بسم الله الرحمن الرحيم ،
والحمدُ لله ربّ العالمين ،
وصلى الله على الحبيب المصطفى أبي القاسم محمد ،
صلى الله عليه وآله وسلم،
قال النبي صلى الله عليه وآله لعلي سلام الله عليه : الجنة تشتاق إليك ، وإلى عمار ، وسلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، عن علي عليه السلام ، قال : إستأذن عمار على النبي صلى الله عليه وآله فقال : من هذا ؟ فقيل : عمار .
قال صلى الله عليه وآله : مرحبا بالطيب ابن الطيب .(1)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: عمار جلدة بين عيني وأنفى وفي بعض النسخ جلدة ما بين عيني وأنفي.(2).وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان.(2).
حدثنا أبوعلي المحمودي محمد بن أحمد بن حماد المروزي ، قال : عمار بن ياسر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله - وقد ألقته قريش في النار - ( يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت بردا وسلاما على إبراهيم ،) فلم يصبه منها مكروه ، وقتلت قريش أبويه ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول : صبرا ياآل ياسر ، موعدكم الجنة ، ماتريدون من عمار ؟ عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان ، عمار جلدة بين عيني وأنفي ، تقتله الفئة الباغية .(1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا اختلفَ الناس ، كان ابن سمية مع الحق .(3).
عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث: إن عمارا ملئ إيمانه من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه . (4).
وأنزل الله فيه قرآناً ،يُتلى اناء الليل وأطراف النهار ،وهو قوله تعالى (( ونزلت فيه آية أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ))(5).
وقوله تعالى ((ونزلت فيه آية إلا من أكره وقلبه مطمأن بالإيمان ))(6).
وقوله تعالى (( من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس)) (7).
وقوله تعالى ((فمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ))نزلت في عمار والوليد بن المغيرة،(8).
وقوله تعالى ((من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس)) (9).وكان المشركين قد قتلوا أمه وأبوه أمامه ،
كان لعمار منزلة عند أهل البيت عليهم السلام ،حتى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله :عمار منا أهل البيت (10)و كان من الذين انكروا على أعداء أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو من الذين لم يغيروا ، ولم يبدلوا بعد نبيهم، وهو من الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة .(1)
قاتل مع نبي الله صلى الله عليه وآله ،ودافع عن دين الله تعالى ،حتى وصل الامر الى وقعة صفين التي كانت في السابع من شهر صفر عام 37 هجري.
قال أبو إسحاق : وخرج علي (ع) يوماً من أيام صفين وفي يده رُمح صغير ، فمرَّ على سعيد بن قيس الهمداني ، فقال له سعيد : أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد وأنت قرب عدوك ؟ ! فقال علي (ع) إنه ليس من أحد إلا وعليه من الله حَفَظَةٌ يحفوظونه من أن يتردى في قَلِيب ، أو يخِرّ عليه حائط ، أو تصيبه آفةٌ ، فإذا جاء القدر ، خلّوا بينَه وبينَه.
فلما أصبح صباح السابع من صفر عبأ الامام علي عليه السلام أصحابه فجعل على الميمنة عبدالله بن بديل الخزاعي وعلى الميسرة عبد الله بن العباس وقُراء العراق مع ، عمار بن ياسر ، وقيس بن سعد بن عبادة ، ، والناس على راياتهم ومراكزهم ، وعلي (ع) في القلب في أهل المدينة ، جمهورهم الأنصار ومعهم من خزاعة وكنانة.
أما ما كان من أمر معاوية فإنه رفع قبةً عظيمة ، وألقى عليها الكرابيس وجلس تحتها ، واجتمع إليه أهل الشام ، فعبأ خيله ، وعقد ألويته وأمر الأمراء وكتب الكتائب ، وأحاط به أهل حمص في راياتهم وعليهم أبو الأعور السلمي ، وأهل الأردن في راياتهم ، وعليهم عمرو بن العاص ، وأهل قنسرين ، وعليهم زفر بن الحارث الكلابي ، وأهل دمشق ـ وهم القلب ـ وعليهم الضحاك بن قيس الفهري ، فأطافوا كلهم بمعاوية.
كان يوم السابع من شهر صفر يوماً عظيماً في صفين لما لقي فيه الطرفان من أهوال شديدة.
وكان في أول الأمر أن عليا عليه السلام قد دعا أصحابه إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان
في يده إلى أهل الشام ، فقال : من يذهب إليهم فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف ؟ فسكت الناس ، وأقبل فتىً إسمه سعيد فقال : أنا صاحبه : فأعاد عليّ القول ثانيةً فسكت الناس ؛ وتقدم الفتى فقال : أنا صاحبه. فسلّمه إليه فقبضه بيده ، ثم أتاهم فناشدهم الله ودعاهم إلى ما فيه ، فقتلوه.
ثم برز حجر الشر من جيش معاوية وبرز اليه ابن عمه حجر الخير من أصحاب امير المؤمنين علي عليه السلام
وكلاهما من كندة وكان من أصحاب معاوية ، فاطّعَنا برمحيهما. وخرج رجل من بني أسد يقال له خزيمة ، من عسكر معاوية ، فضرب حجر بن عدي برمحه ، فحمل أصحاب علي (ع) فقتلوا خزيمة الأسدي ونجا حجر الشر هارباً فالتحق بصف معاوية.
ثم برز حجر الشر ثانيةً ، فبرز إليه الحكم بن أزهر ـ من أهل العراق ـ فقتله حجر الشر فخرج إليه رفاعة بن ظاهر الحميري من صف العراق فقتله ، وعاد إلى أصحابه يقول : الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر.
فقال علي (ع) لعبد الله بن بديل : إحمل عليهم الآن ؟ فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة وعليه يومئذٍ سيفان ودرعان ، فجعل يضرب بسيفه قدماً ويقول :
لـم يبـق غيـر الصبـر والتـوكـل والتـرس والـرمـح وسيفٍ مصقَـل
ثـم الـتمشـي في الـرعـيـل الأول مشي الجمـال في حيـاض الـمنهـل
فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية ومن معه ممن بايعه على الموت ، فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل ، وبعث إلى حبيب بن سلمة الفهري وهو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع من معه ، واختلط الناس ، واصطدم الفيلقان ، ميمنةُ العراق وميسرة أهل الشام ، وأقبل عبد الله يضرب الناس بسيفه قِدماً حتى أزال معاوية عن موقفه جعل ينادي : يا لثارات عثمان ـ وهو يعني أخاً له قد قُتل ـ وظن معاوية وأصحابه أنه يعني عثمان بن عفان ، وتراجع معاوية عن مكانه القهقري ، وأشفق على نفسه ، وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه ، ويحمل حبيب حملةً شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق فيكشفها حتى لم يبق مع ابن بُديل إلا نحو مائة إنسان من القراء ، فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ، ولجَجَ ابن بُديل في الناس وصمم على قتل معاوية ، وجعل يطلب موقفه ويصمد نحوه حتى انتهى اليه ومع معاوية عبد الله بن عامر واقف ، فنادى معاوية في الناس : ويلكم ، الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح ! فرضخه الناس بالصخر والحجارة حتى أثخنوه ، فسقط فأقبلوا عليه بسيوفهم فقلتوه.
وجاء معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه ، فأما عبد الله بن عامر فألقى عمامَتهُ على وجهه وترحمَ عليه وكان له أخاً صديقاً من قبل. فقال معاوية : إكشف عن وجهه ؟ فقال : لا والله لا يُمَثلُ فيه وفيَّ روح. فقال معاوية : إكشف عن وجهه فإنا لا نُمثل فيه ، قد وهبناه لك. فكشف ابن عامر عن وجهه ، فقال معاوية : هذا كبش القوم ورب الكعبة. اللهم أظفرني بالأشتر النُخعي والأشعث الكندي ،
ولمّا قُتل ابن بديل استعلى لعراق يومئذٍ ، وانكشف من قِبلِ الميمنة وأجفلوا إجفالاً شديداً ، فأمر علي (ع) سهل بن حُنيف ، فاستقدم من كان معه ليرفِدَ الميمنة ويعضدها ، فاستقبلتهم جموع أهل الشام في خيل عظيمة ، فحملت عليهم ، فألحقتهم بالميمنة ، وكانت ميمنة أهل العراق متصلةً بموقف علي (ع) في القلب في أهل اليمن ، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي (ع) ، فانصرف يمشي نحو الميسرة ، فانكشفت مضر عن الميسرة أيضاً ، فلم يبق مع علي من أهل العراق إلا ربيعة وحدها في الميسرة.
قال زيد بن وهب : لقد مرّ علي (ع) يومئذٍ ومعه بنوه نحو الميسرة ومعه ربيعة وحدها ، وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبيه ، وما من بَنيهِ إلا من يقيه بنفسه ، فيكره علي (ع) ذلك ، فيتقدم عليه ويحول بينه وبين أهل الشام ، ويأخذه بيده إذا فعل ذلك ، فيلقيه من ورائه ؛ ويُبصر به أحمر مولى بني أمية ، وكان شجاعاً، فقال عليٌّ (ع) : ورب الكعبة قتلني الله إن لم أقتلك ! فأقبل نحوه ، فخرج إليه كيسان مولى علي (ع) ، فاختلفا ضربتين ، فقتله أحمر ، وخالط علياً ليضربه بالسيف ، وينتهزه علي فتقع يده في جيب درعه ، فجذبه عن فرسه فحمله على عاتقه ، فوالله لكأني أنظر إلى رجلي أحمر تختلفان على عنق علي ، ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه ، وشد إبنا علي محمد وحسينٌ فضرباه بأسيافهما حتى برد فكأني أنظر إلى علي قائماً وشبلاه يضربان الرجل حتى إذا أتيا عليه ، أقبلا إلى أبيهما والحسن قائم معه ، فقال له علي : يا بني ، ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك ؟ فقال كفياني يا أمير المؤمنين.
قال : ثم أن أهل الشام دنوا منه يريدونه ! والله ما يزيدهم قربهم منه ودنوهم إليه سرعةً في مشيته ، فقال له الحسن (ع) : ما ضرّك لو أسرعت حتى تنتهي إلى الذين صبروا لعدوك من أصحابك ؟ فقال علي (ع) : يا بُنَيّ ، إن لأبيك يوماً لن يعدوه ولا يبطىء به عن السعي ، ولا يقربه إليه الوقوف ، إن أباك لا يبالي إن وقع على الموت أو وقع الموت عليه.
وكان بيد الأشتر يومئذٍ صفيحةٌ يمانيةٌ ، إذا طأطأها خِلتَ فيها ماءً ينصَبّ ، وإذا رفعها يكاد يغشي البصر شعاعُها ، ومرّ يضرب الناس بها قِدماً ويقول :
فبصُرَ به الحارث بن جمهان الجعفي والأشتر مقنعٌ في الحديد ، فلم يعرفه ، فدنا منه وقال له : جزاك الله منذ اليوم عن أمير المؤمنين وعن جماعة المسلمين خيراً ، فعرفه الأشتر ، فقال : يا بن جمهان ، أمثلك يتخلفُ عن مثل موطني هذا ؟ فتأمله أبن جمهان فعرفه ـ وكان الأشتر أعظم الرجال وأطولهم إلا أن في لحمه خفة قليلة ـ فقال له : جُعِلتُ فداك والله ما علمت مكانك حتى الساعة ، ولا والله لا أفارقك حتى أموت.
وخطب الأشتر محرضاً أصحابه فقال : عَضّوا على النواجذ من الأضراس ، واستقبلوا القوم بهَامِكم ، فإن الفِرار من الزحف فيه ذَهاب العز والغلبة على الفيء وذل الحياة والممات ، وعار الدنيا والآخرة. ثم حمل على صفوف أهل الشام حتى كشفهم فألحقهم بمضارب معاوية ، وذلك بين العصر والمغرب.
وخرج علي (ع) في هذا اليوم أمام الخيل ، فحمل عليه حُريّث ، وكان حريث شديداً ، أيّداً ، ذا بأس لا يرام ، فصاح : يا علي ، هل لك في المبارزة ؟ فأقدم أبا حسن إن شئت !!
فأقبل علي (ع) وهو يقول :
ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربةً واحدة ، فقطعه نصفين.
فجزع معاوية على حريث جزعاً شديداً ، وعاتب عمراً في إغرائه بعلي (ع)
قال نصر بن مزاحم : فلما قتل حريث ، برز عمرو بن الحصين السكسكي ، فنادى : يا أبا الحسن هلم الى المبارزة ، فأومأ (ع) الى سعيد بن قيس الهمداني ، فبارزه فضربه بالسيف فقتله.
وكان لهمدان بلاء عظيم في نصرة علي (ع) في صفين ،
ثم قام علي (ع) بصفين ونادى : يا معاوية ! يكررها. فقال معاوية : سلوه ما شأنه ؟ قال : أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة ، فبرز معاوية وعمرو بن العاص فلما قارباه ، لم يلتفت إلى عمرو ، وقال لمعاوية : ويحك ؛ علام يقتتل الناس بيني وبينك ؟ ويضرب بعضهم بعضاً ؟ ؟ أبرز إلي ؛ فأينا قتل صاحبه فالأمر له !
فالتفت معاوية إلى عمرو فقال : ما ترى يا أبا عبد الله ؟ قال : قد أنصفك الرجل ، واعلم أنك إن نكلت عنه لم يزل سبَّةً عليك وعلى عقبك ما بقي على ظهر الأرض عربي.
فقال معاوية : يا بن العاص ، ليس مثلي يُخدَعُ عن نفسه. والله ما بارز ابن أبي طالب شجاعٌ إلا وسقى الأرض بدمه ! ثم انصرف معاوية راجعاً حتى انتهى إلى آخر الصفوف وعمرو معه ، فلما رأى علي (ع) ذلك ضحك وعاد إلى موقفه.
ودفع علي (ع) الراية إلى هاشم بن عتبة المعروف بالمرقال ، وقال له رجل من أصحابه من بكر بن وائل ، أقدم هاشم ، يكررها ثلاثاً. ثم قال : مالك يا هاشم قد انتفخ سحرك ؟ ! أعوراً وجبناً !! قال : من هذا ؟ قالوا : فلان قال : أهلها وخير منها إذا رأيتني قد صرعت فخذها ، ثم قال لأصحابه : شدوا شسوع نعالكم وشدوا أزركم ، فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثاً فاعلموا أن أحداً منكم لا يسبقني إلى الحملة ، ثم نظر إلى معسكر معاوية فرأى جمعاً عظيماً. فقال : من أولئك ؟ قيل : أصحاب ذي الكلاع ؟ ثم نظر فرأى جنداً ، فقال : من أولئك ؟ قيل : قريش وقوم من أهل المدينة ؟ فقال : قَومي لا حاجة لي في قتالهم ، من عند هذه القبة البيضاء ؟ قيل : معاوية وجنده. قال : فإني أرى دونهم أسودة ، قيل ذاك عمرو بن العاص
يا أعور لا خير في أعور لا يأتي الفزع.
فقال هاشم :
ثم حمل يتقدم ويركز الراية ، فإذا ركزها عاوده عمار بالقول ، فيتقدم أيضاً ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملاً لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم.
فاقتتلوا قتالاً شديداً وعمار ينادي : صبراً ، والله إن الجنة تحت ظلال البيض. وكان بأزاء هاشم وعمار أبو الأعور السلمي ، ولم يزل عمار بهاشم ينخسه وهو يزحف بالراية حتى اشتد القتال وعظم والتقى الزحفان ، واقتتلا قتالاً لم يسمع السامعون بمثله وكثرت القتلى في الفريقين جميعاً.
ثم إن أهل العراق كشفوا ميمنة أهل الشام ، فطاروا في سواد الليل ، وكشف أهل الشام ميسرة أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل ، وتبدلت الرايات بعضها ببعض ، فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم وليس حوله إلا ألف رجل ، فاقتلعوه وركزوه من وراء موضعه الأول وأحاطوا به ، ووجد أهل العراق لواءهم مركوزاً وليس حوله إلا ربيعة وعلي (ع) بينها ، وهم محيطون به وهو لا يعلم من هم ويظنهم غيرهم ، فلما أذن مؤذن علي الفجر ، قال (ع) :
ثم وقف وصلى الفجر ، فلما انفتل أبصر وجوهاً ليست بوجوه أصحابه بالأمس وإذا مكانه الذي هو فيه ما بين الميسرة إلى القلب ، فقال : من القوم ؟ قالوا : ربيعة. وانك يا أمير المؤمنين لعندنا منذ الليلة ، فقال : فخرٌ طويلٌ لك يا ربيعة.
ثم خرجت الخيول إلى القتال واصطفت بعضها لبعض ، وتزاحف الناس ، وعلى عمّار درعٌ بيضاء وهو يقول : أيها الناس ، الرواح إلى الجنة.
فقاتل القوم قتالاً شديداً لم يسمع السامعون بمثله وكثرت القتلى ، حتى إن كان الرجل ليشد طنب فسطاطه بيد الرجل أو برجله. وحكى الأشعث بعد ذلك فقال : لقد رأيت أخبية صفين وأروقتها وما فيها خباء ولا رواق ولا فسطاط إلا مربوطاً بيد إنسان أو برجله.
وحين نظر عمار إلى راية ابن العاص قال : والله انها لراية قد قاتلتها ثلاث مرات وما هذه بأرشدهن : ثم قال :
قال الأحنف بن قيس : والله إني إلى جانب عمار بن ياسر بيني وبينه رجل ، فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبة ، فقال له عمار : إحمل ، فداك أبي وأمي !
فقال له هاشم : يرحمك الله يا أبا اليقظان ؟ أنك رجل تأخذك خِفّةٌ في الحرب ، واني إنما أزحف باللواء زحفاً ، أرجو أن أنال بذلك حاجتي ، وان خفّفتُ لم آمن الهلكة ، وقد كان قال معاوية لعمرو : ويحك ، إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة ، وقد كان من قبلُ يرقِلُ به إرقالاً ، وان زحف به اليوم زحفاً انه لليوم الأطول على أهل الشام ، فإن زحف في عنق من اصحابه إني لأطمع أن تقتطع.
فلم يزل به عمار حتى حمل ، فبصُر به معاوية فوجه إليه حماة أصحابه.
قال عبد خير الهمداني : نظرت إلى عمار بن ياسر يوماً من أيام صفين قد رمي رميةً فأغمي عليه ، فلم يصل الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء ولا الفجر ، ثم أفاق. فقضاهن جميعاً ، يبدأ بأول شيء فاته ، ثم بالتي تليها.
ثم خرج عمار بن ياسر وكان له من العمر ثلاث وتسعون سنة إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فقال له يا أخا رسول الله أتأذن لي في القتال ؟ قال : مهلا رحمك الله فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام فأجابه بمثله فأعاده ثالثا فبكى أميرالمؤمنين عليه السلام ودموعه تتجارى على خده الكريم فنظر إليه عمار فقال : يا أميرالمؤمنين إنه اليوم الذي وصف لي رسول الله صلى الله عليه وآله فنزل أميرالمؤمنين صلوات الله عليه عن بغلته وعانق عمارا وودعه ثم قال : يا أبا اليقظان جزاك الله عن الله وعن نبيك خيرا فنعم الاخ كنت ونعم الصاحب كنت ثم بكا عليه السلام وبكا عمار
الله أي موقف كان ،، ساعد الله قلبك يا أمير المؤمنين ،،كم خليل قد ودعته وودعك ،
ثم قال عمار : والله يا أميرالمؤمنين ما تبعتك إلا ببصيرة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم حنين : يا عمار ستكون بعدي فتنة فإذا كان ذلك فاتبع عليا وحزبه فإنه مع الحق والحق معه وستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين .
فجزاك الله يا أميرالمؤمنين عن الاسلام أفضل الجزاء فلقد أديت وبلغت ونصحت ثم ركب وركب أميرالمؤمنين عليه السلام .
ثم دعا عمار بن ياسر عليه السلام بشربة من ماء فقيل : مامعنا ماء فقام رجل من الانصار بشربه لبن فلما رآه عمار ضحك فأسقاه شربة من لبن فشربه وقال هكذا عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكون آخر زادي من الدنيا شربة من إليه(11).وقال قيس بن أبي حازم ، قال : قال عمار بن ياسر : إدفنوني في ثيابي فإني مخاصم " . .(1)
ثم برز للقتال رضوان الله عليه متجها نحو جيش معاوية وهو يقول :
اللهم لو أعلم أنه أرضا لكم أن أرمي بنفسي من فوق هذا الجبل لرميت بها ولو أعلم أنه أرضى لك أن أوقد لنفسي نارا فأوقع فيها لفعلت وإني لا أقاتل أهل الشام إلا وأنا أريد بذلك وجهك وأنا أرجو أن لاتخيبني وأنا أريد وجهك الكريم .
وحمل عمار ذلك اليوم على صفّ أهل الشام وهو يرتجز :
ثم قال : من يبتغي رضوان ربه فلا يرجع إلى مال ولا ولد .
فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار.
فأتاه عصابة فقال : اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون بدم عثمان والله ما أرادوا الطلب بدمه ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحقبوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم فخذعوا أتباعهم بأن قالوا : إمامنا قتل مظلوما ليكونوا بذلك جبابرة وملوكا فبلغوا ماترون ولولا هذه الشبهة ما تبعهم رجلان من الناس اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت وإن تجعل لهم الامر فاذخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الاليم .
ثم مضى ومعه العصابة فكان لايمر بواد من أودية صفين إلا تبعه من كان هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله . فحمل عليهم وهو وهو يقول :
اليوم ألقى الاحبة محمدا وحزبه
فقاتلهم قتالا شديدً وهز اركانهم ، وضرب فيهم ضربات بدر وحنين ،حتى دنا من عمرو بن العاص فقال : يا عمرو بعت دينك بمصر تبا لك تبا لك فقال : لاولكن أطلب بدم عثمان .
فقال عمار له :هيهات أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشئ من فعلك وجه الله تعالى وأنك إن لم تقتل اليوم تمت غدا فانظر إذا أعطي الناس على قدر نياتهم ما نيتك لغد فإنك صاحب هذه الراية ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وهذه الرابعة ماهي بأبر ولا أتقى ثم قاتل عمار ثم حمل عمار حملة قوية وهو يقول اليوم ألقى الاحبة محمدا وحزبه ،وكان ابو الغادية اللعين يترقب عمارا فلما رآه ابو الغادية جاءه فطعنه في ركبته فوقع عمار على الارض متعثراً فضربه ابو الغادية على رأسه فوقع عمار صريعاً على الارض سابحا بدماءه ،ثم ضربه ابن حوى على رأسه واحتز رأسه .
واسيداه ،،ومصيبتاه ،، وعماراه ،،
لعن الله من قتلك ،،
صبرا آل ياسر فإن الجنة موعدكم ،
وإذا بالأصوات تتصارخ ،قتل عمار بن ياسر فاهتز جيش معاوية لان النبي قال ان عمار تقتله الفئة الباغية،،فلما وصل الخبر لامير المؤمنين عليه السلام أمر الناس أن يحملوا على أهل الشام ، فحملوا عليهم فنقضوا صفوفهم.
ثم دعا علي (ع) بفرس رسول الله ـ المرتجز ـ فركب ، ثم تقدم أمام الصفوف ، ثم قال : بل البَغلةَ ، بل البَغلة ، فقدمت له بغلة رسول الله (ص) وكانت شهباء فركبها ، ثم تعصب بعمامة رسول الله (ص) وكانت سوداء ، ثم نادى : أيها الناس ، من يشر نفسه لله يربح ، إن هذا اليوم له ما بعده ، إن عدوكم قد مسه القرح كما مسّكم ، فانتدبوا لنصرة دين الله.
فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفاً قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم ، فشد بهم على أهل الشام وهو يقول :
وتبعه عديّ بن حاتم بلوائه وهو يقول :
ثم حمل مالك الأشتر بعدهما في أهل العراق كافة ، فلم يبق لأهل الشام صفٌّ إلا إنتقض ، وأهمد أهل العراق ما أتوا عليه حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية ، وعلي (ع) يضرب الناس بسيفه قدماً قدماً ، ولا يمر بفارسٍ إلا قدَّه وهو يقول :
فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه ، فلما وضع رجله في الركاب توقف وتلوم قليلاً ثم أنشد قول عمرو بن الإظنابة :
فثنى معاوية رجله من الركاب ، ونزل فاستصرخ بعكٍّ والأشعريين ، فوقفوا دونه وجالدوا عنه حتى كره كل من الفريقين صاحبه وتحاجز الناس ،،واستمر القتال حتى هدأت المعركة وخيّم الليل ليستريح المحاربون ، غير أن أمير المؤمنين علياً أبى أن يستريح ،من القتال ،، كيف يستريح ،وهو لم يرى عمار !!!!
فأخذ يجول متفقداً من استشهد حوله يطوف بينهم ،يالله حتى وصل الى ذلك الجثمان الطاهر فوجد عمارا ملقى على الارض فوقف على أبي اليقظان عمار بن ياسر ، فبكى بكاءً شديداً ثم قال مسمعاً من حوله : إنا لله وانا اليه راجعون
« إن أمرؤ من المسلمين لم يعظُم عليه قتلُ ابن ياسر وتدخل به عليه المصيبةُ الموجعةُ لغيرُ رشيد ! رحم الله عماراً يوم أسلم ، ورحم الله عماراً يوم قُتل ، ورحم الله عماراً يوم يبعث حياً ثم صلى عليه وأنشأ يقول :
أقول :سيدي يا أمير المؤمنين يا علي ،، انت وقفت على عمّار وصليت عليه ودفنته ورأيته قتيلا فبكيت عليه ،، لفي على الذي بقي ثلاثة ايام بلا غسل ولا دفن ..
لهفي عليك يا أبا عبدالله سيدي يابن رسول الله ص ،، لهفي على زينب عليها السلام التي لم يجعلوها تدفن آخاها ،لما اجبروهم على الرحيل مروا بهم على مصرع الحسين عليه السلام ،،
قالت السيدة زينب: وهي معتنقة جسد اخيها أخي لو خيرت بين المقام عندك أو الرحيل لاخترت المقام عندك ، ولو أن السباع تأكل من لحمي .
يابن أمي ! لقد كللت عن المدافعة لهؤلاء النساء والأطفال ، وهذا متني قد أسود من الضرب !(12).
السلامُ عليك يا مولاي يا أبا عبدالله ،لا يوم كيومك يا أبا عبدالله.
والحمدُ لله الذي وفقني لكتابة هذا الموضوع،ولا حرمني ربي من دعائكم الكريم.
____________
الهوامش :
المصدر الذي نقلنا منه اكثر الوقائع ،
هو كتاب سلسة الاركان الاربعة . الشيخ محمد جواد الفقيه
1-معجم رجال الخوئي جزء13.
2-اختيار معرفة الرجال ج1 الطوسي ص 143.
3- كتاب الغدير 9 | 27 ـ 30.
4- راجع حلية الأولياء 1: 139، تفسير الزمخشري 2: 176، تفسير البيضاوي 1: 683، بهجة المحافل 1: 94، تفسير الرازي 5: 365، تفسير الخازن 3: 143، كنز العمال 6: 184، و ج 7، 75، تفسير الآلوسي 14: 237 .
5- ابن سعد في الطبقات 3: 178
وذكر الزمخشري في تفسيره 3: 22:
وذكر القرطبي في تفسير 15: 239
6- وقال أبو عمر في الاستيعاب. هذا مما اجتمع أهل التفسير عليه. وقال القرطبي: نزلت في عمار في قول أهل التفسير. وقال ابن حجر في الإصابة: اتفقوا على أنه نزل في عمار .
7- تفسير ابن كثير 2: 172 تفسير البيضاوي 1: 400، تفسير السيوطي 3: 43، تفسير الشربيني 1: 429، تفسير الخازن 2: 32، تفسير الشوكاني 2: 152
8- أسباب النزول للواحدي ص 255، تفسير القرطبي 13: 303، تفسير الزمخشري 2: 386، تفسير الخازن 3:
9-مكرر .راجع رقم 7.
10- ثمرات الاعواد علي بن الحسين الهاشمي النجفي الخطيب ج2
11- بحار الانوار ج32
12- معالي السبطين ج 2 ، الفصل العاشر ، المجلس الرابع عشر ....
جابر المحمدي المُهاجر،،
والحمدُ لله ربّ العالمين ،
وصلى الله على الحبيب المصطفى أبي القاسم محمد ،
صلى الله عليه وآله وسلم،
قال النبي صلى الله عليه وآله لعلي سلام الله عليه : الجنة تشتاق إليك ، وإلى عمار ، وسلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، عن علي عليه السلام ، قال : إستأذن عمار على النبي صلى الله عليه وآله فقال : من هذا ؟ فقيل : عمار .
قال صلى الله عليه وآله : مرحبا بالطيب ابن الطيب .(1)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: عمار جلدة بين عيني وأنفى وفي بعض النسخ جلدة ما بين عيني وأنفي.(2).وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان.(2).
حدثنا أبوعلي المحمودي محمد بن أحمد بن حماد المروزي ، قال : عمار بن ياسر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله - وقد ألقته قريش في النار - ( يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت بردا وسلاما على إبراهيم ،) فلم يصبه منها مكروه ، وقتلت قريش أبويه ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول : صبرا ياآل ياسر ، موعدكم الجنة ، ماتريدون من عمار ؟ عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان ، عمار جلدة بين عيني وأنفي ، تقتله الفئة الباغية .(1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا اختلفَ الناس ، كان ابن سمية مع الحق .(3).
عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث: إن عمارا ملئ إيمانه من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه . (4).
وأنزل الله فيه قرآناً ،يُتلى اناء الليل وأطراف النهار ،وهو قوله تعالى (( ونزلت فيه آية أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ))(5).
وقوله تعالى ((ونزلت فيه آية إلا من أكره وقلبه مطمأن بالإيمان ))(6).
وقوله تعالى (( من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس)) (7).
وقوله تعالى ((فمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ))نزلت في عمار والوليد بن المغيرة،(8).
وقوله تعالى ((من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس)) (9).وكان المشركين قد قتلوا أمه وأبوه أمامه ،
كان لعمار منزلة عند أهل البيت عليهم السلام ،حتى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله :عمار منا أهل البيت (10)و كان من الذين انكروا على أعداء أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو من الذين لم يغيروا ، ولم يبدلوا بعد نبيهم، وهو من الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة .(1)
قاتل مع نبي الله صلى الله عليه وآله ،ودافع عن دين الله تعالى ،حتى وصل الامر الى وقعة صفين التي كانت في السابع من شهر صفر عام 37 هجري.
قال أبو إسحاق : وخرج علي (ع) يوماً من أيام صفين وفي يده رُمح صغير ، فمرَّ على سعيد بن قيس الهمداني ، فقال له سعيد : أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد وأنت قرب عدوك ؟ ! فقال علي (ع) إنه ليس من أحد إلا وعليه من الله حَفَظَةٌ يحفوظونه من أن يتردى في قَلِيب ، أو يخِرّ عليه حائط ، أو تصيبه آفةٌ ، فإذا جاء القدر ، خلّوا بينَه وبينَه.
فلما أصبح صباح السابع من صفر عبأ الامام علي عليه السلام أصحابه فجعل على الميمنة عبدالله بن بديل الخزاعي وعلى الميسرة عبد الله بن العباس وقُراء العراق مع ، عمار بن ياسر ، وقيس بن سعد بن عبادة ، ، والناس على راياتهم ومراكزهم ، وعلي (ع) في القلب في أهل المدينة ، جمهورهم الأنصار ومعهم من خزاعة وكنانة.
أما ما كان من أمر معاوية فإنه رفع قبةً عظيمة ، وألقى عليها الكرابيس وجلس تحتها ، واجتمع إليه أهل الشام ، فعبأ خيله ، وعقد ألويته وأمر الأمراء وكتب الكتائب ، وأحاط به أهل حمص في راياتهم وعليهم أبو الأعور السلمي ، وأهل الأردن في راياتهم ، وعليهم عمرو بن العاص ، وأهل قنسرين ، وعليهم زفر بن الحارث الكلابي ، وأهل دمشق ـ وهم القلب ـ وعليهم الضحاك بن قيس الفهري ، فأطافوا كلهم بمعاوية.
كان يوم السابع من شهر صفر يوماً عظيماً في صفين لما لقي فيه الطرفان من أهوال شديدة.
وكان في أول الأمر أن عليا عليه السلام قد دعا أصحابه إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان
في يده إلى أهل الشام ، فقال : من يذهب إليهم فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف ؟ فسكت الناس ، وأقبل فتىً إسمه سعيد فقال : أنا صاحبه : فأعاد عليّ القول ثانيةً فسكت الناس ؛ وتقدم الفتى فقال : أنا صاحبه. فسلّمه إليه فقبضه بيده ، ثم أتاهم فناشدهم الله ودعاهم إلى ما فيه ، فقتلوه.
ثم برز حجر الشر من جيش معاوية وبرز اليه ابن عمه حجر الخير من أصحاب امير المؤمنين علي عليه السلام
وكلاهما من كندة وكان من أصحاب معاوية ، فاطّعَنا برمحيهما. وخرج رجل من بني أسد يقال له خزيمة ، من عسكر معاوية ، فضرب حجر بن عدي برمحه ، فحمل أصحاب علي (ع) فقتلوا خزيمة الأسدي ونجا حجر الشر هارباً فالتحق بصف معاوية.
ثم برز حجر الشر ثانيةً ، فبرز إليه الحكم بن أزهر ـ من أهل العراق ـ فقتله حجر الشر فخرج إليه رفاعة بن ظاهر الحميري من صف العراق فقتله ، وعاد إلى أصحابه يقول : الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر.
فقال علي (ع) لعبد الله بن بديل : إحمل عليهم الآن ؟ فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة وعليه يومئذٍ سيفان ودرعان ، فجعل يضرب بسيفه قدماً ويقول :
لـم يبـق غيـر الصبـر والتـوكـل والتـرس والـرمـح وسيفٍ مصقَـل
ثـم الـتمشـي في الـرعـيـل الأول مشي الجمـال في حيـاض الـمنهـل
فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية ومن معه ممن بايعه على الموت ، فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل ، وبعث إلى حبيب بن سلمة الفهري وهو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع من معه ، واختلط الناس ، واصطدم الفيلقان ، ميمنةُ العراق وميسرة أهل الشام ، وأقبل عبد الله يضرب الناس بسيفه قِدماً حتى أزال معاوية عن موقفه جعل ينادي : يا لثارات عثمان ـ وهو يعني أخاً له قد قُتل ـ وظن معاوية وأصحابه أنه يعني عثمان بن عفان ، وتراجع معاوية عن مكانه القهقري ، وأشفق على نفسه ، وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه ، ويحمل حبيب حملةً شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق فيكشفها حتى لم يبق مع ابن بُديل إلا نحو مائة إنسان من القراء ، فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ، ولجَجَ ابن بُديل في الناس وصمم على قتل معاوية ، وجعل يطلب موقفه ويصمد نحوه حتى انتهى اليه ومع معاوية عبد الله بن عامر واقف ، فنادى معاوية في الناس : ويلكم ، الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح ! فرضخه الناس بالصخر والحجارة حتى أثخنوه ، فسقط فأقبلوا عليه بسيوفهم فقلتوه.
وجاء معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه ، فأما عبد الله بن عامر فألقى عمامَتهُ على وجهه وترحمَ عليه وكان له أخاً صديقاً من قبل. فقال معاوية : إكشف عن وجهه ؟ فقال : لا والله لا يُمَثلُ فيه وفيَّ روح. فقال معاوية : إكشف عن وجهه فإنا لا نُمثل فيه ، قد وهبناه لك. فكشف ابن عامر عن وجهه ، فقال معاوية : هذا كبش القوم ورب الكعبة. اللهم أظفرني بالأشتر النُخعي والأشعث الكندي ،
ولمّا قُتل ابن بديل استعلى لعراق يومئذٍ ، وانكشف من قِبلِ الميمنة وأجفلوا إجفالاً شديداً ، فأمر علي (ع) سهل بن حُنيف ، فاستقدم من كان معه ليرفِدَ الميمنة ويعضدها ، فاستقبلتهم جموع أهل الشام في خيل عظيمة ، فحملت عليهم ، فألحقتهم بالميمنة ، وكانت ميمنة أهل العراق متصلةً بموقف علي (ع) في القلب في أهل اليمن ، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي (ع) ، فانصرف يمشي نحو الميسرة ، فانكشفت مضر عن الميسرة أيضاً ، فلم يبق مع علي من أهل العراق إلا ربيعة وحدها في الميسرة.
قال زيد بن وهب : لقد مرّ علي (ع) يومئذٍ ومعه بنوه نحو الميسرة ومعه ربيعة وحدها ، وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبيه ، وما من بَنيهِ إلا من يقيه بنفسه ، فيكره علي (ع) ذلك ، فيتقدم عليه ويحول بينه وبين أهل الشام ، ويأخذه بيده إذا فعل ذلك ، فيلقيه من ورائه ؛ ويُبصر به أحمر مولى بني أمية ، وكان شجاعاً، فقال عليٌّ (ع) : ورب الكعبة قتلني الله إن لم أقتلك ! فأقبل نحوه ، فخرج إليه كيسان مولى علي (ع) ، فاختلفا ضربتين ، فقتله أحمر ، وخالط علياً ليضربه بالسيف ، وينتهزه علي فتقع يده في جيب درعه ، فجذبه عن فرسه فحمله على عاتقه ، فوالله لكأني أنظر إلى رجلي أحمر تختلفان على عنق علي ، ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه ، وشد إبنا علي محمد وحسينٌ فضرباه بأسيافهما حتى برد فكأني أنظر إلى علي قائماً وشبلاه يضربان الرجل حتى إذا أتيا عليه ، أقبلا إلى أبيهما والحسن قائم معه ، فقال له علي : يا بني ، ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك ؟ فقال كفياني يا أمير المؤمنين.
قال : ثم أن أهل الشام دنوا منه يريدونه ! والله ما يزيدهم قربهم منه ودنوهم إليه سرعةً في مشيته ، فقال له الحسن (ع) : ما ضرّك لو أسرعت حتى تنتهي إلى الذين صبروا لعدوك من أصحابك ؟ فقال علي (ع) : يا بُنَيّ ، إن لأبيك يوماً لن يعدوه ولا يبطىء به عن السعي ، ولا يقربه إليه الوقوف ، إن أباك لا يبالي إن وقع على الموت أو وقع الموت عليه.
وكان بيد الأشتر يومئذٍ صفيحةٌ يمانيةٌ ، إذا طأطأها خِلتَ فيها ماءً ينصَبّ ، وإذا رفعها يكاد يغشي البصر شعاعُها ، ومرّ يضرب الناس بها قِدماً ويقول :
الغمـراتُ ، ثم ينجـلينـا
فبصُرَ به الحارث بن جمهان الجعفي والأشتر مقنعٌ في الحديد ، فلم يعرفه ، فدنا منه وقال له : جزاك الله منذ اليوم عن أمير المؤمنين وعن جماعة المسلمين خيراً ، فعرفه الأشتر ، فقال : يا بن جمهان ، أمثلك يتخلفُ عن مثل موطني هذا ؟ فتأمله أبن جمهان فعرفه ـ وكان الأشتر أعظم الرجال وأطولهم إلا أن في لحمه خفة قليلة ـ فقال له : جُعِلتُ فداك والله ما علمت مكانك حتى الساعة ، ولا والله لا أفارقك حتى أموت.
وخطب الأشتر محرضاً أصحابه فقال : عَضّوا على النواجذ من الأضراس ، واستقبلوا القوم بهَامِكم ، فإن الفِرار من الزحف فيه ذَهاب العز والغلبة على الفيء وذل الحياة والممات ، وعار الدنيا والآخرة. ثم حمل على صفوف أهل الشام حتى كشفهم فألحقهم بمضارب معاوية ، وذلك بين العصر والمغرب.
وخرج علي (ع) في هذا اليوم أمام الخيل ، فحمل عليه حُريّث ، وكان حريث شديداً ، أيّداً ، ذا بأس لا يرام ، فصاح : يا علي ، هل لك في المبارزة ؟ فأقدم أبا حسن إن شئت !!
فأقبل علي (ع) وهو يقول :
أنـا عـلي وابـن عـبـد الـمـطلـب نحن ـعمـر والله أولـى بـالكُـتُـب
منـا الـنبي الـمصطفـى غيـر كـذب * أهـل الـلـواء والـمقـام والـحُـجُـب
نحـن نصـرنـاه على كـل الـعرب
منـا الـنبي الـمصطفـى غيـر كـذب * أهـل الـلـواء والـمقـام والـحُـجُـب
نحـن نصـرنـاه على كـل الـعرب
ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربةً واحدة ، فقطعه نصفين.
فجزع معاوية على حريث جزعاً شديداً ، وعاتب عمراً في إغرائه بعلي (ع)
قال نصر بن مزاحم : فلما قتل حريث ، برز عمرو بن الحصين السكسكي ، فنادى : يا أبا الحسن هلم الى المبارزة ، فأومأ (ع) الى سعيد بن قيس الهمداني ، فبارزه فضربه بالسيف فقتله.
وكان لهمدان بلاء عظيم في نصرة علي (ع) في صفين ،
ثم قام علي (ع) بصفين ونادى : يا معاوية ! يكررها. فقال معاوية : سلوه ما شأنه ؟ قال : أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة ، فبرز معاوية وعمرو بن العاص فلما قارباه ، لم يلتفت إلى عمرو ، وقال لمعاوية : ويحك ؛ علام يقتتل الناس بيني وبينك ؟ ويضرب بعضهم بعضاً ؟ ؟ أبرز إلي ؛ فأينا قتل صاحبه فالأمر له !
فالتفت معاوية إلى عمرو فقال : ما ترى يا أبا عبد الله ؟ قال : قد أنصفك الرجل ، واعلم أنك إن نكلت عنه لم يزل سبَّةً عليك وعلى عقبك ما بقي على ظهر الأرض عربي.
فقال معاوية : يا بن العاص ، ليس مثلي يُخدَعُ عن نفسه. والله ما بارز ابن أبي طالب شجاعٌ إلا وسقى الأرض بدمه ! ثم انصرف معاوية راجعاً حتى انتهى إلى آخر الصفوف وعمرو معه ، فلما رأى علي (ع) ذلك ضحك وعاد إلى موقفه.
ودفع علي (ع) الراية إلى هاشم بن عتبة المعروف بالمرقال ، وقال له رجل من أصحابه من بكر بن وائل ، أقدم هاشم ، يكررها ثلاثاً. ثم قال : مالك يا هاشم قد انتفخ سحرك ؟ ! أعوراً وجبناً !! قال : من هذا ؟ قالوا : فلان قال : أهلها وخير منها إذا رأيتني قد صرعت فخذها ، ثم قال لأصحابه : شدوا شسوع نعالكم وشدوا أزركم ، فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثاً فاعلموا أن أحداً منكم لا يسبقني إلى الحملة ، ثم نظر إلى معسكر معاوية فرأى جمعاً عظيماً. فقال : من أولئك ؟ قيل : أصحاب ذي الكلاع ؟ ثم نظر فرأى جنداً ، فقال : من أولئك ؟ قيل : قريش وقوم من أهل المدينة ؟ فقال : قَومي لا حاجة لي في قتالهم ، من عند هذه القبة البيضاء ؟ قيل : معاوية وجنده. قال : فإني أرى دونهم أسودة ، قيل ذاك عمرو بن العاص
يا أعور لا خير في أعور لا يأتي الفزع.
فقال هاشم :
قـد أكـثـرا لـومـي ومـا أقـلا * أنـي شـريـت الـنـفـس لـن أعتـلا
أعـور يـبـغـي أهـلـه مـحـلاً * قـد عـالـج الـحـيـاة حـتـى مـلا
لا بـد أن يــفــلَّ أو يُــفــلا * أشــلـهـم بـذي الـكـعـوب شــلا
مـع ابـن عـم أحـمـد الـمعـلى * أول مــن صــدقــه وصــلــى
أعـور يـبـغـي أهـلـه مـحـلاً * قـد عـالـج الـحـيـاة حـتـى مـلا
لا بـد أن يــفــلَّ أو يُــفــلا * أشــلـهـم بـذي الـكـعـوب شــلا
مـع ابـن عـم أحـمـد الـمعـلى * أول مــن صــدقــه وصــلــى
ثم حمل يتقدم ويركز الراية ، فإذا ركزها عاوده عمار بالقول ، فيتقدم أيضاً ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملاً لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم.
فاقتتلوا قتالاً شديداً وعمار ينادي : صبراً ، والله إن الجنة تحت ظلال البيض. وكان بأزاء هاشم وعمار أبو الأعور السلمي ، ولم يزل عمار بهاشم ينخسه وهو يزحف بالراية حتى اشتد القتال وعظم والتقى الزحفان ، واقتتلا قتالاً لم يسمع السامعون بمثله وكثرت القتلى في الفريقين جميعاً.
ثم إن أهل العراق كشفوا ميمنة أهل الشام ، فطاروا في سواد الليل ، وكشف أهل الشام ميسرة أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل ، وتبدلت الرايات بعضها ببعض ، فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم وليس حوله إلا ألف رجل ، فاقتلعوه وركزوه من وراء موضعه الأول وأحاطوا به ، ووجد أهل العراق لواءهم مركوزاً وليس حوله إلا ربيعة وعلي (ع) بينها ، وهم محيطون به وهو لا يعلم من هم ويظنهم غيرهم ، فلما أذن مؤذن علي الفجر ، قال (ع) :
يـا مـرحبـاً بـالقـائليـن عـدلا * وبـالصـلاة مـرحبـاً وأهـلا
ثم وقف وصلى الفجر ، فلما انفتل أبصر وجوهاً ليست بوجوه أصحابه بالأمس وإذا مكانه الذي هو فيه ما بين الميسرة إلى القلب ، فقال : من القوم ؟ قالوا : ربيعة. وانك يا أمير المؤمنين لعندنا منذ الليلة ، فقال : فخرٌ طويلٌ لك يا ربيعة.
ثم خرجت الخيول إلى القتال واصطفت بعضها لبعض ، وتزاحف الناس ، وعلى عمّار درعٌ بيضاء وهو يقول : أيها الناس ، الرواح إلى الجنة.
فقاتل القوم قتالاً شديداً لم يسمع السامعون بمثله وكثرت القتلى ، حتى إن كان الرجل ليشد طنب فسطاطه بيد الرجل أو برجله. وحكى الأشعث بعد ذلك فقال : لقد رأيت أخبية صفين وأروقتها وما فيها خباء ولا رواق ولا فسطاط إلا مربوطاً بيد إنسان أو برجله.
وحين نظر عمار إلى راية ابن العاص قال : والله انها لراية قد قاتلتها ثلاث مرات وما هذه بأرشدهن : ثم قال :
نحـنُ ضـربـنـاكـم علـى تـأويـلـه * كـمـا ضـربنـاكـم علـى تنـزيـلـهِ
ضـربـاً يـزيـل الهـام عـن مقيـلـهِ * ويـذهـل الـخـلـيـل عـن خـليـلـهِ
أو يـرجـع الحـق إلى سبيلـه
ضـربـاً يـزيـل الهـام عـن مقيـلـهِ * ويـذهـل الـخـلـيـل عـن خـليـلـهِ
أو يـرجـع الحـق إلى سبيلـه
قال الأحنف بن قيس : والله إني إلى جانب عمار بن ياسر بيني وبينه رجل ، فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبة ، فقال له عمار : إحمل ، فداك أبي وأمي !
فقال له هاشم : يرحمك الله يا أبا اليقظان ؟ أنك رجل تأخذك خِفّةٌ في الحرب ، واني إنما أزحف باللواء زحفاً ، أرجو أن أنال بذلك حاجتي ، وان خفّفتُ لم آمن الهلكة ، وقد كان قال معاوية لعمرو : ويحك ، إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة ، وقد كان من قبلُ يرقِلُ به إرقالاً ، وان زحف به اليوم زحفاً انه لليوم الأطول على أهل الشام ، فإن زحف في عنق من اصحابه إني لأطمع أن تقتطع.
فلم يزل به عمار حتى حمل ، فبصُر به معاوية فوجه إليه حماة أصحابه.
قال عبد خير الهمداني : نظرت إلى عمار بن ياسر يوماً من أيام صفين قد رمي رميةً فأغمي عليه ، فلم يصل الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء ولا الفجر ، ثم أفاق. فقضاهن جميعاً ، يبدأ بأول شيء فاته ، ثم بالتي تليها.
ثم خرج عمار بن ياسر وكان له من العمر ثلاث وتسعون سنة إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فقال له يا أخا رسول الله أتأذن لي في القتال ؟ قال : مهلا رحمك الله فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام فأجابه بمثله فأعاده ثالثا فبكى أميرالمؤمنين عليه السلام ودموعه تتجارى على خده الكريم فنظر إليه عمار فقال : يا أميرالمؤمنين إنه اليوم الذي وصف لي رسول الله صلى الله عليه وآله فنزل أميرالمؤمنين صلوات الله عليه عن بغلته وعانق عمارا وودعه ثم قال : يا أبا اليقظان جزاك الله عن الله وعن نبيك خيرا فنعم الاخ كنت ونعم الصاحب كنت ثم بكا عليه السلام وبكا عمار
الله أي موقف كان ،، ساعد الله قلبك يا أمير المؤمنين ،،كم خليل قد ودعته وودعك ،
ثم قال عمار : والله يا أميرالمؤمنين ما تبعتك إلا ببصيرة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم حنين : يا عمار ستكون بعدي فتنة فإذا كان ذلك فاتبع عليا وحزبه فإنه مع الحق والحق معه وستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين .
فجزاك الله يا أميرالمؤمنين عن الاسلام أفضل الجزاء فلقد أديت وبلغت ونصحت ثم ركب وركب أميرالمؤمنين عليه السلام .
ثم دعا عمار بن ياسر عليه السلام بشربة من ماء فقيل : مامعنا ماء فقام رجل من الانصار بشربه لبن فلما رآه عمار ضحك فأسقاه شربة من لبن فشربه وقال هكذا عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكون آخر زادي من الدنيا شربة من إليه(11).وقال قيس بن أبي حازم ، قال : قال عمار بن ياسر : إدفنوني في ثيابي فإني مخاصم " . .(1)
ثم برز للقتال رضوان الله عليه متجها نحو جيش معاوية وهو يقول :
اللهم لو أعلم أنه أرضا لكم أن أرمي بنفسي من فوق هذا الجبل لرميت بها ولو أعلم أنه أرضى لك أن أوقد لنفسي نارا فأوقع فيها لفعلت وإني لا أقاتل أهل الشام إلا وأنا أريد بذلك وجهك وأنا أرجو أن لاتخيبني وأنا أريد وجهك الكريم .
وحمل عمار ذلك اليوم على صفّ أهل الشام وهو يرتجز :
كـلا ورب الـبـيـت لا أبـرح اجـي * حـتى أمـوت أو أرى مـا أشـتهـي
لا أفتـأ الـدهـر أحـامـي عن علـي * صهـر الرسـول ذي الأمانات الوفـي
يـنصـرنـا رب السـمـوات الـعلـي * ويـقطـع الهـام بحـدّ الـمشـرفـي
يمنحنـا الـنصـر على من يـبـتغـي * ظلمـاً علـينـا جاهـداً ما يـأتـلـي
لا أفتـأ الـدهـر أحـامـي عن علـي * صهـر الرسـول ذي الأمانات الوفـي
يـنصـرنـا رب السـمـوات الـعلـي * ويـقطـع الهـام بحـدّ الـمشـرفـي
يمنحنـا الـنصـر على من يـبـتغـي * ظلمـاً علـينـا جاهـداً ما يـأتـلـي
ثم قال : من يبتغي رضوان ربه فلا يرجع إلى مال ولا ولد .
فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار.
فأتاه عصابة فقال : اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون بدم عثمان والله ما أرادوا الطلب بدمه ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحقبوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم فخذعوا أتباعهم بأن قالوا : إمامنا قتل مظلوما ليكونوا بذلك جبابرة وملوكا فبلغوا ماترون ولولا هذه الشبهة ما تبعهم رجلان من الناس اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت وإن تجعل لهم الامر فاذخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الاليم .
ثم مضى ومعه العصابة فكان لايمر بواد من أودية صفين إلا تبعه من كان هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله . فحمل عليهم وهو وهو يقول :
اليوم ألقى الاحبة محمدا وحزبه
فقاتلهم قتالا شديدً وهز اركانهم ، وضرب فيهم ضربات بدر وحنين ،حتى دنا من عمرو بن العاص فقال : يا عمرو بعت دينك بمصر تبا لك تبا لك فقال : لاولكن أطلب بدم عثمان .
فقال عمار له :هيهات أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشئ من فعلك وجه الله تعالى وأنك إن لم تقتل اليوم تمت غدا فانظر إذا أعطي الناس على قدر نياتهم ما نيتك لغد فإنك صاحب هذه الراية ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وهذه الرابعة ماهي بأبر ولا أتقى ثم قاتل عمار ثم حمل عمار حملة قوية وهو يقول اليوم ألقى الاحبة محمدا وحزبه ،وكان ابو الغادية اللعين يترقب عمارا فلما رآه ابو الغادية جاءه فطعنه في ركبته فوقع عمار على الارض متعثراً فضربه ابو الغادية على رأسه فوقع عمار صريعاً على الارض سابحا بدماءه ،ثم ضربه ابن حوى على رأسه واحتز رأسه .
واسيداه ،،ومصيبتاه ،، وعماراه ،،
لعن الله من قتلك ،،
صبرا آل ياسر فإن الجنة موعدكم ،
وإذا بالأصوات تتصارخ ،قتل عمار بن ياسر فاهتز جيش معاوية لان النبي قال ان عمار تقتله الفئة الباغية،،فلما وصل الخبر لامير المؤمنين عليه السلام أمر الناس أن يحملوا على أهل الشام ، فحملوا عليهم فنقضوا صفوفهم.
ثم دعا علي (ع) بفرس رسول الله ـ المرتجز ـ فركب ، ثم تقدم أمام الصفوف ، ثم قال : بل البَغلةَ ، بل البَغلة ، فقدمت له بغلة رسول الله (ص) وكانت شهباء فركبها ، ثم تعصب بعمامة رسول الله (ص) وكانت سوداء ، ثم نادى : أيها الناس ، من يشر نفسه لله يربح ، إن هذا اليوم له ما بعده ، إن عدوكم قد مسه القرح كما مسّكم ، فانتدبوا لنصرة دين الله.
فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفاً قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم ، فشد بهم على أهل الشام وهو يقول :
دُبـوا دبيـبَ الـنمـل لا تـفـوتـوا * وأصبحـوا فـي حـربكـم وبيتـوا
حتـى تنـالـوا الـثـأرَ أو تمـوتـوا * أولا فانـي طــالمــا عصيــت
قـد قـلتـم لـو جـئـتـنـا فجيـتُ * ليـس لكـم مـأ شـئتـم وشـيـتُ
بـل مـا يريـد الـمحيـي الـمميـتُ
حتـى تنـالـوا الـثـأرَ أو تمـوتـوا * أولا فانـي طــالمــا عصيــت
قـد قـلتـم لـو جـئـتـنـا فجيـتُ * ليـس لكـم مـأ شـئتـم وشـيـتُ
بـل مـا يريـد الـمحيـي الـمميـتُ
وتبعه عديّ بن حاتم بلوائه وهو يقول :
أبـعـد عـمـار وبـعـد هـاشـم * وابـن بـديـل فـارس الـمـلاحـم
نرجـوا البقـاء ظـل حلم الحـالـم * لـقـد عضضنـا أمـس بـالأبـاهـم
فـالـيـوم لا نـقـرع سِـنَّ نـادم * ليـس امـرؤ مـن حـتفـه بسـالـم
نرجـوا البقـاء ظـل حلم الحـالـم * لـقـد عضضنـا أمـس بـالأبـاهـم
فـالـيـوم لا نـقـرع سِـنَّ نـادم * ليـس امـرؤ مـن حـتفـه بسـالـم
ثم حمل مالك الأشتر بعدهما في أهل العراق كافة ، فلم يبق لأهل الشام صفٌّ إلا إنتقض ، وأهمد أهل العراق ما أتوا عليه حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية ، وعلي (ع) يضرب الناس بسيفه قدماً قدماً ، ولا يمر بفارسٍ إلا قدَّه وهو يقول :
اضـربـهـم ولا أرى معـاويـة * الأخـزر العيـن العظيـم الحـاويـة
هـوَت بـه في النـار أمَّ هـاويـة
هـوَت بـه في النـار أمَّ هـاويـة
فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه ، فلما وضع رجله في الركاب توقف وتلوم قليلاً ثم أنشد قول عمرو بن الإظنابة :
نـزِلُّ عـن صـفحـتهـا المعـابـل * المـوت حـق والـحيـاة بـاطـل
فثنى معاوية رجله من الركاب ، ونزل فاستصرخ بعكٍّ والأشعريين ، فوقفوا دونه وجالدوا عنه حتى كره كل من الفريقين صاحبه وتحاجز الناس ،،واستمر القتال حتى هدأت المعركة وخيّم الليل ليستريح المحاربون ، غير أن أمير المؤمنين علياً أبى أن يستريح ،من القتال ،، كيف يستريح ،وهو لم يرى عمار !!!!
فأخذ يجول متفقداً من استشهد حوله يطوف بينهم ،يالله حتى وصل الى ذلك الجثمان الطاهر فوجد عمارا ملقى على الارض فوقف على أبي اليقظان عمار بن ياسر ، فبكى بكاءً شديداً ثم قال مسمعاً من حوله : إنا لله وانا اليه راجعون
« إن أمرؤ من المسلمين لم يعظُم عليه قتلُ ابن ياسر وتدخل به عليه المصيبةُ الموجعةُ لغيرُ رشيد ! رحم الله عماراً يوم أسلم ، ورحم الله عماراً يوم قُتل ، ورحم الله عماراً يوم يبعث حياً ثم صلى عليه وأنشأ يقول :
ألا أيها الموت الذي ليس تاركي أرحني فقد أفنيت كل خليل
أراك مضرا بالذين أحبهم كأنك تنحو نحوهم بدليل
أراك مضرا بالذين أحبهم كأنك تنحو نحوهم بدليل
أقول :سيدي يا أمير المؤمنين يا علي ،، انت وقفت على عمّار وصليت عليه ودفنته ورأيته قتيلا فبكيت عليه ،، لفي على الذي بقي ثلاثة ايام بلا غسل ولا دفن ..
لهفي عليك يا أبا عبدالله سيدي يابن رسول الله ص ،، لهفي على زينب عليها السلام التي لم يجعلوها تدفن آخاها ،لما اجبروهم على الرحيل مروا بهم على مصرع الحسين عليه السلام ،،
قالت السيدة زينب: وهي معتنقة جسد اخيها أخي لو خيرت بين المقام عندك أو الرحيل لاخترت المقام عندك ، ولو أن السباع تأكل من لحمي .
يابن أمي ! لقد كللت عن المدافعة لهؤلاء النساء والأطفال ، وهذا متني قد أسود من الضرب !(12).
السلامُ عليك يا مولاي يا أبا عبدالله ،لا يوم كيومك يا أبا عبدالله.
والحمدُ لله الذي وفقني لكتابة هذا الموضوع،ولا حرمني ربي من دعائكم الكريم.
____________
الهوامش :
المصدر الذي نقلنا منه اكثر الوقائع ،
هو كتاب سلسة الاركان الاربعة . الشيخ محمد جواد الفقيه
1-معجم رجال الخوئي جزء13.
2-اختيار معرفة الرجال ج1 الطوسي ص 143.
3- كتاب الغدير 9 | 27 ـ 30.
4- راجع حلية الأولياء 1: 139، تفسير الزمخشري 2: 176، تفسير البيضاوي 1: 683، بهجة المحافل 1: 94، تفسير الرازي 5: 365، تفسير الخازن 3: 143، كنز العمال 6: 184، و ج 7، 75، تفسير الآلوسي 14: 237 .
5- ابن سعد في الطبقات 3: 178
وذكر الزمخشري في تفسيره 3: 22:
وذكر القرطبي في تفسير 15: 239
6- وقال أبو عمر في الاستيعاب. هذا مما اجتمع أهل التفسير عليه. وقال القرطبي: نزلت في عمار في قول أهل التفسير. وقال ابن حجر في الإصابة: اتفقوا على أنه نزل في عمار .
7- تفسير ابن كثير 2: 172 تفسير البيضاوي 1: 400، تفسير السيوطي 3: 43، تفسير الشربيني 1: 429، تفسير الخازن 2: 32، تفسير الشوكاني 2: 152
8- أسباب النزول للواحدي ص 255، تفسير القرطبي 13: 303، تفسير الزمخشري 2: 386، تفسير الخازن 3:
9-مكرر .راجع رقم 7.
10- ثمرات الاعواد علي بن الحسين الهاشمي النجفي الخطيب ج2
11- بحار الانوار ج32
12- معالي السبطين ج 2 ، الفصل العاشر ، المجلس الرابع عشر ....
جابر المحمدي المُهاجر،،
تعليق