السلام عليكم ورحمة الله
لايعرف الرسول الكريم الا الله تعالي و اهل بيته العصمة عليهم السلام
كان الله، ولا شيء معه. وأراد الله جلّ جلاله أن يتجلّى بأسمائه وصفاته القدسيّة، فخلق الخليقة مَرايا تعكس ـ كلٌّ بقدرِه ـ أسماءه وصفاته فَسالَتْ أوديةٌ بقَدَرها كان أوّل ما خلق الله: المشيئة، وهي العقل النوريّ الأوّل. وبالمشيئة خلق العوالم والأكوان.
أوّل فَيض قدسيّ فاض من الحضرة الأحَديّة المقدّسة.. كان نوراً عُلْويّاَ، هو لله سبحانه أوّل العابدين، انطوَتْ فيه عوالم الخليقة كلّها. وذلكم هو النور المحمديّ الجامع لحقائق المُلْك والملَكوت، قال صلوات الله عليه وعلى آله: «أوّل ما خلق الله تعالى نوري»، وقال أيضاً: «أوّل ما خلق الله المشيئة»، وقال: «أوّل ما خلق الله العقل».
متوحِّدٌ هو ـ إذَن ـ النور الأوّل والمشيئة والعقل النوريّ، وكأنّ هذه ثلاثة تعابير عن معنىً واحد، هو المعنى المحمديّ المخلوق أوّلاً في فجر الأزل.
وما يزال خَلْق العوالم ـ منذ ذلكم الأزل ـ يتجدّد ويتكاثر بلا انقطاع. وما تزال التجلّيات الإلهيّة المستمرّة في العوالم تُحدِث ـ من خلال العقل النوريّ الأوّل (المشيئة) ـ هذا الخلقَ المتجدِّد المتكاثر على الدوام. وفي كلّ لحظة من لحظات الزمان تَلْبَس خلائق ـ نعرف منها اليسير ونجهل الكثير ـ لباسَ الوجود، فـ كلَّ يَومٍ هو في شأن و هُم في لَبْسٍ مِن خَلْقِ جديد
وهذا الخلق المتجدِّد المستمرّ مظهر من مظاهر الرحمة الإلهيّة الفيّاضة بلا توقّف على الإطلاق. ومن أجل هذا وصف الله تعالى محمّداً صلّى الله عليه وآله ـ وهو واسطة الفيض الإلهيّ ـ بأنّه «رحمة للعالمين»، وقال صلّى الله عليه وآله: «أنا الرحمة المُهْداة».
إنّها الرحمة الشاملة لكلّ العالَمين: من الغيب إلى الشهادة، ومن التكوين إلى التشريع، ومن البشر إلى كافّة مخلوقات الله المأهولة بها عوالم السماوات والأرضين.
* * *
عالَم العهد والميثاق
وفي الغيب الإلهيّ المقدّس.. كان العهد والميثاق: أخذ الله جلّ جلاله من الخلائق عهدَ الإيمان به، وميثاقَ الإقرار له بالربوبيّة والولاية العُلْويّة. يذكر ذلك مَن يذكره، ونَسِيَه مَن نَسِيَه.
والقرآن المجيد يقرّر واقعة (الإشهاد الإلهيّ) على الناس خاصّة بالربوبيّة له والولاية والحاكميّة الباطنة والظاهرة: وإذْ أخَذَ ربُّكَ مِن بني آدمَ مِن ظُهورِهم ذُرِّيَّتَهُم، وأشْهَدَهم على أنفُسِهم: ألَسْتُ بربِّكُم؟ قالوا: بلى. أنْ تَقولوا يومَ القيامةِ: إنّا كُنّا عن هذا غافلينوالخلائق البشريّة يومئذ ـ في ضمير الغيب ـ خلائقُ على هيئة الذَّرّ، في ذلك العالَم الذي عُرِف ـ مِن أجل هذا ـ باسم (عالَم الذَّرّ)، أو عالم الأرواح.
نور (المعنى المحمّديّ) كان حاضراً في عملية الإشهاد والإقرار. هو نفسه صلّى الله عليه وآله يحكي مبادرتَه الأُولى ـ في ذلكم العالَم ـ إلى الإقرار لله وعقدِ الميثاق، يقول صلّى الله عليه وآله: «إنّي كنتُ أوّلَ مَن آمنَ بربيّ، وأوّلَ مَن أجاب حيث أخذَ اللهُ ميثاقَ النبيّين، وأشهدهم على أنفسهم: ألَسْتُ بربِّكم ؟ فكنتُ أنا أوّلَ نبيّ».
وثَمّةَ أحاديث جَمّة وفيرة يَرويها المسلمون كافّة، تُعبِّر عن مظاهرَ لهذه (الأوّليّة) المحمّديّة في كلّ شيء، وتدلّ على المقام العظيم عند الله، الذي تبوّأه النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله في تَحقُّقه بمقام العبودية المطلقة لله تعالى. ولعلّ هذا يفسِّر معنى أنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله هو فخر الكائنات وأشرف المخلوقات وسيّد الأنبياء جميعاً بلا مُنازِع.
ولقد نطق رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ وهو في مقام تبليغ الرسالة الإلهيّة للناس ـ بمعانٍ ومضامين مثل قوله: «كنتُ نبيّاً وآدمُ بين الماء والطين»، ونظير قوله أيضاً: «أنا سيّد وُلْد آدم ـ ولا فخر». إنّه صلّى الله عليه وآله لا يفخر؛ لأنّه عارف حقّ المعرفة أنّ مقاماته كلّها هي نِعَم من الله سبحانه تستحقّ الشكر المتواصل والثناء الكبير. وقال صلّى الله عليه وآله في موضعٍ آخر: «أنا قائد المرسلين ـ ولا فخر. وأنا خاتم النبيّين ـ ولا فخر. وأنا أوّل شافع وأوّل مُشفَّع ـ ولا فخر». «أنا أوّل مَن يدقّ بابَ الجنّة». «أنا أوّل وافدٍ على العزيز الجبّار يوم القيامة وكتابُه وأهلُ بيتي، ثمّ أُمّتي...». ولا غَرْو أنّه صلّى الله عليه وآله المرآة الوجودية الأصفى العاكسة ـ بأجلى ما يحتمل الوجود ـ لأسماء الحقّ تعالى وصفاته في العالم. والأنبياء ـ بَعدُ ـ يتفاوتون بمقدار ما في مَراياهم عليهم السّلام مِن جَلاء.
إنّه صلّى الله عليه وآله في مقام الجامعيّة والبَرْزَخيّة لِما بين الخالق والخلائق، في أرض الله وسمائه، في أوّل الزمان وفي ختامه. والنُّطق المحمّديّ الكريم يَفيض بما يقرّر هذا المعنى الجليل، في مثل ما قال صلّى الله عليه وآله: «أمَا والله، إنّي لأمينٌ في السماء وأمين في الأرض» و «كنتُ أوّلَ الأنبياء في الخَلق، وآخرهم في البعث».
وهو صلّى الله عليه وآله في مقام «الأوّليّة» للخلائق و «الآخِريّة»، وفي مقام ظُهوره في عالم البشريّة وبُطونه في أنوار الغيب، فهو التجلّي الأوّل الأكمل للأسماء الإلهيّة المقدّسة: هُو الأوّل والآخِر والظاهر والباطن.
* * *
وجه إلى الله.. ووجه إلى الخلق
المعنى المحمّديّ النوريّ لا حدّ له ولا مثيل. إنّه كلمات الله التامّات. والكلمات الإلهيّة هنا ليست الكلمات المألوفة المكتوبة بالحروف، ولكنّها الكلمات المعنويّة المعبِّرة عن الحقائق الإلهيّة. إنها كلمات غير متناهية، ولا ريب. وهي المعبَّر عنها بلسان التنزيل العظيم ولَو أنّ ما في الأرضِ مٍن شَجَرةٍ أقلامٌ والبحرُ يَمُدُّه مِن بَعدِه سَبعةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كلماتُ الله
هذه الكلمات الإلهيّة التي لا تَنفَد ولا تنتهي عند غاية.. قد عبّر عنها آخِرُ سورة (الكهف)، في الإشارة إلى مقام النبيّ الجامع بين الغيب المطلق والشهادة الظاهرة؛ فهو صلّى الله عليه وآله: البرزخ الأعظم، ومجمع البحرين. قال الحقّ جلّ وعلا في المعنى المحمّديّ الشريف الجامع للعالَمين: قُلْ: لو كانَ البحرُ مِداداً لكلماتِ ربّي لَنَفِدَ البحرُ قبلَ أن تَنَفَدَ كلماتُ ربّي، ولو جئنا بِمثلهِ مَدَداً. قُلْ: إنّما أنا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحى إليَّ أنّما إلهُكُم إلهٌ واحد، فمَن كانَ يرجو لقاءَ ربِّهِ فلْيَعْمَلْ عمَلاً صالحاً ولا يُشرِكْ بعبادةِ ربِّهِ أحَداً
إنّ مقام (البَشَريّة) لكلمات الله التي تنفد بحار العالم وهي لا تفند.. هو (تنزّلٌ) من تنزّلات الرحمة الإلهيّة بالإنسان الأرضيّ؛ هدايةً وإيصالاً له إلى الله تعالى، الذي إليه الرُّجعى وإليه المصير.
إنّ معاناة النبيّ العظيم ـ وهو يقود البشريّة في جهادها الأكبر ثمّ الأصغر ـ لَمعاناة كبيرة مُضْنية؛ لأنها معاناة المعنى النوريّ العُلْويّ وهو يتنزّل إلى أرض الأنسان في ظلامها وخرابها، من أجل الإصلاح والتنقية والتعبيد. ولعلّ مِن هذه المعاناة: ما كان يصدر منه صلّى الله عليه وآله من استغفار مئة مرّة كلَّ يوم، بدون ذنبٍ ـ حاشاه. ولعلّ منها: شوق النبيّ الباطن القويّ إلى الله تبارك وتعالى فيما يظهر من صَلاته الطويلة المضنية، وهو يومئذ رسولٌ صاحب شريعة وكتاب، حتّى خاطبه ربّه خطاب الحبيب الشفيق: طه. ما أنزَلْنا عليكَ القرآنَ لِتَشْقى.
لرسول الله صلّى الله عليه وآله ـ إذَن ـ وجهان إلهيّان، أحدهما: الوجه المتوجّه إلى الحقّ، الصاعد دائماً تلقاء الحضرة الأحديّة المنزَّهة. والآخر: وجهه القدسيّ المتنزِّل ـ رحمةً ـ نحو عالَم الخَلق: ناطقاً عن الله، ومبلِّغاً عن الله، ومتحمّلاً تكاليف الرسالة والتبليغ في الله.
وهذا المعنى البرزخ بين عالَم الغيب وعالَم الشهادة.. ممّا توحي به سورة (النور) المباركة. ذلك أنّ النور الإلهيّ العُلْويّ الذي مَثَلُه كمشكاة فيها مصباح، والمصباح في زجاجة كأنّها كوكب دُرّيّ يوقَد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ يكاد زيتُها يضيء ولو لم تَمْسَسْه نار.. هذا النور قد تنزّلَ في ظهورٍ له من عوالمه العليا ليظهر في صورة (البشريّة) نبيّاً ووليّاً، في بُيوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرفَعَ ويُذكَرَ فيها اسمُه، يُسبِّحُ له فيها بالغُدُوِّ والآصالِ رجالٌ لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بَيعٌ عن ذِكرِ اللهِ وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وما هؤلاء الرجال المسبِّحون ـ على الحقيقة ـ إلاّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وأهل بيته الهداة الطاهرون سلام الله عليهم أجمعين.
إنّ نصوصاً أخرى ـ قرآنيّة وحديثيّة ـ غير قليلة تَعضِد هذا المعنى، منها عبارات قدسيّة مِن نصّ (الزيارة الجامعة) المرويّة عن الإمام عليّ الهاديّ عليه السّلام، تقول: «خَلَقَكُمُ اللهُ أنواراً فكُنتم بعرشِه مُحْدِقين، حتّى مَنّ علَينا بكم فجَعَلَكُم في بيوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرفَعَ ويُذكرَ فيها اسمُه».
إنّ الصورة البشرية للرسول صلّى الله عليه وآله هي مظهر هذا التنزّل إلى عالم الشهادة رسولاً بَشَراً من الناس، حريصاً عليهم، بالمؤمنين رؤوف رحيم. وهي الصورة الشريفة التي استنكرها أهل العناد والفساد، وطلبوا أن يَنزِل عليهم وجود روحيّ ورسول ملكوتيّ وقالوا: لَولا أُنزِل عليه مَلَك وهذا الطلب منهم يتضمّن إدراكَ أنّه لا يُبلّغ عن الله إلاّ وجودٌ إلهيّ كالملائكة النوريّين، وما منَعَ الناسَ أن يؤمنوا إذْ جاءهُم الهُدى إلاّ أن قالوا: أبَعثَ الله بَشَراً رسولاً ؟وقالوا: ما لهذا الرسولِ يأكلُ الطَّعامَ [كالبَشَر] ويمشي في الأسواق ؟! ـ أي يشارك في الحياة الاجتماعيّة كسائر بني آدم المخلوقين!
إنّ أشياء قيّمة قد غابت عن هؤلاء في رؤيتهم القاصرة هذه؛ إذ لابدّ ـ لأسرارٍ جمّة ـ أن تكون للرسول صورة بشريّة ومظهر آدميّ لتحقيق هدف بعثة النبيّ وإرسال الرسول، ولو جَعَلناه مَلَكاً لَجعلناهُ رَجُلاًبَيْد أنّ هذه الصورة البشريّة للنبيّ صلّى الله عليه وآله تكاد ـ لشرفها وكمالها ـ تَشِفّ؛ إذ هي مجبولة من أشرف طينة في الوجود، ومُخَمَّرة بيد التخمير الإلهيّ، ومتحدِّرة ـ عبر القرون والأحقاب ـ من خلال الأصلاب الشامخة والأرحام المطهَّرة. وقد توالده صلّى الله عليه وآله نبيٌّ بعد نبيّ( ذُرِّيَّةً بعضُها مِن بعضٍ ، وما وقع في آبائه إلاّ نبيّ أو وليّ لله موحِّد.
ولقد لحَظ الناسُ في بَشَريّة رسول الله صلّى الله عليه وآله ما لم يعهدوه في البشر؛ إذ كان صلّى الله عليه وآله يَرى مِن أمامه ومن وراء ظهره، وكان لا يقع له ظلّ على الأرض. إنّه ـ إذَن ـ جسد بشريّ، لكنّه في الوقت نفسه: جسد روحانيّ ملكوتيّ، له من مزايا النورانيّة والجمال والكمال أرقاها.
وقد قال صلّى الله عليه وآله عن هذا الأفق: «تنام عيني، ولا ينام قلبي»، فالقلب النبويّ الطاهر مفتوح أبداً على عوالم النور والجمال، وهو صلّى الله عليه وآله يقظان أبداً لا يغفو ولا يسهو ـ وحاشاه. وقال صلّى الله عليه وآله ـ وقد سئل عن صوم الوصال الذي أُبيح له دون غيره: «أبِيتُ عند ربّي: يُطعمني ويسقيني