الميدان كانت فعلاً مزرية ومضحكة. على الأرض، أشهرت اسرائيل إفلاسها الكامل في الايام العشرة الاخيرة من الحرب. لم يكن لديها ما تفــــعله إلا وقف إطلاق النار. أسعــفها القرار 1701 بأن تسلم النقاط التي دخلتها الى القوات الدولية. كل النقاط التي دخلتها كانت بلا أي جدوى عسكرياً.
هنا «حزب الله». نكلمك من نهاريايقول الضابط إن المقاومين قاتلوا بناء على معادلة شديدة البساطة: كما يتنفسون. ما داموا قادرين على التنفس والحركة يقاتلون حتى النفس الأخير. كل مقاتل يعرف مهاراته ووظيفة سلاحه ودوره. على هذا لم تواجه المقاومة ما هو فوق قدرتها. بل، وعلى العكس، ولأن الالتحام بالعدو على هذه الدرجة من الاتساع كشفه هذه المرة، بات المقاومون أشد ثقة بأنفسهم وبدرجات، ولم تعد إسرائيل مهابة بالنسبة لهم.
الحرب الحقيقية لم تكن ذاك المشهد المروع في الضاحية. على الأرض، احتك مقاومون للمرة الأولى «بالجيش المرعب». عرفوه. الآن هم مستعدون لمنازلته ثانية من دون أي أوهام. المقاتل الذي رأى الاسرائيلي آتياً صوبه ثم رآه يهرول هارباً منه لمس المهانة التي لحقت بعدوه.
لم يعد هناك من مجهول. المقاومون داووا جراحهم بأنفسهم. في عيتا الشعب كانت القطة تأكل من لحم المقاوم الجريح ويعجز عن طردها. لكنه الآن عاد، وكالحصان. غيره داوى ساقه المتبورة. هؤلاء يعلمون علم اليقين أي حرب خاضوا. ساعدهم اهل الأرض وخبزت لهم نسوة القرى، اللواتي بقين، الخبز ليطعموهم. بأي معنويات تتوقع أن يخرج المقاومون من حرب كهذه؟ الموت، وهو أقصى ما يمكن أن يحدث، لاصقهم وأخذ منهم رفاقهم الأقرب. ماذا بعد؟ لا شيء. في الحرب المجنونة، وجد المقاتل متسعاً من الوقت ليتسلى. في الطيري قتل مقاوم جندياً إسرائيلياً سائق جرافة، ووجد معه هاتفه الخلوي. فتش فيه واتصل بالرقم الأخير الذي كان الجندي قد اتصل به. ردت إمرأة. زوجته. قال لها بالعبرية: معك حزب الله. صــرنا في نهاريا. إنــهارت هذه. تسلى ورفاقه باتصالات كثيرة من هذا النوع.
في مرة اخرى، اتصل الضابط المقاوم بشاب في يارون، في ايام متقدمة من الحرب. راح الضابط يضحك والمقاتل يقول له إن كل شيء على ما يرام، ويمكنه ان يرمي إذا أمره بذلك. إسرائيل كانت حينها تقول إنها توغلت في العمق اللبناني... اما يارون فتمر فيها أسلاك الحدود الشائكة.
...كالعجين
نموذج غير مسبوق في التاريخ، يقول الضابط. استخدمت المقاومة تقنيات الجيوش الحديثة في حرب عصابات وصدت الهجوم. قال الاسرائيلي إن الحق على رئيس الأركان دان حالوتس ووزيرة الخارجية تسيبي ليفني ورئيس الوزراء إيهود اولمرت. قال إن «الأشكينازي» آتٍ وان الجيش يخوض تدريبات من نوع آخر في الجولان. يقـــول إنه عائد غداً ليتدبر أمرنا. ونحن نعـــلم كيف سينال نصيبه هذه المرة. الحـــرب اعطتنا تجــربة عملية. وإذا أعاد الكرة ستـــكون اسوأ عليه اكثر بمئة ضعف. المـــقاومون عرفوه واختبروه. هم يملـــكون ما يوازي هذه المعرفة اهمية: طبيعتهم. هذه قمة مقاومتهم.
من ينظر اليهم يرَ تناقضاً هائلاً. شريحة من الدراويش المؤمنين الطيبين الذين لا يؤذون نملة. كالعجين في ايدي اهلهم وناسهم. وحين يعتدي عليهم مثل ذاك المعتدي ينقلب الوضع تماماً. هؤلاءالذين فقد الكثير منهم الصديق والشــــقيق ورفيق الدرب لم يعد الموت صعباً عليهم. ليسوا هواة سلاح. لكنهم مستعدون.
عنـــد وقف إطـــلاق النار، لم يكن لدى الضــابط المقـاوم ورفاقه وقت للتفاخر والــفرح هم الــــذين شعروا انهم غيروا معـــادلات الصـــراع العـــربي الاســرائيلي.
وعند الثامنة صباحاً من صباح وقف إطلاق النار عادوا يستعدون لعدوهم من جديد. الوقت ثمين. والحرب تقاس بالدقائق. قبل عشر دقائق فقط من وقف إطلاق النار، كان الضابط الذي حكى لنا الحكاية أعلاه، قد تعرض لغارة، ونجا منها.
الآن، وقبل أن تنتهي المقابلة ويخرج من الغرفة الى يومه كأي لبناني آخر، عادي ومجهول تقريباً، يختم بالهدوء نفسه الذي بدأ به حديثه: الإسرائيلي يقول إنه حاضر. ونحن نقول له إننا حاضرون.
مقاومون يروون لـ«السفير» قصص أبرز معارك حرب تموز (2) معركة عيتا الشعب أو «اليوم الأصعب في تاريخ الجيش الاسرائيلي»
زينب ياغي
جريدة السفير اللبنانية – 5/7/2007
كان اللقاء منتظرا بعد انتهاء حرب تموز العام الماضي... لكن نتائج الحرب والظروف السياسية التي تلتها فرضت التأجيل، بالإضافة إلى أن حزب الله لم يكن قد اتخذ قرارا بتقديم الرواية الفعلية للحرب... لذلك فإن كل ما صدر من معلومات خاصة بتفاصيل المعارك في الصحف ووسائل الاعلام والكتب، لا يشكل سوى خلاصة، إما لتصريحات ولمعلومات سياسية، أو للقاءات خاصة بين صحافيين وإعلاميين مع مواطنين بقوا في بلداتهم وقراهم خلال الحرب، أو حتى لمقاومين قدموا معلومات غير رسمية.
بعدما أعطت قيادة المقاومة الاذن برواية مواجهات تموز، حصل اللقاء مع ثلاثة من القادة الذين شاركوا في إدارتها، في كل من بنت جبيل وعيتا الشعب ووادي الحجير.
لم يكن سهلا على صحافي الاستماع بسهولة إلى قياديين في المقاومة يروون معارك يحفظونها، ويتحدثون عن أرض يعرفون كل حجر فيها، وعن مصطلحات عسكرية يستخدمونها. في شرحهم لسير خطوط الجبهة والمواقع التي حاول الجيش الاسرائيلي الوصول اليها، يسعون الى التوضيح بأقصى قدر ممكن، يطلبون أقلاما وورقا ويرسمون المواقع المحيطة بجبهاتهم
يبدأون في الكلام ثم ينتبهون إلى أنه يجب كتابة ما يرونه... يتمهلون ثم يوضحون تركيبة الجيش الاسرائيلي، لأن معرفة الجيش سوف تؤدي إلى معرفة من هي القوة التي واجهها المقاومون.
كان الجنود من نخبة الجيش الاسرائيلي، تتألف تلك النخبة من الوحدات الخاصة، وتضم كلا من ألوية غولاني، المظليين، جعفاتي، نحال. تعتبر إيغوز نخبة لواء غولاني، لذلك كان عناصرها يصيحون خلال المواجهات مع المقاومين، إيغوز، إيغوز، إيغوز، في محاولة لارهابهم وجعلهم يتراجعون. يبلغ عدد افراد الكتيبة، ثلاثمائة جندي، عندما تكون معززة تضاف اليها سرية، تضم مئة جندي فتصبح الكتيبة أربعمائة جندي. بالمقابل تضم كل سرية، ثلاثة فصائل، وكل فصيل ثلاثين جنديا.
يتحدث أحد القياديين عن معنى ما جرى في تموز، وتأثيراته في لبنان والمنطقة. يستمع ويناقش في الحرب والسياسة والتشويه الذي تعرض له المقاومون. يردد بسخرية ما قيل في «تبرير» الحرب الادعاء بأن أسر الجنديين الاسرائيليين كان سببا لشن الحرب، وتدمير دبابة بعد الأسر ومقتل الجنود الذين كانوا بداخلها كان سببا آخر، والخلافات داخل القيادة الاسرائيلية تجاه الحرب كانت سببا ثالثا، لأنه لم يكن هناك اتفاق على أهداف الحرب ومدتها.
أما التدمير الذي تعرضت له بلدات الجنوب فلا علاقة له بالأسباب التي تقدمت، ولا بالمبررات الاسرائيلية القائلة إنه يجري تدمير أماكن تواجد المقاومين، لأن اسرائيل تعرف أن المقاومين كانوا منتشرين على طول خطوط الجبهة، في الحقول أكثر من القرى. لكنها أرادت الانتقام من البلدات بعد فشلها في اقتحامها. يسخر من مقولة أن مقاتلي حزب الله لا يخافون الموت لأنهم يسلكون الطريق إلى الجنة، ويقول إن الطريق إلى الجنة هي في كيفية ممارسة الحياة وليس في الاستشهاد فقط في معركة، موضحا أن من أهم مبادئ خوض الحرب لدى المقاومين هي محافظة كل مقاوم على حياته، «لذلك ارتدينا الخوذات والدروع... حتى اختلط الأمر على الجيش الاسرائيلي، وأعترف العديد من جنوده أنهم لم يكونوا يميزون إذا كان الجندي الموجود أمامهم إسرائيليا أو من حزب الله». يؤكد أن المقاومين قاتلوا في الوقت نفسه بثبات وشجاعة، في مواجهة عدو واضح. ثم يردد مازحا: «لقد خيب الجيش الاسرائيلي أملنا، كنا نعتقد أنه أكثر مراسا في خوض الحرب».
في البدء كانت عيتا
تنهض منازل عيتا الشعب من جديد، ورشة إعمار تملأ الأحياء، عمال لبنانيون ومن جنسيات عربية أخرى، شاحنات تنقل مواد البناء، وغبار يعلو فوق الحقول والطرقات، يغطي خضار الصيف المزروعة وما تبقى من أشجار.
لكن عيتا الناهضة لا تشبه سابقتها، اختفت المنازل المبنية بالحجر الصخري، وانتشرت بدلا منها العمارات المبنية بحجارة الباطون، في قلب البلدة كما عند أطرافها. هدمت إسرائيل غالبية منازل الحارة القديمة، بينما هدم الأهالي العدد الباقي الذي كان يصنف بالمتصدع، خوفا من عدم حصولهم على تعويضات بدل الهدم أو خوفا من أن تنهار لاحقا فوق رؤوسهم ، حتى وإن رممت.
وقد تبنت قطر عملية إعادة أعمار عيتا. وورد في المسوحات الخاصة بالمشروع القطري أن عدد المنازل التي هدمت من جراء القصف في عيتا بلغ 742 منزلا، يضاف اليها 56 منزلا من الحجر صنفت للهدم على أمل ترميمها وذلك قبل هدمها.
أما المنازل العادية المتصدعة والمتضررة التي صنفت للترميم فقد بلغ عددها 1644 منزلا.
كل هذا الدمار، وقوات العدو تطبق على القرية من جهاتها الأربع، والقتال يستمر عنيفا منذ اليوم الأول للعدوان وحتى الثامنة من صباح الرابع عشر من آب .2006 عيتا التي ذاع صيتها بسبب ما أصابها من دمار وبفضل بسالة مقاوميها. عيتا التي فرضت على العدو اليوم الأصعب في تاريخ قواته المسلحة. عيتا هذه، تمكن مقاوموها، في اليوم الأخير من المعارك أن يطلقوا الصواريخ بمحاذاة السياج الحدودي على مواقع العدو داخل فلسطين المحتلة. عيتا، عنوان الفشل الذريع للعدوان.
استشهد تسعة مقاومين في عيتا بين زواريب منازل الحي القديم. كانت دماء حسان قعيق ما تزال ظاهرة للعيان فوق تراب الدوارة التي تملكها كاملة جميل، قبل أن تذوب في التراب مع موسم الشتاء. وقد استشهد حسان عندما كان يحاول القفز من الدوارة إلى المنزل فشاهدته طائرة «الام كا» وقصفته.
في منزل عبد الحسين سرور المجاور استشهد ثلاثة مقاومين هم هشام مرتضى وآخران من خارج عيتا، وقد لجأ الثلاثة إلى الملجأ بعد اشتداد قصف الطيران الاسرائيلي على الحارة، لكن الغارات لقوتها، دمرت المنزل والملجأ معا وبقي المقاومون الثلاثة تحت الأنقاض لمدة عشرة أيام.
عند آخر الحارة تنكشف خلة وردة المزروعة باشجار الزيتون. تحاذي الخلة بلدة طربيخا إحدى القرى السبع، وقد جرت عملية أسر الجنديين الاسرائيليين في آخرها، عند حقول تدعى «كعب الأرض».
تقول كاملة جميل التي يشرف منزلها على الخلة إنها كانت تشك التبغ يوم 12 تموز 2007 عندما سمعت أصوات القذائف والرصاص. خرجت إلى شرفة المنزل لاستطلاع ما يجري، شاهدت أربعة من المقاومين يستقلون سيارة ويخرجون من المنطقة. لم تعرف يومها أن عملية الخطف تمت.
تقع الخلة عند حافة تلال تسمى الحدب والراهب وظهر الجمل وأبو طويل. تتميز تلك التلال بلونها الأخضر لكثافة انتشار الأشجار البرية فيها، مشكلة المدى الطبيعي لعيتا. لكنها تحولت مع رسم الخط الأزرق إلى حدود أمنية وعسكرية تنتشر عليها مراكز المراقبة الاسرائيلية. شكلت خلال حرب تموز خطوط الجبهة، بعدما حاول الجنود الاسرائيليون الدخول منها إلى عيتا، وقتل العديد منهم قبل أن يفلحوا في الوصول إلى مداخلها.
أسر الجنديين والأسبوع الأول
يروي قيادي في المقاومة ممن اشرفوا على معارك عيتا، أنه عند التاسعة من صباح الثاني عشر من تموز تمكنت مجموعة من رجال المقاومة من أسر الجنديين. عند الحادية عشرة من اليوم نفسه، تحركت دبابة إسرائيلية من موقع تلة الراهب، باتجاه موقع للمقاومة فانفجرت فيها عبوة ناسفة زرعها المقاومون، الأمر الذي أدى إلى تدميرها وقتل طاقمها المؤلف من أربعة جنود.
إثر مقتل الجنود تأزم الوضع الميداني، بحسب وصف القيادي. حاولت قوة إسرائيلية التقدم سيرا برفقة سيارة إسعاف لسحب الجنود القتلى، لكن تصدي المقاومين لها حال دون وصولها إلى الدبابة. استمرت المحاولات لمدة ثلاثة أيام من دون جدوى، فبقي الجنود القتلى في الأرض لمدة اسبوع، إلى حين قررت القوات الاسرائيلية التقدم باتجاه أحياء عيتا.
جرى خلال الأسبوع الأول من الحرب قصف متبادل بين الجنود الاسرائيليين وبين رجال المقاومة، استخدمت فيه إسرائيل طائرات «إف 16» والمروحيات من نوعي «كوبرا» و«أباتشي»، ومدفعية الميدان من عيار 155 ملم و175 ملم، ومدفعية الهاون. أضيفت اليها طائرة «ام كا» وهي طائرة خاصة بالتصوير، لكن جرى استخدامها في القصف خلال حرب تموز، بعد تجربة استخدامها في فلسطين لاغتيال الشخصيات الفلسطينية. وقد استخدمت للمرة الأولى في لبنان في مهمتها الجديدة خلال حرب تموز.
في المقابل، كان رجال المقاومة يستخدمون في القصف المدفعية والصواريخ المضادة للدروع والرشاشات الثقيلة.
وقعت خلال الأسبوع الأول إصابات في صفوف الجنود الاسرائيليين، بينما لم تقع إصابات في صفوف المقاومين، لأن الاسرائيليين كانوا يقصفون الأحياء، التي أصيب عدد من منازلها، بينما استهدف المقاومون الجنود تحديدا.
بعد مرور اسبوع، بدأت القوات الاسرائيلية عمليات التسلل البري، من الجهات الأربع المحيطة بعيتا: الجهة الغربية للحارة القديمة، والجهات التي تقع عند حارات أبو لبن وشميس والرجم ـ أبو طويل.
سلكت القوة التي اتجهت نحو الحارة القديمة بالآليات منطقة الشومرة المحتلة الواقعة جنوب مستوطنة زرعيت، وصولا إلى خلة وردة، ومن هناك تفرقت إلى قوتين، واحدة تسللت ليلا سيرا على الأقدام باتجاه أبو طويل، والثانية باتجاه الأطراف الغربية ـ الجنوبية للحارة القديمة.
أما القوة الثانية التي اتجهت نحو الحارات الأخرى، فقد تقدمت من جهة وادي سوادي جنوبي موقع الراهب، ومن هناك باتجاه مرتفع شويط وحارات الخرزة وشميس وأبو لبن. عندها أصبحت القوات الاسرائيلية تحيط بعيتا، وقدر مجموعها بكتيبة معززة من المشاة والاستخبارات.
تقدمت مجموعة من تلك القوات في البداية إلى أطراف الحارة القديمة عند السادسة والنصف صباحا، ودخلت إلى كاراج تابع لأحد المنازل فكشفها رجال المقاومة، طوقوا المنزل وفتحوا النيران على الجنود، فجرت اشتباكات استمرت حتى الثامنة والنصف، وانتهت بانسحاب المجموعة بعد وقوع عدد من القتلى والجرحى في صفوفها، وتحدثت وسائل الاعلام في حينها عن وقوع سبعة قتلى إسرائيليين داخل الكاراج، بينما قدرت المجموعة المهاجمة بفصيل، أي ما يقارب الثلاثين جنديا، وقد ترك القتلى والجرحى في أرض المعركة.
بعد تراجع القوة جرى تعزيزها من جديد، من أجل سحب القتلى والجرحى. استمرت محاولات سحب الاصابات طوال النهار فكان أن شهد ذلك اليوم أعنف الاشتباكات خلال معركة عيتا، استخدمت خلاله القوات الاسرائيلية كافة أنواع الأسلحة الجوية والمدفعية واستقدمت جرافة ومدرعتين تحت غطاء كثيف من النيران، لكن المقاومين دمروا الجرافة وإحدى المدرعتين، وتمكنت المدرعة الأخرى من سحب الاصابات.
استشهد في تلك المعركة هشام السيد وكان يقاتل مع والده ضمن المجموعة المقاومة. طارد هشام القوة الاسرائيلية المنسحبة إلى خراج البلدة، فأصبح مكشوفا أمامها وقتلته، وتمكن المقاومون من سحبه في اليوم التالي بمشاركة والده.
بالتزامن مع معركة الحارة، تم اكتشاف قوة أخرى في أحد المنازل في حي أبو لبن. كانت القوة تقدر أيضا بفصيل، هاجم المقاومون المنزل ودارت اشتباكات عنيفة استمرت ساعات عدة، استطاع خلالها المقاومون تشتيت القوة إلى خراج البلدة.
يقول القيادي إن يونس سرور استشهد خلال معركة أبو لبن، قبل هشام السيد، فكان الشهيد الأول في عيتا.
بعد نهار الاشتباكات العنيفة، بدأت المواجهات على جميع أطراف عيتا. أخذت المدرعات تتقدم على مرتفعات أبو طويل وشويط والخرزة وأطراف حارة شميس، فدمر المقاومون في اليوم الأول من المواجهات الواسعة، دبابة وجرافة في أبو طويل. في اليوم الثاني دمروا دبابة في المكان نفسه. في اليوم الثالث دمروا دبابة عند مفرق القوزح، ثم دبابة في حارة شميس وأخرى في حارة الخرزة.
يشرح القيادي إن القوات الاسرائيلية المدرعة بدأت عمليات التقدم خلال تلك المواجهات، من خلة وردة باتجاه مفرق القوزح ثم دبل وهما خارج عيتا، عندها أصبح يمكن الحديث عن جبهة تمتد من الشومرة ـ زرعيت، مرورا بخلة وردة، وصولا إلى القوزح ودبل.
«اليوم الأصعب »
عندما تقدمت قوة اسرائيلية من القوزح باتجاه دبل كانت المعارك مشتعلة على أطراف عيتا، لكن مجموعة متقدمة من المقاومين كشفت القوة بالقرب من بركة دبل وكانت كبيرة تضم مشاة في الجيش الاسرائيلي. أبلغت المجموعة قيادة المقاومة بكشفها القوة الاسرائيلية وحددت مكان تواجدها، فقررت قيادة المقاومة قصفها مستخدمة المدفعية والرشاشات الثقيلة، وعندما يقال المدفعية يعني أن القصف كان من مكان خارج البلدة. ساندتها في ذلك المجموعة التي كشفت القوة الاسرائيلية، مستخدمة الأسلحة الرشاشة الخفيفة. يوضح القيادي أن المعركة عند البركة أوقعت إصابات كبيرة في صفوف القوة الاسرائيلية، ولم يتمكن الجيش الاسرائيلي من سحب الاصابات إلا عند حلول الليل.
بعد المعركة فر باقي أفراد القوة باتجاه منازل في بلدة دبل ودخل عدد كبير منهم إلى أحد الكاراجات، تحت مرأى أفراد المجموعة المقاومة. انتظرت المجموعة دخول كامل العدد إلى الكاراج وجرت رمايته بصاروخ موجه، الأمر الذي أدى إلى مقتل واصابة اثني عشر جنديا باعتراف اسرائيل، استمرت عملية إخلائهم على مدى يومين بواسطة المدرعات.
وعندما سئل القيادي إذا كان صحيحا أنه جرى نقل خمسة وثلاثين خوذة عسكرية للجيش الاسرائيلي من داخل الكاراج، أوضح أنه ربما كان يتواجد ذلك العدد من الجنود، لكن ذلك لا يعني أنهم قتلوا جميعا.
وقعت معركة دبل في اليوم الذي اعتبره نائب رئيس الحكومة الاسرائيلية شمعون بيريز «اليوم الأصعب في تاريخ الجيش الاسرائيلي».
يوضح القيادي أن الجيش عندما يكون عادة في حالة هجوم لا يتقبل الخسائر، لذلك كان صعبا على الجيش الاسرائيلي ما حصل له في دبل، وزاد في تلك الصعوبة اعتقاده أنه لا يوجد مقاومون في البلدة، فكيف وقد اكتشفوا أن المقاومين موجودون على مقربة منه؟
يقول القيادي إنه في ذلك اليوم كان الجيش الاسرائيلي يحشد قواته في دبل من أجل التقدم نحو بلدة رشاف، في محاولة لتوسيع العمليات البرية، لكن ما جرى أخر توسيع العملية أربعة أيام، بقي يعمل خلالها على إخلاء الاصابات وتبديل القوة المهاجمة إثر انهيار معنويات من تبقى منها، فيما خرج رجال المقاومة من تلك المعركة سالمين.
ما زال للمقاومة مواقع حدودية
انتقاما لمعركة دبل، بدأ القصف التدميري المركز لبلدة عيتا الشعب، ترافقه محاولات التقدم باتجاه الأحياء: الحارة القديمة، أبو لبن الرجم، شميس. أخذت الاشتبكات العنيفة تدور عند أطراف تلك الأحياء، من منزل إلى منزل، فحصلت عمليات كر وفر، يتقدم الجنود إلى منزل، ثم يقوم المقاومون بالهجوم على المنزل ويخرجونهم منه.
استمرت الاشتباكات على تلك الوتيرة لمدة عشرة أيام سقط خلالها عدد من شهداء المقاومة في الأحياء. كان حينها كل شارع أو طريق أو منزل عرضة للقصف وللقاء أي جندي اسرائيلي.
خلال الأيام الخمسة عشر الأخيرة من الحرب كانت القذائف تتساقط على عيتا أحيانا كل ثانية. تستمر تلك النوبات المجنونة من القصف لمدة ساعتين، ثم تهدأ لتستمر مدافع الهاون القريبة. كان هدوء القصف على أحد الأحياء يعني أن القوات الاسرائيلية تحاول التقدم لأنها لا تقصف نفسها. دمر العدو الحارة القديمة خلال تلك الأيام الخمسة عشر، وحاولت قوة من المشاة مرارا التقدم من أجل السيطرة على الحارة القديمة، لكنها كانت تصطدم بالمقاومين لدى كل محاولة.
عندها شعر الجنود الاسرائيليون بالعجز، على الرغم من الغطاء الناري الكثيف، لجأوا إلى الجرافات، وبدأوا بجرف الحارة التحتا في الحارة القديمة، ظنا منهم أنهم بتلك الطريقة يستطيعون احتلال البلدة. لكن المقاومين دمروا جرافتين عبر استخدام القواذف المضادة للدروع من داخل الحارة، واستهدفوا القوات المتقدمة من خلفها، أي بالقرب من نقاط تواجد المقاومين عند الحدود.
يقول القيادي إن المقاومين استمروا حتى آخر يومين من الحرب يطلقون الصواريخ من النقاط الحدودية، باتجاه المستوطنات الاسرائيلية، وفي اليوم الأخير من الحرب أطلقوا الصواريخ بمحاذاة السياج الحدودي الأمر الذي يعني أن الحرب الاسرائيلية بكل جبروتها فشلت في حملهم على إخلاء مواقعهم عند الحدود.
«أنا أحب الحياة»
يروي أحمد (اسم مستعار) وهو أحد المقاومين، أنه في العديد من الحالات كان يفصل بين المقاومين وبين الجنود الاسرائيليين طريق أو حقل أو منزل مدمر: «كنا نرى بعضنا بوضوح والمرة الأولى التي شاهدت فيها الجنود الاسرائيليين لم أصدق أنهم اسرائيليون، كانوا قريبين إلى درجة تداخلت فيها أحيانا مجموعاتنا مع مجموعاتهم».
يقول إن المقاومين كانوا يتواجدون في عدد من المنازل التي دمرها الطيران الاسرائيلي، لكنهم خرجوا بعد تدميرها سالمين، هو نفسه لا يعرف كيف كان يحصل ذلك. بيــن هؤلاء مقاوم بقي ثلاث ساعات تحت ركام أحد المنازل لأن الطيران الاسرائيلي كان يحلق فوق المنزل باستمرار بعد تدميره، أعتقد رفاقه أنه استشهد، لكنه خرج من تحت الركام سالما إثر مغادرة الطائرات.
يتابع أن القوة الاسرائيلية التي تمركزت في أبو طويل كانت تخفي «قبضة صواريخ» موجهة، كشفت في اليوم الثالث على تمركزها عن القبضة لاطلاقها، لكن المقاومين شاهدوها ورموا الجنود الاسرائيليين قبل أن يرموهم ورأوا عشرة جنود يوضعون على الحمالات ويجري نقلهم إلى داخل فلسطين المحتلة.
يقول أحمد إنه لم يعد ينتظر من المعترضين على المقاومة تقديرها، لأنه لم يجر تقديرها سابقا، المهم بالنسبة اليه رضى النفس، يضيف: أنا أحب الحياة لي ولعائلتي مثل جميع الناس، وأتمنى أن يتعلم أولادي في أفضل المدارس، لكن ماذا أفعل إذا كانت اسرائيل تريد احتلال بلدتي هل اتركها واتفرج عليها؟ لن يحصل ذلك أبدا.
تعليق