صنوف النسخ في القرآن:
لا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ، سواء أكان في أحكام الشرائع السابقة حيث نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية، أم في جملة من أحكام هذه الشريعة حيث نسخت بأحكام أخرى من هذه الشريعة نفسها. بل من المعلوم والمتسالم عليه عند الشرائع السابقة على الإسلام، إن كل شريعة لاحقة كانت تنسخ جملة من أحكام الشريعة السابقة عليها، وها هي صحاح اليهود والنصارى تثبت وقوع النسخ في شريعة موسى وعيسى (عليهما السَّلام)، ومن الغريب جداً إصرار اليهود على استحالة النسخ في شريعة موسى، مع أن النسخ قد وقع في موارد كثيرة من كتب العهدين:
1 فقد جاء في الإصحاح الرابع من سفر العدد "عدد2، 3":
"خذ عدد بني قهات من بين بني لاوي حسب عشائرهم، وبيوت آبائهم من ابن ثلاثين سنة فصاعداً إلى ابن خمسين سنة، كل داخلٍ في الجند ليعمل عملاً في خيمة الاجتماع".
وقد نسخ هذا الحكم، وجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ خمس وعشرين سنة بما في الإصحاح الثامن من هذا السفر "عدد23، 24": "وكلّم الرب موسى قائلاً هذا ما للاويين من ابن خمس وعشرين سنة فصاعداً، يأتون ليتجندوا جناداً في خدمة خيمة الاجتماع".
ثم نسخ ثانياً: فجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ عشرين سنة بما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من أخبار الأيام الأول "عدد24، 32": "هؤلاء بنو لاوي حسب بيوت آبائهم رؤوس الآباء حسب إحصائهم في عدد الأسماء، حسب رؤوسهم عامل العمل لخدمة بيت الرب من ابن عشرين سنة فما فوق..وليحرسوا حراسة خيمة الاجتماع، وحراسة القدس".
2 وجاء في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد "عدد3_7": "وقل لهم هذا هو الوقود الذي تقرّبون للرّب، خروفان حوليّان صحيحان لكلّ يومٍ محرقة دائمة، الخروف الواحد تعمله صباحاً والخروف الثاني تعمله بين العشاءين، وعشر الايفة من دقيق ملتوت بربع الهين من زيت الرَّضّ تقدمة، محرقة دائمة هي المعمولة في جبل سيناء لرائحة سرور وقوداً للرب، وسكيبها ربع الهين للخروف الواحد، في القدس اسكب سكيب مسكر للرب".
وقد نسخ هذا الحكم: وجعلت محرقة كل يوم حمل واحدحولي في كل صباح، وجعلت تقدمته سدس الايفة من الدقيق، وثلث الهين من الزيت، بما جاء في الإصحاح السادس والأربعين من كتاب حزقيال "عدد 13_15": "وتعمل كل يوم محرقة للرب حملاً حولياً صحيحاً صباحاً صباحاً تعمله، وتعمل عليه تقدمة صباحاً صباحاً سدس الايفة، وزيتاً ثلث الهين لرشّ الدقيق تقدمة للرب فريضة أبدية دائمة، ويعملون الحمل والتقدمة والزيت صباحاً صباحاً محرقة دائمة".
3 وجاء في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد أيضاً: "عدد 9_10": "وفي يوم السبت خروفان حوليّان صحيحان، وعُشران من دقيق ملتوت بزيت تقدمة مع سكيبه، محرقة كل سبت فضلاً عن المحرقة الدائمة وسكيبها".
وقد نسخ هذا الحكم بما جاء في الإصحاح السادس والأربعين من كتاب حزقيال أيضاً "عدد4_5": "والمحرقة التي يقرّبها الرئيس للرب في يوم السبت ستة حملان صحيحة، وكبش صحيح، والتقدمة ايفة للكبش، وللحملان تقدمة عطية يده، وهي زيت للايفة".
4 وجاء في الإصحاح الثلاثين من سفر العدد "عدد2": "إذا نذر رجل نذراً للرب، أو أقسم أن يلزم نفسه بلازم فلا ينقض كلامه، حسب كل ما خرج من فمه يفعل".
وقد نسخ جواز الحلف الثابت بحكم التوراة بما جاء في الإصحاح الخامس من إنجيل متى "العهد الجديد عند المسيحيين" عدد 33_34: "أيضاً سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث، بل أوفِ للرب أقسامك، وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة".
5 وجاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج "عدد 23_25": "وإن حصلت أذية تعطي نفساً بنفس، وعيناً بعين وسناً بسنّ، ويداً بيد ورجلاً برجل، وكيّاً بكيّ وجرحاً بجرح ورضّاً برضّ".
وقد نُسخ هذا الحكم بالنهي عن القصاص في شريعة عيسى بما جاء في الإصحاح الخامس من إنجيل متى "عدد 38": "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأماأنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً".
6 وجاء في الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين "عدد 10" في قول اللَّه لإبراهيم: "هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختن منكم كل ذكر".
وقد جاء في شريعة موسى إمضاء ذلك. ففي الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج "عدد 48_49": "وإذا نزل عندك نزيل، وصنع فصحاً للرب فليختن منه كل ذكر، ثم يتقدم ليصنعه فيكون كمولود الأرض، وأما كل أغلف فلا يأكل منه، تكون شريعة واحدة لمولود الأرض، وللنزيل النازل بينكم".
وجاء في الإصحاح الثاني عشر من سفر اللاويين "عدد 2_3": "إذا حبلت امرأة، وولدت ذكراً تكون نجسة سبعة أيام كما في أيام طمث علتها تكون نجسة، وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته".
وقد نسخ هذا الحكم، ووضع ثقل الختان عن الأمة المسيحية بما جاء في الإصحاح الخامس عشر من أعمال الرسل "عدد 24_30": "وانحدر قوم من اليهودية وجعلوا يعلّمون الإخوة أنه إنْ لم تختتنوا حسب عادة موسى لا يمكنكم أن تخلُصوا، فلمّا حصل لبولس وبرنابا منازعة ومباحثة ليست بقليلة معهم رتّبوا أن يصعد بولس وبرنابا وأناسٌ آخرون منهم إلى الرسل والمشايخ إلى أورشليم من أجل هذه المسألة.. وكتبوا بأيديهم هكذا: الرسل والمشايخ والأخوة يهدون سلاماً إلى الأخوة الذين من الأمم في أنطاكية وسوريّة وكيليكيّة، إذ قد سمعنا أن أناساً خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال مصلّبين أنفسكم وقائلين أن تختتنوا وتحفظوا الناموس، الذين نحن لم نأمرهم، رأينا وقد صرنا بنفس واحدة، لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه الأشياء الواجبة أن تمتنعوا عمّا ذبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنا التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعمّا تفعلون، كونوا معافين".
7 وجاء في الإصحاح الرابع والعشرين من التثنية "عدد 1_3": "إذا أخذ رجل امرأة وتزوّج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه، لأنّه وجد فيها عيبَ شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر، فإن أبغضها الرجلُ الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجلُ الأخيرُ الذي اتخذها له زوجةً، لا يقدر زوجها الأول الذي طلّقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجةً بعد أن تنجست، لأن ذلك رجسٌ لدى الربّ، فلا تجلب خطيّة على الأرض..".
وقد نسخ الإنجيل ذلك، وحرّم الطلاق بما جاء في الإصحاح الخامس من متى "عدد 31_32": "وقيل من طلّق امرأته فليعطها كتاب طلاق، وأما أنا فأقول لكم إن من طلّق امرأته إلاّ لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن يتزوّج مطلّقة فإنه يزني".
وجاء مثل ذلك في الإصحاح العاشر من مرقس: "عدد 11_12": "فقال لهم من طلّق امرأته وتزوّج بأخرى يزني عليها، وإن طلّقت امرأةٌ زوجها وتزوجت بآخر تزني".
وفي الإصحاح السادس عشر من لوقا "عدد 18": "كلُّ من يطلّق امرأته ويتزوّج بأخرى يزني، وكُلُّ من يتزوّج بمطلّقة من رجل يزني".
هذه نبذة مما ذكره التوراة والإنجيل على صحة وقوع النسخ فيهما، وهناك الكثير أعرضنا عن ذكرها روْماً للاختصار.
والنسخ في القرآن يتصور على أنواع، نعرضها مع التعقيب على كل نوع بما تقتضيه أداة النقد والتمحيص:
1_ نسخ الحكم والتلاوة معاً.
وماهيته أن يسقط أو يُحذف من القرآن آية كانت ذات حكم تشريعي، وكان المسلمون في عهد الرسالة يتداولونها ويقرأونها ويتعاطون حكمها، ثم نسخت وبطل حكمها ومحيت من صفحة الوجود رأساً.
هذا النوع من النسخ مرفوض عندنا نحن الشيعة الإمامية لا سيّما على مسلك المشهور كما قلنا سابقاً. نعم هو مقبول عند جمهور العامة وإن كانوا يتظاهرون بخلافه، فها هو السيوطي ومعه عبد العظيم الزرقاني يثبتان هذا النوع من النسخ في القرآن، بحجة مجيئه في حديث صحيح الإسناد إلى عائشة أنها قالت: كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرِّمن ثم نُسخن: بخمسٍ معلومات، فتوفى رسول اللَّه وهُنّ فيما يُقرأ من القرآن.
ليت شعري كيف يلتزم بالتحريف من يتهم الشيعة به، لأن إثبات هذا النوع من النسخ يرجع في واقعه إلى القول بالتحريف بأن تكون آية ذات حكم تشريعي، وكانت تتلىحتى وفاة رسول اللَّه ثم نُسيت، وليس ذلك سوى إسقاط آية بعد وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، في حين أن الأمر عكس ذلك عند جمهور المسلمين.
نعم استنكر على هذا النوع من النسخ بعض علماء العامة كالزركشي والقاضي أبو بكر في الانتصار. قال الأول: "وقد تكلّموا في قول عائشة: "وهن مما يقرأ" فإن ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك، فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة، والأظهر أن التلاوة نسخت أيضاً ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فتوفى وبعض الناس يقرأها".
وحكى الزركشي عن الثاني فأي القاضي أبي بكرف إن قوماً أنكروا هذا القسم، لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها".
وأنكر السرخسي هذا النوع من النسخ في القرآن، معترضاً على من اعتقد به، راداً الحديث المروي عن عائشة عادّاً له من أخبار الآحاد التي لا يعوّل عليها، مع أن الواحدي ممن يعتقد بوقوع هذا النوع من النسخ مستدلاً بما روي عن أبي بكر قال: كنا نقرأ "لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر" وكذا الشافعي فإنه صحّح ما يروى عن عائشة بشأن عدد الرضعات، قال النووي الدمشقي في هامش صحيح مسلم: "وأما الشافعي وموافقوهفأخذوا بحديث عائشة خمس رضعات معلومات.. واعترض أصحاب مالك على الشافعية بأن حديث عائشة هذا لا يحتج به..".
وهكذا أبو محمد ابن حزم استدل على هذا النوع من النسخ بما روي عن عائشة أيضاً.
قال السرخسي: "وحديث عائشة لا يكاد يصح لأن الراوي قال في ذلك الحديث: وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول اللَّه فدخل داجن البيت فأكله، ومعلوم أن بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب، ولا يتعذر عليهم إثباته في صحيفة أخرى، فعرفنا أنه لا أصل لهذا الحديث".
لكنَّ ذيل حديثه ينقض صدره من حيث نفيه لأصل الحديث تبرئةً منه لساحة عائشة من نسبتها النقص للقرآن، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فحيثما يأتِ الحديث عن كبرائه وساداته كغيره من علماء العامة فإنه يحار بتوجيه كلماتهم ولكنّه وأمثاله عندما تصل النوبة إلى أهل بيت محمّد تراهم كما قال تعالى:]وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً[.
وهذا النوع مجمع على بطلانه لكونه ثابتاً بأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً، فكما أن القرآن لا يثبت الخبر الواحد، كذا لا يثبت النسخ بخبر الواحد أيضاً: "لأنّ الأمور المهمة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس فلا سيّما كهذه المسألةف وانتشار الخبر عنها على فرض وجودها لا تثبت بخبر الواحد، فإن اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذب الراوي أو خطئه، وعليه فكيف يثبت بخبر الواحد أن آية الرجم وأمثالها من القرآن، وأنها قد نسخت تلاوتها وبقي حكمها" أو نسخت تلاوتها وحكمها معاً؟!
وحتى ننزه كتاب اللَّه تعالى عن شبهة الحذف والزيادة بأخبار الآحاد، فما لم يتواتر في شأن القرآن إثباتاً وحذفاً لا اعتداد به، ومن هذا الباب نسخ القرآن بأخبار الآحاد.
2_ نسخ التلاوة دون الحكم.
معناه: أن تسقط آية من القرآن الحكيم، كانت تقرأ فيعهد النص، وكانت ذات حكم تشريعي، ثم نسيت ومحيت عن صفحة الوجود، لكن حكمها بقي مستمراً غير منسوخٍ. ومثلوا لذلك بآية الرجم فقالوا: إن هذه الآية كانت من القرآن ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها، أو "كما ادعت عائشة أن خمس رضعات نسخن العشرة".
وهذا النوع من النسخ أيضاً مرفوض عند الإمامية على غرار النوع الأول بلا فرق، لأن القول بنسخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف، ومستند هذا القول أخبار آحاد، وأن أخبار الآحاد لا أثر لها في مثل هذا المقام، وأخبار الآحاد لا تفيد سوى الظن، وإن الظن لا يغني عن الحق شيئاً.
هذا فضلاً عن منافاته لمصلحة نزول نفس الآية أو الآيات، إذ لو كانت المصلحة التي كانت تقتضي نزولها هي اشتمالها على حكمٍ تشريعي ثابت، فلماذا ترفع الآية وحدها، في حين اقتضاء المصلحة بقاءها لتكون سنداً للحكم الشرعي المذكور. ومن ثمّ فإن الاعتقاد بمثل هذا استدعى تشنيع أعداء الإسلام وتعييرهم على المسلمين في كتابهم المجيد.
لذا فإن هذا القول باطل عندنا فمعاشر الإماميةف رأساً لا مبرر له إطلاقاً، فضلاً عن مساسه بقداسة القرآن الحكيم.
وخالفنا في ذلك جلُّ علماء العامة بما فيهم فقهاء كبار، التزموا بهذا القول المستند إلى لفيفٍ من أخبار آحاد زعموها صحيحة الإسناد، وهذا إيثار لكرامة القرآن على حساب روايات لا حجية فيها في هذا المجال، وإن فُرضَتْ صحيحة الإسناد في مصطلحهم، إذ صحة السند إنما تجدي من فروع مسائل فقهية، لا إذا كانت تمسّ كرامة القرآن وتمهّد السبيل لإدخال الشكوك على كتاب المسلمين.
فها هو الشيخ السرخسي أحد أكابر علماء العامة والمحقّق الأصولي الفقيه عندهم، بينما يشدّد النكير على القائل بالنسخ من النوع الأول، إذا هو يلتزم به في هذا النوع، في حين لا يوجد فرق بينهما فيما ذكره من استدلال لبطلان الأول.
قال: "وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فبيانه فيما قال علماؤنا: إن صوم كفارة اليمين ثلاثة أيام متتابعة، بقراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة، ولكن لم يوجد فيها النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن، وابن مسعود لا يشك في عدالته وإتقانه، فلا وجه لذلك إلاّ أن نقول: كان ذلك مما يتلى في القرآن فكما حفظه ابن مسعودف ثم انتسخت تلاوته في حياة رسول اللَّه بصرف القلوب عن حفظها إلا قلب ابن مسعود ليكون الحكم باقياً بنقله، فإن خبر الواحد موجب للعمل به، وقراءته لا تكون دون روايته، فكان بقاء هذا الحكم بعد نسخ التلاوة بهذا الطريق".
وقد وافقه الرأي ثلة من محققي العامة كإبن حزم الأندلسي فقال: "فأما قول من لا يرى الرجم أصلاً فقول مرغوب عنه، لأنه خلاف الثابت عن رسول اللَّه وقد كان نزل به قرآن، ولكنه نُسخ لفظه وبقى حكمه، فثم يروى عن سفيان عن عاصم عن زر قال: قال لي أُبي بن كعب: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت: أما ثلاثاً وسبعين آية أو أربعاً وسبعين آية. قال: إن كانت لتقارن سورة البقرة أو لهي أطول منها، وإن كان فيها لآية الرجم. قلت: أبا المنذر، وما آية الرجم؟ قال: (إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من اللَّه واللَّه عزيز حكيم).
قال: هذا إسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه.
ثم روى بطريق آخر عن منصور عن عاصم عن زر، وقال: فهذا سفيان الثوري ومنصور شهدا على عاصم، وما كذبا، فهما الثقتان الإمامان البدران، وما كذب عاصم على زر، ولا كذب زر على أبي.
قال أبو محمّد: ولكنّها نسخ لفظها وبقي حكمها، ولو لم ينسخ لفظها لاقرأها أُبيّ بن كعب زراً بلا شك، ولكنّه أخبره بأنها كانت تعدل سورة البقرة ولم يقل له: إنها تعدل الآن، فصحّ نسخ لفظها.
ثم يروي آية الرجم عن زيد وابن الخطاب ويقول: إسناد جيد. ويروي عن عائشة، قالت: لقد نزلت آية الرجم والرضاعة، فكانتا في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول اللَّهفصلى اللَّه عليه [وآله] وسلّم تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها. قال: وهذا حديث صحيح. وليس هو على ما ظنّوا، لأنّ آية الرجم إذ نزلت حفظت وعرفت وعمل بها رسول اللَّهفصلى اللَّه عليه [وآله] إلاّ أنّه لم يكتبها نساخ القرآن في المصاحف، ولا أثبتوا لفظها في القرآن، وقد سأله عمر بن الخطاب ذلك فلم يجبه. فصحّ نسخ لفظها، وبقيت الصحيفة التي كتبت فيها كما قالت عائشة، فأكلها الدّاجن ولا حاجة بأحد إليها.
والذي غرّ هؤلاء: إنها أحاديث رويت في الصحاح الستة وغيرها، ولا بدّ لهم فوهم متعبدون بما جاء فيها، بل هي بعد كتاب اللَّه عندهمف أن يتقبّلوها على علاّتها مهما خالفت أساليب النقد والتحقيق.
قال النووي في تعليقته على قول عمر بن الخطّاب (فكان مما أنزل اللَّه عليه آية الرجم قرأناها..).
"أراد بآية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وهذا مما نُسخ لفظه وبقي حكمه، وقد نسخ حكم دون اللفظ وقد وقع نسخهما جميعاً، فما نسخ لفظه ليس له حكم القرآن في تحريمه على الجنب ونحو ذلك، وفي ترك الصحابة كتابة هذه الآية دلالة ظاهرة أن المنسوخ لا يكتب في المصحف وفي إعلان عمربالرجم وهو على المنبر وسكوت الصحابة وغيرهم من الحاضرين عن مخالفته بالإنكار دليل على ثبوت الرجم، وقد يستدل به على أنه لا يجلد مع الرجم وقد تمتنع دلالته لأنه لم يتعرض للجلد وقد ثبت في القرآن والسنة".
حتى أنه _ أي النووي _ عدّ ذلك من كرامات عمر بن الخطاب.
هذا.. وقد أكثر جلال الدين السيوطي الأمثلة على النوع واستشهد بروايات ساقطة لإثبات صحة مدّعاه وقد نقلنا فيما تقدّم شيئاً منها؛ وكذا من قبله شيخه بدر الدين الزركشي، وقد أخذها بعض الكتّاب المحدثين أدلة قاطعة من غير تحقيق أمثال الزرقاني في مناهل العرفان حيث عدّ وقوع هذين النوعين من الواضحات لأن الوقوع أعظم دليل على الجواز كما هو مقرر، كما أنه عدّ عدم القول بوقوعهما من مخترعات المعتزلة القائلين بحجية العقل في مسائل كهذه.
وبالجملة: فما تقدّم عن عمر بن الخطاب من زعمه أن آية الرجم كانت موجودة، ثم نُسخت تلاوتها وبقي حكمها، لا يصلح للدليلية على صحة النسخ القرآني لكونه أحد أبرز مصاديق التحريف الذي يتظاهر علماء العامة بعدمه، ثم ينسبونه إلى الإمامية، والإمامية منه براء.
نعم قد تقدّم أن عمر بن الخطّاب أتى بآية الرجم وادّعى أنها من القرآن فلم يقبل قوله المسلمون، لأن نقل هذه الآية المزعومة كان منحصراً به، ولم يثبتوها في المصاحف، فالتزم المتأخرون منهم بل والمتقدمون فصوناً لعمر عن التكذيبف بأنها آية منسوخة التلاوة باقية الحكم.
3_ نسخ الحكم دون التلاوة:
ومعناه أن تبقى الآية ثابتة في الكتاب يقرأها المسلمون عبر العصور، سوى أنها من ناحية مفادها التشريعي منسوخة، لا يجوز العمل بها بعد مجيء الناسخ القاطع لحكمها.
هذا النوع من النسخ هو المشهور بين العلماء والمفسرين، وكثُر التأليف فيه، وهو في الحقيقة قليل، وإن أكثَرَ بعضُ المؤلفين من تعداد الآيات فيه، وعليه فإن هذا النوع من النسخ متفق على جوازه إمكاناً، وعلى تحققه بالفعل أيضاً حيث توجد في القرآن الكريم آيات منسوخة وآيات ناسخة، ولهذا النوع من النسخ أنحاء ثلاثة، وقع الكلام في إمكان بعضها:
الأول: أن ينسخ الحكم الثابت بالقرآن، بسنةٍ متواترة، أو بإجماع قطعي كاشف عن صدور النسخ عن المعصوم (عليه السَّلام)، نظير آية الإمتاع إلى الحول بشأن المتوفى عنها زوجها، فإنها فبظاهرهاف لا تتنافى وآية العدد والمواريث، غير أن السنَّة القطعية وإجماع المسلمين أثبتا نسخها بآية العدد والمواريث، وقد تقدّم الكلام فيها.
إن قيل: كيف ينسخ القرآن بالسنّة والإجماع، مع أنهما ظنيان، والقرآن قطعي؟
قلنا:إنّ القرآن ينسخ بالسنّة المتواترة لأن العمل بالمتواتر تماماً كالعمل بالخبر الواحد، فإذا جاز أن يكون الخبر الواحد مخصصاً لعموم الكتاب، يسوغ للمتواتر بطريق أولى أن يكون ناسخاً، لأن كلاً منهما بيان وطريق للكشف عن إرادة الشارع المقدّس.
وأما الإجماع فهو كالنصوص، ومرادنا من الإجماع، القطعي منه لا كل إجماع، لأن الإجماع اجتماع آراء، ولا مجال للرأي في معرفة ملاكات الأحكام، أو نهاية وقت الحسن والقبح. فالإجماع عندنا معشر الإمامية ليس بحجة ما لم يكشف عن رأي المعصوم (عليه السَّلام)، ومعنى هذا أن مجرد الاحتمال بخطأ الإجماع يسقطه عن الاعتبار.
الثاني: أن ينسخ مفاد آية بآية أخرى، بحيث تكون الثانية ناظرة إلى مفاد الأولى ورافعة لحكمها بالتنصيص، ولولا ذلك لم يكن موقع لنزول الثانية، وهذا كآية النجوى أوجبت التصدق بين يدي مناجاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ونسختها آية الإشفاق ]أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ[.
وهذا النحو من النسخ أيضاً لا إشكالفيه.
الثالث: أن تنسخ آية بأخرى من غير أن تكون إحداهما ناظرة إلى الأخرى سوى وجود التنافي بين الآيتين، بحيث لم يمكن الجمع بينهما تشريعاً، فكانت الثانية المتأخرة نزولاً ناسخة للأولى.
ويجب أن يكون التنافي بين الآيتين كلياً فعلى وجه التباين الكليف لا جزئياً وفي بعض الوجوه، لأن الأخير أشبه بالتخصيص منه إلى النسخ المصطلح.
والتنافي فعلى الوجه الكليف لا يمكن القطع به بين آيتين قرآنيتين سوى عن نص معصوم، لأن للقرآن ظاهراً وباطناً ومحكماً ومتشابهاً، وليس من السهل الوقوف على كنه آية مهما كانت محكمة.
وقد أنكر المحقّق السيّد الخوئي "رحمه اللَّه تعالى" هذا النحو من النسخ فقال: "والتحقيق أن هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن، كيف وقد قال اللَّه عزّ وجلّ (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) ولكنّ كثيراً من المفسرين وغيرهم لم يتأملوا حق التأمل في معاني الآيات الكريمة، فتوهموا وقوع التنافي بين كثير من الآيات، والتزموا لأجله بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة".
يرد عليه:
1 إن الاختلاف الذي تنفيه الآية الكريمة، هو ما إذا كان حقيقياً في ظرف الواقع، أما إذا كان شكلياً وفي ظاهر الأمر فكما بين الناسخ والمنسوخف فلا تناقضه الآية إطلاقاً. مثلاً يشترط في الاختلاف الحقيقي (التناقض) أمور ثمانية منها: وحدة الزمان ووحدة الملاك والشرط، وإذا تخلّف أحدها فلا تنافي ولا اختلاف، كما في الناسخ، ظرفه متأخر، وملاكه مصلحة أخرى، تبدلت عن مصلحة سابقة كانت مستدعية لذلك الحكم المنسوخ.
إذن فالتنافي بين الناسخ والمنسوخ بدوي ظاهري، أما بعد التعمق وملاحظة فترتي نزولهما والمناسبات المستدعية لنزول الأولى ثم الثانية، فإن هذا التنافي والاختلاف يرتفع نهائياً.
فالحكم المنسوخ هو في الحقيقة حكم محدود في علم اللَّه من أول تشريعه، غير أن ظاهره الدوام، ومن ثمّ كان التنافي بينه وبين الناسخ المتأخر شكلياً محضاً.
2 فكما لا يصدق الاختلاف بنظرة على القسم الثاني من النسخ الثابت في القرآن، كذا لا يصدق على القسم الثالث الذي ادّعى السيد الخوئي(قده) عدم وجوده في القرآن الحكيم، مستدلاً على ذلك بالآية الدالة على عدم وجود اختلاف في القرآن، ليت شعري أليس في القرآن متشابه ومحكم، وهما مختلفان من حيث الخصوصيات والحيثيات؟! ومن البديهي أن وجود متشابه ومحكم في القرآن لا ينفي حجيته والعمل به، فكذا وجود الناسخ لا ينفي حجية المنسوخ القرآني، إذ رفع الآية الناسخة لحكم الآية المنسوخة لا يلغي كل الخصوصيات المتعلقة بالمنسوخ.
فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود وبطلان تحققها، وبالنسخ يزول أثر الشيء من تكليف أو غيره مع بقاء أصله، فالآية المنسوخة ربما كانت ذات جهة واحدة، وربما كانت ذات جهات كثيرة، ونسخها وإزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كإهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهاتكثيرة، فالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك.
"فالناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته، وإنما يرتفع التناقض بينهما من جهة إشتمال كليهما على المصلحة المشتركة، فإذا توفى نبي وبعث نبي آخر وهما آيتان من آيات اللَّه تعالى أحدهما ناسخ للآخر، كان ذلك جرياناً على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة والموت والرزق والأجل وما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب اختلاف الأعصار وتكامل الأفراد من الإنسان، وإذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملاً على مصلحة الدين وكل من الحكمين أطبق على مصلحة الوقت، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أول الدعوة وليس للمسلمين بعد عدة ولا عدة، وحكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الإسلام، وأعد فيهم ما استطاعوا من قوة وركز الرعب في قلوب الكفار والمشركين، والآيات المنسوخة مع ذلك لا تخلو من إيماء وتلويح إلى النسخ كما في قوله تعالى: ]فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ[ المنسوخ بآية القتال، وقوله تعالى: ]فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً[ المنسوخ بآية الجلد فقوله: حتى يأتي اللَّه بأمره، وقوله: ]أو يجعل اللَّه لهنّ سبيلاً[ لا يخلو عن إشعار بأن الحكم مؤقت مؤجل سيلحقه نسخ".
النقطة الثانية: شبهات حول النسخ في القرآن الحكيم:
هناك شبهات أوردها ناكروا النسخ، فزعموا عدم إمكان النسخ في شريعة اللَّه، وبالتالي عدم وقوعه في القرآن الكريم، وهي شبهات متنوعة، ومختلفة المستوى، أهمها:
الشبهة الأولى:
إن النسخ التشريعي مستحيل بشأنه تعالى كالبداء التكويني، لأنهما عبارة عن نشأة رأي جديد، وعثور على مصلحة كانت خافية في بدء الأمر، والحال أن علمه تعالى أزلي، لا يتبدل له رأي ولا يتجدد له علم، فلا يعقل وقوفه تعالى على خطأ في تشريع قديم لينسخه بتشريع جديد.
والجواب:
إن النسخ كالبداء لكن ليس على معناه الحقيقي الذي هو عبارة عن نشأة رأي جديد، وإنما هو ظهور للناس بعد خفاء عليهم، لمصلحةٍ في هذا الإخفاء في بدء الأمر، فالنتيجة فيهما واحدة وهي الإظهار للناس بعد الخفاء عنهم، وأين هذا من تبدُّل رأيه عزّ وجلّ أو تجدد علمه حسبما أفادت الشبهة؟
فالشارع المقدّس حينما ينشىء حكماً يكون بظاهره دائماً ومستمراً، حسبما ألفه الناس من دوام الأحكام المطلقة، لكنه في الواقع كان من الأول محدوداً بأمد معلوم لديه تعالى، ولم يظهره للناس إلاّ بعد انتهاء الأمد المذكور، لمصلحة في ذلك الإخفاء، وفي هذا الإظهار المتأخر.
قد يقال: لماذا كان تحديدٌ في الأحكام، فإذا كانت في أصل تشريع الحكم مصلحة فلتقضِ الدوام، وإن لم تكن مصلحة فلا مقتضى لأصل التشريع.
جوابه: إن المصالح تختلف حسب الظروف والأحوال، كوصفات طبيب حاذق تختلف حسب اعتوار أحوال المريض واختلاف بيئته والمحيط الذي يعيش فيه، فربّ مصلحة تستدعي تشريعاً متناسباً مع بيئة خاصة وفي مستوى خاص، فإذا تغيرت الواقعية فإن المصلحة تستدعي تبديل تشريع سابق إلى تشريع لاحق يلتئم مع هذا الأخير.
أما لماذا لم ينبّه الشارع تعالى على هذا التحديد من أول الأمر؟
فلعلّ هناك مصلحة مستدعية لهذا الإخفاء، منها توطين نفوس مؤمنة وترويضها على الطاعة والانقياد، ولا سيّما إذا كان التشريع الأول أشد وأصعب، فيتبدل إلى تشريع أسهل وأخف، تسهيلاً على الأمة وتخفيفاً عليهم رحمة من اللَّه تعالى.
الشبهة الثانية:
إن وجود آية منسوخة في القرآن ربما يسبّب اشتباه المكلفين، فيظنونها آية محكمة يعملون بها أو يلتزمون بمفادها، الأمر الذي يكون إغراءً بالجهل، وهو قبيح.
الجواب:
إن خلط الأمر على المكلّفين ليس مبرراً لرفض النسخ من أساسه وإلاّ لأدى وجود المتشابه القرآني وكذا العام والمطلق إلى إنكار المحكم والخاص والمقيّد، مع أنّ أحداً من الفقهاء لم يقل به أبداً.
هذا مضافاً إلى أن مضاعفات جهل كل إنسان تعود إلى نفسه، ولم يكن الجهل يوماً ما عذراً مقبولاً لدى العقلاء، فإذا كانت المصلحة تستدعي نسخ تشريع سابق بتشريع لاحقٍ، فعلى المكلّفين أن ينبّهوا أنفسهم على هذا الاحتمال في التشريع، ولا سيّما إذا كان التشريع في بدء حركة إصلاحية آخذة في التدرُّج نحو الكمال.
وهكذا كان في القرآن ناسخ ومنسوخ وعام وخاص، وإطلاق وتقييد ومحكم ومتشابه، وليس لأحد التسرع إلى الأخذ بآية حتى يعرف نوعيتها، كما ورد التنبيه على ذلك في أحاديث مستفيضة عن أئمة الدين (عليهم السَّلام)، قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السَّلام) لقاضٍ مرّ عليه: هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟
فقال القاضي: لا، فقال (عليه السَّلام): إذن هلكت وأهلكت.
الشبهة الثالثة:
ما هي الفائدة المتوخاة وراء ثبت آية في المصحف، هي منسوخة الحكم، لتبقى مجرد ألفاظ يلوكها القرّاء عبر القرون؟
الجواب:
1 لا تنحصر فائذة آية قرآنية في الحكم التشريعي فحسب، بل التشريع هدف واحد من أهداف كثيرة ومتنوعة نزل لأجلها القرآن الكريم، فنزول آية في حكم ثم نسخه بآية أخرى لا يلغي فحسبما قدّمنا سابقاًف كل الخصوصيات الأخرى لا سيّما أن للقرآن ظهوراً وبطوناً متعددة، فإذا انتفى ظهر لا يعني إنتفاء بقية الظهور والبطون.
2 آيات كثيرة نزلت في ظروف معيّنة، ولمناسبات خاصة وأحداثٍ وقتية لا تعم الأجيال والأعصار، ولا أثر لها ففيما عدا الإعجاز والتحديف سوى الدلالة على مراحل اجتازتها الدعوة الإسلامية، والأحداث التي مرت عليها، وهي من أكبر الفوائد الباقية كنصوص تاريخية ثابتة تعيّن لنا مراحل اجتازها سير الزمن في الغابر لتكون عبرة للحاضر والآتي، وهذه الآيات نظير الآيات التي تحدثت عن قصص الماضين وأبلت أخبارهم، ليأخذ المؤمن منها العبرة والعظة.
فالتأمل في مراحل التشريع الإسلامي من مرحلة إلى مرحلة حسب استعداد الأمة من ضعفٍ إلى قوة، بحيث يشحذ الهمم ويقوّي الأفئدة إلى التسليم والطاعة، وهو من أعظم الفوائد المترتبة على هذه الآيات كما لا يخفى.
الشبهة الرابعة:
وهي أن الالتزام بوجود آيات ناسخة وأخرى منسوخة يستدعي وجود تنافٍ بين آياته الكريمة، الأمر الذي يناقضه قوله تعالى: ]أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً[، وبهذه الشبهة تمسَّك صاحب البيان لنكران وجود نسخ كهذا في القرآن الكريم.
وقد تقدمت الإجابة عنها وللَّه الحمد.
فالصحيح فإذنف أن المشهور عند العامة هو القول بالتحريف لأن نسخ التلاوة هو نفسه القول بالتحريف، وعليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة فعند علماء العامة فيستلزم اشتهار القول بالتحريف.
لا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ، سواء أكان في أحكام الشرائع السابقة حيث نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية، أم في جملة من أحكام هذه الشريعة حيث نسخت بأحكام أخرى من هذه الشريعة نفسها. بل من المعلوم والمتسالم عليه عند الشرائع السابقة على الإسلام، إن كل شريعة لاحقة كانت تنسخ جملة من أحكام الشريعة السابقة عليها، وها هي صحاح اليهود والنصارى تثبت وقوع النسخ في شريعة موسى وعيسى (عليهما السَّلام)، ومن الغريب جداً إصرار اليهود على استحالة النسخ في شريعة موسى، مع أن النسخ قد وقع في موارد كثيرة من كتب العهدين:
1 فقد جاء في الإصحاح الرابع من سفر العدد "عدد2، 3":
"خذ عدد بني قهات من بين بني لاوي حسب عشائرهم، وبيوت آبائهم من ابن ثلاثين سنة فصاعداً إلى ابن خمسين سنة، كل داخلٍ في الجند ليعمل عملاً في خيمة الاجتماع".
وقد نسخ هذا الحكم، وجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ خمس وعشرين سنة بما في الإصحاح الثامن من هذا السفر "عدد23، 24": "وكلّم الرب موسى قائلاً هذا ما للاويين من ابن خمس وعشرين سنة فصاعداً، يأتون ليتجندوا جناداً في خدمة خيمة الاجتماع".
ثم نسخ ثانياً: فجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ عشرين سنة بما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من أخبار الأيام الأول "عدد24، 32": "هؤلاء بنو لاوي حسب بيوت آبائهم رؤوس الآباء حسب إحصائهم في عدد الأسماء، حسب رؤوسهم عامل العمل لخدمة بيت الرب من ابن عشرين سنة فما فوق..وليحرسوا حراسة خيمة الاجتماع، وحراسة القدس".
2 وجاء في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد "عدد3_7": "وقل لهم هذا هو الوقود الذي تقرّبون للرّب، خروفان حوليّان صحيحان لكلّ يومٍ محرقة دائمة، الخروف الواحد تعمله صباحاً والخروف الثاني تعمله بين العشاءين، وعشر الايفة من دقيق ملتوت بربع الهين من زيت الرَّضّ تقدمة، محرقة دائمة هي المعمولة في جبل سيناء لرائحة سرور وقوداً للرب، وسكيبها ربع الهين للخروف الواحد، في القدس اسكب سكيب مسكر للرب".
وقد نسخ هذا الحكم: وجعلت محرقة كل يوم حمل واحدحولي في كل صباح، وجعلت تقدمته سدس الايفة من الدقيق، وثلث الهين من الزيت، بما جاء في الإصحاح السادس والأربعين من كتاب حزقيال "عدد 13_15": "وتعمل كل يوم محرقة للرب حملاً حولياً صحيحاً صباحاً صباحاً تعمله، وتعمل عليه تقدمة صباحاً صباحاً سدس الايفة، وزيتاً ثلث الهين لرشّ الدقيق تقدمة للرب فريضة أبدية دائمة، ويعملون الحمل والتقدمة والزيت صباحاً صباحاً محرقة دائمة".
3 وجاء في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد أيضاً: "عدد 9_10": "وفي يوم السبت خروفان حوليّان صحيحان، وعُشران من دقيق ملتوت بزيت تقدمة مع سكيبه، محرقة كل سبت فضلاً عن المحرقة الدائمة وسكيبها".
وقد نسخ هذا الحكم بما جاء في الإصحاح السادس والأربعين من كتاب حزقيال أيضاً "عدد4_5": "والمحرقة التي يقرّبها الرئيس للرب في يوم السبت ستة حملان صحيحة، وكبش صحيح، والتقدمة ايفة للكبش، وللحملان تقدمة عطية يده، وهي زيت للايفة".
4 وجاء في الإصحاح الثلاثين من سفر العدد "عدد2": "إذا نذر رجل نذراً للرب، أو أقسم أن يلزم نفسه بلازم فلا ينقض كلامه، حسب كل ما خرج من فمه يفعل".
وقد نسخ جواز الحلف الثابت بحكم التوراة بما جاء في الإصحاح الخامس من إنجيل متى "العهد الجديد عند المسيحيين" عدد 33_34: "أيضاً سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث، بل أوفِ للرب أقسامك، وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة".
5 وجاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج "عدد 23_25": "وإن حصلت أذية تعطي نفساً بنفس، وعيناً بعين وسناً بسنّ، ويداً بيد ورجلاً برجل، وكيّاً بكيّ وجرحاً بجرح ورضّاً برضّ".
وقد نُسخ هذا الحكم بالنهي عن القصاص في شريعة عيسى بما جاء في الإصحاح الخامس من إنجيل متى "عدد 38": "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأماأنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً".
6 وجاء في الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين "عدد 10" في قول اللَّه لإبراهيم: "هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختن منكم كل ذكر".
وقد جاء في شريعة موسى إمضاء ذلك. ففي الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج "عدد 48_49": "وإذا نزل عندك نزيل، وصنع فصحاً للرب فليختن منه كل ذكر، ثم يتقدم ليصنعه فيكون كمولود الأرض، وأما كل أغلف فلا يأكل منه، تكون شريعة واحدة لمولود الأرض، وللنزيل النازل بينكم".
وجاء في الإصحاح الثاني عشر من سفر اللاويين "عدد 2_3": "إذا حبلت امرأة، وولدت ذكراً تكون نجسة سبعة أيام كما في أيام طمث علتها تكون نجسة، وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته".
وقد نسخ هذا الحكم، ووضع ثقل الختان عن الأمة المسيحية بما جاء في الإصحاح الخامس عشر من أعمال الرسل "عدد 24_30": "وانحدر قوم من اليهودية وجعلوا يعلّمون الإخوة أنه إنْ لم تختتنوا حسب عادة موسى لا يمكنكم أن تخلُصوا، فلمّا حصل لبولس وبرنابا منازعة ومباحثة ليست بقليلة معهم رتّبوا أن يصعد بولس وبرنابا وأناسٌ آخرون منهم إلى الرسل والمشايخ إلى أورشليم من أجل هذه المسألة.. وكتبوا بأيديهم هكذا: الرسل والمشايخ والأخوة يهدون سلاماً إلى الأخوة الذين من الأمم في أنطاكية وسوريّة وكيليكيّة، إذ قد سمعنا أن أناساً خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال مصلّبين أنفسكم وقائلين أن تختتنوا وتحفظوا الناموس، الذين نحن لم نأمرهم، رأينا وقد صرنا بنفس واحدة، لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه الأشياء الواجبة أن تمتنعوا عمّا ذبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنا التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعمّا تفعلون، كونوا معافين".
7 وجاء في الإصحاح الرابع والعشرين من التثنية "عدد 1_3": "إذا أخذ رجل امرأة وتزوّج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه، لأنّه وجد فيها عيبَ شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر، فإن أبغضها الرجلُ الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجلُ الأخيرُ الذي اتخذها له زوجةً، لا يقدر زوجها الأول الذي طلّقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجةً بعد أن تنجست، لأن ذلك رجسٌ لدى الربّ، فلا تجلب خطيّة على الأرض..".
وقد نسخ الإنجيل ذلك، وحرّم الطلاق بما جاء في الإصحاح الخامس من متى "عدد 31_32": "وقيل من طلّق امرأته فليعطها كتاب طلاق، وأما أنا فأقول لكم إن من طلّق امرأته إلاّ لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن يتزوّج مطلّقة فإنه يزني".
وجاء مثل ذلك في الإصحاح العاشر من مرقس: "عدد 11_12": "فقال لهم من طلّق امرأته وتزوّج بأخرى يزني عليها، وإن طلّقت امرأةٌ زوجها وتزوجت بآخر تزني".
وفي الإصحاح السادس عشر من لوقا "عدد 18": "كلُّ من يطلّق امرأته ويتزوّج بأخرى يزني، وكُلُّ من يتزوّج بمطلّقة من رجل يزني".
هذه نبذة مما ذكره التوراة والإنجيل على صحة وقوع النسخ فيهما، وهناك الكثير أعرضنا عن ذكرها روْماً للاختصار.
والنسخ في القرآن يتصور على أنواع، نعرضها مع التعقيب على كل نوع بما تقتضيه أداة النقد والتمحيص:
1_ نسخ الحكم والتلاوة معاً.
وماهيته أن يسقط أو يُحذف من القرآن آية كانت ذات حكم تشريعي، وكان المسلمون في عهد الرسالة يتداولونها ويقرأونها ويتعاطون حكمها، ثم نسخت وبطل حكمها ومحيت من صفحة الوجود رأساً.
هذا النوع من النسخ مرفوض عندنا نحن الشيعة الإمامية لا سيّما على مسلك المشهور كما قلنا سابقاً. نعم هو مقبول عند جمهور العامة وإن كانوا يتظاهرون بخلافه، فها هو السيوطي ومعه عبد العظيم الزرقاني يثبتان هذا النوع من النسخ في القرآن، بحجة مجيئه في حديث صحيح الإسناد إلى عائشة أنها قالت: كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرِّمن ثم نُسخن: بخمسٍ معلومات، فتوفى رسول اللَّه وهُنّ فيما يُقرأ من القرآن.
ليت شعري كيف يلتزم بالتحريف من يتهم الشيعة به، لأن إثبات هذا النوع من النسخ يرجع في واقعه إلى القول بالتحريف بأن تكون آية ذات حكم تشريعي، وكانت تتلىحتى وفاة رسول اللَّه ثم نُسيت، وليس ذلك سوى إسقاط آية بعد وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، في حين أن الأمر عكس ذلك عند جمهور المسلمين.
نعم استنكر على هذا النوع من النسخ بعض علماء العامة كالزركشي والقاضي أبو بكر في الانتصار. قال الأول: "وقد تكلّموا في قول عائشة: "وهن مما يقرأ" فإن ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك، فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة، والأظهر أن التلاوة نسخت أيضاً ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فتوفى وبعض الناس يقرأها".
وحكى الزركشي عن الثاني فأي القاضي أبي بكرف إن قوماً أنكروا هذا القسم، لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها".
وأنكر السرخسي هذا النوع من النسخ في القرآن، معترضاً على من اعتقد به، راداً الحديث المروي عن عائشة عادّاً له من أخبار الآحاد التي لا يعوّل عليها، مع أن الواحدي ممن يعتقد بوقوع هذا النوع من النسخ مستدلاً بما روي عن أبي بكر قال: كنا نقرأ "لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر" وكذا الشافعي فإنه صحّح ما يروى عن عائشة بشأن عدد الرضعات، قال النووي الدمشقي في هامش صحيح مسلم: "وأما الشافعي وموافقوهفأخذوا بحديث عائشة خمس رضعات معلومات.. واعترض أصحاب مالك على الشافعية بأن حديث عائشة هذا لا يحتج به..".
وهكذا أبو محمد ابن حزم استدل على هذا النوع من النسخ بما روي عن عائشة أيضاً.
قال السرخسي: "وحديث عائشة لا يكاد يصح لأن الراوي قال في ذلك الحديث: وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول اللَّه فدخل داجن البيت فأكله، ومعلوم أن بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب، ولا يتعذر عليهم إثباته في صحيفة أخرى، فعرفنا أنه لا أصل لهذا الحديث".
لكنَّ ذيل حديثه ينقض صدره من حيث نفيه لأصل الحديث تبرئةً منه لساحة عائشة من نسبتها النقص للقرآن، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فحيثما يأتِ الحديث عن كبرائه وساداته كغيره من علماء العامة فإنه يحار بتوجيه كلماتهم ولكنّه وأمثاله عندما تصل النوبة إلى أهل بيت محمّد تراهم كما قال تعالى:]وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً[.
وهذا النوع مجمع على بطلانه لكونه ثابتاً بأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً، فكما أن القرآن لا يثبت الخبر الواحد، كذا لا يثبت النسخ بخبر الواحد أيضاً: "لأنّ الأمور المهمة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس فلا سيّما كهذه المسألةف وانتشار الخبر عنها على فرض وجودها لا تثبت بخبر الواحد، فإن اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذب الراوي أو خطئه، وعليه فكيف يثبت بخبر الواحد أن آية الرجم وأمثالها من القرآن، وأنها قد نسخت تلاوتها وبقي حكمها" أو نسخت تلاوتها وحكمها معاً؟!
وحتى ننزه كتاب اللَّه تعالى عن شبهة الحذف والزيادة بأخبار الآحاد، فما لم يتواتر في شأن القرآن إثباتاً وحذفاً لا اعتداد به، ومن هذا الباب نسخ القرآن بأخبار الآحاد.
2_ نسخ التلاوة دون الحكم.
معناه: أن تسقط آية من القرآن الحكيم، كانت تقرأ فيعهد النص، وكانت ذات حكم تشريعي، ثم نسيت ومحيت عن صفحة الوجود، لكن حكمها بقي مستمراً غير منسوخٍ. ومثلوا لذلك بآية الرجم فقالوا: إن هذه الآية كانت من القرآن ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها، أو "كما ادعت عائشة أن خمس رضعات نسخن العشرة".
وهذا النوع من النسخ أيضاً مرفوض عند الإمامية على غرار النوع الأول بلا فرق، لأن القول بنسخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف، ومستند هذا القول أخبار آحاد، وأن أخبار الآحاد لا أثر لها في مثل هذا المقام، وأخبار الآحاد لا تفيد سوى الظن، وإن الظن لا يغني عن الحق شيئاً.
هذا فضلاً عن منافاته لمصلحة نزول نفس الآية أو الآيات، إذ لو كانت المصلحة التي كانت تقتضي نزولها هي اشتمالها على حكمٍ تشريعي ثابت، فلماذا ترفع الآية وحدها، في حين اقتضاء المصلحة بقاءها لتكون سنداً للحكم الشرعي المذكور. ومن ثمّ فإن الاعتقاد بمثل هذا استدعى تشنيع أعداء الإسلام وتعييرهم على المسلمين في كتابهم المجيد.
لذا فإن هذا القول باطل عندنا فمعاشر الإماميةف رأساً لا مبرر له إطلاقاً، فضلاً عن مساسه بقداسة القرآن الحكيم.
وخالفنا في ذلك جلُّ علماء العامة بما فيهم فقهاء كبار، التزموا بهذا القول المستند إلى لفيفٍ من أخبار آحاد زعموها صحيحة الإسناد، وهذا إيثار لكرامة القرآن على حساب روايات لا حجية فيها في هذا المجال، وإن فُرضَتْ صحيحة الإسناد في مصطلحهم، إذ صحة السند إنما تجدي من فروع مسائل فقهية، لا إذا كانت تمسّ كرامة القرآن وتمهّد السبيل لإدخال الشكوك على كتاب المسلمين.
فها هو الشيخ السرخسي أحد أكابر علماء العامة والمحقّق الأصولي الفقيه عندهم، بينما يشدّد النكير على القائل بالنسخ من النوع الأول، إذا هو يلتزم به في هذا النوع، في حين لا يوجد فرق بينهما فيما ذكره من استدلال لبطلان الأول.
قال: "وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فبيانه فيما قال علماؤنا: إن صوم كفارة اليمين ثلاثة أيام متتابعة، بقراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة، ولكن لم يوجد فيها النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن، وابن مسعود لا يشك في عدالته وإتقانه، فلا وجه لذلك إلاّ أن نقول: كان ذلك مما يتلى في القرآن فكما حفظه ابن مسعودف ثم انتسخت تلاوته في حياة رسول اللَّه بصرف القلوب عن حفظها إلا قلب ابن مسعود ليكون الحكم باقياً بنقله، فإن خبر الواحد موجب للعمل به، وقراءته لا تكون دون روايته، فكان بقاء هذا الحكم بعد نسخ التلاوة بهذا الطريق".
وقد وافقه الرأي ثلة من محققي العامة كإبن حزم الأندلسي فقال: "فأما قول من لا يرى الرجم أصلاً فقول مرغوب عنه، لأنه خلاف الثابت عن رسول اللَّه وقد كان نزل به قرآن، ولكنه نُسخ لفظه وبقى حكمه، فثم يروى عن سفيان عن عاصم عن زر قال: قال لي أُبي بن كعب: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت: أما ثلاثاً وسبعين آية أو أربعاً وسبعين آية. قال: إن كانت لتقارن سورة البقرة أو لهي أطول منها، وإن كان فيها لآية الرجم. قلت: أبا المنذر، وما آية الرجم؟ قال: (إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من اللَّه واللَّه عزيز حكيم).
قال: هذا إسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه.
ثم روى بطريق آخر عن منصور عن عاصم عن زر، وقال: فهذا سفيان الثوري ومنصور شهدا على عاصم، وما كذبا، فهما الثقتان الإمامان البدران، وما كذب عاصم على زر، ولا كذب زر على أبي.
قال أبو محمّد: ولكنّها نسخ لفظها وبقي حكمها، ولو لم ينسخ لفظها لاقرأها أُبيّ بن كعب زراً بلا شك، ولكنّه أخبره بأنها كانت تعدل سورة البقرة ولم يقل له: إنها تعدل الآن، فصحّ نسخ لفظها.
ثم يروي آية الرجم عن زيد وابن الخطاب ويقول: إسناد جيد. ويروي عن عائشة، قالت: لقد نزلت آية الرجم والرضاعة، فكانتا في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول اللَّهفصلى اللَّه عليه [وآله] وسلّم تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها. قال: وهذا حديث صحيح. وليس هو على ما ظنّوا، لأنّ آية الرجم إذ نزلت حفظت وعرفت وعمل بها رسول اللَّهفصلى اللَّه عليه [وآله] إلاّ أنّه لم يكتبها نساخ القرآن في المصاحف، ولا أثبتوا لفظها في القرآن، وقد سأله عمر بن الخطاب ذلك فلم يجبه. فصحّ نسخ لفظها، وبقيت الصحيفة التي كتبت فيها كما قالت عائشة، فأكلها الدّاجن ولا حاجة بأحد إليها.
والذي غرّ هؤلاء: إنها أحاديث رويت في الصحاح الستة وغيرها، ولا بدّ لهم فوهم متعبدون بما جاء فيها، بل هي بعد كتاب اللَّه عندهمف أن يتقبّلوها على علاّتها مهما خالفت أساليب النقد والتحقيق.
قال النووي في تعليقته على قول عمر بن الخطّاب (فكان مما أنزل اللَّه عليه آية الرجم قرأناها..).
"أراد بآية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وهذا مما نُسخ لفظه وبقي حكمه، وقد نسخ حكم دون اللفظ وقد وقع نسخهما جميعاً، فما نسخ لفظه ليس له حكم القرآن في تحريمه على الجنب ونحو ذلك، وفي ترك الصحابة كتابة هذه الآية دلالة ظاهرة أن المنسوخ لا يكتب في المصحف وفي إعلان عمربالرجم وهو على المنبر وسكوت الصحابة وغيرهم من الحاضرين عن مخالفته بالإنكار دليل على ثبوت الرجم، وقد يستدل به على أنه لا يجلد مع الرجم وقد تمتنع دلالته لأنه لم يتعرض للجلد وقد ثبت في القرآن والسنة".
حتى أنه _ أي النووي _ عدّ ذلك من كرامات عمر بن الخطاب.
هذا.. وقد أكثر جلال الدين السيوطي الأمثلة على النوع واستشهد بروايات ساقطة لإثبات صحة مدّعاه وقد نقلنا فيما تقدّم شيئاً منها؛ وكذا من قبله شيخه بدر الدين الزركشي، وقد أخذها بعض الكتّاب المحدثين أدلة قاطعة من غير تحقيق أمثال الزرقاني في مناهل العرفان حيث عدّ وقوع هذين النوعين من الواضحات لأن الوقوع أعظم دليل على الجواز كما هو مقرر، كما أنه عدّ عدم القول بوقوعهما من مخترعات المعتزلة القائلين بحجية العقل في مسائل كهذه.
وبالجملة: فما تقدّم عن عمر بن الخطاب من زعمه أن آية الرجم كانت موجودة، ثم نُسخت تلاوتها وبقي حكمها، لا يصلح للدليلية على صحة النسخ القرآني لكونه أحد أبرز مصاديق التحريف الذي يتظاهر علماء العامة بعدمه، ثم ينسبونه إلى الإمامية، والإمامية منه براء.
نعم قد تقدّم أن عمر بن الخطّاب أتى بآية الرجم وادّعى أنها من القرآن فلم يقبل قوله المسلمون، لأن نقل هذه الآية المزعومة كان منحصراً به، ولم يثبتوها في المصاحف، فالتزم المتأخرون منهم بل والمتقدمون فصوناً لعمر عن التكذيبف بأنها آية منسوخة التلاوة باقية الحكم.
3_ نسخ الحكم دون التلاوة:
ومعناه أن تبقى الآية ثابتة في الكتاب يقرأها المسلمون عبر العصور، سوى أنها من ناحية مفادها التشريعي منسوخة، لا يجوز العمل بها بعد مجيء الناسخ القاطع لحكمها.
هذا النوع من النسخ هو المشهور بين العلماء والمفسرين، وكثُر التأليف فيه، وهو في الحقيقة قليل، وإن أكثَرَ بعضُ المؤلفين من تعداد الآيات فيه، وعليه فإن هذا النوع من النسخ متفق على جوازه إمكاناً، وعلى تحققه بالفعل أيضاً حيث توجد في القرآن الكريم آيات منسوخة وآيات ناسخة، ولهذا النوع من النسخ أنحاء ثلاثة، وقع الكلام في إمكان بعضها:
الأول: أن ينسخ الحكم الثابت بالقرآن، بسنةٍ متواترة، أو بإجماع قطعي كاشف عن صدور النسخ عن المعصوم (عليه السَّلام)، نظير آية الإمتاع إلى الحول بشأن المتوفى عنها زوجها، فإنها فبظاهرهاف لا تتنافى وآية العدد والمواريث، غير أن السنَّة القطعية وإجماع المسلمين أثبتا نسخها بآية العدد والمواريث، وقد تقدّم الكلام فيها.
إن قيل: كيف ينسخ القرآن بالسنّة والإجماع، مع أنهما ظنيان، والقرآن قطعي؟
قلنا:إنّ القرآن ينسخ بالسنّة المتواترة لأن العمل بالمتواتر تماماً كالعمل بالخبر الواحد، فإذا جاز أن يكون الخبر الواحد مخصصاً لعموم الكتاب، يسوغ للمتواتر بطريق أولى أن يكون ناسخاً، لأن كلاً منهما بيان وطريق للكشف عن إرادة الشارع المقدّس.
وأما الإجماع فهو كالنصوص، ومرادنا من الإجماع، القطعي منه لا كل إجماع، لأن الإجماع اجتماع آراء، ولا مجال للرأي في معرفة ملاكات الأحكام، أو نهاية وقت الحسن والقبح. فالإجماع عندنا معشر الإمامية ليس بحجة ما لم يكشف عن رأي المعصوم (عليه السَّلام)، ومعنى هذا أن مجرد الاحتمال بخطأ الإجماع يسقطه عن الاعتبار.
الثاني: أن ينسخ مفاد آية بآية أخرى، بحيث تكون الثانية ناظرة إلى مفاد الأولى ورافعة لحكمها بالتنصيص، ولولا ذلك لم يكن موقع لنزول الثانية، وهذا كآية النجوى أوجبت التصدق بين يدي مناجاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ونسختها آية الإشفاق ]أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ[.
وهذا النحو من النسخ أيضاً لا إشكالفيه.
الثالث: أن تنسخ آية بأخرى من غير أن تكون إحداهما ناظرة إلى الأخرى سوى وجود التنافي بين الآيتين، بحيث لم يمكن الجمع بينهما تشريعاً، فكانت الثانية المتأخرة نزولاً ناسخة للأولى.
ويجب أن يكون التنافي بين الآيتين كلياً فعلى وجه التباين الكليف لا جزئياً وفي بعض الوجوه، لأن الأخير أشبه بالتخصيص منه إلى النسخ المصطلح.
والتنافي فعلى الوجه الكليف لا يمكن القطع به بين آيتين قرآنيتين سوى عن نص معصوم، لأن للقرآن ظاهراً وباطناً ومحكماً ومتشابهاً، وليس من السهل الوقوف على كنه آية مهما كانت محكمة.
وقد أنكر المحقّق السيّد الخوئي "رحمه اللَّه تعالى" هذا النحو من النسخ فقال: "والتحقيق أن هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن، كيف وقد قال اللَّه عزّ وجلّ (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) ولكنّ كثيراً من المفسرين وغيرهم لم يتأملوا حق التأمل في معاني الآيات الكريمة، فتوهموا وقوع التنافي بين كثير من الآيات، والتزموا لأجله بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة".
يرد عليه:
1 إن الاختلاف الذي تنفيه الآية الكريمة، هو ما إذا كان حقيقياً في ظرف الواقع، أما إذا كان شكلياً وفي ظاهر الأمر فكما بين الناسخ والمنسوخف فلا تناقضه الآية إطلاقاً. مثلاً يشترط في الاختلاف الحقيقي (التناقض) أمور ثمانية منها: وحدة الزمان ووحدة الملاك والشرط، وإذا تخلّف أحدها فلا تنافي ولا اختلاف، كما في الناسخ، ظرفه متأخر، وملاكه مصلحة أخرى، تبدلت عن مصلحة سابقة كانت مستدعية لذلك الحكم المنسوخ.
إذن فالتنافي بين الناسخ والمنسوخ بدوي ظاهري، أما بعد التعمق وملاحظة فترتي نزولهما والمناسبات المستدعية لنزول الأولى ثم الثانية، فإن هذا التنافي والاختلاف يرتفع نهائياً.
فالحكم المنسوخ هو في الحقيقة حكم محدود في علم اللَّه من أول تشريعه، غير أن ظاهره الدوام، ومن ثمّ كان التنافي بينه وبين الناسخ المتأخر شكلياً محضاً.
2 فكما لا يصدق الاختلاف بنظرة على القسم الثاني من النسخ الثابت في القرآن، كذا لا يصدق على القسم الثالث الذي ادّعى السيد الخوئي(قده) عدم وجوده في القرآن الحكيم، مستدلاً على ذلك بالآية الدالة على عدم وجود اختلاف في القرآن، ليت شعري أليس في القرآن متشابه ومحكم، وهما مختلفان من حيث الخصوصيات والحيثيات؟! ومن البديهي أن وجود متشابه ومحكم في القرآن لا ينفي حجيته والعمل به، فكذا وجود الناسخ لا ينفي حجية المنسوخ القرآني، إذ رفع الآية الناسخة لحكم الآية المنسوخة لا يلغي كل الخصوصيات المتعلقة بالمنسوخ.
فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود وبطلان تحققها، وبالنسخ يزول أثر الشيء من تكليف أو غيره مع بقاء أصله، فالآية المنسوخة ربما كانت ذات جهة واحدة، وربما كانت ذات جهات كثيرة، ونسخها وإزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كإهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهاتكثيرة، فالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك.
"فالناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته، وإنما يرتفع التناقض بينهما من جهة إشتمال كليهما على المصلحة المشتركة، فإذا توفى نبي وبعث نبي آخر وهما آيتان من آيات اللَّه تعالى أحدهما ناسخ للآخر، كان ذلك جرياناً على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة والموت والرزق والأجل وما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب اختلاف الأعصار وتكامل الأفراد من الإنسان، وإذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملاً على مصلحة الدين وكل من الحكمين أطبق على مصلحة الوقت، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أول الدعوة وليس للمسلمين بعد عدة ولا عدة، وحكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الإسلام، وأعد فيهم ما استطاعوا من قوة وركز الرعب في قلوب الكفار والمشركين، والآيات المنسوخة مع ذلك لا تخلو من إيماء وتلويح إلى النسخ كما في قوله تعالى: ]فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ[ المنسوخ بآية القتال، وقوله تعالى: ]فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً[ المنسوخ بآية الجلد فقوله: حتى يأتي اللَّه بأمره، وقوله: ]أو يجعل اللَّه لهنّ سبيلاً[ لا يخلو عن إشعار بأن الحكم مؤقت مؤجل سيلحقه نسخ".
النقطة الثانية: شبهات حول النسخ في القرآن الحكيم:
هناك شبهات أوردها ناكروا النسخ، فزعموا عدم إمكان النسخ في شريعة اللَّه، وبالتالي عدم وقوعه في القرآن الكريم، وهي شبهات متنوعة، ومختلفة المستوى، أهمها:
الشبهة الأولى:
إن النسخ التشريعي مستحيل بشأنه تعالى كالبداء التكويني، لأنهما عبارة عن نشأة رأي جديد، وعثور على مصلحة كانت خافية في بدء الأمر، والحال أن علمه تعالى أزلي، لا يتبدل له رأي ولا يتجدد له علم، فلا يعقل وقوفه تعالى على خطأ في تشريع قديم لينسخه بتشريع جديد.
والجواب:
إن النسخ كالبداء لكن ليس على معناه الحقيقي الذي هو عبارة عن نشأة رأي جديد، وإنما هو ظهور للناس بعد خفاء عليهم، لمصلحةٍ في هذا الإخفاء في بدء الأمر، فالنتيجة فيهما واحدة وهي الإظهار للناس بعد الخفاء عنهم، وأين هذا من تبدُّل رأيه عزّ وجلّ أو تجدد علمه حسبما أفادت الشبهة؟
فالشارع المقدّس حينما ينشىء حكماً يكون بظاهره دائماً ومستمراً، حسبما ألفه الناس من دوام الأحكام المطلقة، لكنه في الواقع كان من الأول محدوداً بأمد معلوم لديه تعالى، ولم يظهره للناس إلاّ بعد انتهاء الأمد المذكور، لمصلحة في ذلك الإخفاء، وفي هذا الإظهار المتأخر.
قد يقال: لماذا كان تحديدٌ في الأحكام، فإذا كانت في أصل تشريع الحكم مصلحة فلتقضِ الدوام، وإن لم تكن مصلحة فلا مقتضى لأصل التشريع.
جوابه: إن المصالح تختلف حسب الظروف والأحوال، كوصفات طبيب حاذق تختلف حسب اعتوار أحوال المريض واختلاف بيئته والمحيط الذي يعيش فيه، فربّ مصلحة تستدعي تشريعاً متناسباً مع بيئة خاصة وفي مستوى خاص، فإذا تغيرت الواقعية فإن المصلحة تستدعي تبديل تشريع سابق إلى تشريع لاحق يلتئم مع هذا الأخير.
أما لماذا لم ينبّه الشارع تعالى على هذا التحديد من أول الأمر؟
فلعلّ هناك مصلحة مستدعية لهذا الإخفاء، منها توطين نفوس مؤمنة وترويضها على الطاعة والانقياد، ولا سيّما إذا كان التشريع الأول أشد وأصعب، فيتبدل إلى تشريع أسهل وأخف، تسهيلاً على الأمة وتخفيفاً عليهم رحمة من اللَّه تعالى.
الشبهة الثانية:
إن وجود آية منسوخة في القرآن ربما يسبّب اشتباه المكلفين، فيظنونها آية محكمة يعملون بها أو يلتزمون بمفادها، الأمر الذي يكون إغراءً بالجهل، وهو قبيح.
الجواب:
إن خلط الأمر على المكلّفين ليس مبرراً لرفض النسخ من أساسه وإلاّ لأدى وجود المتشابه القرآني وكذا العام والمطلق إلى إنكار المحكم والخاص والمقيّد، مع أنّ أحداً من الفقهاء لم يقل به أبداً.
هذا مضافاً إلى أن مضاعفات جهل كل إنسان تعود إلى نفسه، ولم يكن الجهل يوماً ما عذراً مقبولاً لدى العقلاء، فإذا كانت المصلحة تستدعي نسخ تشريع سابق بتشريع لاحقٍ، فعلى المكلّفين أن ينبّهوا أنفسهم على هذا الاحتمال في التشريع، ولا سيّما إذا كان التشريع في بدء حركة إصلاحية آخذة في التدرُّج نحو الكمال.
وهكذا كان في القرآن ناسخ ومنسوخ وعام وخاص، وإطلاق وتقييد ومحكم ومتشابه، وليس لأحد التسرع إلى الأخذ بآية حتى يعرف نوعيتها، كما ورد التنبيه على ذلك في أحاديث مستفيضة عن أئمة الدين (عليهم السَّلام)، قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السَّلام) لقاضٍ مرّ عليه: هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟
فقال القاضي: لا، فقال (عليه السَّلام): إذن هلكت وأهلكت.
الشبهة الثالثة:
ما هي الفائدة المتوخاة وراء ثبت آية في المصحف، هي منسوخة الحكم، لتبقى مجرد ألفاظ يلوكها القرّاء عبر القرون؟
الجواب:
1 لا تنحصر فائذة آية قرآنية في الحكم التشريعي فحسب، بل التشريع هدف واحد من أهداف كثيرة ومتنوعة نزل لأجلها القرآن الكريم، فنزول آية في حكم ثم نسخه بآية أخرى لا يلغي فحسبما قدّمنا سابقاًف كل الخصوصيات الأخرى لا سيّما أن للقرآن ظهوراً وبطوناً متعددة، فإذا انتفى ظهر لا يعني إنتفاء بقية الظهور والبطون.
2 آيات كثيرة نزلت في ظروف معيّنة، ولمناسبات خاصة وأحداثٍ وقتية لا تعم الأجيال والأعصار، ولا أثر لها ففيما عدا الإعجاز والتحديف سوى الدلالة على مراحل اجتازتها الدعوة الإسلامية، والأحداث التي مرت عليها، وهي من أكبر الفوائد الباقية كنصوص تاريخية ثابتة تعيّن لنا مراحل اجتازها سير الزمن في الغابر لتكون عبرة للحاضر والآتي، وهذه الآيات نظير الآيات التي تحدثت عن قصص الماضين وأبلت أخبارهم، ليأخذ المؤمن منها العبرة والعظة.
فالتأمل في مراحل التشريع الإسلامي من مرحلة إلى مرحلة حسب استعداد الأمة من ضعفٍ إلى قوة، بحيث يشحذ الهمم ويقوّي الأفئدة إلى التسليم والطاعة، وهو من أعظم الفوائد المترتبة على هذه الآيات كما لا يخفى.
الشبهة الرابعة:
وهي أن الالتزام بوجود آيات ناسخة وأخرى منسوخة يستدعي وجود تنافٍ بين آياته الكريمة، الأمر الذي يناقضه قوله تعالى: ]أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً[، وبهذه الشبهة تمسَّك صاحب البيان لنكران وجود نسخ كهذا في القرآن الكريم.
وقد تقدمت الإجابة عنها وللَّه الحمد.
فالصحيح فإذنف أن المشهور عند العامة هو القول بالتحريف لأن نسخ التلاوة هو نفسه القول بالتحريف، وعليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة فعند علماء العامة فيستلزم اشتهار القول بالتحريف.