
28/07/2007
قبل نحو سبع سنوات تقريباً... رنّ هاتفه فجأة. أبلغه المتحدّث على الطرف الآخر أن يجمع والديه وإخوته في المنزل لأن شخصاً هاماً سيزورهم بعد دقائق معدودة. كانت المكالمة قد انتهت حين فهم عيسى محتوى الرسالة. لحظات قليلة دخل بعدها السيد حسن نصر الله الى غرفة الاستقبال الضيقة وقدّم التعازي للعائلة بابنها البكر الشهيد عباس. خرج عناصر «وحدة الحماية» من اللامكان فجأة. ازدحم الشارع الضيّق في محلة برج البراجنة بالمرافقين الشخصيين وبزّاتهم المتشابهة والداكنة اللون. أسرع عيسى الى الغرفة ليحضر ألبوم صور أخيه الشهيد. جلس جنباً إلى جنب مع نصرالله حتى عاتبه لاحقاً كل من شاهد التقرير المُذاع في نشرة الأخبار على التصاقه إلى هذا الحد بالأمين العام لـ«حزب الله» والدنيا حَرّ شديد. كان تبريره مقنعاً «أتحسبونني أقابله دورياً! لا نفقد أخاً كل يوم. لقد كلفتنا زيارته شهيداً».
ارتاح الزائر في مجلسه ورأى أجساد الجيران تحشر نفسها لتطل برؤوسها من فتحة باب الدار. انسلّ طفل صغير بحذر فدعاه السيد للاقتراب «تعال ولا تخف. نعم، هذا أنا من تشاهده يصدح في التلفاز».
يتندر عيسى بالحادثة، يدّعي أن السيّد لن ينساه يوماً، «فليذكِّروه فقط بالشاب الذي ثقب له أذنه من كثرة ما تكلّم طيلة نصف ساعة». وبالفعل، فبعد سنوات من الحادثة وفي احتفال جمع السيّد نصر الله بالمقاومين، اقترب عيسى منه مصافحا وسائلاً «أتذكرني يا سيّد؟»، «نعم، أنت...». ارتاب مرافقوه للشاب الصغير يهمس في أذن أمينهم العام طويلاً كأن بينهما معرفة قديمة العهد. «أنا من جماعة الحاج فلان... وعدونا بسهرة خاصة معك». جاء الجواب مقتضباً: «قريباً إن شاء الله»، «أحتاج لمناقشتك، فمتى؟». ابتسم السيد ولَكَمَ سائله على صدره مداعباً «لا تكن لجوجاً، كل شيء سيتم في حينه».
تُطلّ الشقة في المبنى الحديث على أوتوستراد الشهيد هادي نصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية. طرق الملتحون الباب ودخلوا في ساعة متأخرة من الليل. سألوا أصحاب المنزل عن إمكان إخلائه خلال ساعتين اثنتين. استغرب أهل الدار الأمر وألحّوا في الحصول على جواب من شباب «حزب الله»! لف ودوران ولم يفلحوا في فك لغز المساء. اعترف عناصر الأمن بالسر أخيراً: «السيد سيلقي خطبته غداً من على شرفتكم. دَبِّروا أنفسكم الليلة وإن لم تجدوا مكاناً تذهبون إليه فبإمكاننا تدبير إقامتكم والتكفّل بكل شيء». بالطبع كان الحزب قد رصد المكان لفترة مديدة وأعدَّ ملفاً كاملاً عن أهله وسكانه ووضع جميع الاحتمالات كما أبقاهم تحت الأنظار، كي لا تغلبهم حماستهم فيزلّ لسانهم بالمعلومة، حتى ولو كانوا محسوبين على الحزب.
انهمكت ربّة المنزل بتنظيف المنزل ورتبته أفضل ترتيب. بدأ الاحتفال وحين أطلَّ الأمين العام بعباءته السوداء ليلقي خطبته من على المنبر ملوّحاً بيده، انهالت الاتصالات من كل حدب وصوب على أصحاب الشقة تسألهم إن كان السيّد نصر الله يتحدث من منزلهم فعلاً، «هل أنتم بقربه، تشاهدونه من الخلف؟!».
انتهى النهار فأقفلوا راجعين. دخلوا المنزل مقتفين آثاره في أرجاء الغرف. بحثوا عن رائحته في الزوايا. «هل جلس على هذه الكنبة أم تلك؟ هل بات ليلته هنا، وعلى أيٍّ من الأسرّة؟» صدموا حين رأوا كل شيء على حاله. كان الجهاز الأمني قد قام بالتنظيف ورفع كل الآثار المحتملة لدرجة تصديق أنَّه لم يطأ أحد قدمه على العتبة قطّ. خطأ وحيد: كوب فيه بعض من الماء على الطاولة في وسط غرفة المعيشة... حتى حينه، لم يُغسل الكوب، فربما يكون السيّد حسن نصر الله هو الذي ارتوى من مائه. يُزيِّن الكوب المتسخ اليوم الشقة. تفتخر به ربَّة المنزل ولا تبحث عن الجواب الحقيقي لسؤالها.
رفض أحد المواطنين الأجانب ممن عملوا مع «حزب الله» على إعداد أحد المشاريع الإعلامية تقاضي بدل لأتعابه، «اسمحوا لي بالتعرف على سيِّدكم في المقابل». تدخل أحد الوسطاء وأبلغ نصر الله شخصياً برغبة الشاب. كانت الأيام أكثر أمناً من اليوم، فتم تدبير اللقاء. انتظر المدعوّ مع الآخرين في غرفة اختفت فيها الأضواء وانقطع عنها الهواء. دخل السيد بعد قليل معتذراً من ضيوفه على التأخر لأنه كان يصلّي في غرفة مجاورة. أول ما فعل الضيف المتحمّس أنه سأل نصر الله لماذا لا يرتدي الخاتم الذي يراه في يده عادةً في الخطب العامة، «أخلعه من يدي حين أتوضأ قبل الصلاة». كان الأجنبي جريئاً بما فيه الكفاية ليطلب الحصول على الخاتم. لم يردّ السيد الطلب فقدمه له هدية بكل محبة.
بعد عامين، اندلعت حرب تموز 2006، وحين سمع العالم نصر الله يعلن عبر شاشة «المنار» إغراق البارجة العسكرية الاسرائيلية، هاتفَ الأجنبي أصدقاءه في الحزب ومازحهم بالقول «أبلغوا السيد أنني أملك خاتمه. أنوي عرضه للبيع في مزاد علني حين تنتهي الحرب وسأفتح المزايدة عليه بمليون دولار أميركي...».
المصدر:الأخبار
تعليق